الدنيا فوضى

عبير الطنطاوي

في القديم .. وبالتحديد في منتصف القرن الماضي تقريباً ، كتب الأديب والمفكر علي أحمد باكثير (رحمه الله) مسرحية لذيذة وشيقة بعنوان (الدنيا فوضى) ولما قرأتها كنت لاأزال طفلة تبدأ بالظهور للحياة .. أعجبت بها أيما إعجاب وضحكت معها أيما ضحك وبنفس الوقت أصبت بنوع من الاكتئاب في داخلي لم أعرف له سبباً .. لأني أحسست أن الدنيا حقاً في حالة فوضى وأن هذا الأديب لم ينجب تلك الفوضى التي تحدث عنها من بنات أفكاره بل هو رجل مطلع على الدنيا بكل خباياها ودهاليزها وشقاوتها التي كانت مخفية عني بسبب مظلة والديّ التي كانت تظلني من كل شرور الدنيا فكبرت وترعرعت في بيئة طاهرة نظيفة نقية ولما كبرت صدمتني الدنيا بما فيها من شرور .. حتى إنني لتمر علي الليالي والأيام وأنا في داخلي تلك الطفلة الصغيرة تصرخ تريد يد الوالد الحنون لينشلها من براثن هذا المجتمع الملوث .. وتنادي ليد الأم الرؤوم لتطعمني من يدها لأن التلوث حصد كل شيء حتى الطعام....

نعم الدنيا فوضى ملوثة .. الطيب فيها يقال عنه : مسكين على البركة .. والكريم يقال عنه : أهبل .. والمسامح يقال عنه : ضعيف الشخصية .. والمتواضع يداس بين الناس ويقولون : هو لا يعرف كيف يتعامل مع الناس ...و ..و.. و.. وأخيرا صدق رسولنا الكريم القابض على دينه كالقابض على جمرة .. فالزوج يريد أن يتفاخر بجمال زوجته أمام الناس وإلا لن تنال رضاه فهو في الشارع عيونه تتعلق بهذه وتلك وابتسامته لا تكاد تفارق محياه حتى إنك لتجد كل النساء يحسدن تلك التي بجانبه على أناقته ولطافته وشهامته .. بينما هو في البيت إنسان آخر لايمت لذلك الذي في الشارع بصلة .. فتجد الزوجة تبدأ بالتمسك أولاً بدينها وبعد فترة تيأس من إهمال زوجها لها وتغضب لنفسها من إعجابه بهذه وتلك فتبدأ مشوار الانجراف وراء شهوات الدنيا .. تضحك على نفسها في البداية بكحلة في العين لأن بعض العلماء قد أباحها وتنتهي إلى مستوى الزوج في الانحراف .. فكلما تعمق هو في الهاوية تعمقت الأخرى معه .. فكيف لتلك الأم عين أن تجعل ابنتها تلبس الحجاب الشرعي الساتر فالبنت فقدت القدوة البيتية الدائمة فأنى لها الالتزام .... فتبني جيلاً تعود الفساد والانجراف .. وذلك الصبي الذي يحتاج إلى القدوة الصالحة أنى له تلك القدوة وهو يرى الوالد (رب السفينة) وصوت الأغاني يصدح من سيارته باستمرار .. والجل يغطي شعره .. وعيونه تتنقل بين أعراض المسلمين أنى له أن يعرف الصح من والده !! فتراه الآخر يقلد بإتقان...

والنت وما أدراك ما النت ... فجور وانتهاك للحرمات وعلاقات مشبوهة تلبس رداء الطهارة وهي الشيطان بحد ذاته .. فهذه زميلة عمل وتلك لها علاقات اجتماعية مرموقة .. وهؤلاء من العائلة الكبيرة والفيس بوك وتويتر والواتس أب والشات ......مسميات شيطانية ما أنزل الله بها سلطان .. ويحرم على زوجته وابنته وابنه ما يفعل فتقودهم الدائرة إلى الدخول في أسماء وهمية .. بعد فترة قد تكتشف الأم أنها تحادث ابنها المراهق على النت وهي لاتدري وربما بنت معه قصة حب وهي لا تعرف .. فوضى فوضى .. الأب يراهق والأم تنتقم من مراهقة الأب والأولاد يراهقون حتى بت أمشي في الشارع أخشى على نفسي وعلى بناتي من المتزوج الكبير لا من المراهق الصغير .. لأن الصغير والشاب غالباً بعد أن يجتاز مرحلة الفوران فإنه يبحث الآن عن من هي صغيرة مثله ولعلها نقية ليبني معها بيتا وحياةً .. وهكذا فوضى فيارب اجعلنا ومن وكلت امره إلينا ممن يتجنب تلك الفوضى ويمسك بالجمرة ولو أحرقت يديه فإن له عند الله جنة ..