سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي 16

سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي

(16) أخيرة

أحست الداعية الكبيرة أن الله استجاب لدعائها وحقق أملها ورزقها حسن البصيرة

كانت شديدة التواضع شديدة البساطة تحب المرأة المسلمة أما وأختاً وزوجةً وبنتاً

بدر محمد بدر

[email protected]

لكن الداعية الكبيرة وجدت نفسها مشدودة إلى خوض هذه التجربة الجديدة في حياتها, وقالت في نفسها: مهما كانت رداءة هذا الوسط, ومهما كانت الآثام التي وقعن فيها, فلماذا لا أسعى إلى توصيل نور الله إليهن ؟, ولماذا لا أساعدهن على الخروج من هذا المستنقع الآسن ؟ خصوصا وأن باب التوبة إلى الله مفتوح لكل مسلم عاص, حتى قبل أن تأتيه غرغرة الموت ؟.

وبالفعل تحملت هي مسئولية القرار بعيدا عن مجلس إدارة الجمعية, وزارت المستشفى الذي كان يئن بمعاصي ساكنيه, والتقت بالمدير الذي رحب بالفكرة وتمنى لها التوفيق, وبدأت تلقى محاضرة دينية أسبوعية, ترغّب فيها في الإيمان بالله وفى الجنة والنعيم المقيم, وفيما عند الله للطائعين والمحبين, وترهب فيها من النار ومن عذاب العصاة والمذنبين, وتفتح باب التوبة لمن عقدت العزم وطالتها أنوار الهداية, وشيئاً فشيئاً انجذبن إليها واطمأنت قلوبهن بين يديها, ولمسن فيها صورة الأم الحنون, والأخت المحبة, والصديقة المخلصة, والطبيبة الماهرة, والمسلمة الواعية, وبدأ الجميع ينتظر هذا اللقاء الأسبوعي بلهفة وشوق واهتمام, والذي تحول إلى ندوة وحوار ونقاش وجدال.

وبدأت التساؤلات .. ماذا نفعل ؟ وهل لا زالت أمامنا فرصة للتوبة والعودة إلى الله, وكيف نعيش بعد أن نبذنا الأهل وأصبحنا بلا مورد رزق, وهل سيقبلنا المجتمع مرة أخرى إذا تركنا ما نحن فيه دون أن يذكرنا بماضينا, , وهل هناك من يمد لنا يد العون كي نحيا حياة كريمة ؟,  إلى آخر هذه التساؤلات.. وكانت الداعية الكبيرة تتلقى الأسئلة والاستفسارات والهواجس وتفتح باب الأمل والقبول والتوبة, وتؤكد ما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من أن الله يفرح بتوبة عبده المؤمن, حتى سمعت إحدى هؤلاء العاصيات تعلن توبتها إلى الله, وندمها على ما مضى من ذنوبها, وعزمها على ألا تعود لمعصية الله أبداً, وسرعان ما تبعتها ثانية وثالثة ورابعة.. الخ.

وأصبحت الدروس الدينية الأسبوعية في مستشفى الحوض المرصود, فرصة لمزيد من التائبات الصادقات المخلصات, وشعرت الداعية زينب الغزالي أن الله استجاب لدعائها وحقق أملها ورزقها حسن البصيرة والقبول, وبدأت تتحمل عبء مساعدة هؤلاء التائبات, لبدء حياة اجتماعية كريمة, من خلال تبرعات المحسنين وأهل الخير والإيمان, الذين لا ينقطع منهم زمان أو مكان, وساعدت بعضهن على الزواج بأقل التكاليف, وكانت تتعهد بيوتهن بعد ذلك بالزيارة والمساعدة المادية, وكانت تجلس معهن وتأكل في بيوتهن وتوصل لهن الطعام والكساء في المواسم والمناسبات.

وفى إحدى هذه الزيارات سألت صاحبة البيت: هل ترين حياتك الآن أفضل أم في السابق أيام المعصية ؟! .. فأجابتها بأنها كانت تأكل من أفخر أنواع الطعام من أرقى المطاعم والفنادق, وتلبس أفضل الملابس ووسائل الزينة وأغلاها, وتضع المساحيق وتسكن الشقق الفارهة, وتركب السيارات الحديثة, والآن هي تأكل أبسط الأغذية وأرخصها وتعيش على الفول والعدس والجبن والملح, وقد لا تجد في بيتها أية ضروريات ناهيك عن الكماليات, وتكاد تستر جسمها بالثياب القديمة البالية, لكنها بالرغم من كل ذلك تشعر بنعمة الأمن والأمان والاستقرار والرضا من الله, ولم تعد تخشى أن يداهم البيت أحد من شرطة الآداب أو أن تتعرض للإيذاء النفسي أو البدني, بل تنام ملء جفونها, وتشعر بأن زوجها هو كل حياتها, وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى عليها.

كانت زينب الغزالي شديدة التواضع, شديدة البساطة, إذا دعت إلى طعام, قامت بنفسها على خدمة الضيوف, ولا تترك أحداً غيرها يقوم بهذه المهمة.. وتسعد كثيراً إذا جاء عندها ضيوف وكانوا كثر, ليسوا من حي مصر الجديدة أو حتى من القاهرة فقط, بل من كل أنحاء الدنيا: من العرب وغير العرب, ومن المسلمين وغير المسلمين.. وكانت تجيد التعامل الإنساني مع الإعلاميين الغربيين بالذات, وتكرمهم أكثر؛ لأنها كانت تعلم أنها سفيرة للإسلام يجب أن تظهره في أبهى صورة.

 كانت تحب المرأة المسلمة أما وأختاً وزوجة وبنتاً.. كانت ترفق بها وتصبر على توجيهها وترد على أسئلتها, وتؤكد أن الصحوة الإسلامية لها جناحان: الرجل والمرأة, لا يمكن أن تحلق في الأجواء بجناح واحد, وكانت تري أن وظيفة المرأة الأساسية هي الأمومة ورعاية شئون البيت والزوج والأبناء, وترفض أن تكون المرأة ترساً في آلة العمل باسم المساواة بينها وبين أخيها الرجل, وترى أن الحضارة الغربية الحديثة أضرت بالمرأة أكثر مما أفادتها.

كانت تدعو إلى تقوية الإيمان في القلوب, وغرس معالم التوحيد في السلوك, وبناء الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم, وصولا إلى الأمة المسلمة وسيادة الشريعة الغراء وأستاذية العالم من جديد, فالإسلام العظيم هو سعادة البشرية جمعاء, ونور الهداية والاطمئنان لكل الحيارى والتائهين من البشر.

كانت تهتم بالجوهر قبل المظهر وبالمضمون قبل الشكل وبالتطبيق قبل حسن الحديث, وعندما كانت تلتقي بإحدى السيدات من غير المحجبات, من اللاتي انجرفن إلى التقليد الأعمى للغرب, أو لم يعلمن بحكم الإسلام الصحيح, لم تكن تسألها عن أسباب عدم ارتدائها الحجاب الشرعي, أو تسفه من مظهرها وعريها المنافي للشريعة, بل كانت تسألها أولا عن إقامتها للصلاة المفروضة, وقراءتها للقرآن الكريم, وانتظامها في صلاة الفجر, وحبها للنبي صلى الله عليه وسلم.. كانت تنظر إلى الجوهر والقلب أولاً, لأن صلاحهما هو صلاح للمظهر والجوارح ولو بعد حين.

ذات مرة أثناء رئاستها لجمعية السيدات المسلمات جاءتها سيدة عادية, كاشفة الثياب حاسرة الرأس تضع الأصباغ والألوان, ومعها بناتها الثلاثة, وكن في سن الشباب والنضج والبلوغ, وقالت لها السيدة: سأحضر دروسك في الجمعية أنا وبناتي, ولكن بشرط عليك أن تعرفيه أولا, وهو أننا لن نتحجب, ولن يرغمنا أحد على ارتداء الحجاب ( ! ).. فقالت لها الداعية الذكية صاحبة البصيرة: أهلاً وسهلا بك وببناتك العزيزات لسماع كلام الله ورسوله, وأما ارتداؤك للحجاب أنت وبناتك من عدمه, فهذا قراركن الشخصي أولاً وأخيراً, وانصرفت السيدة هي وبناتها إلى حال سبيلهن.

ومرت فترة من الزمن, ربما ستة أشهر أو نحوها, إذ جاءتها إحدى السيدات المحجبات, وجلست بين يديها قائلة: لقد ضحكت علينا يا سيدتي, لم نتفق معك على هذا !..لم تتذكر الحاجة زينب اللقاء الأول مع تلك السيدة, فقالت لها: يا سيدتي الفاضلة أنا لم أرك من قبل, ولم أتفق معك على شئ, ولم أضحك على أحد, لماذا تقولين هذا الكلام الغريب ؟!.. فقالت السيدة: أنا حضرت لزيارتك قبل مدة ومعي بناتي الثلاثة, واشترطت عليك أن نحضر دروسك الدينية التي تلقينها أسبوعيا في مقر الجمعية, بشرط ألا نرتدي الحجاب, وها نحن الأربعة قد ارتدينا الحجاب الشرعي, بعد أن سبقني إليه بناتي منذ فترة, فهل تذكرتني ؟!.. فابتسمت السيدة زينب وقالت نعم تذكرتك الآن, وقبلت كلامك ساعتها ورفض التزامك بالحجاب, على أمل أن يشرح الله صدرك وصدر بناتك, بعد الاستماع إلى دروس الوعظ والتوجيه وكلام الله عز وجل, وكنت أعلم أن إيقاظ الإيمان في قلبك سيغير من مظهرك برغبتك, وقد حدث ذلك كما توقعت والحمد لله, فضحكت السيدة وشكرتها على جهدها وأسلوبها ومنهجها الوسطي في الدعوة إلى الله, وانصرفت.

كانت تحب معالي الأمور وتكره سفاسفها, وتتطلع إلى بناء وتربية وتوجيه المرأة المسلمة الواعية, التي تفكر في هموم الأمة وقضايا الوطن وصالح المجتمع والأسرة, وعندما كانت تجلس لتلقى درساً أو محاضرة أمام تجمع للنساء, كانت تتحدث عن هموم الأمة الإسلامية, وضرورة مشاركة المرأة المسلمة إلى جوار أخيها الرجل من أجل النهوض بها والخروج من هذا الواقع المؤلم, وتتحدث عن دور المرأة المسلمة في تحقيق النهضة المنشودة, بداية من تعميق رؤيتها لقضايا أمتها وتفاعلها معها, وانتهاءً بتربية أبنائها على هذه الرؤية, وتأهيلهم لخدمة دينهم وأمتهم.

كانت تكره أن تنشغل المرأة المسلمة بالأمور الهامشية والجدلية والفرعية والتي لا ينبني عليها عمل, وتتألم عندما تكثر الأسئلة عن حكم الاكتحال أو ترقيق الحواجب أو طلاء الأظافر أو ارتداء النقاب والقفازات, وغيرها من الأسئلة التي ينشغل بها البعض كثيرا على حساب ما هو أهم من قضايا الأمة ونهضتها وبناء مجتمعها.

كانت تنظر إلى الجوهر والقلب, قبل أن ترى المظهر والصورة.. كانت ترى أن تغطية الوجه ( النقاب ) ليس مرفوضاً وليس مفروضاً, وهو نفس الرأي الذي أعلنه الأزهر الشريف.. كانت تتجنب الرد على التساؤلات الفقهية ـ رغم علمها الواسع ـ في ثلاثة مجالات وهي: الطلاق والرضاع والميراث, وكانت تحيل السائل أو السائلة إلى الأزهر الشريف, أو إلى أحد الفقهاء المعروفين, تورعاً عن الوقوع في الخطأ.

كانت الداعية المجاهدة صاحبة مظهر جميل وجذاب, ثيابها بيضاء ناصعة, وهندامها متناسق, وذوقها رفيع, وغرفتها في البيت طاهرة معطرة, جعلت منها مسجداً صغيراً لأداء الصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن وصلاة الليل, يخلع المرء حذاءه قبل أن يدخل لأمر ضروري, فيجد الغرفة وقد رتبت ترتيباً بديعاً, وتفوح منها الروائح الذكية, ولا تستقبل فيها إلا صديقات معدودات فقط, تفيض من كرمها عليهن بالدخول إلى غرفتها الخاصة.

وقبل أن تجلس  إلى مائدة الطعام في بيتها, كانت تسأل عن خدم البيت: السائق والشغالة والسفرجي والجنايني.. هل تناولوا الغداء؟ فإن تأخر الطعام قامت بنفسها لتقدمه لهم!

ورغم انشغالها في العمل الدعوى, إلا أنها كانت كثيرة الصلاة والصيام, ولا يمر يوم إلا وتقرأ وردها اليومي ـ أكثر من ثلاثة أجزاء, ترتفع إلى عشرة في شهر رمضان من كل عام ـ رحمها الله رحمة واسعة.

كانت الداعية الربانية تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء, كأنها تحمل فوق رأسها ذنوب الدنيا كلها, وتبكى من شدة التأثر وهى واقفة بين يدي الله, وكانت تقول: إن الداعية الذي يبحث عن القبول والتأثير والاستجابة بين الناس, عليه أن يبحث عن القبول والرضا من الله أولاً, ويجب أن يكون له علاقة خاصة بينه وبين ربه, من ذكر واستغفار ودعاء وتضرع وقيام ليل ومناجاة, فالأمر ليس بكثرة العلم أو بجمال التعبير أو بقوة الفصاحة أو بحسن العرض, ولكنه أولاً بالقبول والتوفيق من الله سبحانه وتعالى.  

كانت ترى أن التدين الصحيح أساسه مراقبة الله سبحانه, ومداره الحب والود والأخوة, وصورته البساطة والكلمة الطيبة وسعة الصدر والقدرة على الصبر والتحمل والمجاهدة.. التدين الصحيح هو التواضع لله عز وجل, والتواضع بين الناس, وحسن الصلة بهم والإشفاق عليهم من الانحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى.. التدين الصحيح هو التسامح والتواد والتواصل والتراحم والتكافل..التدين الصحيح هو صدق التوجه نحو طاعة الله في السر والعلانية, وفي السر أكثر عندما تنام العيون وتسكت الألسنة وترتاح الأجساد وتهدأ الأنفاس, فيهب صاحب الإيمان اليقظ إلى مناجاة ربه ومولاه سبحانه..التدين الصحيح ليس هو القلب القاسي والوجه العابس والاستعلاء المزيف على الخلق, وليس هو التكبر والغرور وإشعار الآخرين بهبوط منزلتهم وقلة علمهم وسوء مصيرهم..التدين الصحيح هو الفطرة السليمة إذا مستها روح الإيمان وقوة اليقين بالله وسمو المعرفة به سبحانه وتعالى.. هكذا كانت تفهم زينب الغزالي دينها, وهكذا كانت تدعو إليه على بصيرة.

وعلى المستوى الشخصي, فقد أكرمتني الحاجة زينب كثيراً, بخلقها الزكي وعلمها الغزير وأدبها الجم ورقة طبعها وعلو همتها وحكمتها الغالية, وكانت قمة هذا الكرم والعطاء أن اختارت لي زوجتي السيدة عزة محمد الجرف ( أم أيمن ) التي أكرمني الله بها, وهي إحدى تلميذاتها النجيبات, السائرات على دربها في العمل الإسلامي الدعوي والاجتماعي, ورزقني الله منها سبعة من الأبناء والبنات, هم زينة حياتي وبهجة دنيتي ونبض فؤادي.

وأدعو الله أن أكون ـ بهذه السطور القليلة عن حياتها ـ قد وفيت بعض حقها علي, كما أدعوه سبحانه أن يجعل ذلك في ميزان حسناتي وأن يجمعني بها أماً مجاهدة وداعية ربانية في مستقر رحمته, يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

وقبل أن أختم هذه السطور أدعو إخوانها وأحبابها وتلامذتها في كل مكان, إلى تأسيس جمعية أو هيئة خيرية أو ثقافية دعوية تحمل اسمها, وتسير على منهجها الوسطي الدعوي والاجتماعي والتربوي, لكي تكمل دور ورسالة هذه الداعية الكبيرة, في نشر الوعي الإسلامي وخدمة الوطن وإيقاظ الأمة من جديد.. والحمد لله أولاً وأخيراً.