مستقبل الحراك الحزبي في سورية

مستقبل الحراك الحزبي في سورية

د.أحمد محمد كنعان

لم تكن ثورات "الربيع العربي" مفاجأة للحكام فحسب ، بل كانت مفاجأة لقوى المعارضة السياسية في مختلف البلدان العربية ، وهذه المفاجأة لم تكن وليدة اللحظة بل كانت ثمرة نضال سياسي مرير لسنوات عجاف طويلة خضع فيها الشعب العربي للاستبداد المحصن بأنظمة الأمن التي لا تعرف الرحمة ، وقد أتاحت ثورات هذا "الربيع" للشعب العربي خبرة نضالية لم يعرفها من قبل ، وبلورت لديه رؤى سياسية جديدة حول شكل التغيير المنشود من خلال ممارسة جيل الشباب للاحتجاج السياسي ، وقد كانت هذه الخبرة النضالية والرؤى السياسية عوامل أساسية في انتصار هذه الثورات وتحقيقها الهدف الأساسي برحيل النظام المستبد في عدد من البلدان العربية ، وفَتَح الباب أمام التغيير على نطاق واسع في بقية البلدان ، وقد كان للحراك الحزبي ـ إلى جانب الحراك الشعبي ـ بعض الأثر في تحقيق هذه النقلة ، وسوف نناقش في هذه الورقة أثر هذا الحراك الحزبي في الثورات العربية الراهنة ، لبيان ما حققته الأحزاب ، وما عجزت عن تحقيقه ، وذلك من أجل الوصول إلى تصور أفضل لما يجب أن تكون عليه الأحزاب في سورية المستقبل .

نبذة تاريخية :

لقد عرفت التعددية الحزبية في سورية تقلبات وتطورات عديدة ، ومرت بفترات مد وجزر ، وتنافست الأحزاب في الانتخابات ، وسنت قوانين تنظيم الأحزاب لفترة قصيرة ، ثم تحكم الجيش بالسياسة ، وعطل النشاط الحزبي ، وشاعت الانتخابات الشكلية المعدة سلفاً ، وعرف السوريون لأول مرة رئيساً ينتخب بنسبة (99.99%) في فترات طويلة بدأت في عهد الوحدة مع مصر عام 1958 ، ولتسهيل فهم الخريطة الحزبية السورية على تعقيدها وللوقوف على الانشقاقات الحزبية التي طرأت عليها ، نبدأ بتحقيب المشهد الحزبي السوري الذي يمكن تقسيمه إلى 6 فترات على النحو الآتي :

1946        إلى 1949 ( التعددية الحزبية ) :

في أعقاب الاستقلال عرفت سورية لأول مرة نظاماً جمهورياً برلمانياً ، وظهرت على الساحة تشكيلات حزبية عديدة نذكر منها : حزب الشعب ، الحزب الوطني ، الحزب الشيوعي ، الإخوان المسلمون ، حزب البعث ، الحزب الاشتراكي العربي ، الحزب القومي السوري الاجتماعي ، والحزب التعاوني الاشتراكي .. وقد شاركت هذه الأحزاب في الانتخابات التشريعية في شهر تموز 1947 ، في عهد الرئيس هاشم الأتاسي .

1949 ( تعطيل الحياة الحزبية ) :

بعد سنتين من المناخ السياسي التعددي دشنت سورية عهد الانقلابات العسكرية لأول مرة في التاريخ العربي الحديث ، واستولى العقيد "حسني الزعيم" على السلطة ، وألغى الديمقراطية ، ورشح نفسه في حزيران 1949 لانتخابات رئاسية فصَّلها على قياسه ، فحصد نسبة تفوق 98% من الأصوات ، وظلت الأحزاب محظورة في عهده ، وزج بقياداتها في غياهب السجون .

1949 إلى 1958 ( عودة الحياة البرلمانية ) :

لم تطل فترة حكم "حسني الزعيم" فقد أطاح به انقلاب عسكري قبيل نهاية العام الذي انتخب فيه ، وأصدر الرئيس الجديد "سامي الحناوي" قراراً برفع الحظر عن الأحزاب السياسية ، باستثناء الحزب الشيوعي والحزب التعاوني الاشتراكي ، وأصبح "هاشم الأتاسي" رئيساً للوزراء ، وبادرت حكومته إلى وضع قانون جديد للانتخابات سمح للرجال والنساء فوق سن الثامنة عشرة بالانتخاب ، وجرت انتخابات تشريعية في 15 تشرين الثاني من نفس العام ، ثم أطيح بالحناوي في انقلاب عسكري يوم 19 كانون الأول 1949 قاده "أديب الشيشكلي" الذي حل مجلس النواب ، وحظر النشاط الحزبي في كانون الثاني 1952 ، وأسس حزب موالٍ له هو ( حزب التحرير العربي ) وأصدر دستوراً جديداً للبلاد في 21 حزيران 1953 ، وأصبح نظام الحكم بموجب الدستور الجديد نظاماً رئاسياً بدلاً من النظام البرلماني السابق ، وجرى استفتاء على الرئيس في تموز 1953 ، وبعد نجاحه في الاستفتاء رفع الرئيس "أديب الشيشكلي" الحظر عن الأحزاب باستثناء الحزب الشيوعي ، وأصدر مرسوماً لتنظيم النشاط الحزبي ، وقانوناً للانتخابات ، وعفواً عاماً عن المعتقلين السياسيين ، وعادت إلى سورية التعددية السياسية في نهاية حكم الشيشكلي ، وانتخب مجلس نيابي تتمثل فيه جميع الأحزاب السورية التي وجدت يومذاك .

1958 إلى 1961 (حلُّ الأحزاب ) :

في فترة الوحدة بين سورية ومصر التي دامت نحو ثلاث سنوات جمدت كافة الأحزاب السياسية ، وهو شرط اشترطه الرئيس المصري "جمال عبد الناصر" قبل إعلان الوحدة بين القطرين في شباط 1958 ، وبذلك وضع حداً لفترة التعددية الحزبية في سورية ، وقد استمر هذا الوضع إلى أن وقع الانفصال وانفرطت الوحدة في أيلول 1961 .

1961 إلى 1963 ( فترة الانفصال ) :

لم تكن فترة الانفصال فترة حراك حزبي حقيقي ، بالرغم من إجراء انتخابات نيابية في أواخر عام 1961 فاز فيها بعض الأحزاب المعارضة ، وظهرت فيها بعض الصحف ( بردى ، الوحدة ، البعث ) ففي العام التالي 1962 صدر ( قانون الطوارئ ) لأول مرة في تاريخ سورية الحديث ، مستهدفاً قمع التيار الوحدوي ، وقد تعاقبت خلال هذه الفترة التي لم تدم سوى 18 شهراً ست حكومات في دمشق ، وبالرغم من الحظر الحزبي فقد تشكلت في مواجهة الانفصال قوى جديدة هي حركة الوحدويين الاشتراكيين ، والجبهة العربية المتحدة ، إلى جانب حركة القوميين العرب التي كانت متواجدة من قبل ، وحزب البعث العربي الاشتراكي الذي أعلن عن تشكيله في أواخر عهد الوحدة ، وقد نشطت هذه القوى ضد الانفصال إلى أن وقع انقلاب حزب البعث يوم 8 آذار 1963 واستولى على السلطة .

1963 ( عهد البعث ) :

استولى "حزب البعث" على الحكم في سورية بانقلاب عسكري يوم 8 آذار 1963 ، وعرفت الفترة الأولى من حكم البعث بقمع الاتجاه الناصري الذي كان يحلم بعودة الوحدة بين سورية ومصر ، وأغلق البعثيون صحيفتي بردى والوحدة المؤيدتين للاتجاه الوحدوي ، وأغروا قيادة حركة الوحدويين الاشتراكيين ذات الأصول البعثية قبل الوحدة بحل الحركة ، ودمجها في حزب البعث المهيمن على السلطة ، وإبعادها عن حلفائها مقابل إعطائها نصف المواقع والمناصب في القيادات الحزبية ومؤسسات السلطة ، وبذلك احتوى البعثيون التيار الناصري في قواعد الحركة ، ومع قيام الحركة التصحيحية عام 1970 بقيادة "حافظ الأسد" أطيح برموز البعث اليمينية ، واصطنعت الحركة التصحيحية صيغة جديدة في الحراك الحزبي وصفت بأنها ديموقراطية شعبية ، فشكلت جبهة سياسية على غرار الجبهات التي ظهرت في أوروبا الشرقية في عهدها الشيوعي ، وأطلق على هذه الجبهة اسم ( الجبهة الوطنية التقدمية ) وأعلن عنها في 7 آذار 1972 ، وقد ضمت الجبهة 6 أحزاب يسارية ( حزب البعث العربي الاشتراكي ، والحزب الشيوعي السوري ، والاتحاد الاشتراكي العربي ، وحزب الوحدويين الاشتراكيين ، وحزب الاشتراكيين العرب ، والحزب الوحدوي الاشتراكي الديمقراطي ) ، وفي أواخر 2001 أصبح الحزب السوري القومي الاجتماعي يحضر اجتماعات الجبهة بصفة مراقب ، وقد عانت أحزاب الجبهة من انقسامات داخلية عديدة منذ إنشائها ، وكان وجودها على الساحة السياسية مجرد وجود شكلي أو ديكور يضفي على السلطة المستبدة صفة ديمقراطية زائفة .

2011 إلى اليوم ( فورة الحراك الحزبي ) :

          مع انطلاق ثورة الشعب السوري في شهر آذار من عام 2011 تحطم جدار الخوف الذي أقامه استبداد "آل الأسد" ، وشهدت الساحة السورية صحوة سياسية لا مثيل لها ، أخرجت البلاد من التصحر السياسي الذي فرضه الاستبداد ، وبدأت بالظهور تنظيمات سياسية وثورية عديدة ، أخذ بعضها شكل "التنسيقيات" وكان لها أثر كبير في حشد الطاقات الشابة وتفعيلها في دعم الثورة ، وقدمت الكثير من الجهود التي تركز معظمها على الجانب الإغاثي ، إلى جانب بعض الفعاليات السياسية والإعلامية ، ومع طول أمد الثورة وإمعان النظام المجرم في القتل والتشريد والتدمير بدأت تبرز تشكيلات سياسية أكثر نضجاً ، تمثلت في تحالفات عديدة منها "المجلس الوطني" والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية ، إلى جانب تحالفات أخرى نذكر منها : رابطة العلماء السوريين ، والملتقى الإسلامي ، والتجمع السوري للإصلاح ، وغيرها من التحالفات ، بالإضافة إلى عدد من الأحزاب الجديدة التي ولدت من رحم الثورة ولم تستبن معالمها بعد .

مستقبل الحراك الحزبي في سورية :

لم تتحقق تعددية حزبية حقيقية في ظل "حزب البعث" سيء السمعة ، الذي هيمن على الخارطة السياسية في سورية طوال خمسة عقود ، بالرغم من وجود مجموعة من الأحزاب الصغيرة التي سمح لها "البعث" أن تكون إلى جانبه ولم يسمح لها بالنمو إلى الدرجة التي تنافسه على الحكم ، واليوم في ظل هذا "الربيع العربي" الذي بات يهدد بالزوال حزب البعث والأحزاب الانتهازية التي تواطأت معه ، يبرز أمامنا السؤال الملح حول مستقبل الحراك الحزبي في سورية في المرحلة القادمة التي تبشرنا بمستقبل سياسي وحزبي واعد بالحرية والتحول الديمقراطي والتعددية الحزبية ، فهل يمكن أن نشهد تطوراً حقيقياً في هذا الحراك يسمح لمختلف التيارات الحزبية السورية بالتنافس الديمقراطي الحر وتداول السلطة ؟ والجواب نوجزه في نقطتين ، تدور أولاهما حول العوامل التي قد تؤثر على مستقبل الأحزاب التي ولدت من رحم الثورة ، وتتضمن الثانية جملة من الملاحظات حول هذه الأحزاب الجديدة .

(أ‌)    العوامل المؤثرة بمستقبل الحراك الحزبي :

هناك عوامل عديدة يمكن أن تؤثر في مسيرة الحراك الحزبي في المجتمع السوري بعد سقوط النظام المستبد ، وهذه العوامل هي التي تحدد درجة نضج هذا الحراك ، منها :

1-  الإطار الدستوري : هو الإطار الذي يحدد في العادة التوجه العام للحراك الحزبي في أي بلد من البلدان ، فينبغي أن ينص الدستور السوري القادم على حرية تنظيم الأحزاب ، والتعددية الحزبية ، وحق المواطنين بالتعبير عن آرائهم والدعوة لها ، وحقهم كذلك في التنظيم ، والتظاهر ، ودعوة الآخرين للانضمام إلى أحزابهم ، ويشترط في قانون تنظيم العمل الحزبي المنشود أن لا يصادر هذه الحقوق ، وإنما ينظم فقط ممارستها .

2- طبيعة اللحظة الراهنة : من العوامل المؤثرة أيضاً في الحراك الحزبي طبيعة اللحظة الراهنة التي تتوزع ما بين شعب سوري ثائر يريد استرداد حريته وكرامته ، وبين نظام استبدادي فاسد شديد البطش ، ما يجعل العمل الحزبي في هذه الظروف محفوفاً بالكثير من المخاطر ، ويؤثر بشكل أو بآخر على موقف الحزب ويحدد مسيرته من خلال موقفه من الثورة من جهة ، ومن النظام القائم من جهة أخرى .

3- طبيعة العلاقة بين الأحزاب : فالعلاقة التعاونية والتنسيق بين الأحزاب يساعد على نضج التجربة الحزبية الجديدة ، أما التناحر والتنافس بين الأحزاب ـ كما نتوقع في المرحلة الانتقالية على الأقل ـ فسوف يستهلك الكثير من الوقت والجهد اللذين يفترض أن يتوجها إلى الإنجاز والمشاريع الوطنية ذات الأولوية ، وإن مما يؤسف له أن درجة التعاون والتنسيق بين الأحزاب القائمة اليوم مازالت دون الحد المأمول ، وأن التنافس بينها على المكاسب المأمولة بعد سقوط النظام مازال هو سيد الموقف .

4- توافر المقومات الأساسية للأحزاب الجديدة : وهي عوامل تؤثر كثيراً في الحراك الحزبي ، سلباً أو إيجاباً ، منها البرامج السياسية للأحزاب ، وتوافر الكوادر الفاعلة فيها ، وطبيعة العلاقة بين الأحزاب والجماهير ، والانتشار الجغرافي للأحزاب بحيث تعبر بالفعل عن مختلف أطياف المجتمع ، إلى جانب القدرات المالية للحزب ، والمقرات الحزبية التي لابد منها لتوفير البيئة المناسبة للحراك النشط ، ناهيك عن البنية التنظيمية التي ينبغي أن تقوم على فكر مؤسساتي متين ، ومن الملاحظ أن أغلب الأحزاب الجديدة لا تمتلك بنية تنظيمية مؤسساتية متكاملة ، ولا يوجد لكثير منها تمثيل في بعض المحافظات ، ومن ثم لا تستطيع أن تقدم مرشحين عنها في أغلب الدوائر .

5- التماسك والالتزام الحزبي : وهى من أهم العوامل التي يتوقف عليها مستقبل الأحزاب الجديدة ، فالانشقاقات والانقسامات هي من السمات الحزبية الشائعة في تاريخ الأحزاب السورية ، وقد رأينا الكثير من الأحزاب الجديدة التي أقامها أعضاء وقيادات انشقوا عن أحزابهم الأصلية ، وهؤلاء يغلب عليهم الميل للفردية والاستعداد للانشقاق ، مما يشكل تحدياً كبيراً أمام  الأحزاب الجديدة .

6- إدارة الحزب : تتسم أغلب الأحزاب السورية القديمة والجديدة على السواء بغياب أو تهميش الممارسة الديمقراطية داخلها ، وهذا ما جعلها تعاني في المرحلة الماضية من ضعف الأداء ، وعدم المصداقية في مطالبها التي تأتي "الديمقراطية" على رأسها ، ولا شك بأن الأحزاب ـ باعتبارها مؤسسات للتنشئة السياسية وإعداد الكوادر وحكومات ظل ـ لا يمكن أن تؤدي دورها أو تمارس نشاطها بكفاءة دون التدريب على صناعة القرار بشكل ديمقراطي ، وتقاس الديمقراطية داخل الأحزاب بعدد من المؤشرات ، منها : البناء التنظيمي ، وآلية اتخاذ القرارات ، وتداول السلطة بين النخبة الحزبية ، وإدارة الصراع والخلافات داخل الحزب .

7       - تواصل الأحزاب مع الجماهير : فأحزاب المعارضة السورية الرئيسية التي كانت محاصرة في ظل "البعث" كانت محرومة من التواصل مع الجماهير ، وكانت مضيقاً عليها في الأنشطة السياسية العامة ، وهذا ما حد من انتشارها وجماهيريتها ، وكان تأثيرها السياسي ضعيفاً ، وهي تواجه اليوم تحدياً كبيراً في قدرتها على كسب الأعضاء الجدد ولاسيما من جيل الشباب الذين جذبتهم الثورة إلى ساحة العمل السياسي والثوري ، مما يحتم على الأحزاب الجديدة والقديمة كذلك أن تغير خطابها السياسي التقليدي حتى يصبح متناغماً مع تطلعات شباب الثورة وطموحاتهم ، وعلى هذه الأحزاب أيضاً أن تقدم اليوم رؤية سياسية إبداعية تغري جيل الشباب الثوري بالعمل الحزبي ، وتقنع الشريحة الواسعة من المجتمع بالالتحاق في عضويتها ، وإننا لنأمل إن تشهد المرحلة الانتقالية بعد سقوط النظام تطوراً إيجابياً إذا ما نجحنا في توفير جو من الديمقراطية الحقيقية يشجع على تنشيط الحراك الحزبي ، ويساعد على تأسيس أحزاب فاعلة ، قادرة على المنافسة السياسية ، وتتمتع بالخبرة الكافية التي تلبي حاجة المرحلة .

(ب) ملاحظات عامة على تشكيل الأحزاب الجديدة :

1- سيطرة النخبة : نلاحظ أن معظم الأحزاب التي ظهرت في سياق الثورة السورية الراهنة قد قامت بصورة رئيسية على أيدي نخبة من السياسيين أصحاب الماضي السياسي النضالي ضد النظام الاستبدادي ، ويلاحظ كذلك أن معظم هؤلاء يقيمون خارج الوطن ، وهذا ما يجعل صلاتهم بالداخل ضعيفة أو معدومة ، ويجعل هذه الأحزاب عاجزة عن الانتشار الجماهيري واكتساب المؤيدين .

2- الشعارات والبرامج : جميع الأحزاب التي ظهرت في سياق الثورة السورية تبنت مفاهيم عامة مطلقة ، غائمة ، فرضتها طبيعة الثورة ، تتلخص في ( الديمقراطية ، العدل ، الحرية ، التنمية ، المواطنة ) ونخشى أن تكون هذه المفاهيم مجرد شعارات للتسويق وعبور المرحلة ، بينما المنتظر من هذه الأحزاب أن تقدم برامج عمل تلبي متطلبات المرحلة الثورية الحالية ، وتقدم رؤية علمية لمواجهة المرحلة الانتقالية وما بعدها .

3- تشابه الأحزاب الجديدة : معظم الأحزاب الجديدة تتشابه حتى في أسمائها ،  ونادراً ما نجد بينها اختلافات واضحة المعالم ، سواء في الأيديولوجيا التي يتبناها كل منها ( معظمها تطرح رؤية وطنية ديمقراطية ذات خلفية إسلامية ) أو في البرامج المطروحة التي تتشابه في خطوطها العامة حتى ليتعذر التمييز بينها ، أضف إلى هذا أن معظم هذه الأحزاب بسبب حداثة خبرتها الحزبية لا تميز بين البرنامج والشعار والسياسات التفصيلية .

4- سرقة الثورة : يبدو للمراقب أن جلَّ الأحزاب ـ الجديدة والقديمة على حد سواء ـ تحاول جاهدة اغتنام الفرصة لسرقة الثورة التي شارك فيها مختلف أطياف الشعب السوري ، مستغلة في ذلك إمكانياتها المادية ، والخبرات التنظيمية لدى بعض الشخصيات المنتمية لها ، وتجنباً لمثل هذه النهاية غير الحميدة للثورة ينبغي للأحزاب الجديدة أن تعتمد على عنصر الشباب ، وتدفع بهم إلى الصفوف الأمامية لكي يحلوا محل الوجوه القديمة ، ويقودوا المرحلة برؤية جديدة ، وربما يكون من المفيد تشكيل تحالفات بين الأحزاب الناشئة لتفويت الفرصة على الأحزاب التقليدية العريقة بالعمل الحزبي أن تنتهز الفرصة وتنقض على الثورة لتعيد استنساخ المرحلة الماضية التي قادت الوطن إلى الحالة المأساوية التي هو عليها اليوم .

5- التكاليف المالية : تمثل التكاليف المالية المطلوبة لعمل الأحزاب الناشئة عقبة كبيرة تحول دون فاعلية هذه الأحزاب ، وتحد من انتشارها ، وهذا الوضع يتطلب مساهمة الوطنيين من رجال الأعمال والتجار لدعم هذه الأحزاب ريثما تستطيع تأمين مواردها المالية الذاتية ، مع الحذر الشديد من شراء رجال المال ولاءات هذه الحزاب ، فقد دفع الوطن ضريبة باهظة حتى الآن نتيجة الاستبداد والفساد المدعومين بالمال السياسي ، ونرى اليوم بوادر غير مريحة لتوظيف المال السياسي في اقتناص الثورة وفي تأسيس حزاب عديدة تمهيداً لتوظيفها في خدمة بعض الأجندات ، مما ينذر بعواقب تسيء لأهداف الثورة ، وقد يعيد استنساخ الاستبداد والفساد من جديد ، إذا ما أصبح الذي يملك هو الذي يحكم ، وهذا يتطلب وضع ضوابط قانونية واضحة وصارمة تمنع مثل هذه التوظيف للثورة .

6- ضعف التحالف بين الأحزاب : بالرغم من كثرة الأحزاب التي ولدت في سياق الثورة السورية الراهنة فالراجح أن يستكمل القليل منها تأسيسه ويتابع مسيرته ليكون حزباً فاعلاً في المرحلة القادمة ، ذلك أن العديد من هذه الأحزاب لا يميز بين طبيعة الحزب السياسي وطبيعة الحركة الاجتماعية أو الثقافية ، وهذا ما يجعل صورة الحراك الحزبي الحالية ضبابية ، وقد يكون من المفيد لهذه الأحزاب أن تلجأ للتحالف بعضها مع بعض للاستفادة من خبرات كل منها ، وتشكيل جبهة موحدة قادرة على التعامل الإيجابي مع تحديات المرحلة القادمة ، لاسيما وأن ما يجمع بين الأحزاب الجديدة أكثر مما يفرقها .

7- تبني المرجعية الإسلامية : لا جدال بأن تبني معظم الأحزاب الجديدة للمرجعية الإسلامية له ما يبرره ، فشعارات الثورة غلب عليها الروح الإسلامية ، والشعب السوري يتشكل من غالبية مسلمة ، والإسلام يشكل الأرضية الثقافية والروحية لمختلف شرائح المجتمع السوري ، إلا أننا نخشى أن يكون تبني هذه الرؤية عائقاً لإقامة حياة حزبية صحية في المرحلة القادمة ، ما لم تكن الأحزاب التي تتبنى المرجعية الإسلامية ذات رؤية وسطية منفتحة على الآخرين ، مع قناعة راسخة بضرورة مشاركة مختلف أطياف المجتمع السوري في بناء سورية المستقبل ، وعدم الحجر على الآخرين أو إقصائهم عن الحياة السياسية تحت أية ذريعة ، ذلك أن مرحلة البناء تحتاج مشاركة الجميع ، وتتطلب من الكل أن يجعلوا خلافاتهم الدينية والمذهبية والعرقية خلف ظهورهم ، لينطلقوا يداً بيد في عملية البناء التي تؤكد الشواهد الحاضرة صعوبتها البالغة .

الخاتمة :

من هذا العرض الموجز للحراك الحزبي السوري اليوم تتراءى لنا ملامح أزمة حزبية قادمة ، تتمثل في حداثة عمر معظم الأحزاب التي ولدت من رحم الثورة ، وضبابية رؤاها ، وضعف قدرتها حتى هذه اللحظة على جذب اهتمام الجماهير السورية ، على الرغم من المناخ الثوري الواعد الذي أتاحه "الربيع العربي" ، ومع استبشارنا بانتصار ثورتنا الوشيك فإننا نخشى أن نفاجأ عاجلاً أو آجلاً بصراعات حزبية تحبط آمالنا ، وهذه الخشية توجب علينا جميعاً بذل المزيد من العناية ببرامج الأحزاب السورية الجديدة والقديمة ، وإجراء مراجعة شاملة لها ، فالعبرة أولاً وقبل أي شيء آخر بما تقدمه هذه الأحزاب من خدمات للمجتمع الذي أنهكه الاستبداد والفساد طوال خمسة عقود عجاف ، وخرج من الأزمة بخسائر هائلة تتطلب الكثير من الجهد والعمل الدؤوب المخلص .

وقد يكون المطلوب اليوم ، وبإلحاح ، أن نعمل على تشكيل تحالف حزبي يجمع التيارات الغالبة والفاعلة في ربيعنا السوري ، يجمع ما بين التيارات الإسلامية الوسطية والتيارات الوطنية التي أثبتت إيمانها بالثورة وقدمت الكثير في سبيل الخلاص من الاستبداد ، وإعادة بناء الوطن على أسس علمية سليمة تعيد الروح للحياة الحزبية والسياسية في وطننا العزيز .

وأخيراً يجدر بنا التذكير بأن الدول المتقدمة إنما تكتسب قوتها من قوة أحزابها ، ومن الحكمة أن نفتح الباب على مصراعيه لمختلف الأحزاب لكي تقدم ما عندها ، لاعتقادنا مبدئياً بإخلاص الجميع ، ورغبتهم في إنقاذ الوطن من محنته ، ونترك الحكم على هذه الأحزاب للمستقبل ، ونحن على ثقة كبيرة بأن العديد من هذه الأحزاب يمكن أن يحتل مكانة لائقة في الحياة السياسية القادمة ، وأن يقدم الكثير للوطن الحبيب .. سورية .