حاجة طلبة العلم إلى التفرغ العلمي

خباب بن مروان الحمد

[email protected]

يعيش طالب العلم المعاصر في زخم الحياة وتطلباتها وتعقيداتها، داخل دوَّامة تأخذ من وقته وعمره شيئاً طويلاً.

لربَّما يُصاب بالضجر في النهار والأرق في الليل، وهو يلوم نفسه ويُقرِّعها يوماً إثر يوم لعدم إعطائه للعلم وقتاً يتفرغ إليه على الوجه الذي يستحقه؛ لتحصيل شموس المعارف، وإدراك كُليَّات الشريعة، وضبط مسائل العلم وتفصيلاته الكثيرة.

كُلُّ طالب علم في زمننا فإنَّه سيشهدُ حِراكاً علمياً مُتطوراً، ومسائل مُعاصرة تتعلَّق بقضايا الشريعة والفكر والواقع، ويرى أنَّ العلم والمعرفة بات السلاح الوحيد الذي يُؤهله للتأثير في حركة الحياة، ومسيرة الأمم.

ويُحاسب طالب العلم نفسه وهو يراها تحبو في طلب العلم، فالأيام تمضي، والأعوام تنقضي، ولم يلحظ في نفسه تقدماً واضحاً في العلوم، بل قد يُطارد معارض الكتاب الدوليَّة، ويُسافر لأجلها، ويقوم بشراء (الكراتين) من الكتب والمجلدات، لكنَّ مصيرها الغامض أن تبقى على رفوف المكتبة ولربما علاها الغبار، أو علتها كتب أخرى قد اشتراها؛ والحال واحدة فلا قراءة علميَّة منتظمة، ولا مطالعة منهجيَّة دائمة، بسبب انشغالاته المتكاثرة، مع أنَّه يعلم أنَّ العلم الشرعي لا يُدركه بحق إلا من تفرَّغ له، ولا يدركه بصدق إلاَّ من أعطاه ثمرة قلبه وانصباب فؤاده إليه، وإلاَّ فلا!

· إنَّما العلم لمن تفرَّغ له :

نُقِلَ عن الخضر أنَّه قال لموسى عليه الصلاة والسلام: (يا موسى، تفرغ للعلم إن كنت تريده، فإنما العلم لمن تفرغ له)([1])، والرواية وإن كانت ضعيفة بمرَّة، إلاَّ أنَّ الكلمة الواردة فيه تدل على عمق المغزى منها:(فإنَّما العلم لمن تفرَّغ له).

إنَّ كلَّ من يعرف حقيقة العلم واتساعه، يشهد بأنَّ تحصيل العلم لا يُنال براحة الجسم، فمن طلب الراحة فاتته الراحة، والنعيم لا يُدرك بالنعيم، فمن يطلب العلم بجديَّة واحترافيَّة،سيكون متفانياً في طلبه وتحصيل معارفه، وهذا يتطلّب منه تفرغاً في بداية طلبه للعلم، وتفرغاً منه بين كل فينة وأخرى للقراءة العلمية لمن تصدَّى للتعليم أو الدعوة.

إنَّنا بحاجة ماسّة للتفرغ لطلب العلم لعدَّة قضايا مُهمَّات:

1) كثرة المنقطعين عن العلم وقلَّة المنقطعين للعلم!

2) يتفرَّس عدد من كبار رجالات العلم والتربية في كثير من الدول المتقدمة علمياً في وجوه طلبتهم وينتخبون بعضهم للتحصيل العلمي ويهيئون لهم الأجواء الكاملة لنهضة أمَّتهم، وأمَّتنا أولى بذلك!

3) قلَّة المنبِّهين والمنتبهين لهذه القضية فعلى كثرة من يتحدث عن أهمية العلم وطلبه وضرورة تحصيل المعارف إلاَّ أنَّ القليل منهم من يتحدث عن ضرورة التفرغ العلمي.

4) أنَ التفرغ العلمي هو الذي يصنع طالب العلم، وقلَّما نبحث في سيرة إمام في العلم علا نجمه وبلغ كعبه في العلم مبلغه إلاَّ نجد أنَّه قد تفرَّغ للعلم مُدَّة من الزمن.

5) انشغال كثير من طلبة العلم بالمهم عن الأهم، وضياع كثير من أوقاتهم في شبكات التواصل الاجتماعي، أو كثرة اللقاءات والزيارات بينهم والفائدة المرجوَّة من ذلك، ليست بالفائدة التي يطمعون بها لنيل العلوم .

· حقيقة التفرغ؟!

يقصد بالتفرغ العلمي: محاولة البلوغ لتحصيل النبوغ في عدد من العلوم التي تحتاج لصبر وثبات في تحصيلها حتَّى يكون طالب العلم من أهل الرسوخ فيها.

وعليه فإنَّ طالب العلم الشرعي لن يُحصِّل من العلوم الدينية أوعبها، ومن الفنون الشرعية أكثرها، إلاَّ إن وفَّقه الله بسبع سنوات علمية متنقلاً في خُماسيَّة تحصيل العلوم:

1) حفظ نصوص الشريعة والمتون العلمية المهمة.

2) حضور مجالس العلماء في بلدته ومِصرِه ، والسفر والرحلة لمجالسة علماء المسلمين البارزين في عصره.

3) القراءة والمطالعة المنهجيَّة المبنيَّة على خطَّة تأصيليَّة من البدء في صغار العلم حتَّى الوصول إلى كباره.

4) مذاكرة العلوم مع الأقران، ومناقشة المسائل مع الشيوخ الأثبات.

5) التدبر والتأمل والتفكير المتواصل.

فطالب العلم في سنواته التي ينقطع فيها للاجتهاد في طلب العلوم، سيُحصِّل منها ما يُؤهِّله لأن يكون في المستقبل عالماً ربَّانياً راسخاً، يستطيع القيام بإلقاء دروس علمية مُنتظمة، ومحاضرات توجيهيَة مفيدة، وكتابة وتأليف لعدد من القضايا العلمية أو المُعاصرة التي أجاد النظر والبحث والقراءة والفكر فيها.

إنَّ طالب العلم إذا أراد أن يطلبه في وقت فراغه وساعات الراحة، ولم يُفرغ شيئاً من وقته للعلم فسرعان ما ينساه لانشغاله بملهيات الحياة؛ لأنَّه لم يُعطِ للعلم كُلَّه؛ ليعطيه شيئاً مما في بحره اللجي الذي لا ينضب.

لهذا كانت شنشنة كثير من علمائنا في بدء طلبهم للعلوم، ضرورة الهرب من ضوضاء الحياة وضجيجها، وعدم مجاراة دنيا الناس وصخبهم حول التكالب على دنيا فانية، ولذَّة دنيويَّة عاجلة، فأدركوا أنَّ العلم يحتاج لوقت عامر، ونفس مُثابر، فكان ديدنهم التفرغ العلمي في بدء الطلب تفرغاً منقطع النظير، ولو أراد المرء أن يُسوِّد في ذلك الأخبار والآثار والقصص لوقع ذلك في عشرات المجلدات، في سيرة أهل العلم المثابرين على تحصيل علوم الدين، وحسبك بكتابيِّ:(صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل) للشيخ عبد الفتاح أبي غدَّة – تولاه الله برحمته ومغفرته – ، و(صلاح الأمَّة في علو الهمَّة) للشيخ سيد عفَّاني – حفظه الله وسدَّد خُطاه - فستجد فيها بُغيتك!

· تفرغ طالب العلم : علم وعبادة :

إنَّ الوقوف عند حد مُعيَّن من العلم ما هو إلاَّ ضمور في العقل وقصور في الهمَّة!

ولقد نعى الله تعالى على قوم وقفوا عند حد معين من العلم فكان وقوفهم سبباً لضلالهم! فقال تعالى: (ذلك مبلغهم من العلم) لكنَّ طالب العلم الجاد مع إطلالة كل صباح، يستذكر قوله تعالى:(وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً) فتراه يسأل ربَّه متواضعاً:(رب زدني علماً)، اعترافاً بقلَّة ما تعلَّمه ضمن دوائر المعرفة والعلم المتسعة.

ولا يسع المتفرغ للعلم إلاَّ سلوك الطريق الصحيح لالتماسه فيهرع للقراءة على شيخه علوماً لم يتفَّقه فيها من قبل، ويُطالع بنفسه كُتباً ما قرأها، مستذكراً قوله تعالى:(اقرأ باسم ربك الذي خلق)؛ لينال كرم الله سبحانه وتعالى :(اقرأ وربك الأكرم)، ويسير طالب العلم في الأرض وينفر في سبيل العلم إن اضطر لذلك: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلَّهم يحذرون) ويستذكر ضرورة تقوى الله الملازمة له في خلواته وجلواته لمزيد من العلم: (واتقوا الله ويعلمكم الله) فتقوى الله كفيلة بالفرقان وتكفير السيئات وغفران الذنوب :(إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم)، ويرجو من ربه أن يرفع منزلته في الدنيا والآخرة حينما يتلو قوله تعالى:(يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات).

ما أحلاها من أوقات يعيشها طالب العلم في تفرغه العلمي، ما بين تلاوة للقرآن وتفسيره، ومطالعة للحديث وشروحاته، ودراسة للفقه وأصوله، والتعرف على معالم عقيدته، ثم يقوم لله مصلياً داعياً وراجياً، سائلاً إياه مزيداً من العلم والفهم والتدبر، فالعلم قبل القول والعمل كما أرشد الله تعالى نبيَّه محمداً صلى الله عليه وسلَّم بقوله :(فاعلم أنَّه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك) فكلما زاد المرء علماً ازداد فهماً وخشية لله تعالى.

إنَّ من أخبط القول الذي سمعته أذناي ما قاله أمامي بعض المتنسكة الجهال، حين دعوته لطلب العلم، فأجابني:(العلم يقسي القلب)!

معاذ الله أن يكون كذلك، فالعلم من أكبر الطرق الموصولة لخشية الله تعالى، فلقد وصف الله تعالى الأنبياء بقوله : (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)، وقال في شأن العلماء: (إنما يخشى الله من عباده العلماء)، ورسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم أعلم الناس وأكثرهم خشية لربه، فقد قال عن نفسه: (إِنَّ أَتْقَاكُمْ وَأَعْلَمَكُمْ بِاللَّهِ أَنَا) ([2]) وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية)، فالعلم خير سائق ودليل لصاحبه على عبادة الله، فالتفرغ العلمي حقيقته تفرغ لعبادة الله تعالى، فطلب العلم عبادة، فما انتفع من أراد التفرغ لأجل العلم وكفى، بل علم الشريعة مشدود القوى بخشية ربنا.

· من خدم المحابر خدمته المنابر:

ميزة التفرغ العلمي أنه يؤهِّل طالب العلم في وقت لاحق؛ للتصدر عِلمياً لنفع الناس وإفادتهم، ولا غرو أنَّ طالب العلم لا يطلبه لأجل التصدر والتمظهر به أمام الناس، فهو من أكثر الناس وعياً بخطورة ذلك وتأثيره على الإخلاص، بل إنَّه يعلم أنَّه لا يزال أمامه طريق متشعب في مسالك العلم، لكنَّ الانقطاع للعلم والتفرغ له، سيجعل طالب العلم متقدماً عن كثير من أقرانه الذين لم يُحصِّلوا العلم بالتفرغ التام لتحصيله.

إنَّ في التفرغ تأديباً للنفس وقطعاً للعلائق النفسيَّة عن حب الظهور، وذلك بألاَّ يتصدَّر طالب العلم للتعليم العام – وليس للتعليم الخاص أو الدعوة – إلاَّ بعد أن يستأذن شيوخه في ذلك، أو يُجاز من بعض علماء عصره، فذلك خير لقلبه وأزكى لنفسه وأرضى لشيخه.

ولقد تحصَّل عدد من علماء الإسلام الأفذاذ العلوم وبرزوا في أوائل العشرينيات من عمرهم تعليماً وفتوى، وذلك لشدَّة انقطاعهم للعلم، واهتماماهم بالوقت، ومعرفتهم لقيمة الزمن، وطالع في ذلك سيرة الإمام الشافعي، والإمام الجويني، وشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمهم الله - ، وفي عصرنا الحاضر الشيخ عبد الرحمن السعدي، والشيخ عبد الله الدويش – رحمهما الله - والشيخ سليمان العلوان – حفظه الله - وغيرهم كثير ممن تصدى للتعليم والإفتاء في وقت الصغر، ولم يتحصَّل لهم ذلك إلا بالانقطاع العلمي.

وبقدر تفرغ طالب العلم علمياً يزداد عطاؤه معرفياً لاحقاً، فالعلم كثير، والعمر قصير، فمن أعطى لنفسه حظَّها من العلوم والمعارف، لم تخنه نفسه وقت العطاء العلمي، فكما أنَّه لا يمكن أن يسبق الجود بالمال قبل جمعه، فالعلم لا يمكن الجود بقليله قبل وجود حظ كاف من نيل خمساية العلوم السابق ذكرها.

· ضبط التفرغ العلمي بخُطَّته ومنهجيَّته :

إنَّ التفرغ = تخطيط استراتيجي لمزيد من التعلم والفهم، وتحسين مستوى الإدراك العقلي، وتنمية للإبداع الفكري الذي سيخُطُّه بنانه في نقط بيانه، ويقوله لسانه ببديع كلامه ونظم عباراته.

إنَّ سعي طالب العلم للتفرغ العلمي ليس لمزيد من الترف الفكري أو الحياة المُخمليَّة الناعمة، بل إنَّه تفرغ لنيل علياء العلوم، فهو يتفرغ لحفظ القرآن الكريم ومطالعة تفسيره وما أشق الحفظ على الكثيرين لكنَّ مع التفرغ سيكون تمريناً للعقل وجهاداً للنفس حتَّى تتعوَّد النفس، فتُقبِلُ على حفظ متون السنَّة والعقيدة والفقه وغيرها من العلوم الزكيَّة لتحصيل هذه الدرر السنيَّة العلمية التي تضيء لطالب العلم حياته ودربه، ويحمد ربَّه تعالى على أن هيَّأ له هذا التفرغ.

لكنَّ طالب العلم يحتاج في تفرغه العلمي إلى ضبط للوقت، فلم يكُ تفرغه للعلم لوجود فراغ في وقته، فإنَّ الفارغ يستطيع أن يقضي سحابه نهاره وقِطَع ليله ما بين اللهو والمتعة الدنيوية حاشا طالب العلم الذي لا يلبث أن يُدرك قيمة الوقت حتى يهرع لتنظيم وقته وصناعة المزيد من وقت التفرغ كي يتهيّأ للجو الجديد الذي سيعيشه أثناء فترة التفرغ.

وإنَّ تلقي العلوم من خلال (منهجيَّة التفرغ العلمي) لن تتمَّ بطريقة صحيحة إلاَّ إن كان هنالك علم تام بكيفيَّة التفرغ وطريقته، حتى لا يذهب الوقت هدراً، أو أن يتحمَّس طالبه في البداية – وما أكثرهم – ثمَّ ينتهي به الحال إلى القناعة ولو بالقليل من العلوم!

فجلوس الرجل مع نفسه وقيامه بخطَّة علميَّة مناسبة لوقته الذي سيتفرغ فيه علمياً، وعرض هذه الخطَّة على من مارس التفرغ العلمي سابقاً، واستطاعوا تحصيل علوم غزيرة في سنوات التفرغ؛ كل ذلك كفيل بإصلاح (منهجية التفرغ العلمي) لطالب العلم الذي سيخوض غماره.

وأعيذ طالب العلم أن يركن إلى نفسه، أو لا يستشير غيره في رسم خطَّته العلمية، فإن كان التفرغ للعلم أس الإدراك والفهم، فإنَّ التخطيط الصحيح والتنظيم السليم لهذا التفرع هو الحصانة الحقيقيَّة والضمانة الأكيدة – بعون الله – على استمراريَّة هذا التفرغ وانضباطه، وليتذكر طالب العلم ما قاله أهل العلم :(من دخل في العلم وحده خرج منه وحده)([3])، فحري أن يكون هُنالك من يُشرف عليه ويُرشده في طلبه للعلم، حتَّى لا يطلب العلم على عاتقه الشخصي، فيتندَّم أو يشق على نفسه في بداية تفرغه، ثم يترك العلم كلياً بسبب عدم قدرته على المواصلة.

وكم هو جميل للغاية أنَّ يتفرَّغ طالب العلم ومعه أحد أقرانه، فيتفقان على خطَّة مُعيَّنة، ويُراجع أحدهما للآخر، ما يحتاجه من ضبط للمعلومات، وحفظ للآيات والأحاديث ومتون العلماء، ويُذكِّرُ أحدهما الآخر بالإخلاص ومواصلة طريق العلم، علَّ الله أن ينفع بهما.

· صخب الحياة تدعو للتفرغ العلمي:

طالب العلم أو الداعية المجتهد في نشر دعوته بين الناس، يُصاب أحياناً بنوع من الضغط النفسي وهو يُعالج مشاكل الناس ويُرشدهم، وخير ما يُنصحُ به أن يأخذ لنفسه تفرغاً تاماً في كل سنة ولو لمدَّة شهرين لكي يبتعد عن ضوضاء الحياة ، وصخب الناس وحراكهم، ويقبل على نفسه ويستكمل فضائلها ويعالج آفاتها وعيوبها.

وسيجد الفائدة الجليلة في ذلك حين يزداد علمياً، ويقرأ في علوم لم يُطالعها من قبل، فذلك كفيل له بتجدد علمه، وانقداح شراراة الفهم أكثر مما كانت عليه، ومراجعة لبعض ما قاله وتقويمه علمياً ومعرفياً، وهو الرابح فعلياً من تفرغه علمياً ونفسياً، ومن ذاق عرف ومن عرف اغترف.

إنَّ قدوة الدعاة والعلماء رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، ولقد أنزل الله عليه:(فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ )، أي:(إذا فرغت من أمور الدنيا وأشغالها وقطعت علائقها، فانصب في العبادة، وقم إليها نشيطًا فارغ البال، وأخلص لربك النية والرغبة)([4]) كما يقول الإمام ابن كثير.

· نماذج ممن تفرغ فنبغ:

قلَّما نقرأ في سيرة عالم ربَّاني إلاَّ ونجد أنَّه ما رفع قدر هذا العالم بعد تجرده وإخلاصه لله، إلاَّ انقطاعه عن دنيا الناس، وتفرغه علمياً بالقدر المطلوب، فنراه قد ألزم النفس بالإقبال على الدرس، فجدَّ واجتهد وثابر على التلقي حتَّى نضجت معارفه، واستوى إدراكه العلمي.

إنَّ التفرغ الذهني للعلم كان وراء تحصيل أبي هريرة رضي الله عنه لعلوم السنَّة النبويَّة حيث كان بدون مُنازع، الصحابي الجليل الأكثر جمعاً لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد توفيق الله له ودعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم له، حتى حمل العلم عنه ثمان مائة رجل ما بين صاحب وتابع كما قال الإمام البخاري([5]).

يحدَّث أبو هريرة عن نفسه فيقول:(إن إخواننا من المهاجرين شغلهم الصفق في الأسواق, وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم, وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم - بشبع بطنه - و يحضر ما لا يحضرون, ويحفظ ما لا يحفظون)([6])

وقد كان التفرغ الذهني للعلم وراء نبوغ الصحابي الجليل زيد بن ثابت رضي الله عنه حيث تفرغ لدراسة اللغة العبرية (لغة يهود)، فعن زيد بن ثابت قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلَّم له كلمات من كتاب يهود قال (إني والله ما آمن يهود على كتاب) قال: فما مرّ بي نصف شهر حتى تعلمته له قال : فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم)([7]).

ولقد نال الصحابي الجليل ابن عباس - رضي الله عنه - منزلة الكبار، مع صِغَرِ سِنِّه دون أن يحتقره أحد لدنو عمره عن أعمارهم، حتَّى لُقِّب بـفتى الكهول؛ فلقد رفع الله قدره بالعلم، لأنَّه غذَّ السَّير فيه، واجتهد في تحصيل مأموله، فرحمه الله ورضي عنه.

يُحدِّثُ ابن عباس عن نفسه فيقول:« لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل من الأنصار : هلم فلنسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم اليوم كثير » ، فقال : واعجبا لك يا ابن عباس ، أترى الناس يفتقرون إليك وفي الناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم ، قال : « فتركت ذاك وأقبلت أسأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن كان يبلغني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل فأتوسد ردائي على بابه يسفي الريح علي من التراب فيخرج فيراني » فيقول : يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك ؟ هلا أرسلت إلي فآتيك ؟ ، فأقول : « لا ، أنا أحق أن آتيك » ، قال : فأسأله عن الحديث ، فعاش هذا الرجل الأنصاري حتى رآني وقد اجتمع الناس حولي يسألوني ، فيقول : « هذا الفتى كان أعقل مني »([8]).

ولقد تفرغ للعلم كليَّة جماعة من أكابر أهل العلم المُبرّزين، وكان تفرغهم سبب نبوغهم وبلوغهم درجة من العلم لم يصل لها عدد من أقرانهم، ومنهم فيما يحضرني ذكره:

1) الإمام البخاري لم يُحصِّل ما حباه الله به من علم، إلاَّ لتفرغه علمياً للدراسة والتحصيل حتَّى ألَّف صحيحه الذي جمع فيه الأحاديث الصحاح، وقد أتمَّ سبعة عشر عاماً في جمع وتأليف هذا الكتاب.

2) الإمام النووي مكث في وقت الطلب في دمشق أربع سنين لم ينم مضطجعاً، وكان ينام مسنداً ظهره إلى أسطوانة، ولم يكن يضطجع خلال هذه المدة اضطجاع المستريح في نومته.

3) الإمام ابن الملقن، فلقد طلب الحديث في صغره بنفسه فأقبل عليه وعُني به حتّى تفرَّغ له.

4) العلامة ابن خلدون مكث بضع سنوات في قلعة بني سلامة في المغرب العربي كتب خلالها مقدمته الشهيرة.

5) الشيخ بدر الدين الدمشقي حبس نفسه في المكتبة تسع سنوات، حتَّى حصَّل من العلم ما شاء الله أن يُحصِّل.

6) الإمام الشوكاني نشأ في بيت علم حيث كان والده من العلماء الكبار، وكان له أكبر الأثر في تكوين الشوكاني،حيث هيأ له فرصة التفرغ للعلم، وبدأ حياته العلمية منذ الصغر، وتتلمذ على عدد كبير من علماء صنعاء في عصره، وقد بلغ مرتبة من التفوق المبكر جعلته يدرّس أثناء طلبه العلم، ويفتي وهو في العشرين من عمره!

7) تحدث حاجي خليفة في كتابه (ميزان الحق) عن طريقة جمعه لكتابه (كشف الظنون) فقال: وكنت في أثناء إقامتي في حلب أتردد إلى حوانيت الكتبيين وأتصفح ما فيها وما يرد إليها من الكتب والرسائل، فألهمت جمع كتاب في أسماء الكتب والمصنفات فشرعت به من ذلك الحين، ثم لما رجعت إلى استانبول وصل إلي مال ورثته فابتعت به شيئا من الكتب والمصنفات فازداد حرصي على إتمام ما شرعت به، وفي سنة (1048هـ) مات رجل تاجر من أقاربي ورثت منه مالا كثيرا فاستعنت بذلك المال على إصلاح حالي والانقطاع لطلب العلم والتصنيف فأنفقت جانبا عظيما من تلك الثروة التي وصلت إلي في اقتناء الكتب، وجمعت كتابي هذا من الكتب التي جمعتها والتي اطلعت عليها في حلب واستنبول والمصنفات الجليلة الموقوفة في الخزائن العمومية بدار السلطنة ومن كتب الطبقات والتراجم وغيرها في مدة عشرين سنة([9])

· ضرورة الإنفاق على من تفرَّغ للعلم:

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أخوان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أحدهما يأتي النبي صلى الله عليه وسلم والآخر يحترف، فشكا المحترف أخاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (لعلك تُرزقُ به)([10])، وفي هذا الحديث فضل الإنفاق على طلبة العلم، وأنَّ الله تعالى يُبارك لمن كفله بزيادة الرزق في ماله.

إنَّ كثيراً من طلبة العلم ممن يُمكنهم الانقطاع للعلم والتفرغ لأجله، لم يمنعهم من ذلك إلاَّ عدم فراغ البال من هموم الأشغال، وطلب العيش، وهو وإن كان بحد ذاته شيئاً جميلاً ومتطلباً شرعياً، فإنَّ أفضل الكسب أن يأكل الرجل من عمل يده كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

بيد أنَّ الأمَّة تحتاج لمن يشتغل لها شغلاً آخر، فلو تفرَّس عدد من أهل العلم في طلبتهم، ولحظوا نبوغهم وذكائهم وصلاحهم وتقواهم لربهم، وكلَّفوا أهل الخير بالإنفاق عليهم، وكفالتهم أثناء طلبهم للعلم في الجامع على مشايخهم وفي الجامعة على أساتذتهم، فلعلَّه بعد عِقدين من الزمن، يكون لأولئك شأن في تعليم الناس ورفع الجهل عنهم، فصرف المال لمن تفرَّغ للعلم،ليس لأجل لحمهم وشحمهم بل لكي يكون نفعهم لأنفسهم أولاً ولأمَّتهم ثانياً، فتصرفُ الأموال في حقهم على حسب كفايتهم، ويُعينهم على تلقي العلم تحصيلاً وحفظاً وفهماً وتأليفاً ودعوة، فنفعهم بالمال وإن كان ذاتياً لكنَّ مآله سيكون لأمَّة الإسلام.

لقد ذكر ابن عابدين:(أنه تلزم على المسلمين كفاية طالب العلم إذا خرج للطلب حتى لو امتنعوا عن كفايته يجبرون كما يجبرون في دين الزكاة إذا امتنعوا عن أدائها)([11]).

ومن أفضل ما يُقام به تجاه تفريغ طلبة العلم لأجله، الاعتناء بمشاريع وقفية تكون خاصَّة بكفالة طلبة العلم، كي تُشجعهم على مواصلة طلب العلم، ويتم صرف هذه المساعدات من ريع الوصايا التي حددها واقفوها لمصرف كفالة طلبة العلم رغبة في الأجر والثواب، وقد حصل هذا في سابق الزمان – وإن كان قد حصل في عصرنا مع قلَّته - فقد أدى توافد طلاب العلم من جميع أنحاء العالم إلى مراكز الحضارة الإسلامية والعواصم الإسلامية إلى إنشاء الحانات الوقفية التي تؤويهم، وهو ما استرعى نظر العلامة ابن خلدون عندما وصف الوضع الاجتماعي السائد في القاهرة وقت صلاح الدين الأيوبي بقوله:(فاستكثروا من بناء المدارس والزوايا والرُبط ووقفوا عليها الأوقاف المغلّة، وكثر طلاب العلم وارتحل إليها الناس من العراق والمغرب)[12]

إنَّ طالب العلم إن لم يكن في كفاية في معيشته فلن يُحصِّل من العلم ما يتغيَّاه ويتوخاه، ذلك أنَّ العلم كثير والعمر قصير وجمع المال لأجل المعيشة سيأخذ من وقت المرء وقتاً طويلاً وكل ذلك سيكون على حساب وقته وجهده.

يقول عبدالرحيم بن سليمان الرازي:كنا عند سفيان الثوري فكان إذا أتاه الرجل يطلب العلم سأله : هل لك وجه معيشة ؟ فإن أخبره أنه في كفاية، أمره بطلب العلم، وإن لم يكن فى كفاية أمره بطلب المعيشة ([13]).

ولو بحثنا في تاريخ عدد من علماء الإسلام البارزين لوجدنا أنَّ بعضهم كان ينفقُ عليهم أقاربهم أو أهل الفضل ممن يحملون هَمَّ العلم إنفاقاً على طلبته بلا منٍّ ولا أذى.

فلقد فتح الله تعالى على الإمام عبد الله بن المبارك من خزائن جُوده، وكانت له وفرة من المال، فكان يكفل وينفق على عدد من الأئمة الأعلام، الذين ضنَّت بمثلهم الأعصار وطنَّت بذكرهم الأعصار وهم: حماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وسفيان الثوري، وسفيان بن عيينة، والفضيل بن عياض، وإسماعيل بن عُليَّة.

وكان الليث بن سعد يصل مالكاً، والكثير من طلبة العلم.

ولقد كانت والدة الإمام سفيان الثوري، تُؤازره في طلب العلم حتى قالت له: يا بني: (اذهب فتعلم العلم وأعولك بمغزلي هذا، فإن وجدت في نفسك أثرًا فأكمل، وإلا فلا تتعنَّى)([14])

وكان يُنفق على الإمام ابن تيمية أخوه شرف الدين.

وقد تيسَّر طلب العلم كذلك لبعض العلماء، حينما ورثوا عن ورَّثوا مالاً من آبائهم فانتفعوا به في التحصيل العلمي والتأليف النافع.

فالإمام البخاري رحمه الله ورَّث له والده مالاً جزيلاً أنفقه في طلبه للعلم وسفره لجمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلَّم .

وذكر الإمام ابن عدي أن والد الإمام يحيى بن معين خلف له ثروة ضخمة ألف ألف درهم وخمسين ألف درهم فأنفق ذلك كله على الحديث لما توسع في طلبه ورحلاته.

وإمام المُفسِّرين ابن جرير الطبري اقتصر في معيشته على ما يَرِدُهُ من ريع أرضه وبستانه الذي خلَّفه له والده.

والإمام محمد بن الحسن الشيباني ذكر مترجموه أنَّ والده قد خلَّف له مبلغًا كبيرًا أنفق جُلَّه في طلب العلم والرحلة إليه.

إنَّ العلم الأصيل يحتاج لتفرغ حقيقي، وإنَّ من أعطاه فضلة وقته لن ينتفع به شخصياً وقلَّما ينفع به غيره، ففراغ البال من الهم المتعلق بالمعيشة مهم للغاية في مسألة التحصيل العلمي والانقطاع له، ويؤكد ذلك الإمام الشافعي فيما يذكره عنه النووي "لو كلفت شراء بصلة لما فهمت مسألة"([15]).

وقد جاء في ديوان الإمام الشافعي:

لا يُدرك الحكمة من عمره * يكدح في مصلحة الأهل

ولا ينال العلم إلا فتى * خالٍ من الأفكار والشغل

لو أن لقمان الحكيم الذي * سارت به الركبان بالفضل

بلي بفقر وعيال لما * فرق بين التبن والبقل

بقيت بقية للقول بأنَّ التفرغ العلمي لابد أن يستشعر صاحبه أنَّه ينتفع به، ويؤتي ثمة علمية، أمَّا إن شعر أنَّه يقضي وقته بالنوم والكسل، والتقاعس عن أداء مهمة العلم، فيقال له:

إذا لم تستطع شيئاً فدعه * وجاوزه إلى ما تستطيع

               

[1] ) أخرجه الطبراني في الأوسط، وفيه زكريا بن يحيى الوقار ، قال ابن عدي : كان يضع الحديث، فالحديث لا يصح.

[2] ) رواه البخاري (20) ومسلم (1108)،

[3] ) "الجواهر والدرر" للسخاوي (1/58) .

[4] ) تفسير القرآن العظيم، لابن كثير، سورة الانشراح ، تفسير آية (7).

[5] ) إعلام الموقعين، لابن قيم الجوزية : ( 2/259).

[6] ) أخرجه البخاري : (1/122).

[7] ) أخرجه الترمذي (2715) وقال: (هذا حديث حسن صحيح ) وقد علقه البخاري في صحيحه : (7 /95) جازماً بصحته.

[8] ) أخرجه الحاكم في المستدرك ( 1 / 106 ) والطبراني ( 10 / 10952 ) وقال الهيثمي ( 9 / 277 ) رجاله رجال الصحيح ، وأخرجه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم ( 1 / 85 ) وابن سعد في الطبقات ( 4 / 182 ) .

[9] ) مقدمة ذيل كشف الظنون، لجميل بك العظم.

[10] ) أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح.

[11] ) تنقيح الفتاوى الحامدية، لابن عابدين

[12] ) العبر وديوان المبتدأ والخبر، لابن خلدون : (2/778 – 779).

[13] ) الجامع لأخلاق الراوي، للخطيب البغدادي: (1/98)

[14] ) الآداب الشرعية،لابن مفلح:(2/45)

[15] ) تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمُتعلِّم،لابن جماعة الكناني، ص(71).