المهرج والحكيم(3)

عبد الله عيسى السلامة

المهرج والحكيم(3)

حواريات

عبد الله عيسى السلامة

النرجسية

سأل المهرج الحكيم: ما النرجسية يا سيدي الحكيم؟

نظر إليه الحكيم مستغرباً، وقال:

وما الذي دفعك إلى هذا السؤال؟ وهل حُلّت لديك المسائل كلها، ولم يبق إلا معرفة النرجسية؟

قال المهرج: اعذرني يا سيدي الحكيم: لقد سألتك عنها، لأنها اليوم –فيما أرى- صارت أم المسائل، أو أم أكثرها. فإذا حللنا المشكلة المتعلقة بها، حللنا سائر المشكلات المتعلقة ببناتها.

قال الحكيم باسماً: ويحك.. كنت أظنك أكثر فطنة مما بدا عليك الآن!

قال المهرج متحيراً: ولم يا سيدي الحكيم.. رعاك الله!؟

قال الحكيم: لافتراضك أنك ستحل مسألة النرجسية بمجرد التعرف إليها. ولو أن مجرد معرفة مشكلة ما، يؤدي إلى حلها تلقائياً، لحل أكثر مشكلات العالم.

قال المهرج باسماً: لا تنس يا سيدي الحكيم، أنك أنت الذي أوحيت إلي بهذا الفهم، حين سألتني: "هل حلت لديك المسائل كلها، ولم يبق إلا معرفة النرجسية"؟

قال الحكيم مقطباً: ويحك.. إنما أشرت في سؤالي إلى مسألة المعرفة، "معرفة النرجسية" لا إلى النرجسية نفسها والتصدي لحلها. وأحسبك قدرت الفرق، بين معرفة مشكلة ما، ومعرفة حلها.

قال المهرج بهدوء: لا تؤاخذني يا سيدي الحكيم، فلو ملكت حكمتك لما سألتك. فأجبني يرحمك على سؤالي البسيط الأول: ما النرجسية؟ فإذا عرفت ماهيتها، ووجدت عقلي مؤهلاً لاستيعاب كيفية حلها أو معالجتها، سألتك عندئذ عن ذلك.

قال الحكيم باسماً: لا بأس.. بشرط ألا تغضب.

قال المهرج مستغرباً: وما الذي سيغضبني، ولا علاقة لي بالمسألة أصلاً؟

قال الحكيم باسماً: بل لك علاقة قوية.. فعدني ألا تغضب.

قال المهرج مازحاً: حسن.. أعدك بألا أغضب، إذا وعدتني أنت بألا تشعر بالجوع إذا جعت، ولا بالعطش إذا عطشت، ولا بالألم إذا تألمت، ولا بالفرح إذا فرحت.. ولا..

قاطعه الحكيم ضاحكاً: ويلك.. ما هذا؟ وما علاقة إحساساتي بهذه الأمور بغضبك؟

قال المهرج: إن إحساسي بالغضب وإحساساتك تلك، من فصيلة واحدة كلها. وهي جميعاً مما يصعب السيطرة عليه، أو منعه. ولو طلبت مني ألا أمارس أية حركة انفعالية إرادية بسبب الغضب، لوعدتك بذلك. فأنت تستطيع ألا تأكل إذا قرصك الجوع، ولكن لا تستطيع أن تمتنع عن الإحساس بقرصاته..

ضحك الحكيم، وقال: ويلك.. أشهد أني أتعلم منك كل يوم أموراً لم تكن لتدور في خلدي.

قال المهرج: بل هي تدور في خلدك يا سيدي الحكيم، لكنك تميل إلى التركيز والاختصار، اعتماداً منك على فهمي القاصر، الذي أكتشف أنا قصوره كلما حدثتك بحديث جاد، لا يدخل في إطار التهريج.

أطرق الحكيم قليلاً، وقال: حسن يا عزيزي المهرج.. حسن.. نرجو ألا نشغل كثيراً عن أصل مسألتك. لقد طلبت مني أن أعرّف لك النرجسية أليس كذلك؟

قال المهرج: أجل يا سيدي.

قال الحكيم بجدية ورصانة: حسن يا عزيزي.. فاسمع إذن: إن النرجسية أخطر داء عرفته البشرية حتى هذه الساعة.. بل أخطر داء عرفه الإنس والجن جميعاً.

قال المهرج: أرجو أن تعرفني بأصلها يا سيدي الحكيم أولاً، ثم إذا شئت أن تحدثني عن أخطارها وأضرارها.. فلا بأس.

قال الحكيم جاداً: معك حق.. إن النرجسية يا عزيزي حالة مرضية، منسوبة إلى رجل يوناني – كما تقول أساطير اليونان - اسمه نرسيس. فقد كان نرسيس هذا شاباً في مقتبل العمر، وسيماً جداً. ولم يكن يعرف صورة وجهه. وقد وقف مرة على شاطئ نهر، فرأى صورته في صفحة الماء، فأعجبته، فأطال النظر إليها، فازداد إعجاباً، وكلما أمعن النظر فيها ازداد إعجاباً وتعلقاً بها.. وظل يراقبها حتى حل الظلام، ولم يعد يراها. فعاد في اليوم التالي، ووقف في المكان نفسه، وظل يراقبها، ويتأملها ويزداد إعجاباً بها، وحباً لها حتى داهمه الظلام.. وهكذا.. ظل الفتى يقف كل يوم، من أول النهار إلى آخره، يتأمل صورته في الماء، هائماً بها مدلّها بحسنها. وعافت نفسه الطعام والشراب، وذوى عوده، وضعف بدنه.. وظل يضعف ويذوي، حتى مات على شاطئ النهر، في المكان نفسه، الذي دأب على رؤية صورته فيه، وفي صباح اليوم التالي –كما تقول الأسطورة- نبتت في المكان نفسه، زهرة جميلة، منحنية بقامتها نحو الماء.. فسماها الناس زهرة النرجس. وصاروا ينسبون إلى نرسيس هذا، أو إلى زهرة النرجس، كل إنسان يعشق ذاته، ويهيم بجمال شخصه، المادي أو المعنوي.. فيصفونه بأنه "نرجسي".

قال المهرج باسماً: أما وقد عرفت أصل القصة، فإنني أستطيع أن أضرب لك مئات الأمثلة، وأعرض عليك مئات النماذج يا سيدي الحكيم، ولا تؤاخذني إذا قلت لك، إني أعرف من نماذج النرجسية البشرية أضعاف ما تعرف، وذلك بحكم علاقتي بالناس، المرتبطة بنفسياتهم وأمزجتهم. أما أنت فعلاقتك بهم مرتبطة بالعقول، وهي ضوابط وكوابح لنوازع النفوس وميولها. وما أكتمك سراً، فقد عشت ردحاً من الزمن، أرى بعض الطواويس البشرية، توصف بالنرجسية، وكنت أحدس بأن النرجسية، يمكن أن تكون عشق الذات، أو الإعجاب بها، أو الأنانية المفرطة، أو شيئاً قريباً من ذلك.. إلا أنني لم أكن أعرف أصل الكلمة، حتى أوضحت لي ذلك الآن، فكان قريباً مما حدست به.

قال الحكيم باسماً: وماذا تعرف من نماذج النرجسية، يا عزيزي المهرج؟

قال المهرج: أما هذا فحدّث عنه ولا حرج. فهل تحب أن أحدثك عن أخفها أم أثقلها؟ فإن لكل نموذج منها وزناً..!

قال الحكيم باسماً: لا بأس.. ابدأ بأيها شئت.

قال المهرج: حسن سأبدأ بالأخف، منتقلا إلى الأثقل فالأثقل، وأفتتح كلامي بالحديث عن نموذج النرجسي المعتد برأيه.

قال الحكيم ضاحكاً: حسن.. ابدأ بنفسك إذن!

قال المهرج مقطباً: وهل تراني نرجسياً.. سامحك الله!؟

قال الحكيم باسماً: بل بشراً. ولا أعلم أن ثمة مخلوقاً بشرياً، يزعم أن له رأياً، ثم لا يعتد برأيه.

قال المهرج: لم أقصد المعنى البسيط الذي ذكرته، يا سيدي الحكيم، بل قصدت شدة الإعجاب بالرأي، إلى درجة أن صاحبه لا يرى في الكون رأياً صائباً سواه.

قال الحكيم: لا بأس.. فقد أقنعتني من هذه الزاوية، أكمل.

قال المهرج: إن هذا الصنف من الناس يا سيدي الحكيم، يصر على التشبث برأيه إصراراً عجيباً، متوهماً أن البشرية إذا لم تأخذ بهذا الرأي وتلتزم به، فإن مصيرها هو الدمار الأكيد. وإذا تبين له أن في رأيه ضعفاً أو خللاً، بدأ بالمكابرة، والمجادلة العقيم، ليثبت أن رأيه هو الصواب، لأنه يشعر في هذه الحال، أن رأيه يمثل شخصه، بكل ما فيه من عقل وإدراك وحكمة.. وربما بكل ما يتوهمه لدى نفسه من نبوغ وعبقرية. فإذا ضعف شأن هذا الرأي، ضعف صاحبه، وما دام صاحبه عبقرياً في نظر نفسه، فهذا يعني أن عبقريته صارت موضع شك لدى الآخرين. وفي هذا من البلاء ما فيه، على صاحب هذا الرأي. وسر المشكلة هنا –كما تلاحظ يا سيدي الحكيم - هو أن صاحب الرأي من هذا النموذج النرجسي، لا يستطيع أن يفرق بين الرأي والشخص، فأي تقليل من شأن رأيه، هو بالضرورة تقليل من شأن شخصه، حسب فهمه. والغريب أن هذه النماذج المسطحة من البشر، التي تعجز عن مثل هذا التفريق البسيط، تزعم أنها من أصحاب الآراء.. بل الآراء المميزة الراقية. ولله في خلقه شؤون!

قال الحكيم: إذا كان أبسط النماذج وأخفها، على هذه الدرجة من التعقيد، يا عزيزي المهرج، فكيف تكون حال النماذج الأثقل.. مع ملاحظة أني أوافق على كل ما ذكرت!

قال المهرج: وهل ترى ما يعاني منه البشر، أفراداً وجماعات، جاء من فراغ، يا سيدي الحكيم؟

قال الحكيم ساهماً: لا.. ولكن دعنا الآن من هذا، وحدثني عن نماذج أخرى.

قال المهرج: أتحب أن أحدثك عن النوع أم الكم؟

قال الحكيم: عن أيهما شئت.. ولا بأس أن تبدأ بالنوع.

قال المهرج: أما أنواع النرجسية فكثيرة، وقد ذكرت لك عينة منها، وهي نرجسية الرأي، أو بمعنى أدق: النرجسية المتمثلة في شدة الاعتداد بالرأي. وسأذكر لك بعض النماذج التي عرفتها، هكذا، على وجه الإجمال لا التفصيل. وقد أقف مطولاً عند أهمها إذا رغبت أنت بذلك. فأقول وأجري على الله:

هناك نرجسية المثقف، ونرجسية الرياضي، ونرجسية الثري، ونرجسية الوسيم، ونرجسية الوجيه..

وكل نرجسية من هذه الأنواع، تتجلى من خلال الصفة البارزة، التي يعتد بها صاحبها النرجسي..

وأحسبك تلاحظ الفروق يا سيدي الحكيم، بين الثقة بالنفس لدى كل صنف من هؤلاء، وبين الغرور، وبين النرجسية..

قال الحكيم بهدوء: أجل.. ألاحظ. فهات حدثني عن الكم، أعني عن شدة الحالة عند بعض هذه النماذج. ولا بأس أن تقف عند نرجسية الرأي.

قال المهرج: أما الدرجة الخفيفة من درجات نرجسية الرأي فقد عرفتها، وسأذكر لك درجات أخرى، أخشى أن تملأ قلبك ألماً.

قال الحكيم: لا عليك.. فابدأ.

قال المهرج: هناك يا سيدي الحكيم النرجسي المبتلى بداء "الشعور بالعظمة" فهو عظيم في نظر نفسه في كل شيء، في قوله وفعله.. فهو نابغة العصور جميعاً، وعبقري الأزمنة كلها. إن قال كلمة فهي قانون، بل دستور، بل مبدأ إنساني عام يجب أن تلتزم به البشرية. وإن رأى رأياً فهو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. وميزة هذا النرجسي أنه يعترف أحياناً بأن بعض الناس يمكن أن يكون لهم رأي صائب نسبياً، لكن لا يمكن أن يرقى رأي في الدنيا إلى صوابية رأيه، كما لا يمكن أن يبلغ قول مهما كان سديداً، درجة السداد التي في قوله..

والدرجة الأثقل، ضمن هذا الصنف هي درجة ذلك الذي لا يرى صواباً ألبتة إلا عنده، ولا يرى سداداً في القول إلا لديه. لذا لا يحبّ أن يسمع أي صوت في الدنيا غير صوته أو أصداء صوته، أو صوت يعزز لدى الآخرين ثقتهم بصوته، أو صوت يعترف صاحبه بأنه جزء أو فرع أو صدى من صوته –أي من صوت النرجسي-! فالكون كله مرآة ضخمة لهذا النرجسي، لا يرى فيه إلا صورته، ولا يسمع إلا صوته، ولا يلمح إلا أفكاره..

تاريخ البشرية يبدأ عنده، وينتهي عنده. وعظماء البشرية السابقون لم يصلوا إلى ما وصل إليه. أما عصره الذي هو فيه، فليس فيه سوى عظيم واحد، هو هذا العظيم "النرجسي" نفسه..

وأتباع النرجسي، إذا كان ذا شأن، يدركون لديه هذه الحقيقة، ويلتزمون بها، في كل ما يقولون ويفعلون. فدأبهم التسبيح بحمده، والثناء على شخصه ومنجزاته، وعظمته، وعبقريته، وحكمته، وشجاعته..

إذا قال أحدهم كلاماً، في مناسبة ما، ولم يذكر سيده النرجسي مشيراً إلى عظمته، فالويل له. وإذا خطب أحدهم خطبة خلا سطر من سطورها، من مدح للنرجسي، أو إشادة به، فلأمّه الثكل، ولأبنائه اليتم..

وهذا بالطبع إذا كان النرجسي ذا سطوة، أو صاحب قرارات عليا..

قال الحكيم مقاطعاً بفتور وحزن: حسبك.. حسبك.. إن الجنون الظاهر يقضي على فرد، وينهي حياته في أحد المشافي. أما هذا النوع من الجنون المموه فيقضي على أمة بأسرها، ويشتتها بين القبور والسجون والمنافي والمصحّات العقلية.. إنا لله وإنا إليه راجعون.