مآلات الحوار بين دوافع الطموح وجواذب الجنوح

مآلات الحوار بين دوافع الطموح وجواذب الجنوح

هائل سعيد الصرمي

[email protected]

يُعدُّ الحوار وسيلة حضارية , ومطلب مجتمعي أوجدته الحاجة والضرورة , وأفرزته تراكمات المعرفة المجتمعية الواعية...فمن أساسيات التطور الحضاري لأي مجتمع ينشد النهوض , ارتفاع مستوى الوعي لديه ؛ فهو مقومه الأول الذي يدفعه لانتخاب الحوار الجاد خيارا وحيداً بديلا عن الصدام ؛ ليصل بمكوناته ومقدراته إلى بر الأمان.

ومتى سلك المجتمع سبيل الحوار ـ وأساسه وشرطه الاعتراف بالآخرـ دل ذلك على نضوجه وارتفاع منسوب وعيه , و لا يختلف اثنان على أن الإرادة الواعية تبلغ الغاية ولو طال بها المسير.

مفهوم الحوار

 إن الحوار : بمفهومه البسيط : تبادل الآراء حول إشكالات تختلف وجهات النظر حولها للوصول إلى حلول بشأنها.

 ويذكر أحمد مبارك في مقاله "الحوار الحضاري" حول مفهوم الحوار: بأنه "التَّجاوب بين متكلِّم ومخاطب، ولا بدَّ فيه من مراجعة الكلام وتبادُلِه وتداوُلِه.. كما ذكر أن غاية الحوار: "توليد الأفكار الجديدة في ذهن المتكلم. لا الاقتصار على عرض الأفكار القديمة ، وفي هذا التجاوب توضيح للمعاني، وإغناء للمفاهيم يفيضان إلى تقدم الفكر".

 و في نظريَّة (التبادل الاجتماعي) يقول: المفكِّر جورج هومانز: "أنَّ النَّاس يعتمِدون على بعضِهم اعتِمادًا متبادَلاً، وأنَّهم يتبادلون – المنافع ، حيث يؤكِّد على أنَّ استِقْرار أيِّ نظام يَحتاج إلى اتِّفاق مبدئي على مسائل معيَّنة".

قال سُقراط لأوطفرون بأنَّه لتلافي تحوُّل الخلاف إلى أزمة، وتلافي الحل المعتمد على العنف، فليس هناك من سبيل غير الرُّجوع إلى نقاش عقلاني"[1]

 فالحوار: هو البديل الحضاري للصراع الذي قد يتضاعف فيخرج عن طوره إلى العنف الذي درجتْ عليه الأنظمة المستبدة والنخب الغير واعية في المجتمعات المتخلفة , حيث كانت الدبابة والمدفع سبيل الوصول إلى السلطة.

 وما عادتْ هذه الوسائل تجدي في مجتمع اليوم , خصوصا بعد ثورات الربيع؛ لأن الجيل تشكل بثقافة جديدة مزجت بين الماضي والحاضر , فلا يستطيع أحد أن يعود به ثانية إلى الوراء ؛ لقد أصبح متسلحا بالوعي والنضوج , وشاهدنا ذلك في أوساط الشباب الثائر , والنخب التي حددت أهدافها وجعلت الحوار مرتكزها الأول للوصول إلى نظام شوروي ديمقراطي , ذاتْ بعد حضاري قيمي , هدفه الوصول بالإنسان إلى الحياة الكريمة , من خلال تطويره ماديا ومعنويا في شتى مناحي الحياة , سياسيا واقتصاديا , واجتماعيا.

 وها هي الشعوب وخاصة المتحررة بثوراتها الربيعية , تسير في بداية الطريق نحو تلك الغاية , وهناك إشارات توحي بهذا التوجه , لقد خرجت من عباءة الاستبداد واتخذت الحوار سبيلا لها, وبدت نتائجه الإيجابية الأولى تتمثل في شكل النظام , وفي مساحة الحرية التي تتسع يوما بعد يوم , و في نزاهة الانتخابات التي شهد لها الداخل والخارج في بعض الأقطار , وهذه مؤشرات إيجابية لها ما بعدها.

إن العودة الى الماضي المقيت في ظل هذه التكوينات المجتمعية المتطلعة للحرية والعدالة , ربما أصبح من الصعب بمكان إن لم يكن مستحيلا وسنقف برهة هنا. 

 فمن يظن بأن عهد قمع الحريات , والتعذيب , ومصادرة الحقوق , سيعود , يكون واهما ؛ لأن جيل اليوم لا يتقبل ذلك مطلقا , وقد بدى ذلك الرفض مجسدا في كافة وطننا العربي , وقد تمثل بردة فعل (بوعزيز ) نموذجا حيا لطبيعة هذا الجيل الثائر الذي يقتحم شبابه الموت لا يبالون أوقعوا عليه أم وقع عليهم , وهذا يعني أن هذا الجيل يُعبر بلا حدود بعدم قبوله لأي شكل من أشكال الاستبداد مهما كانت التكلفة باهضه , وذلك يرجع لنشأته التحررية و تكوينه الثقافي , مقارنة بمن سبقه: ممن نشأ في ظل الاستبداد واكتوى بنيرانه.

 إنه مسار جديد لمجتمع جديد ولد من رحم المجتمعات التي عانت من نظام القهر والتخلف...وسيفضي هذا التحول في نهايته إلى حياة أفضل , ومهما كانت العقبات التي تعترضه , لن تستطيع أن توقفه مطلقا , يمكنها أن تأخره , لكن أن تمنعه عن الوصول إلى غايته فمستحيل ؛ لأن السنن لا تحابي أحد , فمن يأمل أن يلوي أعناق التحولات السننية ـ بالعودة إلى الوراءـ لن يجد له سبيلا.

إن جيلا لا يقبل الضيم , لا يمكن أن يتعايش معه.

 والمتتبع للتاريخ يدرك بسهولة دون عناء , بأن كل من تصدر للتغير بمقومات التغير الإيجابية المرتكزة على المعرفة يصل إلى مبتغاه ؛ فكل التحولات والثورات الحضارية القديمة أو الحديثة كالثورة الفرنسية والرومانية والحضارة الغربية وغيرها.- على ما فيها من عيوب - سارت إلى نهايتها برغم ضخامة التحديات التي وقفت أمامها , لكنها تجاوزتها.

 إن أبرز تغير تاريخي تحقق على وجه الأرض , ذلك التغير الهائل الذي كان رائده محمد (صلى الله عليه وسلم)...فهل استطاعت قريش أنذاك أن تئدَ فكرته أو تعيق خطاه ؟!.. كما أن قوى الداخل المعارضة لمشروعه , في مجتمع التأسيس للدولة ـ مجتمع المدينة ـ خُذلتْ كذلك وذهب ريحها , وقد تمثلت: بالمنافقين واليهود وحلفائهم...

 وكذا قوى الخارج ومنها دولة الفرس والروم رغم قوتهما ما استطاعت أن تنال منه... بل انهارتا أمامه عندما اعتمدتا القوة بديلا للسلام , ولو أجابتا دعوته السلمية , لتعايشا سويا في وئام كما تعايش معه من أجابه إليها , وقد تمثلت دعوته السلمية هو ومن معه , أولا بفكرته السمحة , وأخلاقه العظيمة , ودعوته اللينة , ثم برسائله التي تمثلت بتلك الشروط الثلاثة التي كان يعرضها الرسل قبل مواجهة أنظمة القهر والاستبداد... ولولا أن الكَيْ أخر الدواء لما لجأ المؤمنون للمواجهة قط , ولكنهم مُكْرهين ...وهو ما لجأت إليه مضطرة ـ مع فارق التشبيه ـ بعض ثورات الربيع العربي ومنها الثورة الليبية والسورية مع انهما بدأتا سلمية.

 لذلك كان سيد المحاورين ورائد التغير الأول محمد (ص)!! وكان منهجه شامة في جبين الدهر , صنَفه أعدائه على رأس العظماء الذين أحدثوا تحولا عظيما في تاريخ البشرية بالحكمة والموعظة الحسنة , وبمنهجه الفريد الذي يعتمد على قوله تعالى: وجادلهم بالتي هي أحسن ".

 يقول ما " شبرل" عميد كلية الحقوق بجامعة "فيينا"، في مؤتمر الحقوق سنة 1927 " إن البشرية لتفتخر بانتساب رجل كمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) إليها ، إذ رغم أميته استطاع قبل بضعة عشر قرناً ؛ أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيين أسعد ما نكون ؛ لو وصلنا إلى قمته بعد ألفي سنة "[2]).

 من كل ذلك نخلص إلى أن الحوار هو وحدهُ زورق السلامة , وهو الأداة الأولى لبناء جسر العبور؛ كي يصل بمن يبحر على متنه إلى مرفئ السعادة , ولا بأس عليه لو أبطأ في بلوغ المرسى مادام سيصل في النهاية إلى مدينة الحياة الطيبة , حيث يطيب التعايش في ظلها بين مختلف المكونات , كنسيج متكامل قوامه الحق , ومنهجه الرحمة , وأساسه العدل , ووسيلته الحوار.

 وهو ما يهمنا هنا ونحن بين يدي الحوار الوطني المنعقد في 18 مارس أن نكون جميعا رافدا إيجابيا له... حيث نتوقع بأنه سيرسم خارطة طريق , تبدأ بوضع المعاير الأساسية , لمجمل القضايا الهامة , بما فيها النظام السياسي , وصولا إلى دولة مؤسسية قوية مستقرة , قائمة على الحرية , والعدالة الاجتماعية ؛ تكفل تحقيق طموحات المجتمع وتطلعاته.

 فهو طوق النجاة في اليمن, وقد آن لأهل الشطط أن يضعوا أسلحتهم ؛ لكي نمضي في الحوار بسكينة وسلام , تاركين أشرعة الماضي التي بليت, خلف أظهرنا .

 نتمنى أن تكون المصلحة العليا بوصلة المتحاورين جميعا , في رحلتهم المباركة خلال السته الأشهر المقررة للحوار , لتكون الحادي كلما اختلفوا ؛ لكي لا نضل الطريق وتزيغ بنا السبل.

 ونحن على ثقة ـ كيمنين ـ نمتلك بفضل الله ناصية الحكمة , من أن مسارنا واضح المعالم بين الخطى , ولن ننحرف عنه ـ إن شاء الله ـ وإن اختلفت وجهات النظر... وهيهات أن ينال منا من تُسولُ له نفسه بأن يجرنا إلى مربع الفوضى, ومستنقع التشظي لقد فات هذا إلى غير رجعة , بفضل الله ثم بحكمة اليمنين .

على بركة الله واثقين بالنجاح والله معنا , سدد الله المتحاورين ورزق شعبنا وأمتنا السلامة في كل وقت وحين آمين.

               

[1] مقال أحمد مبارك

[2] عبد الله ناصح علوان : معالم الحضارة في الإسلام، 155