علماء مدينة دمشق

د. محمود الدغيم

علماء مدينة دمشق

د. محمود السيد الدغيم *

1

بيوتات الحديث بدمشق

أصدرت دار الفكر بدمشق سنة 2004م كتابا بعنوان: بيوتات الحديث بدمشق، ويقع الكتاب في 800 صفحة، وبحث الكتاب في التراجم والسير والأنساب، والحديث وعلومه، وضمَّ تراجم علماء الحديث الشريف الذين نبغوا في أسرٍ دمشقية اشتهرت بعلم الحديث، وتشكل الكتاب من قسمين‏،‏ يتناول القسم الأول مشاهير الأسر منذ القرن السادس إلى القرن الرابع عشر الهجري،‏ ويضمّ القسم الثاني علماء الأسر العلمية التي هاجرت إلى دمشق‏ من بلاد الشام والعراق، ومن المغرب، ويُبيّن جهودهم في علم الحديث الشريف‏،‏ وتضمُّ خاتمة الكتاب‏ أهم النتائج المستفادة من البحث، وتليها الفهارس العامة لما ورد في الكتاب من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة والأشعار والأعلام التاريخية والجغرافية‏،‏ ومن المصنفات الحديثية وكتب الفضائل والفوائد الحديثية والمسانيد والموافقات.

2

بيوت العلم الدمشقية

ازدادت بيوت العلم الشرعي بدمشق، وتوارث الأبناء علوم الآباء والأحفاد علوم الأجداد، وترسخت بعض العلوم في بعض العائلات التي اشتهرت بها، وأثارت أُسرُ العلماء اهتمام الباحثين الذين أرخوا لبعض البيوتات التي اختصت بعلم من العلوم الدينية، ودوّنوا تسلسُل أنسابها من الأجداد حتى الحفدة، ودراسة البحوث تكشف اهتمام أسرة ابن عابدين بالفقه الحنفي، واهتمام آل الحلواني بالقراءات القرآنية، وآل الكزبري بالحديث النبوي الشريف، وآل الغزي بالفقه الشافعي، وآل الشطي بالفقه الحنبلي وغير ذلك كثير في البيوت الشامية التي اشتهرت بالْبِرِّ والتقوى، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر.

3

عهد الدولتين النورية والصلاحية

يبدأ مشاهير بيوتات الحديث بدمشق بمشاهير عهد الدولتين النورية والصلاحية، والنورية متفرعة عن دولة الأتابكية التي تنتسب إلى عماد الدين زنكي بن آقسنقر (أتابك) أي: نائب السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه سلطان العراق, الذي ولاه السلطان على الموصل سنة 516هـ/ 1122م ثم ضمّ إليها حلب، وبعد موت عماد الدين زنكي غيلة في قلعة جعبر سنة 541هـ/ انقسمت الدولة الأتابكية إلى دولتين:

دولة في الموصل ودولة في حلب.

أما دولة الموصل فخلفه فيها ابنه سيف الدين غازي الأول وتعاقب عليها من بعده أبناؤه حتى انقضى عهدها باستيلاء المغول عليها سنة 656هـ/ 1258م.

وأما دولة حلب فخلفه فيها ابنه نور الدين محمود الذي ضمّ إليها دمشق سنة 549هـ/ مع باقي بلاد الشام المحررة، ولما توفي نور الدين سنة 569هـ/ خلفه ابنه الصالح إسماعيل، وفي سنة 579هـ ضمّ صلاح الدين الأيوبي الدولة النورية إلى الدولة الصلاحية الأيوبية التي ورثها المماليك البحرية ابتداء بالملك المعز عز الدين أيبك، الذي انتقل إليه الملك عن طريق شجرة الدر زوجة الملك الصالح نجم الدين الذي توفي في 14 رمضان سنة 647 هـ/ 1249 م، ثم حلت دولة المماليك الشراكسة البرجية بقيادة السلطان برقوق محل البحرية بقيادة الصالح حاجي شعبان سنة 784 هـ / 1382 م، واستمرت في حكم مصر والشام حتى حلت محلها الخلافة العثمانية بقيادة السلطان سليم الثاني بن أبايزيد بعد مصرع الأشرف قانصوه الغوري في مرج دابق إلى الشمال من حلب سنة 922هـ/ 1516 م.

4

بيوت الحديث الدمشقية في عهد الدولتين

أول بيوت المحدِّثين في عهد الدولتين النورية والصلاحية هو بيت الحافظ ابن عساكر، وأولاده، وحفدته، ونساء آل عساكر المحدثات، وابن عساكر هو علي بن الحسن بن هبة الله، وميلاده في غرة المحرم سنة 499 هـ/ 13 أيلول/ سبتمبر سنة 1105م، ووفاته في 11 رجب 571هـ/ 25 كانون الثاني سنة 1176م، ثم يليهم بيت الحافظ ابن الزكي، وأولاده وحفدته والمحدثات من العائلة، ثم بيت كريمة بنت عبد الوهاب الزبيرية، وبيت ابن صَصْرى، أولاده وحفدته ومحدثاته، وبيت ابن الحُبوبي، وبيت الخشوعي ومحدثاته.

5

مشاهير بيوتات الحديث في عهد المماليك

أقدم بيوتات الحديث في العهد المملوكي هو المحدِّث التنوخي، ثم المحدثة ست الوزراء، وهي أول امرأة استُقدمت إلى مصر للتحديث بصحيح البخاري، ثم المحدثة فاطمة بنت محمد بن المنجا أم الحسن الدمشقية التي قرأ عليها الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني، ثم بيت سلطان العلماء العز بن عبد السلام، وأولاده وحفدته، ومنهم حفيدته المحدثة زينب بنت يحيى بن العز، ثم بيت ابن الحرستاني، وأولاده وحفدته، ثم بيت ابن الشيرجي وأولاده، ومن نساء هذا البيت: المحدثة فاطمة بنت سليمان الدمشقية، ثم بيت ابن الخباز - أولاده وحفدته، ثم بيت الحافظ المزي وأهل بيته، ثم بيت الحافظ الذهبي و أهل بيته، ثم بيت ابن القواس، وبيت الحافظ العلائي، وبيت الحافظ ابن رافع السلامي، ثم بيت فاطمة بنت البطائحي آخر محدثات العصر المملوكي.

6

المحدثون الدمشقيون في العهد العثماني

بقيت مدينة دمشق مركز استقطاب لرجال العلم على مرّ العصور، ومازالت سلسلة إسناد العلوم النقليّة متصلة عند علماء الشام، ومنها علوم الحديث النبوي الشريف الذي ازدهر في عهد الخلافة الإسلامية العثمانية، واشتهر من بيوت الحديث في ذلك العهد آل الكزبري، وآل القاسمي.

7

المحدثون المهاجرون إلى دمشق

هاجر العلماء إلى مدينة دمشق من مُدن بلاد الشام، ومن أشهر العلماء الذين وفدوا إلى دمشق المقادسة، وكان أولهم المحدث أبو عمر محمد بن أحمد المقدسي، وأولاده:  عمر، وعبد الله، وعبد الرحمن، و أولادهه وحفدتهم من العلماء، ثم بيت الإمام عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، وعُبيد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة، ثم بيت عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن السعدي وأولاده وحفدته، وبيت ابن البخاري، وبيت عبد الرحيم بن عبد الواحد المقدسي، وبيت إبراهيم بن أحمد المقدسي، وبيت العماد إبراهيم بن عبد الواحد المقدسي، وبيت عبد الغني المقدسي، وولديه: محمد، وعبد الله، بن عبد الغني، ثم بيت ابن عبد الهادي المقدسي، ومافيه من المحدثين والمحدثات، وبيت محمد بن خلف بن راجح المقدسي.

وممن هاجر إلى دمشق بيت المحدِّث محمد بن طرخان، والمحدِّث أحمد بن عبد الدائم، وبيت علماء آل تيمية الذين قدِموا من حران في جنوب تركيا إلى دمشق، ومن بيوت المحدِّثين المهاجرة أيضاً آل الغزي، وآل العطار الذين قدِموا من حمص، وآل الشطي الحنبلي الذين جاؤوا من العراق، وآل محمد بن جعفر الكتاني الذي جاء من المغرب، وحدَّث هو وولداه : محمد الزمزمي، ومحمد المكي، وحفيداه محيي الدين، ومحمد الناصر، وجاء من فاس بدر الدين الحسني، وساهم في إحياء دار الحديث الأشرفية بدمشق.

8

نسب المقادسة الدمشقيون

ينتهي نسب آل المقدسي الذين نزلوا دمشق إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد نقل ابن حُميد في كتاب السُّحب الوابلة، عن ابن فهد في معجمه قوله: "أبو عمر محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة بن مقدام بن نصر بن فتح بن محمد بن حديثة بن محمد بن يعقوب بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن حسن بن محمد بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه"، وتعزز هذه الرواية رواية ابن طولون التي سردها، وقال: "هكذا وجدت النسب عن ابن فهد في معجمه، ولكنه قال: فتح بن محمد بن حدثة بن محمد، فزاد محمداً بين فتح وحدثة. وقال: هناك حدثة بدون ياء وهنا حديثة بالياء. وذكر ابن فهد أيضاً بعد إسماعيل: حسن، بدل: يحيى هنا وباقي النسب سواء"، وأورد كمال الدين الغزي نسب آل المقدسي في النعت الأكمل، وأوصله إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

9

ابن قدامة المقدسي

شيخ الإسلام، أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة العدوي القرشي المقدسي، ولد ببلدة جماعيل من أعمال مدينة نابلس في فلسطين سنة 541 هـ/ 1146 - 1147 م وفي تلك السنة قامت الحملة الصليبية الثانية بقيادة لويس السابع ملك فرنسا، وكونراد الثالث ملك ألمانيا ،وبد ذلك بثمان سنوات استولى الصليبيون على فلسطين فهاجر أحمد بن قدامة مع أسرته إلى دمشق، وطلب عبد الله العلم في دمشق، ثم في بغداد حيث رحل إليها هو وابن خالته الحافظ عبد الغني المقدسي، فدرسا شيخ الحنابلة عبد القادر الجيلاني، وغيره من مشايخ بغداد، وقد خدم الموفق المقدسي المذهب الحنبلي خدمة عظيمة بمؤلفاته المفيدة، ومنها: العمدة، والمقنع، والكافي، والمغني.

ولما زحف صلاح الدين الأيوبي رحمه الله جيوش الإسلام لتحرير فلسطين في شهر المحرم سنة 583 هـ/ 1187م كان الشيخ ابن قدامة في مقدمة تلك الجيوش، وشرفه الله بالمشاركة حصار الكرك، وعكا، وفتح طبرية، ومعركة حطين قرب النبي شعيب في 25 من شهر ربيع الثاني حيث أُشر ملك الإفرنج جيفري، وأميرهم أرناط، وشارك الشيخ ابن قدامة مع صلاح الدين في تحرير طبريا وعكا والناصرة وقيسارية وصفورية وتبنين وصيدا، وتحرير بيروت في 29 جمادى الأولى، وتحرير عسقلان، وفتح القدس يوم الجمعة 27 من شهر رجب الفرد، ونصب فيها المنبر الذي أرسله نور الدين بن محمود زنكي، وكان الشيخ ابن قدامة في الثانية والأربعين من عمره، وكان يقضي وقته بين التدريس والجهاد في سبيل الله، ولما بلغ التاسعة والسبعين من عمره وافاه الأجل يوم عيد الفطر المبارك سنة 620 هـ/ 1223 م، ودفن في مغارة التوبة بمدينة دمشق.

10

أقوال العلماء بابن قدامة

قال شيخ الإسلام ابن تيمية يرحمه الله: "ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الشيخ الموفق ابن قدامة، وقال يوسف بن قزأوغلى سبط ابن الجوزي: "شاهدت من الشيخ أبي عمر، وأخيه الموفق، ونسيبه العماد؛ ما نرويه عن الصحابة والأولياء الأفراد، فأنساني حالهم أهلي وأوطاني، ثم عدت إليهم على نِيَّة الإقامة عسى أن أكون معهم في دار المقامة"، وقال الإمام الذهبي: "كان أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة العدوي من بحور العلم، وأذكياء العالم" وقال ابن رجب الحنبلي: "وتصانيف ابن قدامة في أصول الدين في غاية الحسن، وأكثرها على طريقة أئمة المحدثين، مشحونة بالأحاديث والآثار وبالأسانيد، كما هي طريقة الإمام أحمد بن حنبل، وأئمة الحديث، ولم يكن يرى الخوض مع المتكلمين في دقائق الكلام، وكان كثير المتابعة للمنقول في باب الأصول وغيره، ولا يرى إطلاق ما لم يؤثر من العبارات، ويأمر بالإقرار والإمرار لما جاء في الكتاب والسنة من الصفات، من غير تفسير، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تأويل ولا تعطيل".

            

* باحث أكاديمي في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية

جامعة لندن

SOAS