خواطر فؤاد البنا 879

أ.د. فؤاد البنا

إذا لم تجد ماءَ الحرية فتيَمَّم بتراب الكرامة، ولا تغتسل بخمرة العبودية، فإن من يُهن الله فما له من مكرم!

بارك الرحمن جمعتكم.

*****************************************

تعقيد العقيدة:

أطلق القرآن على العلم الذي يدرس قضايا الغيبيات مصطلح (الإيمان)، لكن بعض علماء المسلمين سموه (العقيدة) وسماه آخرون (علم الكلام)، وقد رافق تغيير الاسم تغييرا في المحتوى وطريقة التعامل معه. ففي موضوع الذات الإلهية مثلاً كان تركيز الإيمان على ربط عقل الإنسان وقلبه بالله، لكن العقيدة التي صاغها علماء الكلام نقلت المسلم من (الحديث مع الله) إلى (الحديث عن الله)، بجانب تعقيد القضايا التي كانت سهلة في علم الإيمان، ثم إن قضايا (وحدانية الله) انتقلت من كونها أواصر ل(وحدة الأمة) إلى سبب إضافي  لتفريق شملها، حيث تعددت الرؤى العقدية في موضوعات عديدة، كالقدَر، والصفات، والوعد والوعيد، بل وتم إدخال السلطة في قضايا العقيدة، مما زاد من تفريق الأمة!

*****************************************

التطفيف الشامل:

لقد شاع التطفيف بين كثير من المسلمين بصورة مخيفة، وانتقلت دائرة التطفيف من بخس الناس في الكيل أو الوزن إلى دائرة أعرض تتسع للكثير من المفردات، فالجار يكتال حقوقه بمكتل كبير بينما يضع واجباته نحو جيرانه في مَكتَل صغير، وقد لا يعطيهم شيئاً منها، ولا يفتأ الحاكم يكتل من مواطنيه بمكتل يصل إلى حجم الوطن، فهو ظل الله في الأرض وتجب طاعته طاعة مطلقة ولو جلد الظهور وسلب الأموال، ولو كمّم الأفواه وأمّم الحريات، ولو فرّط بسيادة بلده ووالى أعداء الملة والأمة، وهكذا يفعل المدير مع موظفيه، والشيخ مع مريديه، والأستاذ مع تلاميذه، حيث يستوفون حقوقهم ويُخسرون واجباتهم. وقد لا يستحي أحدهم من ممارسة التطفيف المزدوج، فقد يكون أباً وابناً في ذات الوقت فيطالب أباه بحقوق البنوّة التي لا يعطي بعضها لابنه، ويطالب ابنه بحقوق الأبوة التي قد لا يعطي نصفها لأبيه، بمعنى أن شدة التطفيف قد دفعته لتذكر حقوق الآباء في علاقته مع أبنائه واستحضار حقوق الأبناء في علاقته مع أبيه؛ ليتحلل من المسؤولية ويخرج منها كما تخرج الشعرة من العجين!

*****************************************

تعاني أمتنا من هزائم ثقيلة ومتنوعة في هذا العصر، مما أورث الكثير من أبنائها  العديد من العُقَد والآفات النفسية. وفي السنوات القليلة الماضية تضاعفت مآسي المسلمين بشكل مخيف؛ مما أدى إلى ارتماء بعضهم في مستنقع اليأس والقنوط. وقد أصاب الإحباط بعض العقلاء بعدد من العلل النفسية، ووصل الحال ببعضهم إلى حد الهجرة من الحاضر إلى الماضي، فقد رأينا مجاميع تعيش في الماضي وتتفاعل مع أحداثه كأنه حاضر، لدرجة أني رأيت عقلاء يحتفلون بمناسبة فوز أرطغرل في معركة ما مع أعدائه، ويُغيضون خصومهم بهذا النصر، ورأيتهم يبتهجون بزواج عثمان بن أرطغرل ممن يحب بل ويرسلون له التهنئة والدعاء بالرفاه والبنين، وربما انتظروا مجيء أولاده الذين سيَحلّون مشاكل المسلمين في عصرنا، بعد أن ظلوا عقودا وهم ينادون صلاح الدين الأيوبي للعودة من جديد ولكن  بدون فائدة!

*****************************************

كانت الأنظمة العربية تحكم على السجناء الأحرار بالأشغال الشاقة، أما الآن فها هي تُوسِّع مساحات الفقر وسط شعوبها بطريقة ممنهجة أو عشوائية؛ من أجل أن يمنع الجوعُ الشعوبَ من التفكير بالحرية والتطلع نحو الكرامة، وكما قال مارسيل جوهاندو: (الفقر جريمة والدليل أن عقابه الأشغال الشاقة)، وها نحن نرى أغلب شعوبنا تعاني من ويلات الأشغال الشاقة بسبب الفقر المدقع الذي زاد بعد ثورات الربيع العربي، عقاباً للشعوب التي ضُبطت وهي متلبسة بالتطلع نحو الكرامة والحرية!

*****************************************

تسير هذه الحياة وفق قوانين صارمة، لكنها تُكسر أحياناً من قبل صانعها حتى لا ينساه الناس ويذهبون إلى تربيب السنن وجعل الأسبابَ أنداداً لله، غير أن الجبريين في تعاميهم عن المنهج السنني يركزون على الاستثناءات وينسجون منها فكرا جبرياً يسلب الأسباب فاعليتها وينكر مشيئة الانسان، ومن هؤلاء الشاعر الذي يقول:

يموت راعي الضأن في جهله

              ميتة جالينوس في طبّه!

*****************************************

من النماذج العالية للشعور بالمسؤولية في وسط المسلمين، المفكر والداعية الباكستاني أبو الأعلى المودودي، ومما يروى أنه كان ذات ليلة يلقي كلمة في جمع من الناس فانطفأت الكهرباء وفي ذات اللحظة انطلقت رصاصات غادرة تجاه المَنصّة التي يقف عليها، وحاول مرافقوه أن يجلسوه حتى لا تصيبه الرصاص، ولكنه قاوم محاولاتهم، وقال لهم: "ومن يقف إن جلست أنا؟!". ومن النماذج غير المسلمة ما روي عن الثائر الشيوعي تشي جيفارا من أنه قال: "إن الطريق مظلم وحالك، فإذا لم تحترق أنت وأنا فمن سينير الطريق؟!"... وهكذا يعتقد المضحّون أنه لا يوجد غيرهم مسؤول عن نهضة مجتمعاتهم!