عينان مطفأتان ، وقلب بصير(4)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

    الفصل الرابع

صبيحة يوم الجمعة، توجّهت سيارتان فارهتان إلى قرية (الطيبة) في إحداهما كان الوزير وأهله، وفي الثانية كان الحاج فاتح وابنه فؤاد، وصالح.

كان الحاج فاتح وولده والشيخ صالح قد وقفوا فـي ساحة القرية، لاستقبال الوزير الذي ترجّل من سيارته، فأسرعوا نحوه مرحّبين.

حمل سائق الوزير الهدايا التي جاء بها الوزير إلى أسرة صالح، وسار خلف الوزير وصحبه، وبعد أن وضعها في منزل أبي صالح، عاد إلى السيارة، ليتابع طريقه إلى المزرعة القريبة من القرية مع الأسرة، وبقي الوزير مع أصحابه.

رحّب أبو صالح بالضيوف أجمل ترحيب، وكان التأثر بادياً في كلمته وعلى تقاسيم وجهه المغضَّن، ثم توجّه إلى الحاج فاتح وقال:

- يا حاج فاتح.. ما كلّ هذه الهدايا؟

فسارع الحاج فاتح إلى القول:

- هذه هدايا معالي الوزير يا أبا صالح.

عندها عرف أبو صالح أن الرجل الغريب وزير، وليس أخا الحاج فاتح، فأقبل عليه مرحّباً من جديد، وقد أشرق وجهه المتعب، وضحكت تقاسيمه التي زادت الأيام من قساوتها.

- شكراً لكم يا معالي الوزير.. كثّرتم الخير كثّر الله خيراتكم..

قال الوزير في حياء:

- عفواً يا أبا صالح.. أشياء بسيطة أرجو أن تقبلوها.

التفت أبو صالح إلى ولده وقال:

- ما كان ينبغي أن تسمح لمعالي الوزير أن يكلّف نفسه كلّ هذا.

قال صالح في حياء:

- ومن أكون أنا -يا أبي- حتى أسمح أو لا أسمح لمعالي الوزير؟ والله لو حمل كلَّ ما في أسواق المدينة إلى هنا، لما تجرأت بالتفوّه بكلمة.

قال أبو صالح:

- هذا صحيح يا ولدي. ولكنْ..

قاطعه الوزير:

- دعنا من (لكنْ) يا أبا صالح، واطلب لنا فنجاناً من القهوة، فأنا لم أشرب قهوة الصباح بعد.. أحببت أن نشربها معاً.

قال الحاج فاتح:

- وسوف تشرب أطيب قهوة، من أطيب يد.. من يد الشيخ صالح يا معالي الوزير.

التفت الوزير إلى صالح، فرآه ينهض مبتسماً وهو يقول:

- عمّي الحاج فاتح يحبّ قهوتي يا معالي الوزير، وأرجو أن تعجبك.

ثم سار باتجاه المطبخ، وسار أبوه بضيوفه إلى غرفة متواضعة، ليس فيها كرسيّ، ولا منضدة..

جلسوا على الطرحات النظيفة المفروشة فوق حصير نظيف، وأسندوا ظهورهم إلى وسائد نظيفة أيضاً.

قال أبو صالح في خجل:

- لا تؤاخذونا يا معالي الوزير، فنحن ناس بسطاء، فقراء، ولكننا نعجبكم إن شاء الله.

قال الوزير:

- فيكم البركة يا أبا صالح.

وقال الحاج فاتح:

- الفقر ليس عيباً يا أبا صالح.. لقد بذلتَ ما تستطيع، ولكن قسمتك هكذا.. وأنا أشهد أمام الله وأمام كلّ الناس، أنك لم تقصّر في استصلاح أرضك، ولكن المَحْلَ ضرب المنطقة كلّها.

قال أبو صالح:

- والله يا صديقي يا حاج فاتح، كنت أعمل أنا وزوجتي وبناتي وابني هذا الكفيف، ليل نهار، حتى سمّانا إمام الجامع، عشاق الأرض، ولكن.. كما قلتَ: هذه هي قسمتنا، وهذا هو رزقنا الذي كتبه الله لنا.

ملأ صالح باب الغرفة وهو يلج منه، حاملاً صينيّة القهوة، وعليها ثلاثة فناجين من القهوة، وكأسان من الشاي، وسار حتى وقف أمام الوزير، وقال له:

- أهلاً بكم يا معالي الوزير في هذا البيت المتواضع.. تفضّلوا.

ابتسم الوزير ابتسامة عريضة وهو يقول:

- هل لنا الشاي أو القهوة؟

- كلّها لكم يا معالي الوزير. ولكنّي رأيت أن أشرب الشاي أنا وصديقي فؤاد، بينما أنتم، يا معالي الوزير، تشربون القهوة.

التفت الحاج فاتح إلى ولده فؤاد وسأله:

- هل أنت طلبت الشاي يا فؤاد؟

أجاب فؤاد:

- لا يا أبي.

فالتفت إلى أبي صالح وقال له:

- بارك الله لك في هذا الفتى النجيب الشيخ صالح، يا أبا صالح.

ردّ أبو صالح:

- إنه ولدكم، وتربيتكم يا حاج فاتح.

قال الشيخ صالح:

- إذا سمحتم لي يا معالي الوزير، ويا عمي الحاج فاتح، ويا أبي الحنون.. سوف نفطر بعد قليل.

قال الوزير:

- لا.. دعونا الآن من الفطور وغيره، نحن جئنا لمهمّة معيّنة، وأرغب في إنجازها اليوم.

سأل أبو صالح:

- نحن تحت الأمر يا معالي الوزير.

قال الحاج فاتح:

- فهمت من الشيخ صالح، في الطريق، أن معاليكم سوف تشترون أرضاً، لبناء مدرسة عليها، وإلى جانبها دكان لتعليم المكفوفين هنا في القرية.

قال صالح:

- والقرى المجاورة يا عمي.

سأل أبو صالح:

- ماذا تعلمونهم؟

قال صالح:

في الليل نعلّمهم كما أتعلّم أنا، وفي النهار يتعلمون كيفية عمل كراسي القش، ثم كراسي الخيزران، وتصنيع المناضد الخشبية البسيطة.

سأل أبو صالح:

- ومن سيعلمهم؟

قال صالح:

- سوف نأتي.. عفواً.. سوف يأمر معالي الوزير بجلب من يعلّمهم هذا، أما أنا العبد الفقير، فسوف أعلّمهم القراءة والكتابة على طريقة برايل.. كما أكتب الآن وأقرأ.

سكت صالح لحظة، ثم قال:

- ما رأيكم، يا معالي الوزير، ويا عمّي الحاج، أن نستدعي إمام المسجد؟ فهو عالم، عامل، متواضع، وذو عقل راجح، ويمكننا أن نستفيد من رأيه وخبرته.

قال الوزير:

- استدعه، فأربعة عقول خير من ثلاثة.

نهض صالح، ووقف في الباب، ونادى أخاه الصغير:

- أحمد.. يا أحمد..

- نعمْ. يا شيخ صالح.

- اذهب، بسرعة، إلى الإمام، وادعه إلينا.

- حاضر.

أطلق أحمد ساقيه للريح، متوجّهاً إلى بيت الإمام، وعاد صالح إلى مجلسه بتؤدة وهدوء.

تنحنح الحاج فاتح الذي كان يجلس باحترام أمام الوزير، ثم قال:

- لي طلب صغير عندكم يا معالي الوزير.

قال الوزير:

تفضّلْ يا حاج فاتح.

قال الحاج فاتح:

- أرجو أن نتقاسم الأجر.

سأل الوزير:

- كيف؟ بل ماذا تعني باقتسام الأجر؟

قال الحاج فاتح بشيء من الجرأة الممزوجة بالحياء:

- أنا أشتري الأرض، وأقيم عليها البناء.. لمدرسة، ولورشة الأكفّاء، ومعاليكم تؤثثون المدرسة والورشة حسب الأصول، وتؤمّنون المعلمين، والشيخ صالح يتعاون مع الإمام، لإنجاح هذا المشروع الحيوي العظيم.

قال أبو صالح:

- وأنا طلعت من المولد بلا حمّص.

ابتسم الجميع لهذه النكتة، ثم قال الحاج فاتح:

- أنت، يا أبا صالح، سوف ترعى الجميع، وتؤمّن لهم طلباتهم.. اتفقنا؟

قال أبو صالح في تنهّد:

- اتفقنا.. فالعين بصيرة، واليد قصيرة، وليتني أستطيع أن أقدّم كما تنوون أن تقدّموا.

قال الوزير:

- مادمت ذكرت النيّة، فنيّة المرء خير من عمله، وما دمت تنوي أن تقدّم بحقّ ولا تستطيع، فكأنك قدّمت.

وقال الحاج فاتح:

- هل تظن -يا أبا صالح- أنّ عملك الذي ستنهض به، أقلّ من أعمالنا؟

قال أبو صالح:

- سوف أكون خادماً أميناً لهذا المشروع، وأرجو أن يأجرني الله عليه.

التفت الحاج فاتح إلى الوزير وسأل:

- هل اتفقنا يا معالي الوزير؟

قال الوزير:

- ولكنّ هذا مرهق لك.. فقيمة الأرض، وبناء المدرسة والورشة ستكون عالية.. مكلفة.

قال الحاج فاتح:

- ولكنها ليست أكثر من التأثيث، وجلب المعلمين.

قال الوزير:

- أثاث المدرسة، وأثاث الورشة مني، أما المعلمون فستكون رواتبهم من الوزارة إن شاء الله تعالى.

قال الحاج فاتح:

- تبقى رواتب الإمام، وأبي صالح، والشيخ صالح، ومصروفات أخرى.

قال أبو صالح:

- أنا وولدي صالح لا نريد أجراً على عملنا.. أجرنا على الله تعالى. أما الإمام..

وقبل أن يكمل أبو صالح كلامه، قاطعه صوت الإمام الذي وقف بالباب:

- فأجره على الله يا أبا صالح.. أليس كذلك يا سادة؟ هذا بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حاول الجالسون القيام لتحية الإمام، ولكنّ الإمام أقسم ألا يقوم أحد، وأسرع إليهم، وصافحهم واحداً بعد الآخر، ثم قال:

- الغداء اليوم عندنا إن شاء الله.

قال الوزير:

- الغداء جاهز في المزرعة، وسوف ننتقل إليها بعد صلاة الجمعة، لنتغدّى، ونضع الخطوات العملية لمشروع الشيخ صالح.

نظر الإمام إلى صالح في فرح، وقال:

- هل هو مشروعك الذي حدّثتني عنه في السنة الماضية يا شيخ صالح؟

أجاب صالح بفرح:

- أجلْ يا شيخ محمد.. أجلْ.. عرضته على معالي الوزير فوافق، ولمّا علم به عمي الحاج فاتح، فرح به، ودعا الله تعالى أن يوفقه للمساهمة فيه.

قال الإمام:

- لقد كان المشروع يحتلّ بؤرة الاهتمام في نفس الشيخ صالح.. كان حلماً عزيزاً يتمنّى تحقيقه، ولكنه كان يقول:

"يقول الناس المبصرون: العين بصيرة، واليد قصيرة.. أمّا أنا، فلا عين ولا يد."

قال الوزير:

لا يا شيخ صالح.. فقد عوضك الله عنهما؛ فبصيرتك يقظة، متوهّجة، وقلبك وعقلك يهديانك إلى فعل الخير.. الخير لأهل قريتك، وللناس جميعاً.

قال صالح في حياء وابتهال، وقد رفع وجهه إلى السماء:

- الحمد لله الذي هيّأكم لتنفيذ هذا المشروع يا معالي الوزير، ويا عمي الحاج فاتح.. وأرجو من الله الوهّاب، أن يهبكم ما تستطيعون به خدمة الناس، والتخفيف من آلام المعذّبين.

قال الإمام:

- كان الشيخ صالح يقول، بعد أن يشرح لي مشروعه:

"يا شيخ محمد.. أنا أعمى، ولا أدرك ولا أعرف الألوان، ولكني أعرف أن الورد جميل المنظر عندكم، ومحبّب لكم، وهذا المشروع هو الحلم الوردي الذي أحلم به، وسوف أسعى إلى تنفيذه، عندما أكون قادراً على تحقيقه."

قال أبو صالح وهو يستعبر:

- الحمد لله الذي رزقني هذا الشاب الذي يفكّر بالفقراء والمساكين، وينسى نفسه.. يفكّر بأمّه وأبيه وأخيه وأخواته، وبجيرانه وزملائه وأقربائه، ويقدّم لهم القليل الذي في يده أو في جيبه، ويحرم نفسه ما يحبّ.

نظر الإمام في ساعته، ثم قال:

- كاد المؤذن يضع كفّه على أذنه.

سأل الشيخ صالح:

- ما موضوع خطبتك اليوم يا شيخ محمد؟

فصاح الشيخ محمد بعفوية:

- وجدتُها.. الشيخ صالح يخطب خطبة الجمعة اليوم، ويكون مشروعه موضوع الخطبة. ما رأيكم دام فضلكم؟

أمّن الجميع وأثنوا على هذا الاقتراح، ثم هبَّ الإمام قائماً، فهبّوا معه، وانطلقوا إلى المسجد الذي لا يبعد عنهم إلا بضع عشرات من الخطوات.

بعد صلاة الجمعة، أقبل الناس على شيخهم الشاب صالح يهنئونه على فصاحته، وعلى مشروعه معاً، وأبدى بعض الموسرين رغبتهم في المشاركة بهذا المشروع الممتاز، كما أبدى بعض الفلاحين والعمال استعدادهم للمشاركة الطوعية في العمل والبناء.

وفيما هم أمام باب المسجد، أقبل عليهم فتى في عمر صالح، وسلّم عليهم، ثم قال:

- أرسلتني أمّي لأبلّغكم أنها تتبرع لمشروع الشيخ صالح بأيّ قطعة أرض تختارونها لإقامة المشروع عليها.. عندكم الساحة القريبة من بيتكم يا شيخ صالح، وعندكم أرض الحاكورة غربيَّ القرية، وعندكم هذه الأرض التي تقفون عليها.. اختاروا أيَّها شئتم، حتى تتنازل لكم عنها.

نظر الحاضرون بعضهم في وجوه بعض، ثم قال الشيخ صالح:

- بارك الله فيك يا عليّ وبارك في مالك، وسوف نبلّغكم قرار اللجنة المشكلة برئاسة معالي الوزير.

وقال أبو معن، أحد وجهاء القرية:

- ما رأيكم، يا جماعة، أن تتكرموا وتتفضّلوا إلى دارنا، لنناقش هذا الأمر؟

وثنّى وجيه آخر على رأي أبي معن، وقال:

- لابدّ من جلسة مطوّلة.. فحتى يستمرّ هذا المشروع المهم، لابدّ من أن تكون له أوقاف، وأول وقف منّي، هو طلعة الزيتون تلك.

وقال آخر:

- وثاني وقف مني.. أرض السمّاقات.. إنها عشرة دونمات من أطيب أراضي القرية.

قال الوزير المأخوذ بما يجري في هذه القرية الفقيرة:

- اسمعوا يا جماعة. أنتم جميعاً مدعوون عندي على الغداء في المزرعة. معنا سيارتان تتسعان لعشرة أشخاص.. والمزرعة قريبة وإذا لم تتسع السيارتان، فسوف تعودان لتحملا من شاء أن يتكرّم علينا، ويكرمنا بالغداء معنا، ومشاركتنا الرأي في هذا المشروع الذي سيُحْيي موات هذه القرية، ويبثّ فيها الحياة والحركة، لتسابق المدينة والبلدة، وليس القرى.. هيّا بنا إلى السيارة.

وفي المزرعة دبّ النشاط، وفيما كان العاملون فيها يذبحون الدّجاج، ويطبخون، كان أصحاب المشروع يناقشونه مع ثلاثة من وجهاء القرية، وقد انتهى الحوار إلى تسميته (مركز الأبرار) وتشكيل لجنة من أبناء القرية لمتابعة المشروع، يتابع كلُّ واحد منهم جانباً منه.

قال الوزير:

- الإمام مسؤول عن أوقاف المشروع، واكتتاب التلاميذ.

والحاج مصطفى مسؤول عن تأمين العمال والبنائين.

وأبو معن أمين للصندوق.

وأبو صالح لتأمين ما يحتاجه المشروع.

وأنا خادم الجميع.

فانبرى الشيخ محمد يقول:

- ومعالي الوزير هو المرجع لنا جميعاً.

أعطى الوزير أرقام هواتفه لهم، ليتصلوا به عند الحاجة، من أجل تيسير الأمور.

وتعهّد الحاج فاتح بجمع تبرعات سخيّة من زملائه التجّار، وقد وقف للمشروع كرم عنب وتين وزيتون، وقدّم مبلغاً كبيراً من أجل الشروع بالعمل.

انتبه الوزير إلى سكوت صالح، فنظر إليه، وإذا دموعه تغسل خديه، وتندي الشعرات التي نبتت طريّة ناعمة على خدّيه وذقنه التي خلق الله في وسطها غمّازة حلوة.. فسأله الوزير عمّا به، وعمّا يبكيه، فأجابه الإمام بصوت باكٍ، وهو يضمُّ صالحاً إليه:

- إنها دموع الفرح يا مولاي.. الشيخ صالح يعيش أسعد لحظات عمره الآن، وهو يرى بعيني عقله وقلبه، ويسمع بآذانه، هذه البدايات الطيبة، وهذا التوفيق الربّاني. بارك الله فيكم.

حاول صالح كتم فرحه، ولكنه لم يستطع، فقد انفجر في نشيج كالنشيد، وجسمه يختلج مع دفقات عاطفته الجياشة، خالطه تهليل وتكبير وتسبيح من الحاضرين، حتى هدأ الشيخ صالح، فهدؤوا معه.

في هذه اللحظات كان السائق يقف ذاهلاً مما يرى، وحائراً فيما يفعل، فلمّا هدأ الناس، وصفا الجوّ حتى غدا شفّافاً كسحابة من عبير، قال:

- الطعام جاهز يا معالي الوزير.

نهض الوزير وهو يدعوهم إلى المائدة:

- هيّا يا جماعة.. تفضّل يا شيخ صالح، يا بركة..

نهض الجميع، وتقدّم الشيخ صالح على استحياء، وهو يقول:

- الامتثال خيرٌ من الأدب. الامتثال خير من الأدب.

ولحق به الآخرون، إلى حيث المائدة العامرة بأطايب الطعام، تحت دالية ظليلة، تدلّت عناقيدها كالقناديل، تحفّ بها أوراق ناضرة، إلى الجمع المبارك ناظرة، كأنما ترحّب بهم وبما يحملون من قلوب كبيرة، وعقول نيّرة، يحدوهم الأمل في رفع سويّة القرية والقرى المجاورة، بانتشال أبنائها من وهدات الجهل والفقر والأمراض الحسيّة والمعنوية.

تابع الحاضرون حوارهم على المائدة. قال الحاج فاتح:

- بعد كلّ الذي سمعتَه يا شيخ صالح، هل تستطيع أن تصف لنا بناء مركز الأبرار، ليهتدي المهندس المعماريّ في تصميمه؟

ابتسم صالح ابتسامة عريضة وقال:

- كما ترونني أراه.. بناء من ثلاثة أدوار.. الدور السُّفلي للمؤونة والخدمات كافة.. مستودع كبير، مقسم إلى أقسام، قسم كبير للمدرسة وحاجات التلاميذ، وقسم لورشة المكفوفين.

- هل ستكون الورشة مع المدرسة؟

- لا.. أعني لما تتطلبه الورشة من دف، وقش، وقطع غيار، ومسامير، وغراء، وما سوى ذلك. أما الورشة، فستكون ملحقة بالبناء.. خارج البناء، ومصممة بشكل لا يؤثّر على التلاميذ أثناء الدروس.

- عظيم.. ثم ماذا؟

قال الشيخ صالح:

- وستكون الحمامات في الدور السفلي، ومصممة بشكل لا يؤذي الطلاب بالروائح وسواها.. للاستحمام، والوضوء، والخلاء..

- جيّد..

- وفي الدور الأرضي تكون الصفوف، والإدارة، وغرفة المعلمين.

قال الحاج فاتح الذي رفع رأسه، وتوقّف عن الكتابة:

- نعمْ يا شيخ صالح..

سأل الشيخ صالح، وقد أحسّ بأن الحاج فاتحاً يكتب:

- هل تكتب ما أقول يا عمي الحاج؟

- طبعاً أكتبه.. وإلا.. فكيف أنقله إلى المكتب الهندسي؟

قال الشيخ صالح في حياء:

- عفواً يا عمي.. أنا أتكلم بناء على أمرك، وإلا.. فمن أكون إلى جانب المهندسين؟

قال الوزير:

- تابع يا ولدي، فأنت تصمم بعقلك وبصيرتك.

فتابع الشيخ صالح:

- وهذه الصفوف تستخدم في النهار للتلاميذ الصغار، وفي الليل للأميين الكبار، وللمكفوفين الذين يعملون في النهار، وعندما آتي أيام العطل، ويومي الخميس والجمعة، أعلّمهم طريقة برايل إن شاء الله.

قال الجميع:

- إن شاء الله.

وقال الوزير:

- يبدو أننا تآمرنا عليك يا شيخ صالح، فنحن نأكل ونستمع ونستمتع، وأنت تتكلم ولا تأكل.

قال صالح:

- والله إن طعامكم شفاء للأجسام، يا معالي الوزير، ولكن اهتمامكم بمركز الأبرار غذاء وشفاء للرّوح.. وأنا أقدّم غذاء العقل والنفس والروح، على غذاء الأجسام.

قال الحاج فاتح:

- بارك الله فيك يا ولدي يا شيخ صالح.. والدور العُلْوي. ماذا نفعل به؟

قال صالح:

- ينام فيه التلاميذ الغرباء القادمون من القرى البعيدة، والتلاميذ الفقراء من أهل قريتنا والقرى القريبة، الذين لا يجدون الغذاء، والكهرباء، والماء النظيف الذي سيجدونه هنا في البئر الارتوازي الذي سوف نحفره بمشيئة الله، ثم بجهودكم المبرورة.

قال الحاج فاتح:

- إذن نحتاج إلى مطبخ ومطعم.

قال صالح:

- هذا صحيح، وسيكونان داخل السور المحيط بالمركز، منفصلين عن البناء الرئيس.

هتف بعض الحاضرين وهم على المائدة يأكلون ويسمعون:

- الله أكبر.. الله أكبر.

وقال الإمام الشيخ محمد:

- من أنبأك هذا يا شيخ صالح؟

أجاب صالح على الفور:

- نبّأني العليم الخبير.

قال الإمام:

- صدق الله العظيم الذي أعطاك هذا الفهم وهذا الذكاء وهذا العلم يا شيخ صالح.

فقال أبو صالح:

- عندما وُلد صالح أعمى، بكينا أنا وأمّه، لما يمكن أن يلقاه في حياته، ولكننا كنّا نلاحظ عليه حركات تختلف عن حركات الأطفال الآخرين.. كان ينتبه لكل حركة مهما كانت صغيرة. كان يستوعب أكثر من إخوته المبصرين، ظهرت أسنانه وهو في الشهر الخامس، ومشى وهو في الشهر السابع، وكانت أمّه ترقيه.. تقرأ الفاتحة والمعوّذات وتنفخ عليه، وتدعو له أن يمنعه الله من الحسد والحاسدين، ومن النفّاثات في العقد، ومن أصحاب العيون الصائبة، وفي الليل، كانت تقوم لله وتصلي وتدعو له بقلب محروق.. ولكنّ الله عوّضنا بفهمه وذكائه وذوقه عن عينيه..

والتقط أبو صالح دمعة فرّتْ من عينه، فقال الوزير:

- احمد الله يا أبا صالح على ما رزقك، فوالله إنه خير من كثير من المبصرين.. ولولا أنّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم نهانا أن نمدح أحداً بحضوره لحكيت لكم بعض ما سمعته من مدير المعهد الشرعي ومدرّسيه.

قال الإمام:

- هل نخرجه يا مولاي؟

فضحك الجميع، وقال صالح:

- تريد أن تحرمني من هذه الطيبات يا إمام مسجد الطيبة؟

قال الإمام:

- نعمْ.. حتى لا يحرمنا معالي الوزير من حكاياتك اللطيفة يا شيخ صالح.

عندها تحرَّك فؤاد الذي كان يجلس بجانب الشيخ صالح، يأكل ولا يتكلم ولا يشارك في الحوار، تأدّباً مع الكبار، كما كان يفعل صالح.. تنحنح فؤاد وقال:

- هل تسمحون لي يا سادة أن أتكلم؟

فرحّب الجميع به، ودعوه إلى الكلام، وقال الإمام:

- كنت سأطلب منك الكلام يا ابن أخي لو لم تتكلم، فأنا لم أسمع صوتك إلا الآن.

قال فؤاد:

- كنت في منتهى السعادة وأنا أستمع إليكم.. والله إني لسعيد بإطرائكم صديقي الشيخ صالح.. أنا زميله في الصفّ، ولكني خامل الذكر.

قاطعه صالح:

- لا يا شيخ فؤاد.. لستَ كذلك.

ضحك فؤاد وقال:

- هذه أول مرة أسمع من يناديني: الشيخ فؤاد. أليس كذلك يا شيخ صالح؟

- ....

وعندما لم يجب الشيخ صالح، تابع فؤاد:

- قل: بلى يا صديقي فؤاد، فشتان ما بيني وبينك.. أنا -الشيخ صالح- الأول في الصفّ الذي أكون فيه، وأنت -يا فؤاد- وزملاؤك تأتون بعدي بكثير.

حاول صالح مقاطعة فؤاد، فقال فؤاد:

- ليس من عادتك، يا صديقي، مقاطعة أحد.. هذا ذوق رفيع تعلمناه منك.

- أستغفر الله.

- فلماذا تقاطعني الآن، وأنا لم أقاطعك طوال هذا اليوم؟

قال صالح في حياء شديد:

- بل منك، يا صديقي فؤاد، تعلمتُ الكثير.. تعلمتُ منك الذوق في الكلام، وفي معاشرة الأنام، وتعلمت الذوق في الجلوس والقيام، وتعلمت منك الذوق في الشراب والطعام، وتعلمت الذوق منك في أناقة الهندام.. فهل تنكر هذا يا فؤاد؟

سكت فؤاد مُحْرَجاً، فتابع صالح:

- صحيح أنا متفوّق على زملائي في الدراسة، ولكنهم، أو بالأحرى، لكن بعضهم، وفؤاد من هذا البعض، خير منّي في كثير من المزايا.

وعندما أحسّ صالح أنّ فؤاداً قد يقاطعه قال له:

- أرجو ألاّ تقاطعني يا صديقي.. فمنك تعلمت الكرم.. ومنك تعلمت الإيثار، ومنك تعلمت الشجاعة الأدبية.. فأنت الجريء وأنت الشجاع.. وسوف أذكر حادثة واحدة لتقيسوا عليها..

قال الحاج فاتح:

- نعمْ يا ولدي يا شيخ صالح.. تكلَّمْ.. فأنا أحبُّ أن أعرف شيئاً عن ولدي فؤاد الذي يلزم الصمت، ولا يحدثنا بما يجري معه في المعهد.

قال صالح:

- على أن تستمروا في الطعام.. كلوا عنكم وعنّي، فوالله ما شممت روائح زكية كهذه التي تنطلق من هذه المائدة.

سأل الوزير:

- وأنت يا شيخ صالح.. متى تأكل؟

- بعد أن أفرغ من رواية هذه الحادثة إن شاء الله.

قال فؤاد:

- ألا يمكن إرجاؤها يا شيخ صالح؟ أرجوك.

قال صالح:

- بل أنا أرجو منك أن تدعني وشأني، حتى أخفّف عن نفسي بعض ما أثقلتموها به اليوم.

قال الإمام:

- تفضّل يا شيخ صالح، وأوجز، فقد برد الطعام أو كاد.

قال صالح:

- كما تحبّون..

فقال فؤاد في انفعال:

- إذن.. دعوني أخرج إلى الهواء الطلق، خارج هذه المزرعة.

قال صالح:

- لا يا صديقي.. لا أحبُّ إحراجك ولا إخراجك.. سألزم الصمت، وأتناول طعامي، قبل أن يبرد، كما قال شيخي الإمام.

قال الإمام:

- نترك الشيخ صالحاً ليأكل، ونحن نتابع حديثنا عن مركز الأبرار.

وهكذا أنقذ الشيخ محمد الموقف، فامتدت يد الشيخ صالح إلى الطعام، وكان صديقه فؤاد يساعده في تقديم ما يحبّ منه في حبّ وذوق، فيما كان الآخرون يتحاورون في الخطوات العملية للمشروع.

يتبــــع