التأديب أسلوب من أساليب التربية في ديننا

التأديب أسلوب من أساليب التربية في ديننا لا مندوحة عنه ولكنه محكوم شرعا بضوابط تمنع من انحرافه عن الهدف المتوخى منه

أثارت حادثة محاكمة أحد الأساتذة بسبب ضربه تلميذته ضجة كبرى  على الصعيد الوطني وخارجه أيضا حيث انقسم الرأي العام الوطني في الداخل والخارج إلى متعاطفين مع الأستاذ ومتعاطفين مع المتعلمة بسبب اختلاف وجهات النظر أو زوايا الرؤية . وواضح أن  من كانت وجهة نظرهم محكومة بعاطفة الأبوة والأمومة مالوا إلى التعاطف مع المتعلمة ، ومن كانت وجهة نظرتهم محكومة بالزمالة أوالانتماء إلى الحقل التربوي  مالوا إلى التعاطف مع الأستاذ، ولكل جهة عذرها فما ذهبت إليه .

وهذه النازلة كان من المفروض أن تبعث على البحث الجاد في موضوع اعتماد  التأديب  بالضرب كأسلوب من أساليب التربية في مجتمعنا المسلم وهي كثيرة ، وربما كان آخرها  هو هذا النوع من التأديب  عند الضرورة كما يرى كثير من العلماء والمربين ، وهو  كالكي  الذي يكون آخر دواء كما يقال .

والتأديب لغة هو التهذيب والتربية الحسنة ، ومما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أدبني ربي فأحسن تأديبي " وهو ما دل عليه قول الله تعالى : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) وقد بينت عائشة أم المؤمنين  رضي الله عنها معنى هذا الخلق حين سئلت عنه فقالت : " كان خلقه القرآن "، وفي هذا دليل على أن التخلق بأخلاق القرآن الكريم هو أحسن تأديب يؤدب به الإنسان المؤمن .

والتأديب اصطلاحا هو نوع من العقاب يكون بتوبيخ بما في ذلك الضرب غير المبرح ،ويكون من ذوي الولاية بغية الإصلاح ، كما هو الشأن بالنسبة للآباء والأمهات مع أبنائهم حين يصلحون ما يعتبرونه انحرافا يصدرعن أبنائهم . ولقد ورد ذكر هذا النوع من التأديب في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع " . ولما كانت الصلاة هي عمود الدين ، وهي أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ، فقد أمرعليه الصلاة والسلام  الآباء بأمر أبنائهم بها لسبع سنوات  قبل بلوغهم سن التكليف ، وتأديبهم بالضرب عليها لعشر سنوات حين يقاربون سن التكليف إن لم يؤدوها حتى يتعودوا على أدائها إذا بلغوا سن التكليف . ومعلوم أن تأديب الضرب  هذا الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم له ضوابط تضبطه بحيث لا يخرج عن الهدف المرجو منه وهو الإصلاح والتوجيه الصحيح ، ولا يمكن أن يكون كذلك إذا جاوز الحد المشروع وصار عنفا وقسوة وشدة ، وترتبت عنه أضرار جسدية ونفسية .

ومعلوم أن التأديب بالضرب سنة إلهية ، ويكون إما حدا أو تعزيرا بالنسبة لبعض الانحرافات كزنا غير المحصنين أو القذف أو معاقرة الخمر ، وهو ضرب له ضوابطه التي  حددها الشرع حتى لا يخرج عن هدف التصحيح والإصلاح .

ومن أنواع التأديب بالضرب علاج نشوز المرأة على زوجها ، وهو أيضا محكوم بضوابط حددها الشرع ليتحقق منه الهدف المرجو ،وهو علاج النشوز لتستقيم الحياة الزوجية .

ومعلوم أن تأديب الأبناء بأسلوب الضرب في إطار تربتهم لا يخلو منه بيت من البيوت  في مجتمعنا المسلم وكل المجتمعات  المسلمة وحتى غير المسلمة ، وهو أمر لا اعتراض عليه  في الغالب عند الآباء والأمهات إلا أنه إذا ما اعتمد في المؤسسات التربوية يقع خلاف حوله ، فيجيزه بعض الآباء والأمهات  حرصا منهم على مصلحة الأبناء ، ويعترض عليه البعض الآخر  خوفا عليهم . وقد يكون لمن يعترض على الضرب في المؤسسات التربوية موقف آخر منه في البيت حيث يمارسه ،ولا يقبل من يعترض عليه في ذلك، ولا يرى فيه بأسا بل يراه حقا من حقوق الأبوة أو الأمومة .

وتحت ضغط غالبية المعترضين على هذا النوع من التأديب، اضطرت الوزارة الوصية على الشأن التربوي إلى إصدار مذكرة تعتبره عنفا وتمنعه  بل وتمنع حتى ما سمته عنفا لفظيا ، واقترحت له بدائل غير مجدية لا يمكن أن تصحيح أو تعالج اعوجاج وانحراف المتعلمين أو تهاونهم في الدراسة .

ولقد ترتب عن هذه المذكرة فراغ في الجانب التشريعي لمواجهة عدم انضباط المتعلمين ، وكان ذلك سببا في شيوع فوضى عارمة على أوسع نطاق لها أثر سلبي خطيرعلى التربية والتعليم والتحصيل والنتائج ، فضلا عن أكبر خسارة وهي غياب التنشئة على القيم الأخلاقية  السوية التي من شأنها أن تمد الوطن بالمواطن الصالح المتشبع بقيمه الدينية والأخلاقية كما هو مسطر في وثائق وزارة التربية الوطنية المحددة للغايات والأهداف  من التربية في المؤسسات التربوية.

وبالعودة إلى  آراء وفتاوى علمائنا وفقهائنا قديما وحديثا ،نجد شبه إجماع على أن  تأديب الناشئة المتعلمة بأسلوب الضرب المحكوم بضوابط جائز شرعا  . وقد استشهد بعضهم على ذلك باعتماد هذا الأسلوب في علاج النشوز ، وفي حمل الصغار على الصلاة في العاشرة  من أعمارهم ، وقالوا لو كان فيه بأس ما شرعه الله تعالى في النشوز ، ولا شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حمل الصغار على الصلاة  في العاشرة من أعمارهم. وقياسا على أمرهم بالصلاة جعلوا طلب العلم بالتعلم كتعلم الصلاة ، وعالجوا التهاون في التعلم سواء تعلم القرآن الكريم أو تعلم علوم الدين أو غيرها من العلوم والمعارف  بما يعالج به  التهاون في الصلاة ، والتهاون في تعلم ما تصح به الصلاة كالتهاون في أدائها .

وربما اختلفوا في تأديب من كان دون العاشرة من العمر في التعلّم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالضرب على الصلاة  في السابعة ، وربما أخذ بعضهم بهذا الحكم في التعليم أيضا حيث قد لا يؤدي أسلوب التأديب بالضرب في حال التهاون في التعلم والتحصيل الهدف المرجو منه  في مثل هذه السن ، فتكون له نتائج عكسية.

ومع أن الآباء والأمهات قد يضربون أبناءهم  في السابعة وما دونها على أمور تافهة لا تستوجب التأديب ، ويواصلون ضربهم عليها في العاشرة وما فوقها، لكنهم لا يضربونهم على الصلاة . وقد يضربونهم على النتائج السيئة في الدراسة وعلى الرسوب ، وفي المقابل لا يقبلون من المربين أن يفعلوا ذلك بأبنائهم مع أن المدرسين لا يعاقبون على الرسوب أو على النتائج السيئة بل غالبا ما يعاقبون على سوء الخلق  وعلى عدم الانضباط والفوضى التي تؤثر على السير الطبيعي  للتعلم والتحصيل .

ومعلوم أن أسلوب التأديب بالضرب سواء في نشوز الزوجة أو في ضرب الأبناء في العاشرة لتراخيهم في واجب الصلاة له ضوابط منها ألا يضرب الوجه ولا الأماكن الحساسة ، ولا يكون ذلك سببا في جرح أو نزيف أو كسر أو سببا في علة أو غيرها لأنه ليس ضرب الحد أو التعزير مع أنه لهذا  الأخير أيضا ضوابط حددها الشرع، ولا يجوز أن تتجاوز .

ونعود إلى نازلة الأستاذ الذي حكم عليه بالسجن لضربه تلميذته لنقول إن ثبت أنها ارتكبت ما يستوجب التأديب بالضرب ، وأنه  قد أصابها بالفعل  في وجهها وتحديدا في العينين، فقد خالف ضوابط تأديب الضرب الجائز شرعا كما أفتى بذلك العلماء والفقهاء قديما وحديثا . أما إذا لم يثبت أن الضرب قد وقع منه أصلا، فالقضية إذن تتعلق بتصفية حساب وهي حينئذ ظلم صارخ فيه إساءة له كمربي  وللمربين عموما .

وبسبب غياب أسلوب التأديب بالضرب الخاضع للضوابط الشرعية ، فإن المؤسسات التربوية تعج بالسلوكات المنحرفة وبالفوضى العارمة، الشيء الذي صار له أثر سلبي خطير على التعلم والتحصيل خصوصا وعلى التربية عموما .

والوزارة الوصية على الشأن التربوية مطالبة بمراجعة مذكرة التأديب المعتمدة حاليا والتي أفرغت التأديب التربوي من دلالته ، وجعلت المربين يواجهون متاعب في أداء واجبهم لضبط المتعلمين . ومما زاد في الطين بلة دخول القضاء عندنا على الخط لمعاقبة  المربين على اعتماد أسلوب التأديب بالضرب ، دون معاقبة الآباء والأمهات على ذلك الشيء الذي يعني ازدواجية المعايير .

وإذا كان القضاء قد قضى بحبس وتغريم الأستاذ في هذه النازلة ، فعليه أن يفتح ملف أجيال من المتعلمين سابقا كانوا يتعرضون لأسلوب التأديب بالضرب ، ويكون ذلك على غرار فتح ملف ما سمي بالإنصاف والمصالحة وتعويض  كل من تعرض للضرب من طرف معلمه ماديا ، وفي هذه الحالة سيتقدم كل المغاربة ممن درسوا في الكتاتيب أو المدارس في الماضي  بشكاوى للقضاء ،و لن يعدم أحدهم شهودا على ما تعرض له من ضرب .

ولا شك أن كثيرا من تعرضوا لأسلوب التأديب بالضرب في الكتاتيب والمدارس  في الماضي وأنا واحد منهم سيدعون بالرحمة لمن أدبهم ، ولن يدينوه ، ولن يرضوا بمحاكمته كما يفعل جيل هذا الزمان الذي سيندم أشد الندم على زوال هذا الأسلوب من التأديب والذي كان وراء صناعة مواطنين صالحين وتربيتهم تربية ناجحة يشهد عليها الواقع وما تحقق من نتائج  . وصدق من قال : الرحمة لمن علمني، أو لمن أدبني آباء وأمهات ومربين .

ولا يسعنا في الأخير إلا الثناء على من وفقه الله عز وجل من المربين فابتدع أسلوبا جديدا في معالجة الانحرافات التي تعج بها المؤسسات التربوية حاليا، والتي لم تنفع معها مختلف أساليب العلاج  على كثرتها وتنوعها.   

وسوم: العدد 862