ملك السودان

*

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

- 1 -

المنظر: قاعة الاستقبال في قصر"الغرور" ملك السودان – قاعة كبيرة لها شرفة تطل على ميدان واسع أمام القصر.

الوقت: حوالي الساعة التاسعة من صباح يوم التتويج، وقد زين القصر بالأعلام والزينات وهو يموج بالحاشية والخدم يدخلون ويخرجون تهيؤاً للاحتفال.

يظهر الحاكم العام في القاعة ومعه بعض كبار رجاله. وقد جلس كبير أمناء القصر الأستاذ "أبو الخلول" يحتفي به ويؤانسه ريثما يدخل صاحب الجلالة.

الحاكم العام: هل نفذتم التعليمات كلها؟

أبو الخلول: بحذافيرها يا صاحب السعادة. كل شيء على ما يرام.

- وتدريب الزنوج هل تم كما ينبغي؟

- آه يا سيدي لو رأيتهم في التجربة الأخيرة أمس وهم يرتدون الملابس الافرنجية ويحملون الأعلام ويهتفون بحياة ملك السودان لأدهشك نجاحهم الكبير.

- هذا شيء جميل.

- نعم... حتى الفتيات اللائي جلبناهن من قبائل الشلوك قد أتقنّ لبس الفساتين بمهارة عجيبة وسيشتركن في الاحتفال.

- إذن فسيكون الاحتفال رائعاً جداً.

- كل ما أخشاه هو أن تقوم الأحزاب المعادية بمظاهرات طائشة قد تشوه من جمال الاحتفال.

- لا... لا تخش هذا فقد أقمنا جنوداً مسلحين على مفارق الطرق لمنع هؤلاء من الوصول إلى الميدان (يقع نظره على الصورة المعلقة في صدر القاعة) عجباً! هذه صورة الإمبراطور باقية في مكانها... لماذا لم تنزلوها؟.

- لقد أنزلنا الصورة الأخرى ووضعنا في مكانها صورة مولانا ملك السودان.. أما صورة الإمبراطور فإن مولانا أمرنا ببقائها رمزاً للصداقة بين الأمتين!.

- هذا تعطف كريم من صاحب الجلالة.. أين جلالته الآن؟ ألم يفرغ بعد من ارتداء ملابسه؟

- لعل اختيار العمامة هو الذي أخر جلالته... فجلالته متردد أيلوثها على طربوش والطربوش عنوان السيادة المصرية، أم يلوثها على قبعة! وهي لا تنسج مع العمامة.

- لماذا لا يلبس عمامته الصوفية التقليدية فهي أليق بمثله وأجلب لرضا الشعب عنه؟

- لكن جلالته يريد أن يظهر في هذا الاحتفال بمظهر جديد.. مظهر ملك لا مظهر شيخ طريقة! ها هو ذا قد أقبل..

- (يدخل المغرور فيقوم له الحاكم العام ومن معه. يصافحه المغرور وينحني له قليلاً فيحنى له الحاكم أيضاً).

الحاكم: لا يا صاحب الجلالة. من اليوم فصاعداً لا ينبغي أن تنحني لي ولا لغيري. بل علينا نحن أن ننحني لجلالتك.

المغرور: شكراً لك يا صديقي العزيز.. ما رأيك في هذا الزي الذي أرتديه؟

- جميل جداً يا صاحب الجلالة ولكن أين النيشان الإمبراطوري؟ فمن حقه أن يزين صدر جلالتك في هذا اليوم العظيم.

- معذرة يا صاحب السعادة.. لقد نسيت أن أحمله.. اذهب يا أبا الخلول فائتني به "يخرج أبو الخلول".

- اسمح لي يا صاحب الجلالة أن أقدم لك تهنئة دولتي وتهنئتي بيوم تتويجك السعيد الذي سيفتتح به السودان عهداً جديداً من السيادة والرفعة.

- (ينطلق وجهه) شكرك يا صاحب السعادة. إن الذي يستحق التهنئة اليوم حقاً هو أنت، إذ يرجع لك الفضل الأكبر في نجاح هذه السياسة التي أفضت بنا إلى هذا اليوم المجيد.

"يعود أبو الخلول حاملاً معه النيشان فيعلقه على صدره"

-2-

يبتدئ الاحتفال بمجيء شرذمة من (الحزب المأجور) إلى الميدان وهم يهتفون بحياة ملك السودان وباستقلال السودان وبالصداقة السودانية الإنجليزية.

الحاكم العام: (يلتفت مغضباً إلى أبو الخلول) أهؤلاء هم كل أعضاء حزبك؟!

المغرور: (مقطب الجبين) ويلك يا أبا الخلول! أين سائر أعضاء الحزب؟

أبو الخلول: ماذا أصنع يا مولاي؟ إن كثيراً منهم قد خافوا من نقمة الأحزاب الأخرى عليهم فلم يجرؤوا على الحضور اليوم.

المغرور: ويل لهم! أيخشون الأحزاب الأخرى ولا يخشون نقمتي وعذابي؟

الحاكم العام: إنهم بتخلفهم هذا لم يمسوا كرامة صاحب الجلالة فحسب، بل مسوا أيضاً كرامة الإمبراطورية!

المغرور: يظهر لي أنني ما أحسنت الاختيار حين وكلت هذا الأمر إليك!

أبو الخلول: اعذرني يا مولاي يا صاحب الجلالة فقد والله بذلت غاية جهدي في التأكيد عليهم بالوعد والوعيد أن لا يتخلف عن الحضور منهم أحد.

الحاكم: فأين ثمرة سعيك هذا يا رئيس الحزب؟

أبو الخلول: ماذا في وسعي أن أصنع إذا كان ضغط الأحزاب الأخرى شديداً عليهم، ودعاياتها فعالة في أوساط الشعب؟ بيد أني أؤكد لك يا صاحب السعادة أنهم سيعودون إلى تأييدنا حين تستقر الأمور، ويرون أن دعاية المصريين قد منيت بالإخفاق التام.

الحاكم: ما نفع ذلك؟ إننا حينئذ لا نحتاج إلى تأييدهم.

أبو الخلول: على كل حال ستحضر طوابير الشلوك الآن فتملأ الميدان. وبذلك نبطل كيد أعدائنا الذين دبروا هذه المقاطعة.

المغرور: (محتداً) أحضرهم حالاً.. ماذا تنتظر بعد؟

أبو الخلول: سمعاً يا صاحب الجلالة سآمر بإطلاقهم الآن (يتحرك نحو الباب ليخرج).

الحاكم: ستأمر بإطلاقهم! ما معنى هذا؟ أهم محبوسون الآن؟

أبو الخلول: نعم يا صاحب السعادة لأننا لو تركناهم مطلقين لربما يهربون بالملابس التي كسوناهم إياها فلا يشهدون الاحتفال!

الحاكم: (يتنهد) حسناً.. افعل ما بدا لك.

أبو الخلول: لقد اتخذت هذا الاحتياط لئلا يرميني جلالة الملك بالتقصير.

المغرور: لقد عرفنا نشاطك. هيا انطلق –ماذا تنتظر بعد؟

(يخرج أبو الخلول).

- 3 -

تحضر طوابير الشلوك إلى الميدان وقد ارتدوا جميعاً الملابس الإفرنجية وهم يحملون الأعلام ويقودهم جماعة السودانيين العرب. وبين هذه الطوابير طابور من فتيات الشلوك قد ارتدين الفساتين الملونة. والجميع يرددون الهتافات التي تلقنوها.

أبو الخلول: ما رأيك يا صاحب الجلالة الآن؟ لعلك راض عن تدبيري.

المغرور: بارك الله فيك يا أبا الخلول. إنني مغتبط جداً الآن.

الحاكم: لقد نجحت هذه الحيلة الطريقة وأنقذت سمعة الاحتفال.

أبو الخلول: الحمد لله إذ رضيتما عني.

الحاكم: هيا يا صاحب الجلالة تقدم إلى الشرفة لتحييهم وتلقي عليهم كلمة العرش.

المغرور: ماذا أقول لهؤلاء؟ إنهم لن يفهموا شيئاً مما أقول.

الحاكم: لا عليك يا صاحب الجلالة. ألق عليهم كلمتك وسيان أن يفهموها أو لا يفهموها.

أبو الخلول: نعم يا صاحب الجلالة. إنهم على كل حال سيفهمون المعنى من إشارات يدك. وحسبهم أن يشهدوا طلعتك!

(يطل المغرور عليهم من الشرفة فتتعالى الأصوات بالهتاف)

المغرور: شعبي العزيز...

أصوات (ترتفع من خلال الجموع) يحيا الملك المزيف! يحيا صنيعة الاستعمار!

أبو الخلول: هذه مكيدة من أذناب المصريين قد اندسوا في الجمع.

المغرور: شعبي العزيز.. يسرني جداً.. لعنة الله عليكم! ماذا تصنعون أيها البهائم؟!

الحاكم: ما خطب هؤلاء؟

أبو الخلول: لقد خلع أحد أذناب المصريين بنطلونه فقلدوه! لا ذنب على هؤلاء الزنوج. يجب أن يعاقب أولئك الأذناب الخونة!

الحاكم: لا بأس: استمر يا صاحب الجلالة في خطابك فسيكفون عن هذا العمل حين يسمعون صوتك. قل وأسرع في إلقاء كلمتك.

المغرور: (يلقي بسرعة) شعبي العزيز. يسرني جداً أن أراكم بهذا المظهر الوطني الرائع. هاأنتم أولاء ترتدون هذه الملابس المدنية الفاخرة فلا فرق بينكم وبين أرقى شعوب الأرض. (يلتفت إلى الحاكم العام) أنا لا أستطيع أن استمر في خطابي وهم هكذا ماضون في خلع بنطلوناتهم.. انظر! ها هم أخذوا يرقصون بدون بنطلونات!!

(تتعالى أصواتهم ويدور فيهم الرقص الزنجي في حلقات متعددة)

المغرور: يلتفت إلى مراسلي الصحف الجالسين في المكان المعد لهم على يمين الشرفة وهم يضحكون "اذهبوا من هنا يا ملاعين! اطردوا هؤلاء المراسلين الأجانب من هنا ! إنني لا أريد أن أرى أجنبياً في بلادي".

أبو الخلول: (يهدئه) يا مولاي إن قوانين الصحافة العالمية تحظر علينا طردهم.

المغرور: فاطردوا هؤلاء الوحوش إذن من الميدان إنني لا أريد أن يكون شعبي من هؤلاء!

(يصدر أبو الخلول أوامره بطرد من في الميدان من الزنوج، فيخرج الجنود إليهم بالسياط فيهرب الجمع الحاشد من الزنوج وهم لا يدرون لماذا جيء بهم إلى ذلك الميدان وألبسوا تلك الملابس الضيقة في شدة الحر، ولا لماذا ضربوا بعد ذلك وطردوا من الميدان)

- 4 -

بينما كان الجنود منهمكين في طرد الزنوج من الميدان إذ بجموع الشعب السوداني الحر تدوي أصواتها من بعيد ثم ما لبثوا أن تدفقوا إلى الميدان وهم يحملون الأعلام المصرية ويهتفون يحيا الفاروق ملك مصر والسودان وبوحدة وادي النيل وبسقوط المغرور وسقوط الحاكم الدخيل.

أبو الخلول: لقد نجح أذناب المصريين في مؤامرتهم لتشويه هذا اليوم.

المغرور: قل لي الآن يا صاحب السعادة ما العمل؟

الحاكم: دعني أبرز لهم في الشرفة وأخاطبهم.

المغرور: كلا لا تفعل أخشى أن يصيبك أذى من هذه الجماهير.

الحاكم: اطمئن يا صاحب الجلالة فسأستميلهم إلينا.

(يخرج إلى الشرفة)

أيها السودانيين الأحرار! ليتقدم إلي زعيمكم لنتفاهم معه.

يتقدم الأستاذ إسماعيل الأزهري أمام الشرفة

الحاكم: ماذا تريدون؟

الأزهري: ألم تسمع بعد ماذا نريد؟ إننا نريد وحدة وادي النيل.

- ألا تريدون الاستقلال؟

- وحدة وادي النيل هي الاستقلال عندنا، وكل ما عدا ذلك هو احتلال واستعباد!

- هذا ما يقوله المصريون الذين يريدون أن يحكموا ويستغلوا خيرات بلادكم.

- وهذا ما نقوله نحن أيضاً الذين نريد أن نحكم أنفسنا ونستغل خيرات بلادنا.

- أسودانيون أنتم أم مصريون؟

- نحن سودانيون ومصريون، كما أن سكان اسكتلندا اسكتلنديون وبريطانيون.

- لماذا لا تقفون من المصريين موقف الايرلنديين منا؟

- لأننا والمصريين شعب واحد ولستم والارلنديون كذلك.

- بلى، نحن والارلنديون من أورمة واحدة، ومع ذلك فهم مستقلون عنا.

- إن صح ما تقول فلوموا الارلنديين على انفصالهم عنكم، أو أرغموهم على الانضمام إليكم بالقوة إن استطعتم، فلعل لكم حقاً في ذلك. ولكن لا حق لكم في أن تلومونا إذا أبينا الانفصال عن مصر. ومهما فعلتم فلن تستطيعوا ولن تستطيع أية قوة في الأرض أن ترغمنا على ذلك. حتى المصريون أنفسهم لو حاولوا فصلنا عنهم لقاومناهم!

- لا شك أنك مأجور للمصريين.

- المصريون قومي، ولا عار علي أن أكون مأجوراً لهم، وإنما العار واللعنة على من يرتضي لنفسه أن يكون مأجوراً للغاصب الأجنبي!

- بأي صفة تخاطبني بهذه اللهجة؟

- بصفتي سودانياً أعبر عن عقيدة الشعب السوداني ومشيئته. ولكن هل تسمح لي أن أوجه إليك مثل هذا السؤال؟

- ماذا تريد أن تقول؟

- بأي صفة تخاطبنا أنت بهذه اللهجة؟

- ألا تعرفني؟ أنا حاكم السودان العام.

- من ولاك هذا المنصب؟

- بريطانيا ومصر.

- هل خولتك مصر أن تخاطبنا بهذا القول؟

- بالطبع لا. ولكننا في هذا العهد الجديد علينا أن ننظر لمصلحة السودان ونحرره من الحكم الثنائي.

- إننا لا نعترف بهذا الحكم الثنائي. وعلى فرض اعترافنا به فقد سقط نصف سلطتك الرسمية وبقي لك النصف الآخر الذي ترعى به مصالح إمبراطوريتك، فأنت بهذا النصف الباقي من صفتك الرسمية تخاطبنا!

- هذا غير صحيح. والواقع أن صفتي الرسمية الأولى قد سقطت كلها منذ ولاني الملك الجديد حكم البلاد.

- إن السلطة الأجنبية هي التي نصبت هذا الملك الجديد ضد إرادة الشعب، فعملها هذا باطل، وكل ما ترتب عليه فهو باطل. وعلى ذلك لا حق لك في مخاطبتنا أكثر من حتى أي عابر سبيل أجنبي!

- كأنكم لا تريدون التفاهم معنا بأي حال. فلماذا إذن جئتم إلى هنا؟

- لنبطل هذه الألاعيب التي تضحكون بها علينا وعلى العالم!

- ستندمون غداً على موقفكم هذا

- افعل ما بدا لك.

- سترون!

يترك الشرفة ويدخل.

- 5 -

المغرور: هيا بنا يا صاحب السعادة ننسل من الباب الخلفي فإن الجماهير تضغط على القصر ضغطاً شديداً وربما يقع ما لا تحمد عقباه.

أبو الخلول: إنهم يظهر لي أنهم سيهاجمون القصر.

الحاكم: لكني لا أستطيع أن أبرح مكاني هذا وأخالف أوامر دولتي.

المغرور: سيكون مصيرك مصير غوردون!

الحاكم: فليكن ذلك، فلست بخير من غوردون، وليس غوردون بأشجع مني.

المغرور: أما أنا فسأهرب.

الحاكم: بل يجب أن تبقى معي إلى النهاية.

المغرور: إن هذه النهاية لا تعجبني.

الحاكم: لا تخف فالنهاية خير، إن هذه الشراذم لا تستطيع أن تتغلب على قوات الإمبراطورية فلنا النصر في النهاية دائماً.

المغرور: ماذا يهمني أن تنتصروا أنتم بعد أن يصيبني أنا السوء؟

الحاكم: أتريد أن تعصي الأوامر؟

المغرور: إن كان فيها تعريضي للهلاك فنعم!

الحاكم: إن غيرك مستعد لإطاعتها! أحد أتباع الحاكم (يتدخل ليسوي الخلاف): ليس بينكما ما يدعو إلى هذا الخلاف الشديد. في وسعنا يا صاحب السعادة أن نتفادى الخطر، ولن نعدم سبباً نبرر به سلوكنا إذا استطعنا أن ننقذ موقفنا هذا بما يصون مصالح الإمبراطورية.

الحاكم: ماذا تقترح؟

التابع: أن نبرح هذا القصر تحقيقاً لرغبة صاحب الجلالة، وننقل عاصمتنا مؤقتاً إلى الملاكال.

الحاكم: ولكن هيبة الإمبراطورية ستضيع!.

التابع: سنتخذ التدابير حالاً لاسترداد سيطرتنا على الموقف فنعود إلى الخرطوم وقد أعدنا هيبة الإمبراطورية أقوى مما كانت.

أبو الخلول: هذا رأي سديد يا صاحب السعادة.

الحاكم: لا بأس عندي بذلك.. ولكني أشترط قبل كل شيء أن يوافق جلالة الملك المعظم على هذا الرأي .،. إننا لا نستطيع أن نبرم أمراً بدون موافقة جلالته!

المغرور (ينطلق وجهه قليلاً): إنني موافق.

الحاكم: فلتكن مشيئتك يا صاحب الجلالة.. هيا بنا ننقل عاصمة الدولة إلى الملاكال (يتحرك نحو الباب) ولتحى الإمبراطورية!

(ستار)

            

* مجلة الإخوان المسلمون (المصرية) في 9 / 11 / 1946