في مثل هذا اليوم ... مراجعات

في ٢٦ تموز / ١٩٧٩ وافق الثاني من رمضان ١٣٩٩

أخرجت من وطني سورية، من مدينتي حلب، متوجها إلى الجنوب..

خرجت صباحا صائما من مدينتي حلب، وأدركت الافطار في عمان المحمية، في وسط ساحتها الحسينية، في مطعم اسمه "مطعم السلام"، وكم تفاءلت بالاسم، وقلت فأل خير ورشد إن شاء الله.

أنا أعلم أنكم لا تعينكم كثيرا قصة إخراجي لا خروجي من وطني، فهي واحدة من ملايين القصص، التي يمكن أن يحكيها ملايين السوريين..

وحكاية كل تغريبة كل سوري تفوق ربما ما في سيرة تغريبة بني هلال.

ولكن حكايتي تبقى حكايتي، وحين تفيض نفسي بالأسى والألم أتذكر قول إقبال

لا بد للمحزون من فيضان.                         

ليس فيضا، وإنما هذه محاولة لتخفيف الحمل على السد، بكل ما ألقي عليه وفيه.

ومنذ أن أخرجت من وطني، وحتى الساعة، وفي كل ساعة أعيد على نفسي السؤال: لماذا ؟ وكيف؟ ولمصلحة من ؟

صبحني اليوم أخ كبير كريم يكبرني في العمر بعشر سنين، وفي العمل والعقل والوعي بما أعتقد أنه آماد، بفيديو لشاب "قنزوع" يتحدث عن فضيلة "مولانا.." وما أكثر المواويل..كلها شاكية باكية حزينة، مثل قصتي.

بالطبع مع ولعي واهتمامي بما يتحفني هذا الأخ الكريم به، لم أكمل اليوم الفيديو، وأحببت أن أعلق على من أعتبره في مقام استاذي، مولانا هذا وفي ستينات القرن العشرين، كان ينكر كرّية الأرض، عن شيخ سوري أتحدث، وكرّية الكواكب أقرها علماء الاسلام من القرن السادس والسابع الهجري، وينكرها بعضنا في القرن العشرين!! ونريد أن نوسد إليه أمر ديننا ودنيانا أيضا!!

وتسلطوا بفقه أعرج أعوج على صنع مصائرنا، بعد أن وثقنا بهم، وأسلمناهم مقاليدنا…!!

قاعدة فقهية ما تزال تريبني،

أخرجت من وطني في مثل هذا اليوم، بفعل فاعل، وتسبب متسبب.

وأنا رجل درست الكثير من فقه الفقهاء، ودرست بعقل وقلب، كثيرا من الفقه الاجتهادي. وكل مسلم وقاف عند النصوص الصريحة القاطعة، التي لا تقبل التأويل، وقرأت في قواعدهم الفقهية: إذا اجتمع المتسبب والمباشِر، فالتبعة على المباشِر.

وهم - جزاهم الله خيرا- يشرحون هذه القاعدة بتطبيقات تعنيهم؛ ولكنني أشرحها هكذا..

هل كل ما جرى في سجون حافظ وبشار الاسد، التبعة فيه عليهما أو على "شيخو"

الجلاد الكردي الأمي الباحث عن خبزة أطفاله، والذي كان يمارس الجلد عند أليف وزة، في قبو المخابرات في حلب. وكل هؤلاء الهمل من الناس من أمثال شيخو، هم "المباشرون" للجريمة، وحافظ وبشار الأسد هم ومن دونهما إلى مدير السجن، هم المتسببون، فالتبعة الأكبر والتبعة الأولى في كل هذا على من؟؟

وكلما تأملت هذه القاعدة لم يستقم معي تطبيق هذه القاعدة، ومن أحب أن يفيدني استفدت. وأخرجت من وطني بفعل فاعل وتسبيب متسبب، وما زلت أسأل..

في حوار احتدم بيننا في أواسط السبعينا، قلت لأحدنا، نعمل وإذا وقع قدر الله علينا فسجنا نسأل الله الثبات، ولكننا لن ندق باب الزنزانة على السجان!!

أخرجتُ من وطني وحالنا نحن المسلمين الدعاة في سورية كأفضل ما يكون حال، وفي ظل الخوف والرعب والملاحقة والاضطهاد والتمييز، كنا نعمل، وندعو ونجاهد ونكسب؛ كأفضل مما يقوم عليه الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عندما كان على سرج فرسه.

لا أبيّض عهد الظالم المستبد حبيب الفناء عدو الحياة، وإنما أثني على بركة العقل والجهد والجهاد والصبر والثبات والنماء. والنماء والاقبال هو برهان سلامة الطريق، والتشرذم والتفرق والتبدد والضياع هو برهان عكسه، لعلكم تبصرون.

وسأل هرقل أبا سفيان عن أصحاب رسول الله : أيقلون أو يكثرون؟؟ قال بل يكثرون، ونحن في ظل تلك الظروف الأقسى كنا نكثر، ونتعمق، ونضرب بجذورنا في الحياة العامة للمجتمع السوري، وعيا وسلوكا، أكررها وعيا وسلوكا، لولا تعجُلُ المتسببين!! بالمأساة..

وليتهم فقهوا أو كانوا يفقهون..

محطة أخرى في محطة الذكريات المرة..

في مثل هذا اليوم أخرجت من وطني، ومررت عبر البوابة بوابة الرمثا، ببطاقتي الشخصية الحقيقية، ومررني شاب درعاوي أسمر، أفهمني بطريقته، أن اخرج ولا تعود.. كم أدعو له كلما ذكرته، وهذه ليست محطتي..

محطتي أننا كنا ونحن جمع مترابط في حلب، ولسنا كما نحن اليوم، كلٌ في بيداء" وانكشف لنا أمر هذه المجموعة من الشباب، التي تولت ما تولت، نظن أنها فعلت، بغير علم ولا مشورة منا، وانتقل إلينا أيضا الخلاف: نكون مع أو نكون ضد..؟؟!!

وخرجت الحوارات عن إطاريها الشرعي، والعقلي، إلى الأطر النفسية؛ شجاع أو جبان..

ومنذ الأيام الأولى كانت الاصطفافات..

وصرت كما حدثتكم إلى عمان، وأقمت فيها كما موسى بعد أن خرج من مصر: خائفا أترقب!! إلى عمان كان طيورنا تهاجر أفرادا، تبغيها لواذا، لم يعد لنا سرب

وأعجب العجب في حكاية نهر الذهب، أن الكثيرين من الذين تدرعوا "دراعة" الشجاعة، سبقونا أو لحقوا بنا إلى هناك، على طريق الحرير، زرعوا في بوعنا الشوك، وسبقوا إلى طريق الحرير، وناموا على الصوف الأذربي، لا تسألني عن الأذربي فهي كلمة سيدي أبي بكر الصديق التيمي.

أنظر إليها أربعة وأربعون عاما خلفي..

وما تزال أحلامي كل ليلة تعود هناك. وما زلت إذا ترنمت قلت إلى حلب نعود…

بالأمس قلتها، فردت علي شريكة هجرتي: لم يبق لنا في حلب أحد كلهم ماتوا وبكينا..!! لا ندري نبكي العمّار أو نبكي الأحجار.

أربعة وأربعون عاما…

 وأنظر خلفي وأذكر من كتب إبراهيم عبد القادر المازني: "قبض الريح" "حصاد الهشيم.."!! ويكأني

أربعة وأربعون عاما وما زال يسوسنا من ينكر المحسوس، ويشكك في كريّة الأرض والكواكب، وينظر في كتابه ويعلن الحرب أو يعقد السلم، وما زال الكثير منا ينفخ في الرماد..

مما مر بي في دساتير الأمم أن إعلان الحروب يتم، بثلثي أعضاء النواب، وأن تقدير مداخلها ومخارجها يقوم على كاهل الخبراء ووزارات الدفاع؛ وحضرت مجلسا يوما لأحد المتصدرين، يفسر قولَه تعالى: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) فقال: وهذه الآية نص في أنه يجب الجهاد على الفرد الواحد من المسلمين يحمل سلاحه ويقاتل الذين يلونه، ولو كان واحدا، بدلالة (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ) وأردف: وفي حدود علمي أن هذه الآية غير منسوخة ولا مقيدة..

ونتلفت حولنا ونتساءل: من أين خرج علينا فقهاء "تورا بورا" وأصحاب غزوة مانهاتن!! وأعجب ولا تعجبون..

اللهم إليك المشتكى، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.. تقبل منا ما كان صالحا، وأصلح منا ما كان فاسدا، وأصلحنا طاهرا وباطنا يا مصلح الصالحين.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1042