الحلقة (1) من سورة المسد

العلامة محمود مشّوح

الحلقة (1) من سورة المسد

الحلقة (29) الجمعة 4 شعبان 1396هـ-30 تموز 1976م

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون فاليوم موعدنا مع سورة المسد ثالثة السور التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وفاقاً لترتيب نزول السور على أرجح الآراء؛ وكنا سلخنا ما مضى، ونحن نعيش مع المعاني الكبيرة التي قررتها وأفرزتها سورة الفاتحة، ولقد يحسن التنبه والتنبيه إلى ضرورة ملاحظة هذا الشمول في المعارك التي كان الإسلام يخوضها من أجل طرد الجاهلية من ساحة الدنيا، وإعادة الناس إلى حظيرة الله يستروحون نسائم العزة والكرامة، ويتحسسون معاني الآدمية الصحيحة المستقيمة. والشيء الذي يدهشك وأنت تتعرف على ساح المعركة أن الإسلام لا يغفل الداخل وهو يخوض معركته في الخارج ولا يسقط حساب الخارج وهو يخوض معركته في الداخل فكل أولئك الساحات يكمل بعضها بعضاً ويؤثر بعضها ببعض، وما فائدة الساحة الخارجية إن هي نقيت من الزلل وطهرت من الأدناس وأعيدت إلى القواعد السليمة. ثم وضعت بين أيدي أناس مازكت نفوسهم ولا صغت قلوبهم ولا استقامت أخلاقهم ولا استناروا بنور الإيمان. إنهم بهذه المثابة خليقون أن يفسدوا كل شيء.

وما فائدة إقامة الحياة الداخلية الذاتية للإنسان على قواعد التقوى وعلى أسس الإيمان، إذا كان كل ما هو خارج الذات يضغط ضغطه الهائل المخيف، فيترك آثاره على النفس تزلزلاً وانحرافاً وشكاً في الله تبارك وتعالى. وسر الإعجاز في هذا الدين والحمد لله أنه وهو يخوض معركته الفاصلة ضد الجاهليات عموماً يخوضها بكل الطاقة الإنسانية لا يعطل منها شيئاً ويخوضها على كل الساحة البشرية لا يخلي ساحة من الساحة.

ولقد كانت الفاتحة معركة عظيمة ولكنها تخاض في داخل الذات؛ تقويماً للتصور وتصحيحاً للاتجاه ووضعاً لحقيقة الألوهية في مكانها الصحيح، وإعادة لهذا الإنسان إلى قاعدته التي لا ينبغي له، وما لكونه له أن يتزحزح عنها، وهي قاعدة العبودية ونحن الآن، ونحن نواجه سورة المسد سوف نواجه لوناً آخر أو ساحة أخرى؛ ساحة خارجية كانت بمثابة رد الفعل على هذا الذي نادى به محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. ولنبدأ من البداية:

فكما علمتم فإن رسول الله صلى الله عليه وآله نُبّئ بهذا الإسلام، وتنزَّلَ عليه أوائل الوحي وليس مهماً الآن أن نحدد بداية الخطى؛ فقد سبق أن تكلمنا على جوانب منها، والمهم أن نقول إن الله تبارك وتعالى وبعد أن أنزلت عليه عدة سور ودخل من دخل في دين الله، أمره الله تعالى أن ينذر عشيرته الأقربين فقال جل من قائل:

(وأنذر عشيرتك الأقربين واخفض جناحك للمؤمنين).

فقام رسول الله عليه السلام بتنفيذ أمر الله جل وعلا.

عندنا بصورة رئيسية روايتان أساسيتان في هذا الصدد؛ رواية تقول إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن عمه وربيبه علي كرم الله وجهه في الجنة إن الله أمرني بأن أنذر عشيرتي الأقربين فاصنع لنا طعاماً، وادعهم إليه يقول علي؛ فصنعت لهم طعاماً، ودعوتهم فجاؤوا، ولا حاجة بكم إلى ذكر التفاصيل فالمهم أن الرواية تقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حينما همَّ بأن يفاتح قومه، عشيرته بالدعوة، وأن يدعوهم إلى الإيمان به، وإلى اتباعه هاب قومه؛ فأمسك عن الكلام قال: فجاءه جبريل عليه السلام فقال له:

يا محمد؛ إن الله يأمرك بأن تنذر عشيرتك الأقربين فإذا لم تفعل فإن الله سوف يعذبك.

قال علي: فأمرني في اليوم الثاني أن أصنع لهم طعاماً وأن أدعوهم قال فصنعت الطعام ودعوتهم فجاؤوا، فوقف بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغوا من طعامهم وأبلغهم ما طلب الله إليه أن يبلغهم إياه.

وفي الرواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: أيكم يوافقني على هذا الأمر فيكون خليفتي ووصيي فيكم؟ قال فلم ينهد له أحد، فقمت وأنا ابن عشر سنين أو إحدى عشرة سنة، فقلت: أنا يا رسول الله؛ قال فأخذ برقبتي وقال: إن هذا خليفتي عليكم ووصيي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا.

قال فخرج القوم يتضاحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.

وفي الرواية أن أبا لهب قال له: ألهذا جمعتنا؟ تبت يداك، فأنزل الله تعالى: (تبت يدا أبي لهب وتب) إلى آخر السورة.

هذه رواية لي عليها تحفظ يمنعني من الأخذ بها؛ فكأني أشم عليها روائح تشيع، وروائح وضع مبكر واختلاق. على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا سيما وأن الدعوة في ذلك الوقت ليست في المرحلة التي تسمح بتعيين الأوصياء وتعيين الخلفاء والبحث في هذه الأشياء - التي تبحث عادة في النهايات ولا يفكر بها أحد في البدايات - فمن أجل هذا أجدني في حل من رفض هذه الرواية؛ والتعويل على الرواية الأخرى لأنها الأولى على صيغة العرب في التعامل بمثل هذه المواقف تقول الرواية:

إن رسول الله صلى الله عليه وآله حينما أمره الله بأن ينذر عشيرته الأقربين؛ صعد على (الصفا) وهو جبل بظاهر مكة، فنادى: يا آل فلان يا آل فلان؛ وتلك عادة العرب حينما تريد أن تبلغ شيئاً إبلاغاً عاماً، قال فاجتمع إليه هؤلاء النفر الذين ناداهم وكانوا - قومه وفي رواية أنهم قريش لأن قومه هم قريش عامة - فقريش قبيلة واحدة قال؛ فلما تكاملوا وتتامّ عددهم خاطبهم عليه الصلاة والسلام فقال لهم:

"يا معشر قريش أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً تريد أن تغير عليكم من وراء هذا الوادي أكنتم مصدقيّ؟"

قالوا: نعم فما جربنا عليك كذباً.

قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. ودعاهم إلى الإسلام فنهد أبو لهب وقال له: تبت يداك؛ ألهذا دعوتنا؟ أو: ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تبارك وتعالى:

(تبت يدا أبي لهب وتب ما أغنى عنه ماله وما كسب سيصلى ناراً ذات لهب وامرأته حمالة الحطب في جيدها حبل من مسد).

تلك هي الروايات الواردة ثمة روايات أخرى لا يعول عليها كثيراً؛ والمهم أن هذا هو سبب نزول السورة بشيء يكاد يكون إجماعاً بين المفسرين وعلماء القرآن ومؤرخي السيرة النبوية؛ هذا الموقف من أبي لهب موقف خطير ولولا أنه موقف خطير ما سجله الله تعالى في القرآن آياتٍ تتلى ويُتَعَبًّدُ بها الناس ويقرؤونها في كل حين.

ولكي نتفهم خطورة الموقف فإن علينا أن نرجع القهقرى، أن نرجع إلى وراء، إلى تلك الأيام البعيدة التي لم يعاصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنها عاشت في ذاكرة قريش وعاشت في ذاكرة رجالات ونساء بني عبد المطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم، في تلك الأيام البعيدة؛ يشعر عبد المطلب أنه قليل الحول ضعيف بسبب أنَّ له ولداً قليلاً والمعيشة في بيئات كتلك البيئات تعتمد مبدأ العصبية ومبدأ القبلية، فإنما يتعزز الناس بالذكور من الأولاد. - ويأخذ الألم من عبد المطلب ما يأخذ. وينذر لله نذراً كبيراً: لئن رزقه الله عشرة من الولد يمنعونه ويقومون دونه لينحرنّ لله أحدهم عند الكعبة.

وتمضي الأيام والشهور والسنون ويشاء ربك أن يرزق عبد المطلب أولاداً يتكاملون عشرة، ويأتي أوان الوفاء بالنذر، وبعد فصول وشؤون وشجو؛ يستقر النذر على عبد الله أصغر أولاد عبد المطلب وأحبهم إليه بإطلاق، والفتى الذي يُعَدُّ زَيْنَ فتيانِ قريش، ويقوم الناس فيمنعون عبد المطلب من الوفاء بنذره  كي لا تكون هذه سنة في العرب، كلما حزب أحداً منهم أمر قام فنذر أن يذبح أحد ولده فما بقاء الناس بعد ذلك، ويشب عبد الله فتى تخلص من الذبح - بأعجوبة بخارقة بمعجزة - تحفُّ به قلوب قريش شيباً وشباناً ورجالاً ونساءً، ويزُوَّجُ عبد الله ثم يمضي إلى ما تصورت قريش أن تقوم به من غدو ورواح بالتجارة؛ فيأتيه أجله المقدور في سفره ويموت عبد الله مخلفاً في القلوب حسرة ممضة وألماً مستعراً.

ويمضي الزمان ويولد لعبد الله ولد لم يقدر له الله أن تكتحل عيناه برؤيته والولد هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ تجيء ثويبة جارية أبي لهب مهرولة إلى أبي لهب وتقول له: أشعرت أن آمنة ولدت لأخيك ولداً ذكراً؛ فيقول لها اذهبي فأنت حرة، يُبَشَّرُ أبو لهب بأن أخاه الذي اخترمته يد المنون، وهو غض الإهاب طريّ العود، قد رزق الولد ولا شك أن أبا لهب في تلك البيئة التي ترى الولد الذكر كل شيء، والتي تذهب في تقدير الذكورة مذهباً أفقدها القدرة على تحسس وتلمس معنى الإنسانية؛ فإذا بها تشمئز وتغضب وتكفهر حينما يولد لها الإناث؛ وتفرح وتحتفل وتُسَرُّ غاية السرور حينما يولد لها الذكور بل يذهب السفه ببعض قبائل من قبائل العرب؛ إلى الحد الذي يئدون فيه البنات، وهن على قيد الحياة؛ حتى يأتي الإسلام فيزيل هذه العادة الوخيمة، وحتى يأتي الإسلام ويعيد إلى هذه الأنثى التي لا ذنب لها - كرامتها وقيمتها الإنسانية؛ يحدثنا القرآن الكريم أن قبائل من قبائل العرب كانت تكره أن تبشر بالأنثى يقول الله جل وعلا:

(وإذا بُشِّرَ أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بُشِّرَ به أيمسكه على هون أم يدسُّه في التراب ألا ساء ما يحكمون).

 كذلك كانت قبائل من قبائل العرب، تفعل ولقد شاع على ألسنتهم إلى الحد الذي سرى وجرى مجرى الأمثال: وأدُ البنات من المكرمات فالأمة التي تعيش على هذه المعاني والقيم، والتي فرضت عليها بيئتها القاسية هذه المفاهيم، والتي فرضتها بعامل من الطبيعة بحكم انقطاع الأمة العربية عن العالم الخارجي انقطاعاً يشبه أن يكون تاماً؛ وبحكم حالة البداوة وشح الأمطار وندرة المياه وقلة الخيرات والزروع، كل ذلك فرض على الأمة العربية أن تكون أمة طابعها الرحلة والنقلة، لا تكاد تستقر في مكان إلا ما كان من البلدين مكة والمدينة فقط فهاتان المدينتان كانتا تعرفان الاستقرار، وأما بقية قبائل العرب فهي يوماً هنا ويوماً هناك وطوراً في هذا النَجْع وطوراً في ذاك تلتمس مساقط المطر ومسايل المياه ومنتجع الخيرات.

وتصوروا أن بيئة كتلك البيئة شحيحة الخير، قليلة المياه نادرة الأمطار، ينزل في بقعة منها شيء من المطر ينبت قليلاً من الكلأ... ألا تتدافع نحوها القبائل؟ بلى يتدافعون تدافعاً يؤدي إلى الاقتتال، وكم من وقائع جرت، وكم من مذابح كانت من أجل أن ناقة ضُرِبَتْ وَحُلِّئت عن الماء؛ ومن أجل أن رجلاً سابق أخاه على الماء فسالت الدماء أنهاراً. في تلك البيئة التي لا يعرف فيها حكم إلا السلاح، ولا يعرف فيها تهدئة وتسكين للاضطرابات إلا الدم؛ يكون الذكر ذا قيمة عالية لأنه هو الذي يدفع، ولأنه هو الذي يمنع، ولأنه هو الذي يقاتل، وكما قال شاعرهم:

كُتب القتل والقتال علينا       وعلى الغانيات جَرُّ الذيول

في تلك البيئة تنطبع المشاعر على محبة الذكر؛ فحين تجيء البُشْرَى إلى أبي لهب عَمِّ النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان أبو لهب أخا عبد الله من غير أمه؛ فعبد الله أخو أبي طالب من أمه، وليس أخا أبي لهب من أمه، مع ذلك فأبو لهبٍ ابن عبد المطلب، ومن المهم في عرفه وفي نظره وفي طباعه الجاهلية، أنه يفرح ويُسَرُّ حينما يبشر بأنَّ أَخاه الذي مات قد استمر عَقِبُهُ ولم ينقطع ذِكْرُه، فرزقه الله تعالى مولوداً ذكراً. وأيضاً فأبو لهب ككل رجالات الجاهلية، وكل أبناء تلك الصحراء، حينما يبشر بأن أخاه رزق مولوداً ذكراً فوراً يخطر على باله حسبة رياضية. إن رجال القبلية زادوا واحداً، وهذا يعني زيادة سيف، وزيادة رمح، وزيادة فارس، يعني بالتالي زِيادةً لقوة القبيلة التي يرى أبو لهب ويرى غير أبي لهب أنَّ حياته مرتبطة وجوداً ومصيراً بهذه القبيلة، وأنه لا يمكن أن يتصور لنفسه أية حياة خارج نطاق هذه القبيلة، فسروره دفعه إلى أن يعتق الجارية، حين بشرته بولادة محمد صلى الله عليه وسلم إذاً هو سُرَّ بأن الله تعالى قد رزق أخاه مولوداً، وكان يرى في قسميات الوليد والطفل الذي بدأ يدرج، قسيمات أخيه الذي مات مخلفاً وراءه الحسرة الكبيرة، الأخ الذي اهتصرته يد المنون وهو شاب لم ير من الحياة شيئاً.

وتمضي الأيام، تمضي ويشب محمد صلى الله عليه وسلم، ويتزوج ويرزق الأولاد والعلائق بين بيت أبي لهب وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم على أحسن ما يكون، وعلى أوثق ما يكون، ويخطب أبو لهب كريمتي محمد صلى الله عليه وسلم لولديه عتبة وعتيبة، يخطب رقية وأم كلثوم لكي تكونا كنتين لكي تكونا زوجتين لولديه عتبة وعتيبة فهذا يدل على أن العلائق جيدة للغاية بين الرسول عليه الصلاة والسلام وبين عمه أبي لهب؛ وهذا يدفعنا إلى أن نعرج لنفند تعليلاً يتعلل به كثير من الذين يكتبون في السيرة، ويتعرضون لتاريخ الإسلام فالذين يدرسون هذه المرحلة وهذه الواقعة؛ يقولون إن سر عداوة أبي لهب لرسول الله صلى الله عليه وسلم كانت بسبب زوجته أم جميل- التي هي من بني أمية وبين بني أمية وبين بني المطلب عداء كان في الجاهلية؛ ولعمري إن تعليلاً من هذا النوع ليسقط من تلقاء نفسه حينما نتساءل: وأين كانت أم جميل حينما أراد زَوْجُها أنْ يخطب ابنتي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين كان العداء الأموي من نفس أُمّ حينما أقدم ولداها على التزوج ببنتي محمد صلى الله عليه وسلم؟ وهل لا تنفجر هذه العداوات والخصومات التي يفترض هؤلاء الدارسون أنها حية لم تمت إلا بعد أن ينبأ رسول الله، وإلا بعد أن تأتيه الرسالة، وإلا بعد أن يبادئ قومه بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى. إن تعليلاً من هذا النوع لا يكاد يقف على قدميه على الإطلاق فيجب أن نلتمس التعليل من جهات أخرى، وما نحن الآن بصدد التماس التعليل، وإنما نحن بصدد تتبع مواقف أبي لهب بعد الحادثة التي رويناها لكم أول مرة والتي رويناها بمناسبة بيان سبب نزول الآيات وقول أبي لهب لرسول الله تبت يداك ألهذا دعوتنا؟

ذهب أبو لهب غاضباً إلى بيته، فاستدعى إليه ولديه وقال لهما: رأسي من رأسكما حرام، إذا أنتما لم تطلقا بنتي محمد. فقاماً فطلقا بنتي رسول الله صلى الله عليه وسلم.. تلك هي بداية الخصومة، وتلك هي الشرارة التي أشعلت كل هذا الضرام الذي سوف يأتي في البحث.. تمر الأيام وقبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم وبعد المرحلة التي نتحدث عنها بزمان يخرج النبي صلى الله عليه وسلم ينادي في الناس: أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله وأن ما هم عليه من عبادة الأوثان فباطل لا يجوز لهم أن يتورطوا فيه، ويطوف بين القبائل بذلك.. كان يتحرى مجيء القبائل العربية أثناء المواسم؛ مواسم الحج والزيارة التي كانت تدوم أربعة أشهر من كل عام، فيذهب إلى هذه القبائل يدور عليهم في منازلهم تصوروا المنظر.. النبي عليه الصلاة والسلام لا طيارة تحمله ولا سيارة يركبها ولا جند ولا أحراس ولا مواكب ولا هتافات ولا ما أشبه ذلك، وإنما إنسان يمشي على قدميه يحمل مصير الدنيا كلها على كتفيه، ويطوف في القبائل وحيداً فريداً، ومن حوله تتنزى عداوات وتتفجر خصومات والقلوب تنام على دخن ويود كل امرئ لولا التوازن القبلي أن يفتك بهذا المصمم على أَنْ يخرب عليهم حياتهم كما يتصورونها يطوف بين القبائل فيقول لهم: يا بني فلان إن الله قد بعثني إليكم رسولاً. فماذا أيضاً؟ ماذا تضيفون إلى الصورة؟ تصوروا. يقول رواة السيرة: إن النبي عليه الصلاة والسلام حين كان يفعل هذا كنت ترى من ورائه رجلاً وضيء الوجه، أحول العين، إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه إلى الناس؛ يقول لهم: لا تصدقوه فإنه كذاب. من هذا؟ عمُّه أبو لهب.. العم الذي هو أولى الناس بأن يشد من أزر ابن أخيه يتبعه كظله، لا يترك قبيلة يطرقها رسول الله إلا كان معه؛ فإذا فرغ من كلامه خذِّلَ عنه ونفَّرَ الناس منه ورماه بالكذب افتراء وهو الذي سألهم من أول لقاء: لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقيّ؟ قالوا: نعم ما جرّبنا عليك كذباً.

فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يختلف خصومه ولا الموالون له في أنه الصادق الذي لم يكذب ولا يكذب أبداً والله جل وعلا قال له:

(فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون).

ولولا هذا الجحود الذي يتجاوز نطاق المعقول، ويظلم نفس الإنسان ظلماً مبيناً ما كان أبو لهب يجرؤ على أن يقول لا تصدقوه فإنه كذاب؛ وهو يعلم أن لو زالت الدنيا كلها ما كذب محمد صلى الله عليه وسلم.

ونترك أبا لهب في هذا الموطن ونمضي مع الأيام نمضي لنتتبع مراحل هذه العداوة وآثار هذه العداوة كانت في الأول فصلاً لعلاقة حميمة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين بيت أبي لهب؛ متمثلة في الإصهار إليه ففصلها أبو لهب، ثم تمثلت في دعاوة نشطه ومجرمة تتحرى الأماكن التي يغشاها رسول الله، فتقول للناس لا تصدقوه فإنه كذاب، وصوروا لأنفسكم أو تصوروا: لو أنك جئت فسمعت إنساناً لا تعرفه ولا يعرفك يدعو إلى شيء فجاءك أبوه أو أخوه أو عمه من الناس القريبين منه فقال لك: إنه كذاب؛ ماذا يقع في ذهنك؟ إن أقارب الإنسان أعرف الناس به فمن هنا تدركون خطر السلاح الذي رفعه أبو لهب في وجه ابن أخيه محمد صلى الله عليه وسلم. إن قبائل من قبائل العرب حينما كانت تسمع هذا من أبي لهب ومن غير أبي لهب كانوا يصارحون رسول الله فيقولون له: قومك أعرف بك ولولا أنك كما يقولون ما افتروا عليك. فهو سلاح خطر وسلاح رهيب وسلاح فعال ومع ذلك تعالوا نمضي..

يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن أذن الله له بذلك، ويستقر في المدينة من حوله الأنصار والمهاجرون وتستقر الأوضاع هناك ويتعرض بعض المسلمين لعير من أعيرة قريش فيأخذون ما فيها - وهي المعروفة في التاريخ الإسلامي بعير ابن الحضرمي- ثم تمضي الأيام ويقدم أبو سفيان من الشام يقود عيراً كبيرة لقريش، ويخرج النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه يزيدون قليلاً على ثلاثمائة؛ يتعرضون لعير قريش ويذهب صارخ قريش فإذا أوفى مكة؛ نادى بأعلى صوته يا معشر قريش اللطيمة. اللطيمة. اللطيمة. هي العير التي تحمل البضاعة.. أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد مع أصحابه؛ ما أرى أن تدركوها فالغوث الغوث.

وتثور مكة يثورون لأن هذه العير تحمل معظم أموال قريش؛ ومن عادة قريش في تجارتها الهامة أن تخرج القافلة - يشبه أن تكون عملاً تعاونياً - يتعاون جميع أهل مكة حتى الأيتام حتى الأرامل مساهمة في تجهيز القافلة وتأمين رأس المال، ثم تأتي القافلة تباع وتوزع الأرباح وفقاً للحصص والسهام؛ فنفرت قريش في ذلك الوقت؛ تتحدث الروايات الوثيقة أن أشراف قريش خرجوا جميعاً لملاقاة محمد صلى الله عليه وسلم إلا ما كان ممن لا يستطيع الخروج؛ فمن كان لا يستطيع أن يخرج بنفسه، أخرج في مكانه رجلاً يقوم بأداء هذا الواجب عنه كما يتصور، وكان لأبي لهب دين على العاصي بن هشام ابن المغيرة قريب أبي جهل لاط له بأربعة آلاف درهم) أي أربى عليه أبو لهب بأربعة آلاف درهم فأفلس بها العاصي فاستأجره أبو لهب بها على أن يخرج في مكانه ويجزئ عنه في البعد؛ يعني أن يقاتل قتالاً حقيقياً في وجه محمد صلى الله عليه وسلم، لاحظوا الرواية وما تدل عليه لكي تتعلموا كيف تستخرجون من الروايات دروسها وكي لا تضيعوا بين شعاب الروايات الكثيرة، ومضلات الفكر والإفهام، إن الرواية تقول إن أبا لهب كان له دين وإن هذا الدين دين رباء، دين ربا فماذا يستنج؟ يستنج أن أبا لهب كان ذا مال، وأنه كان على عادة معظم القرشيين يعطي ماله بالربا وأن ربا الجاهلية معروف؛ فقد كان يتضاعف عاماً بعد عام وأن هذا الربا منبث بين الناس، وأن هذا المال يمكن أن يكون واحدةً من الذرائع التي جعلت أبا لهب يتخوف من هذه الدعوة الجديدة الوليدة التي آذنت من أول خطواتها ومن أول توجيهاتها بتغيير جوهري في قيم المجتمع وفي نظام المجتمع عموماً فأبو لهب إذاً ما اكتفى بقطع العلائق بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم، ولا اكتفى بأن كان يدعو ضد محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كان يكذبه مواجهة بين القبائل استأجر رجلاً ليخرج مكانه في المعركة، كي يقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم ولو استطاع الخروج لخرج بنفسه ولكنه لم يستطع.

وتدور المعركة، وتدور الدائرة على قريش ونستمع إلى رواية طيبة يحدثنا ابن إسحق راوي السيرة من طريق عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنهما عن أبي رافع مولى النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: لما جاء الصَرِيْخُ إلى قريش أن محمداً عرض للقافلة؛ كان القريشيون بين خارج أو باعث مكانه رجلاً، وتخلف أبو لهب وبعث في مكانه العاصي بن المغيرة لكي يجزئ عنه، يقول أبو رافع: وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت فأسلمت أم الفضل زوجة العباس وأسلمت وأسلم العباس وكان العباس رضي الله عنه رجلاً يهابُ قومه - يخاف منهم - وكان ذا مال كثير متفرق في قومه، ومع ذلك خرج في الجيش الذي ذهب ليقاتل محمداً صلى الله عليه وسلم وتخلف أبو لهب؛ قال وجاء الخبر بهزيمة قريش فسررنا بذلك وازددنا قوة وعزاً؛ وجاء الفاسق أبو لهب يجر رجليه بشر - قال وكنت امرأ ضعيفاً – يتكلم أبو رافع عن نفسه- وكنت أنحت القداح في حجرة زمزم، فجاء أبو لهب يخط برجليه حتى..... ما فعل القوم قال لا شيء لا والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاءوا، والله مع ذلك ما لمت الناس؛ لقد لقينا رجالاً بيضاً على خيل بُلْقٍ لا تُليق شيئاً ولا يقوم بها شيء قال فاتلفت ورفعت قلب الحجرة وقلت تلك الملائكة.

قال فالتفت إليَّ أبو لهب وضربني في وجهي ضرباً شديداً فثاورته فأخذني وكنت ضعيفاً فاحتملني وضرب بي الأرض؛ ثم برك عليّ يضربني؛ فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته وضربته به فشجت رأسه شجة منكرة فقالت له: أتضربه أن غاب عنه سيده؛ فولى ذليلاً منكسراً قال أبو رافع: فو الله ما عاش إلا سبع ليال بعد ذلك حتى رماه الله عز وجل بالعدسة، والعدسة مرض يشبه الطاعون - قروح تصيب الإنسان وهو مرض معد - فلقد مات فما جرؤ أبناؤه على أن يدفنوه، وظل في بيته ليلتين أو ثلاثاً حتى أنتن؛ فجاء رجل من قريش إلى ابنيه فقال: ويحكما أما تستحيان أن أباكما أَنْتَنً ولم تغيباه. قالا: لا إننا نخشى من هذه القرحة. قال فأنا معكما، فاحتملاه فلم يقدرا على أن يُغًسِّلاه إلا قذفاً بالماء من بعيد، ثم احتملاه فوضعاه في ظاهر مكة عند جدار وقذفا عليه الحجارة، حتى وارياه بالحجارة، وفي رواية أنهما احتفرا له حفيرة ثم دفعاه بالعصي دفعاً ثم واروه بالحجارة لم يقربوه. تلك كانت عاقبة أبي لهب التي استحقها من خصومته للنبي صلى الله عليه وسلم، فما فعلت أم جميل؟ أم جميل زوجة أبي لهب وأمّ صهر النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يمكن أن يكون؛ كانت تنقل الشوك على ظهرها فتلقيه في الطريق الذي يسير فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دخل إلى بيته، احتملت حزماً من هذا الشوك المؤذي فطرحته على الباب؛ إيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم حينما نزلت السورة ولكي تعرفوا ما أم جميل؟ فأم جميل ليست من النساء العاديات وإنما هي من النساء المسترجلات؛ لما أنزلت السورة وقرئت عليها وفيها ذكرها وَوَصْفُ لها بأنها حمالة الحطب، وبأن في جيدها حبلاً من مسد؛ جاءت وفي يدها فهر من حجارة –حجارة كبيرة- إلى مجلس النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر جالساً فقال له أبو بكر يا رسول الله هذه أم جميل أخشى أن تنالك بسوء قال له لا عليك، فلما جاءت قد استهلتها الحمية واحتملها الغضب الشديد؛ ما استطاعت أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت يا أبا بكر: أين صاحبك فقد بلغني أنه هجاني؛ قال لها لا والله ما هجاك وبالفعل رسول الله لم يهجُها.. الذي هجاها هو الله وليس رسول الله صلى الله عليه، قال فانصرفت وهي تقول: مذمماً أبينا ودينه قلينا - لم تقل محمد وإنما قالت مذمم - فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام إلى أصحابه وقال: أترون إلى ما يصرف الله عني من شتمها هي تشتم مذمماً، وأنا محمد فهذه أم جميل امرأة سليطة اللسان قوية الجنان تغشى مجالس الرجال، ويكون لها دور فعال في الخصومة التي أثيرت في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك هي القصة بحذافيرها.

خط بياني لو أخذته لوجدته؛ يبدأ بالألفة والسرور بالوليد، وبمحاولة التقرب من الرجل الذي أصبح شاباً وتزوج وولد له ثم قَطْعٌ للعلائق، ثم دعاوى وتشويه ضد النبي صلى الله عليه وسلم ثم إِعانةٌ على حربه بالمال ثم نهاية ينتهي إليها كل طاغية لا يؤمن بيوم الحساب؛ ولكن نهاية أبي لهب تستحق التفكير. الناس يموتون لا ريب في ذلك ولكن ميتة كهذه ميتة لا يجرؤ فيها ابنه على أن يدفنه؛ ميتة يمكن أن تكون موعظة للمتقين، يمكن أن تكون موعظة لذوي الألباب، فالدخول في خصومة مع الله تبارك وتعالى، مع أوليائه من المؤمنين المتقين ومحاولة قطع الطريق على الدعوة والتشويش عليها ومحاربة أولياء الله الذين لا ذنب لهم إلا أن يقولوا ربنا لله، فمن أجل ذلك يقتلون ويصلبون ويطاردون تحت كل كوكب؛ هذه الأمور لا يمكن أن تمر بسلام، ولا يمكن أن تمر بغير ثمن، إن كل الذين نصبوا الحرب لله ورسله ولأوليائه والذين يأمرون بالقسط من المؤمنين ذاقوا وبال أمرهم وكان عاقبة أمرهم خسراً وقد يمتعهم الله بالمال، وقد يمتعهم بالبنين، ولكنه يأخذهم على تخوف فإذا أخذهم، أخذهم أخذ عزيز مقتدر وإذا بطش بهم بطش بهم البطشة الكبرى التي تكون عبرة لأولي الألباب والتي عرض الله تبارك وتعالى نماذج ثرة منها في القرآن وعرضت علينا وقائع السيرة النبوية نماذج أخرى لها سوف ترونها بإذن الله ويعرض التاريخ الإنسان في كل يوم نماذج من لونها ومن طرازها لكي يتذكر من تذكر، ولكي يتدبر من تدبر، ولكي يوقن من أراد له الله السعادة بأن آخر هذا الشوط دمار وخسار، وبأنه حق تماماً أن يتحقق ما قال الله:

(إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

كنت أفضل لو لم يأخذ منا سرد الوقائع كل هذا الوقت أن أمضي معكم في تحليل الموقف وفي محاولة التعرف على أسبابه وبواعثه وفي محاولة استخراج عبره ودروسه ولكنني لا أستطيع ذلك؛ فذلك حديث قد يطول؛ موعدنا معكم إن أحيانا الله في الجمعة القادمة إن شاء الله آمل أن نقف وقفة مفيدة عند هذه السورة القصيرة لتدركوا كم تحوي آيات الله من معان، وكم تحوي آيات الله من عبر، وكم يتوجب علينا أن نعطي آيات الله من قوة التفكير وقوة التدبر حتى نستخلص منها القواعد المنتجة المفيدة التي انطلق منها رسول الله فاستطاع أن يحقق النصر بإذن الله تبارك وتعالى آملين من الله أن يوفقنا إلى ذلك كما وفق نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يقيمنا على ذلك كما أقام أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يمتعنا والمسلمين برؤية ثمار النصر إنه على ما يشاء قدير وربك لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.