العرب والأتراك .. تاريخ طويل مشترك يوجب حاضراً ومستقبلاً مشتركين

كثرت الأخبار والحوادث التي تدل على عداء  الأتراك للعرب وضيق صدرهم بالسوريين الذين ألجأتهم الحرب الطويلة في وطنهم إلى تركيا . وبعض تلك الأخبار والحوادث تتسم بطابع قومي تركي حاد مثل منع كتابة بيانات المحلات التجارية  بالعربية  ، والمطالبة بأن يكون الأذان  بالتركية لا العربية . وتأثرا بهذا الجو العدائي عاد بعض السوريين إلى بلادهم ، وانتقل من استطاع منهم إلى بلدان أخرى ، ويجنح بعض أبناء فلسطين من المقيمين والعاملين هناك إلى العودة إلى وطنهم . وأي نفور من العربية يأخذ فورا بعدا دينيا بصفتها لغة القرآن الكريم الذي جاء  بالإسلام ، وكتبت بها كل علومه ، وصار التفقه فيها وسيلة للتفقه في تلك العلوم التي أسهم المسلمون من غير العرب فيها إسهاما أربى على إسهام العرب أنفسهم خاصة في القرون الأولى للإسلام ، كما أسهموا في وضع علوم العربية نحوا وصرفا وبلاغة ومعاجم ، وفي فنونها شعرا ونثرا وترجمة . وكتبت لغاتهم مثل الفارسية والتركية  بالحرف العربي . وفكر السلطان سليم الأول ( 1470_ 1520 )  الذي بسط السيطرة العثمانية عل مصر والشام في تعريب تركيا باتخاذ  العربية لغة وطنية لها ، وأخفق في تحقيق فكرته . وأراد السلطان عبد الحميد الثاني ( 1842 _ 1918 ) تنفيذ ما فكر فيه السلطان سليم الأول ، وكان يرى " اللغة العربية لغة جميلة . " ، ويتحسر على عدم اتخاذها لغة للدولة في زمن مبكر ، وعارض  سعيد باشا كبير أمناء القصر السلطاني  ما أراده عبد الحميد محتجا بقوله : " إذا عربنا الدولة فلن يبقى للعنصر التركي شيء بعد ذلك . " . وفي العهد الكمالي العلماني قررت  الجمهورية التركية الجديدة في 1928 التحول من الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني في كتابة لغتها الوطنية ، وقام مجمعها اللغوي الجديد بمحاولة تصفية  تلك اللغة من آلاف الكلمات العربية والفارسية دون نجاح ملحوظ . واجتازت البلاد في العقود التالية تقلبات من الابتعاد والاقتراب عن العالم العربي والإسلامي سياسة وثقافة وعلاقات اقتصادية وتجارية ، وانفتح سيلها على هذا العالم في زمن حزب " العدالة والتنمية " الذي يحكم البلاد بقيادة أردوغان منذ 2002 . والآن هي شاملة الاتصال بهذا العالم ، ويواجه هذا الشمول اعتراضا من قوى الإرث الكمالي العلماني التي تحرك عناصرها حساسيات قديمة بين الأتراك والعرب إلا أن تيارات التقارب مع العرب والمسلمين تظل قوية . 98 % من الأتراك مسلمون ، ومنذ وقت قليل  طالب علي أرباش رئيس الشئون الدينية في البلاد بأن يكون يوم الجمعة عطلة رسمية ليستطيع المواطنون أداء صلاة الجمعة في المساجد . وتركيا جار لدول عربية وإسلامية جوارا قريبا وبعيدا ، والجوار يفرض حسن العلاقات لنفع المتجاورين  ، وجوار الدول دائم يختلف عن جوار العائلات والأفراد الذي قد يزول لسبب أو لآخر . والجوار الجغرافي للدول يصنع تاريخها السياسي والحضاري ، وامتزج تاريخ العرب وتاريخ الأتراك بعد فتح العرب لبلاد الأخيرين في زمن الدولة الأموية ، واتسع دور الأتراك العسكري والسياسي في صنع  هذا التاريخ متزاوجا مع دور الفرس  بعد زوال الدول الأموية في المشرق في 132 هجرية ، ونشوء الدولة العباسية . وتواصل الدور التركي في صورتيه السلجوقية والعثمانية طاغيا على الدور العربي وطامسا له ، وحاسرا  للدور الفارسي . وللأتراك السلاجقة دور عظيم في التصدي للصليبيين ، وللأتراك العثمانيين عظيم الفضل في حماية العالم الإسلامي من الغزوات الأوروبية اللاحقة ، ولولاهم لكان هذا العالم خاصة العرب في حال أباس من حال الهنود الحمر في ما وراء الأطلسي . ورفض السلطان عبد الحميد الثاني إعطاء اليهود وطنا في فلسطين مقاوما إغراءهم المالي بسداد ديون بلاده للدول الأوروبية ، و"بشراء " فلسطين بمليوني ليرة تركية . ولرفضه تآمروا عليه مع جماعة الاتحاد والترقي وعزلوه . والقناعة كاملة في أن لهم دورهم حاليا في إبعاد تركيا عن العالم الإسلامي إدراكا منهم أن أي وحدة  إسلامية حقيقية خطر مطلق ماحق لإسرائيل  . فما من مسلم صادق الإسلام يسكت على وجودها  في فلسطين . وتركيا لن تكون إلا جزءا كبيرا من العالم الإسلامي ، ومفيدة لهذا العالم مثلما كانت تاريخيا ، وعلى العرب ان يكونوا كبيرين ومفيدين له ، بل أن يكونوا قدوة في إفادته لسائر المسلمين ، والمؤلم أنهم في كثرتهم  يفعلون خلاف هذا لا لنواقص  في العرق العربي ذاته ، بل لنواقص قاتلة  في حاكميه الذين أبادوا قدراته وإيجابياته ، وانحازوا إلى أعدائه ، وشجعوا الدول الأخرى على استضعافه والاستهانة به  . هؤلاء الحكام الآن هم قادة التطبيع والتحالف مع إسرائيل ، ومنهم من ينشط سمسارا لإغواء الدول الأخرى ماليا بالتطبيع والتحالف معها . ولكي يحترمك الاخرون اعداء وأصدقاء عليك أن تكون محترما لذاتك أولا ، " ومن لا يُكرِم نفسه لا يُكرَم . " بلسان شاعرنا زهير بن أبي سلمى .       

وسوم: العدد 1046