في بلاد العم سام..(1)

في بلاد العم سام..(1) *

بقلم الأديب الكبير: علي أحمد باكثير

المنظر: قاعة المحكمة العليا في واشنطن.

الرئيس: ماذا تقول يا مستر ترومان في هذه التهمة الخطيرة التي وجهها إليك مستر هربرت بروتل؟

ترومان: إني لا أعتد بها مطلقاً لأنه ساقها في خطاب عام ألقاه على إثر الهزائم المتوالية التي مني بها الحزب الجمهوري في الانتخابات الفرعية الأخيرة فهي عندي من باب الدعاية الحزبية لا أكثر ولا أقل.

المدعي العام: اسمح لي يا سيدي الرئيس.

الرئيس: تفضل..

المدعي: نريد منك أن تقول لنا عن هذه التهمة أهي صحيحة أم غير صحيحة؟

ترومان: هذا أمر لا أهمية له عندي بعدما فصل هاري هوايت من منصبه فانتفى الخطر الذي يخشى منه على سلامة الدولة.

المدعي: هل تعتقد أن هاري هوايت كان جاسوساً حقاً؟

الدفاع: لا أرى من حق المحكمة أن توجه إلى موكلي مثل هذا السؤال.

الرئيس: ما المانع؟

الدفاع: هذا سؤال يوجه إلى مكتب مكافحة الجاسوسية فهو المختص بهذا الموضوع ولا شأن لموكلي به.

المدعي: إني لم أسأله عن الحقيقة ما هي وإنما سألته عن رأيه هو في هاري هوايت: هل يعتقد أنه كان جاسوساً أم لا؟

الدفاع: ولا هذا أيضاً. إن موكلي غير مجبور على أن يدلي برأيه الخاص في حقيقة هذا الرجل.

المدعي: ولكن التهمة خطيرة جداً وقد وجهت إلى موكلك من رجل مسئول هو أحد أعضاء الحكومة الحاضرة فعلى موكلك أن يقرر أحد أمرين: إما أن يعترف بالتهمة فعليه حينئذ أن يدافع عن نفسه وإما أن ينكرها.

الدفاع: إنه قد أنكرها فعلاً وأصدر في ذلك بيانه المعروف بأن القصة كلها من قبيل الدعاية الحزبية.

المدعي: إذن فعلى موكلك أن يقاضي المستر بروئل بتهمة القذف.

الدفاع: هذا حق له وليس واجباً عليه.

المدعي: فليطالب بحقه هذا.

الدفاع: إنه سيحتفظ بحقه هذا ليطالب به في الوقت المناسب.

المدعي: متى يجيء هذا الوقت المناسب؟

الدفاع: هذا أمر موكول إليه هو وليس لأحد أن يسأله متى.

المدعي: لكن مصلحة الدولة تقتضي في حالة إنكاره التهمة الموجهة إليه أن يقاضي المستر برونل في الحال، لأن الاتهام الخطير الذي وجهه إليه في خطاب عام قد بلبل الرأي العام الأمريكي وأوقعه في هياج واضطراب.

الدفاع: هذا ذنب ذلك الرجل المسؤول الذي أباح لنفسه أن يستخدم أمثال هذه الوسائل في ميدان الدعاية الحزبية.

المدعي: من حق الشعب الأمريكي على كل حال أن يعرف أحقاً كانت حكومة الرئيس السابق تسمح بتسرب الشيوعيين والجواسيس إلى المناصب الخطيرة في الدولة.

الدفاع: قد يكون ذلك من حق الشعب الأمريكي ولكن ليس من واجب الرئيس السابق أن يكشف ذلك له.

الرئيس: إذا توقفت مصلحة الدولة على شهادة شخص ما فعلى ذلك الشخص أن يدلي بشهادته وليس له أن يمتنع عن أدائها فمصلحة الدولة مقدمة على حرية الفرد.

الدفاع: إن موكلي لم يؤت به هنا كشاهد بل كمتهم.

المادي: إنه قد أنكر التهمة فأصبح في مقام الشاهد.

الدفاع: إن المحكمة لم تصدر حكمها بعد لا ببراءته ولا بإدانته فهو حتى الآن متهم وليس بشاهد.

المدعي: لا بأس أن تؤجل قضيته كمتهم لتسمع أولاً أقواله كشاهد.

الدفاع: ما هي القضية التي يشهد فيها ومن هو المتهم.

المدعي: المتهم هو المستر هربرت برونل.

الدفاع: المستر هربرت برونل لم يحضر هنا كمتهم بل كشاهد.

المدعي: سنوجه التهمة الآن إليه.

الدفاع: تهمة القذف في حق الرئيس السابق؟

المدعي: نعم.

الدفاع: قد سمعتم من موكلي آنفاً أنه لا يرغب في إثارة هذه القضية في الوقت الحاضر.

المدعي: هل معنى هذا أنه تنازل عن حقه؟

الدفاع: كلا بل مع احتفاظه بحقه كاملاً.

المدعي: لا نرى من سبب يحمله على الامتناع عن المطالبة بحقه الآن.

الرئيس: إن كان لدى المستر ترومان ما يمنعه من ذلك فليفدنا به.

الدفاع: قد بينت لكم أن ذلك ليس واجباً عليه.

الرئيس: إني أوجه حديثي إلى المستر ترومان نفسه ليجيب، ولا تستطيع أنت أن تنكر حقي في ذلك.

ترومان: لو كان الذي يمنعني من المطالبة بحقي الآن أمراَ شخصياً لكشفته لكم ولكنه يتصل بسر خطير من أسرار الدولة.

مورجنتاو: (من مقعده في القاعة يتنحنح) احم.. احم!

المدعي: هل أفهم من هذا أن بعض الحاضرين يتداخلون في سير المحاكمة بتوجيهاتهم الخفية!

الرئيس: ماذا تعني؟

المدعي: هذا السيد الذي تنحنح الساعة.

مورجنتاو: (ينهض واقفاً) إني أحتج على هذا الاتهام الذي وجهه المدعي العام إلى..

الرئيس: ماذا قصد يا مستر مورجنتاو حين تنحنحت؟

مورجنتاو: ما قصدت غير تسليك حلقي.

المدعي: معذرة إذن يا مستر مورجنتاو.

الرئيس: استمر يا مستر ترومان.

ترومان: قلت إنه لا ينبغي أن أكشف سراً من أسرار الدولة.

المدعي: إذن فلتخل القاعة من الحاضرين؟

الرئيس: أجل لا بأس أن نجعل الجلسة سرية.

ترومان: كلا لا أستطيع أن أبوح بالسر ولو أخليت القاعة.

الرئيس: ماذا تقول إلا تأتمننا على أسرار الدولة؟

ترومان: إن السر لا يتعلق بالدولة وحدها.

مورجنتاو: (يتنحنح ثانية) احم.. احم!

المدعي: أهذا أيضاً تسليك حق؟

مورجنتاو: طبعاً.. ماذا يكون إذن؟

المدعي: حسناً..

الرئيس: ماذا تعني يا مستر ترومان؟

ترومان: إن السر يتعلق أيضاً بهيئة أخرى فلا يجوز لي أن أفشيه.

الرئيس: هيئة أجنبية؟

ترومان: بل هيئة أمريكية.

المدعي: إذن فللدولة أن تطلع على سرها.

ترومان: هيئة أمريكية ولكن لها صفة عالمية.

مورجنتاو: احم! احم!

ترومان: اطمئن يا مستر مورجنتاو!

الرئيس: ماذا تقول؟

مورجنتاو: ما هذا يا مستر ترومان؟ أتريد أن تؤيد المدعي العام فيما زعم؟

ترومان: معذرة يا سادة. هذه مني زلة لسان.

(تسري همهمة في القاعة وينظر بعض المستشارين إلى بعض)

الرئيس: الزموا السكوت! (تهدأ الهمهمة).

المدعي: ما دام المستر ترومان مصراً على الامتناع عن أداء شهادته فإني أقترح تقديم الشاهد لمحاكمته في تهمة القذف.

ترومان: لا داعي إلى ذلك.

الدفاع: هذا حق موكلي وهو لا يرغب في المطالبة به الآن.

المدعي: ليس هذا حق موكلك وحده بل هو حق النيابة كذلك.

الرئيس: أجل فليتقدم المستر برونل! (يتقدم هربرت برونل)

الرئيس: أنت متهم يا مستر برونل بالقذف في حق المستر ترومان.

برونل: سيدي الرئيس يا حضرات المستشارين إني رجل قانوني فلا يعقل أن أتهم المستر ترومان بما اتهمته به على رؤوس الأشهاد دون أن يكون عندي على ذلك برهان.

المدعي: ما برهانك؟

برونل: البرهان واضح للجميع وقد اعترف به المستر ترومان نفسه.

المدعي: ماذا تعني؟

برونل: إن المستر ترومان قد اضطر إلى فصل ذلك الجاسوس فيما بعد.

الدفاع: أجل لما علم موكلي بحقيقة أمره فصله في الحال.

المدعي: لكن المستر برونل صرح في خطابه الذي ألقاه يوم 7 نوفمبر بأن المستر ترومان كان على علم بحقيقة هاري هرايت قبل تاريخ فصله بزمن طويل.

الدفاع: ولكن موكلي لم يتحقق من ذلك إلا فيما بعد وعندئذ بادر بفصله.

المدعي: بل جاء في خطاب المستر برونل أيضاً أن تقارير وصلت البيت الأبيض في أوائل سنة 1946 فلم يأبه لها المستر ترومان بل تحداها ورقى هاري هوايت إلى أخطر منصب تمكنه من معرفة أسرار ميزانية الدولة ولا سيما ما كان متعلقاً بالجيش والبحرية.

الدفاع: أي منصب تعني؟

المدعي: منصب وكيل المالية.

الدفاع: هاري هوايت قد رقي إلى هذا المنصب في عهد الرئيس روزفلت.

المدعي: معذرة يجب أن أستوضح المستر برونل، خبرني يا مستر برونل ماذا تعني بقولك أخطر منصب؟

برونل: منصب مندوب الولايات المتحدة في مؤسسة النقد الدولي.

الدفاع: هذا المنصب على كل حال ليس أخطر ولا أعظم من منصب وكيل المالية الذي كان هاري هوايتي تقلده قبل أن يتولى الرئيس ترومان منصب الرياسة.

المدعي: لا يعنينا الآن أن نبحث أي المنصبين أعظم وأخطر، بحسبنا أن الرئيس ترومان –فيما زعم المستر برونل- كان يعلم بحقيقة ذلك الجاسوس إذ ذاك فلم يبادر إلى فصله.

الدفاع: قد سبق أن قلنا إنه لم يتأكد من حقيقة أمره إلا فيما بعد.

المدعي: ولكن المستر برونل صرح في خطابه بأن مكتب مكافحة الجاسوسية أرسل تقريرين بهذا المعنى إلى الرئيس ترومان فرمى بهما عرض الحائط.

الدفاع: إني لأعجب كيف يتولى المدعي العام توجيه التهم إلى موكلي بدلاً من المستر برونل صاحب الخطاب نفسه فكيف يستقيم هذا مع ما زعمته المحكمة آنفاً من أنها توافق على تقديم المستر برونل كمتهم بالقذف في حق الرئيس ترومان؟

المدعي: على الدفاع أن يدرك أنني حين أوجه هذه التهمة إلى موكله إنما أردد ما قاله المستر برونل، وغرضي من ذلك أن أثبت عليه تهمة القذف في حق الرئيس ترومان وأطالب المحكمة بتوقيع عقوبة القذف عليه إذا لم يستطع أن يأتي ببينة تؤيد دعواه، هل لك يا مستر برونل الآن أن تأتينا البينة؟

برونل: البينة على ماذا؟

المدعي: على أن مكتب مكافحة الجاسوسية قد أرسل التقريرين إلى الرئيس ترومان بالتاريخين اللذين أشرت إليهما في خطابك.

برونل: بينتي على ذلك وجود هذين التقريرين في خزانة الوثائق بالبيت الأبيض.

الدفاع: إني أتحدى المستر برونل أن يثبت لنا وجود هذين التقريرين.

برونل: لا أرى أي مجال للتحدث في مثل هذا الأمر فمن اليسير على المحكمة أن ترسل في طلبهما من خزانة الوثائق بالبيت الأبيض.

المدعي: كلا يا مستر برونل قد أرسلت النيابة العامة في طلبهما فلم يعثر لهما على أثر هناك.. وهذه الشهادة بذلك من خزانة الوثائق بالبيت الأبيض.

برونل: (في دهش) لكن هذا محال، لقد اطلعت عليهما بنفسي منذ قريب.

المدعي: لا يكفي لإثباتهما أن تزعم أنك اطلعت عليهما بنفسك.

برونل: إذن فلابد أن يداً أثيمة قد امتدت إليهما فسرقتهما من الخزانة بقصد تبرئة المتهم وإلباسي أنا تهمة القذف.

المدعي: رويدك يا مستر برونل لا تجلب على نفسك تهمة قذف أخرى في حق أشخاص آخرين.

الدفاع: أرأيتم يا حضرات المستشارين كيف سقط في يد هذا الشاهد –أو بالأحرى هذا المتهم- لما ووجه بالأدلة ضده فحاول أن يلفق تهمة أخرى على أمين خزانة الوثائق بالبيت الأبيض ألا يدل هذا المثل على أن دعاويه كلها من هذا القبيل؟

برونل: إني أصر على أن التقريرين كانا موجودين بالخزانة حتى يوم 5 نوفمبر.

المدعي: إن لم تستطع إثبات ذلك بالبرهان المادي فستوقع عليك عقوبة القذف في حق شخص كان يوماً ما رئيس الدولة كما ستعاقب على ما بلبلت به الرأي العام الأمريكي، وما شوهت من سمعة الحكم في بلادنا لدى شعوب العالم.

برونل: إني مصر على أن التقريرين سرقا من خزانة الوثائق.

المدعي: إن الحزب الجمهوري هو الذي يحكم البلاد الآن والرئيس ايزنهاور هو الذي يحتل البيت الأبيض. وهذان التقريرين لصالح حزبكم ضد الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه الرئيس ترومان. فكيف يعقل أن يسرق هذان التقريرين في هذا العهد؟

الدفاع: إن المتهم بكلامه هذا يتهم حكومة حزبه من حيث لا يشعر!

برونل: كلا هذا غير صحيح!

الدفاع: من ذا يثق بحكومة تسرق الوثائق الخطيرة في عهدها من خزائن البيت الأبيض نفسه؟

المدعي: هل لديك يا مستر برونل بينة أخرى غير ما ذكرت؟

برونل: نعم في وسع المحكمة أن ترسل من يبحث عن هذين التقريرين في ملفات مكتب مكافحة الجاسوسية الذي أرسلهما إلى البيت الأبيض إذ ذاك.

المدعي: لا وجود لهما هناك أيضاً يا مستر برونل.

برونل: ماذا تقول؟

المدعي: قد بعثت النيابة العامة رجالها للبحث عنهما هناك فلم يعثروا لهما على أثر.

برونل: هذا محال! هذا محال!

الدفاع: لعل اليد الأثيمة نقسها قد امتدت إليهما هناك أيضاً!!

برونل: لا ريب عندي في ذلك، إني أطالب المحكمة بإحضار مدير مكتب مكافحة الجاسوسية.

الدفاع: ليشهد عليك؟

برونل: بل ليشهد لي.

الرئيس: أرى أن يجاب المستر برونل إلى طلبه.

الكاتب: أرسلوا في طلب مدير مكتب مكافحة الجاسوسية.

مورجنتاو: (ينهض) ها هو ذا هنا موجود! المستر أدجار هوفر!

برونل: (في دهش) ألا تحب أن يشهد لك في الحال!

الكاتب: تقدم يا مستر هوفر! (يتقدم ادجار هوفر)

الرئيس: أنت مدير مكتب مكافحة الجاسوسية؟

هوفر: (يشير برأسه علامة الإيجاب)..؟

الرئيس: وكنت مدير هذا المكتب في عهد الرئيس السابق المستر ترومان!

هوفر: (يومئ برأسه كالسابق)...؟

الرئيس: ما بالك لا تجيب بالقول، ألا تستطيع أن تتكلم؟

هوفر: (يومئ برأسه علامة النفي)..؟

الرئيس: هذا شيء مؤسف!

هوفر: (يومئ برأسه علامة الموافقة)...؟

الرئيس: هل تعلم شيئاً عن هذين التقريرين؟

هوفر: (يشير إشارة غير مفهومة)...؟

الرئيس: ما خطب هذا الرجل؟ ماذا به؟

المدعي: لا ندري ماذا أصابه؟

مورجنتاو: (ينهض) أنا أعلم ماذا أصابه، لقد استعظم أن يُرمي رجل عظيم كالمستر ترومان بمثل هذه التهمة لشنيعة فانعقد لسانه من فرط الاغتمام لما وصل إليه حال مواطنيه من السفه والضعة.

هوفر: (يشير إلى جيبه ثم يشير إلى لسانه)..؟

الرئيس: ماذا يريد أن يفهمنا؟

المدعي: غير مفهوم.

برونل: تكلم يا مستر هوفر. بحق السماء! أنت الوحيد الذي تستطيع أن تنقذني بشهادتك تكلم.

هوفر: (يضع سبابته على فمه كأنه يسكت)..؟

برونل: ماذا بك؟ لماذا لا تريد أن تتكلم؟

هوفر: (يشير إلى جيبه ثم يشير إلى لسانه كما فعل في المرة الأولى)؟

برونل: اشهد لي إن شئت أو اشهد عليَّ سيان عندي، لكن تكلم! تكلم!

هوفر: (يضع سبابته على فمه مرتين كأنه يقول له اسكت اسكت)..

برونل: (يصيح في يأس) هذه مؤامرة حيكت ضدي!!

الرئيس: (لهوفر) إذا كنت يا مستر هوفر لا تستطيع أن تفيدنا بشيء فعد إلى مكتبك.

هوفر: (يحني رأسه للرئيس كأنه شكره على إعفائه من عناء الوقوف ثم ينسحب عائداً إلى مقعده بالقاعة بهدوء)

(ستار)

          

*مجلة الدعوة في 8 ربيع الثاني 1373