السيسي على مفترق طُرق

«من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر، أمّا بعد، فإن كنت تجري من قِبلك فلا تجرِ، وإن كان الله الواحد القهّار الذي يجريك فنسأل الله الواحد القهّار أن يجريك».

رسالة خطية أرسلها الخليفة عمر من المدينة إلى عمرو بن العاص فاتح مصر لإلقائها في النيل، عندما تمكنت الأسطورة بمخاوفها من المصريين، فذهبوا إلى عمرو يخبرونه أن لنيلهم سُنة لا يجري إلا بها، إذ يعمدون في وقت محدد إلى إلقاء فتاة بكرٍ كقربانٍ للنيل بعد استرضاء والديها وتزيينها، فلما أُلقيت الرسالة في مياه النيل جرى ستة عشر ذراعا في ليلة واحدة، كما ذكر أبو القاسم المصري في «فتوح مصر والمغرب»، فبطلت الأسطورة، وتبددت مخاوف المصريين.

وإبان حكم الفاطميين لمصر، عادت المخاوف ذاتها، حين ضن النيل بمياهه عن الشعب سبع سنين، في ما يُعرف بالشدة المستنصرية، فحدثت أعظم مجاعة في تاريخ ذلك الشعب منذ السبع العجاف، زمن النبي يوسف عليه السلام، وحول هذا يقول المؤرخ المقريزي في «اتعاظ الحنفاء»: «عظم الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد، وأكل الناس الجيفة والميتات، ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به؛ وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط، وبلغت رواية الماء دينارا، وأُكلت الكلاب والقطط، وبيعت حارة بمصر بطبق خبز، ثم تزايد الحال حتى أكل الناس بعضهم بعضا».

وها هي المخاوف تعود جاثمة على قلوب المصريين، ولا يمضي يوم إلا وشبح الجوع والقحط والدمار يتراقص كالظلال على أعينهم، فكل ساعة تمرّ تقربهم من كارثة مجمعٌ على تحققها بمجرد اكتمال الملء الثاني لسد النهضة، الذي تصر إثيوبيا على المضي فيه قدما، رغم الأخطار الكارثية التي يحملها ذلك العنت لشعبي مصر والسودان.

لقد وصلت آفاق التفاوض والحلول الدبلوماسية التي تطمح بها مصر إلى منع الكارثة، إلى طريق مسدود، أمام القرارات أحادية الجانب من الطرف الإثيوبي، الذي يتشدد في ردود أفعاله وإعلاناته المتكررة عن اعتزامه إكمال مشروعه، بدون إبداء أي استعداد للتنازل، ومن ثم فقد تعالت أصوات المنابر الإعلامية، والرموز السياسية والثقافية في مصر، بضرورة توجيه ضربة عسكرية محكمة إلى سد النهصة الإثيوبي لوقف عمله، بل إن هناك تأييدا شعبيا شبه كامل للعملية العسكرية، حيث خلصت دراسة حديثة للمركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام، إلى أن 89% من المصريين يرغبون في ضرب السد. ولكن حتى هذه اللحظة، لا يمكن الجزم بتوجيه ضربة عسكرية للسد، فالمتابع للشأن المصري في هذه القضية، يرى أن نبرة الإعلام الموالي للسلطة توحي بالتمهيد للعمل العسكري، والنخب الثقافية والسياسية تتناول ذلك الحل باعتباره الخيار الذي لا بديل له، وشيخ الأزهر الذي يترأس أكبر مؤسسة دينية، يدخل على الخط ويعلق على الموقف الإثيوبي، والتصريحات الرسمية في بعض الأحيان تتبنى لغة التهديد، ورئيس النظام عبد الفتاح السيسي يسعى لتأييد الدول الافريقية لنيل تأييدها أو تحييدها، وقبل أيام كانت المناورات المشتركة بين الجيشين المصري والسوداني تدار على الأراضي السودانية المتاخمة للحدود الإثيوبية، وكلها إشارات إلى أن العمل العسكري مؤكد.

وفي المقابل هناك مشهد آخر مضاد، يظهر فيه الاتجاه الحكومي للحديث عن البدائل، كمحطات التحلية والاستفادة من مياه الصرف الصحي، فمثل هذه التصريحات يستقبلها المواطن المصري على أنها إشارة للرضى بالأمر الواقع، وتمرير الملء الثاني للسد، والعمل في الداخل المصري لتقليل الآثار الخطرة المترتبة على إمضاء المشروع الإثيوبي، ويعزز من هذه النظرة أن النظام المصري وقف عند خط معين، بينما الوقت يضيق جدا، بما يسمح بتعاظم المخاوف، حيث أنه إذا اكتمل الملء الثاني للسد، فإنه يستحيل بعدها توجيه ضربة عسكرية، بل سيكون المصريون أحرص بعدها على إبقاء السد في مأمن تجنبا لأضرار كارثية مؤكدة. لكن ماذا عن السيسي؟

عدتُ بالذاكرة إلى حقبة حكم الرئيس محمد مرسي، رحمه الله، فاستوقفني مشهد قُوى الثورة المضادة التي أتت بالسيسي رئيسا، حيث كانت أزمة سد النهضة إحدى الأوراق التي يشغبون بها على الرئيس مرسي، رغم تصريحاته القوية بأنه لن يفرط في قطرة ماء واحدة من نصيب مصر.

بعد وصول السيسي إلى سدة الحكم، قام في آذار/ مارس 2015 بالتوقيع مع الجانبين الإثيوبي والسوداني على وثيقة إعلان المبادئ بشأن سد النهضة، وهي الوثيقة التي تتكئ عليها إثيوبيا في مشروعها، وتعتبرها المعارضة المصرية اتفاقا على إهدار الحقوق التاريخية لمصر. مع مرور الوقت كانت المخاوف تزداد في مصر، بينما لجأ عبد الفتاح السيسي لتحميل ثورة كانون الثاني/ يناير المسؤولية عما وصل إليه ملف سد النهضة، بما اعتُبِر هروبا من المسؤولية التي اكتفى تجاهها السيسي بأن طلب من أبي أحمد الرئيس الإثيوبي، حلف اليمين بعدم الإضرار بمصالح مصر المائية، الأمر الذي أثار السخرية لدى جميع الأوساط. وبعد أن تفاقمت الخطورة وبات المصريون قاب قوسين أو أدنى من وقوع الكارثة، ظل السيسي ثابتا على الحلول الدبلوماسية، وطلب الوساطات لإقناع الجانب الإثيوبي بالرؤية المصرية، لكن الوقت ينفد والمخاوف تتعاظم، وبات السيسي على مفترق طرق.

كنت أتساءل بعد كل الجرائم التي ارتكبها الرجل بحق شعبه: هل هناك فرصة لأن يحظى بتأييد شعبي حقيقي؟ هل هناك فرصة لأن تُطوى صفحاته السوداء؟ هل هناك فرصة لأن يتجاوز معارضوه والمكتوون بناره هذه المظالم؟ أرى أن تفاقم أزمة سد النهضة، قد أوجد للسيسي فرصة ذهبية لكل هذا، وأن حل هذه الأزمة هو بوابته للعبور إلى مرحلة جديدة، يتراص فيها الشعب خلفه، ذلك لأنه مهما اكتوت فئات من الشعب بناره، ومهما تعرضت شرائح منه لقمعه، فإن ذلك لن يضاهي قضية وجودية كقضية المياه، ولذا أقول إن السيسي الآن على مفترق طرق. إما أن يستسلم للأمر الواقع ويمرر المشروع الإثيوبي، ويضرب برغبة شعبه ومخاوفه عرض الحائط، ويعرض بلاده لآثاره الكارثية، فحينئذ سوف يخسر شعبيته حتى لدى مؤيديه، وتزداد حدة معارضته إلى أقصى مدى ممكن، ويسخط عليه الشعب بجميع فئاته، نظرا للآثار الاقتصادية البشعة المتوقعة التي تصاحب تقليل حصة مصر من مياه النيل، وسوف يعزز هذا من الفكرة المتداولة لدى البعض أنه عميل قد أتى لدمار مصر لصالح الكيان الصهيوني، وحتى إن ضمنت له سيطرته على مفاصل الدولة ومؤسساتها الصلبة الاحتفاظ بالسلطة، فإن هذه الصفحة حتما سوف تعجل بعزله ومحاسبته. وإما أن يقوم السيسي بحل الأزمة ويقي بلاده شراً مستطيراً، حينئذ سوف يلتف حوله الشعب حتى من يعارضه، وتكون فرصة لخلق لُحمة وطنية في عهده للمرة الأولى، وربما يكون الإجراء الأوحد للسيسي الذي يُجمع عليه الشعب المصري، لذلك لا أبالغ بقولي إن السيسي في هذه الفترة يقف على مفترق طرق، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 932