على خشبه المسرح!

على خشبه المسرح!

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: حجرة الاستقبال في منزل المستر ايمانويل شنويل.

(شنويل وعنده المستر بيفان)

بيفان: إذن فقد دعوتني يا مستر شنويل لتكلمني في هذا الموضوع؟

شنويل: نعم.. ألم يخبرك المستر كرسمان؟

بيفان: لا لم يخبرني وإلا لما حضرت فعندي مشاغل كثيرة في هذه الأيام.

شنويل: فماذا قال لك إذن حين دعاك لزيارتي؟

بيفان: قال لي إنك ستزودني بمعلومات قيمة عن مصر وعن الشرق الأوسط.

شنويل: أجل. وهذا ما صنعت الآن يا مستر بيفان.

بيفان: أعذرني يا مستر شنويل إذا قلت لك إنك تريد أن تتخذ مني سفيراً لإسرائيل إلى مصر.

شنويل: لا تبالغ يا مستر بيفان فكل ما أردته منك وقد صار لك هذا المكان العظيم في قلوب المصريين والعرب – أن توجه شيئاً من عنايتك لتلك المشكلة المعقدة التي لن يستقر للشرق الأوسط أمن ولا سلام إلا بحلها.

بيفان: يا مستر شنويل ينبغي أن تعلم أني أسعى إلى حل شامل لجميع المشكلات العالمية من حيث ارتباط بريطانيا بها وإلى وضع سياسة جديدة عامة تصحح الأخطاء التي ارتكبتها حكوماتنا فيما مضى.

شنويل: أعلم ذلك يا مستر بيفان ولكن ماذا يكون موقف سياستك الجديدة هذه من مشكلة إسرائيل؟

بيفان: قبل أن أجيبك على سؤالك هذا اسمح لي يا مستر شنويل أن أعتبر هذا السؤال موجهاً إليَّ من رجل أجنبي.

شنويل: ماذا تعني؟

بيفان: أعني. من رجل إسرائيل لا من رجل بريطاني مثلي.

شنويل: ما هذا؟ أتتهم وطنيتي؟

بيفان: كلا يا صديقي.. ولكن ليكون جوابي بمنتهى اللباقة والدبلوماسية حتى لا أجرح إحساسك.

شنويل: كلا.. إني لا أقبل منك هذا التعريض. أنا بريطاني صميم!

بيفان: إذن فلا تغضب مني إذا أسمعتك جواب البريطاني للبريطاني.

شنويل: من قال لك أني سأغضب؟

بيفان: حسناً حسناً. خذ رأيي الصحيح إذن. إني لا أعتبر إسرائيل إلا مشكلة مفتعلة اشتركنا في خلقها نحن والأمريكان لنوجد بها بلبلة في شعوب الشرق الأوسط تضعها دائماً تحت سيطرتنا. والسياسية الجديدة كفيلة بتصحيح هذه الغلطة كسائر الغلطات الأخرى.

شنويل: غلطة؟ أتعتبر إسرائيل غلطة؟

بيفان: أنت تسميها مشكلة وأنا أسميها غلطة. والنتيجة واحدة.

شنويل: كلا كلا أنا لا أقبل هذا منك.

بيفان: يخيل إلي يا مستر شنويل أن الجواب اللبق كان يكون أوفق لك من الجواب الصريح. أتشتهي الآن أن تسمعه مني.

شنويل: ماذا كنت تريد أن تقول؟

بيفان: مشكلة إسرائيل يا صديقي العزيز أهم مشكلة يواجهها العالم اليوم، ولن يستقر له أمن أو سلام حتى ترضخ البلاد العربية لعقد الصلح مع إسرائيل ورفع الحصار الاقتصادي عنها لتنمو وتترعرع، وبذلك تحل مشكلات العالم كلها دفعة واحدة!

شنويل: هذه هي الحقيقية يا مستر بيفان وإن سقتها أنت مساق السخرية.

بيفان: الحقائق يا مستر شنويل لها وجوه كثيرة متعددة بتعدد الأشخاص أ الجماعات وأنا لا أشاركك في الحقيقة التي زعمتها، ولكن لا تبتئس فقد شاركك فيها من هم أحب إليك مني.

شنويل: من تعني؟

بيفان: أولئك الذين عقدوا اجتماعهم في جلاسجو منذ قريب: البريطانيون اليهود أو اليهود البريطانيون سمهم كما تشاء.

شنويل: عجباً.. أعندك هذه النزعة ونحن لاندري؟

بيفان: أنت الذي أوجدتها عندي –ينهض – نهارك سعيد يا مستر شنويل اشكر لك اهتمامك بدعوتي واشكر لك المعلومات القيمة التي زودتني بها قبل سفري إلى الشرق الأوسط –يخرج-.

شنويل: وقاحة بالغة! لا سامية فتنة! ماذا ترك هذا اللعين للفاشية؟ ماذا ترك للورد أوزوالدموزلي؟

يدخل كروسمان من خلف ستارة الحجرة.

كروسمان: مداعبا: كلا يا مستر شنويل.. لا أسمح لك أن تلعن صديقي أمامي!

شنويل: أجل لن ألعنه أمامك ولكن سأشن عليه حملة قاسية في الصحف أن الصحف كلها تحت أمرنا إني سكت عنه حتى اليوم لأني كنت أطمع أن يقوم بواجبه في خدمة إسرائيل أما اليوم فسيرى كيف يكون جزاء الخونة المارقين!

كروسمان: ألم أقل لك إنه لا يصلح للقيام بهذه المهمة؟

شنويل: بل هو أصلح الناس للقيام بها لو أراد ولكنه لا يريد.

كروسمان: حتى لو أراد فلن يقوم بها خيراً مني. إن هذه مهمة دقيقة لا تغني فيها الشجاعة والصراحة بل تحتاج إلى الخديعة والمكر ومن ثم تحتاج إلى معرفة تامة بعلم النفس.

شنويل: مادخل علم النفس هنا؟

كروسمان: أنسيت يا صديقي كيف اختاروني لتنظيم الإذاعة السرية ضد الألمان في الحرب الماضية فاستطعت أن أحطم أعصابهم. فهل كان سلاحي في ذلك إلا علم النفس؟.

شنويل: كنت تملا برامج تلك الإذاعة بالتنديد باليهود ولعن الصهيونية ومدح هتلر والألمان وتذيع موسيقى فاجز.

كروسمان: أجل ثم أدس خلال ذلك جملاً صغيرة لا يفطن إليها الألمان ولكنها كانت تفعل فعل القنابل في تدمير أعصابهم وتحطيم روحهم المعنوية.

شنويل: هذا حق يا صديقي ولكنك لا تستطيع أن تنكر ما لصديقك المستر بيفان اليوم من المقام العظيم لدى العرب خاصة وشعوب الشرق الأوسط عامة.

فكلمة صغيرة منه يناجي بها الزعماء الذين سيقابلهم هناك سيكون لها أثرها الفعال في إقناع العرب بوجوب عقد الصلح مع إسرائيل ورفع هذا الحصار الاقتصادي الذي سيفضى لا محالة إلى خنقها إذا استمر.

كروسمان: أنا لست من رأيك في ذلك بل أعتقد أن المستر بيفان لو تعرض لهذه النقطة فسيجري في ذلك على خطته من اللهجة الصريحة والصيغة الجازمة وستكون النتيجة أنه يفقد المقام الذي له في قلوبهم دون أن يحقق شيئاً مما نبتغيه لإسرائيل.

شنويل: وأنت ماذا تنوي أن تفعل؟

كروسمان: أما أنا فسأستغل هذا المقام العظيم الذي للمستر بيفان في قلب المصريين والعرب بمصاحبتي له وسيرى في ركابه. وسأؤيد تصريحاته لهم في وجوب جلاء القوات البريطانية عن قنال السويس وسأبدي لهم من التحمس لهذه السياسة أكثر مما يبديه المستر بيفان نفسه. ثم أدس لهم في خلال ذلك ما أريد.

شنويل: تماماً كما كنت تفعل مع الألمان.

كروسمان: نعم.

شنويل: ولكنك يا صديقي العزيز معروف عندهم بتحيزك للصهيونيين منذ اشتركت في لجنة التحقيق الانجلو أمريكية ثم نشرت ما نشرت في تأييد إسرائيل ضد العرب.

كروسمان: اطمئن يا صديقي فإن العرب قوم طيبون جداً ينسون الأمور بسرعة فائقة. فأي كلمة طيبة يقولها أحدنا لهم كافية أن تمسح كل اللعنات التي صبها على رؤوسهم في الماضي القريب.

شنويل: إلا في مسالة فلسطين.

كروسمان: بل في كل شيء حتى في مسألة فلسطين. لقد لمست ذلك فيهمم حين زرت الشرق الأوسط في العام الماضي فقد أدهشني ما لقيت من الحفاوة وحسن الاستقبال هناك حتى خيل إلي يومئذ أنهم كانوا يعتبرونني من المناصرين لهم ضد الصهيونية.

شنويل: لكن المشكلة الفلسطينية كانت حينئذ في فترة من فترات الركود ولم تكن بهذه الحدة التي هي عليها اليوم.

كروسمان: هذا صحيح ولكن من جهة أخرى لم يكن عندي إذ ذاك هذا السلاح الخطير الذي عندي اليوم.

شنويل: ماذا تعني؟

كروسمان: هذه الضجة العظمى التي أقامها المستر بيفان بتأييده وجهة النظر المصرية فأكسبته هذا التقدير العظيم عندهم وأكسبتني أنا أيضاً مثله أو قريباً منه باعتباري مساعده الأيمن في هذا الجناح اليساري لحزب العمال.

شنويل: أواثق أنت من نجاحك في هذه المهمة؟

كروسمان: إن لم يقدر لي النجاح فلن يقدر لأحد غيري. إياك أن تعد هذا اغتراراً مني بمقدرتي يا مستر شنويل. فكل ما هنالك أنني أعددت لهذا الأمر عدته منذ أمد طويل.

شنويل: أعددت له منذ أمد طويل.

كروسمان: نعم. أو تظن أن رحلتي الماضية إلى الشرق الأوسط كانت عبثاً؟ لقد كانت خطوة تمهيدية لهذا الذي سأضطلع به اليوم.

شنويل: لكنك لم تخبرنا بشيء من ذلك..

كروسمان: إني دائماً أفضل العمل في هدوء وصمت.

شنويل: حتى يقوم إخواننا بمكافأتك.

كروسمان: المكافأة في مذهبي لا تكون في عند بداية العمل بل في نهايته.

شنويل: نفقات رحلتك على الأقل.

كروسمان: هذه كانت على الحكومة باعتباري نائباً في المجلس. وإذا كانت المكافأة قاصرة على نفقات الرحلة فقط فعدم قبولها أكرم.

شنويل: ثق أني سأكلم جماعتنا في أن يجزلوا مكافأتك. فإن كان لك اشتراط في ذلك فاذكره لي لأتقدم به إليهم.

كروسمان: ليس الآن يا مستر شنويل حتى ينجح المسعى الذي أقوم به وكل ما أبتغيه اليوم منكم أن تولوني ثقتكم التامة.

شنويل: ماذا تقول يا مستر كروسمان. أتشك في ثقتنا بك؟

كروسمان: إني أريد الثقة المطلقة يا مستر شنويل.. الثقة التي لا تتزعزع مهما تكن النتائج مرضية أو غير مرضية..

شنويل: ماذا تعني؟ أفصح.

كروسمان: لا أريد ثقة كتلك الثقة التي أوليتموها للكونت برنادوت.

شنويل: حاشاك يا مستر كروسمان أن تصنع مثله. ذلك رجل خان قضيتنا في منتصف الطريق.

كروسمان: حتى أنت يا مستر شنويل تعتقد ذلك؟!

شنويل: نعم..

كروسمان: هذا الذي أخشاه منكم فمن الظلم للكونت برنادوت أن يتهم في إخلاصه لليهود. فقد أيدهم في كل نقطة من نقط الخلاف وكان له الفضل الأكبر في توطيد دولة إسرائيل وحفظها من الانهيار في تلك الظروف الحرجة التي مرت بها الدولة الوليدة. ولكنه اضطر إلى شيء من مجاملة الطرف الثاني في بعض المسائل ليستر شيئاً من تحيزه الصارخ لليهود. فكان جزاؤه منهم تلك القتلة الشنيعة

شنويل: عجباً لك كيف يخطر ببالك مثل هذا الخاطر السخيف؟ تخاف أن يقتلوك؟

كروسمان: لا تسيء فهمي يا مستر شنويل. أنا لا أخشى القتل فذلك أمر بعيد..

شنويل: فماذا تخشى إذن؟

كروسمان: أخشى أن يتهموني في إخلاصي بعد كل هذه الجهود التي بذلتها في نصرتهم.

شنويل: وأي شيء يدعوهم إل ذلك؟

كروسمان: هذه المهمة التي سأقوم بها في غاية الدقة. فستقتضي مني أن أبدي كثيراً من المجاملات للعرب.

شنويل: جاملهم كما تشاء لا اعتراض لنا على ذلك ما دمت ترى في ذلك مصلحة القضية.

كروسمان: وربما تقتضي مني أن أقدح في إسرائيل بعض القدح.

شنويل: ماذا تنوي أن تقول عن إسرائيل؟

كروسمان: هأنتذا قد انفعلت الساعة من محض الإشارة.

شنويل: كلا ولكني أحب أن استوثق من ذلك حتى لا يكون فيما أنت قائله عن إسرائيل ما يسيء إلى قضيتها.

كروسمان: أوه.. هنا المشكلة! أتريد مني الآن أن أتنبأ لك بما سوف أقوله هناك؟ ستكون أقوالي بالطبع تبعاً لما سيقال لي وعلى حسب الواقف والظروف.

شنويل: في وسعك على كل حال أن تعطيني فكرة عامة عن ذلك.

كروسمان: كيف؟

شنويل: أذكر لي مثلاً بعض العبارات التي ستقولها هناك.

كروسمان: لا سبيل إلى ذلك لأن الموقف هو الذي سيملى على القول المناسب.

شنويل: تخيل أنك الآن بين يدي زعيم من زعماء العرب.

كروسمان: لكنى الآن بين يدي زعيم من زعماء اليهود.

شنويل: أنا إنجليزي من فضلك!

كروسمان: (مستدركاً) عفواً..

بيني يدي زعيم من زعماء اليهود الإنجليز.

شنويل: ولا هذا!

كروسمان: فماذا أقول؟

شنويل: قل الإنجليز.. اليهود.

كروسمان: حسناً: بين يدي زعيم من زعماء الإنجليز واليهود.

شنويل: هبني زعيماً من زعماء العرب. ألم تذهب قط إلى المسرح؟ ألم تشاهد يوماً رواية تمثيلية؟

كروسمان: بلى.. إنك تعلم أنني كنت فيما مضى أقرض الشعر وقد ألفت بعض التمثيليات.

شنويل: فهبني الآن ممثلاً على خشبة المسرح أقوم بدور شخصية زعيم من زعماء العرب فماذا تقول له؟

كروسمان: قل أنت أولاً لأرى كيف ينبغي أن أجيبك.

شنويل: قد عرفناك يا مستر كروسمان متحيزاً لليهود علينا.

كروسمان: لا يا سيدي هذا غير صحيح. لو سمعتم ماذا يقول الصهيونيون عني لعرفتم أنهم يتهمونني بمثل ما تتهمونني به. هذه ضريبة العدل والإنصاف يا سيدي. هكذا الحكم العادل لا يستطيع أبداً أن يرضى الطرفين بل كثيراً ما يغضب الطرفين معاً.

شنويل: هذا قول جميل ولكنك لم تقدح في إسرائيل؟

كروسمان نحن على خشبة المسرح أم خارج المسرح؟

شنويل: خارج المسح طبعاً. هذا تعليقي أنا إيمانويل شنويل.

كروسمان: حسناً.. إني لم أقدح إسرائيل لأنك لم تتح لي الفرصة للقدح فيها.

شنويل: والآن ما رأيك يا مستر كروسمان في إسرائيل؟

كروسمان: على خشبة المسرح أم خارج المسرح؟

شنويل: على خشبة المسرح طبعاً!

كروسمان: سيدي إني أعتبر إسرائيل قنبلة اجتماعية زمنية وقد انفجرت في الوقت المحدد لها.

شنويل: ماذا تعني يا مستر كروسمان؟

كروسمان: على خشبة المسرح أم..؟

شنويل: (في حدة) على خشبة المسرح!

كروسمان: إن القنبلة قد انفجرت فأحدثت ما أحدثت من أثرها الطبيعي فلم يعد هناك ما يخشى على العرب من انفجارها ثانية. فاطمئنوا فلن يصيبكم منها أكثر مما قد أصابكم.

شنويل: لكن هذا غير صحيح فإسرائيل لم تنته أطماعها بعد حتى تستولي على فلسطين كلها بل حتى تسيطر على أرض الميعاد أجمع من النيل إلى الفرات!

كروسمان: خارج المسرح أم..؟

شنويل: مازلنا على خشبة المسرح.

كروسمان: يا سيدي هذا ما تطمع فيه إسرائيل ولكنها لن تستطيع أن تبلغ ذلك أبداً فإن الهزيمة التي منيت بها جيوشكم في حرب فلسطين قد أيقظت العالم العربي كله من سباته العميق. وإليها يرجع الفضل في هذه النهضات التي انبثقت في مختلف الأقطار العربية، وأعظمها هذه النهضة الجبارة التي قامت بها مصر في عهدها الجديد.

شنويل: (محتداً يضرب المنضدة بكفيه) أسكت ويلك! إنك بهذا القول تبعث اليأس في نفوس اليهود وتحكم بالإعدام على إسرائيل!!

كروسمان: على خشبة المسرح أم..؟

شنويل: (صائحاً) خارج المسرح! خارج المسرح! ألا تفهم؟!

كروسمان: أنت الذي لا تفهم! إنما قلت ذلك وأنا على خشبة المسرح!

شنويل: (في غمرة ذهوله) أنا لا أرى مسرحاً قدامي.. أين هو المسرح؟!

كروسمان: (ببرود) المسرح يا مستر شنويل هناك في الشرق الأوسط!.

(ستار)

         

*مجلة الدعوة في 29 ربيع الثاني 1372