عبد الله بن أُنيس الجُهَني الصحابي الفدائي الداعية

م. محمد عادل فارس

نشأته وإسلامه:

نشأ عبد الله بن أنيس في يثرب، حليفاً لبني سلمة، حتى غدا كأنه أحد أبنائها، وقد أكرمه الله بالسبق في الإسلام، فكان ممن آمن على أيدي من بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، وسرعان ما انضم إلى صفوف الدعاة، فأخذ يدعو الناس وينصحهم. حتى إذا جاء موسم الحج، خرج مع قومه إلى مكة، وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة الثانية على نصرة الله ونصرة رسوله... وما إن عاد إلى يثرب حتى بدأ بالعمل... فخرج مع بعض أصحابه إلى أصنام بني سلمة وحطموها... وعندما رأى بنو سلمة أوثانهم محطمة خافوا أن تنتقم منهم!. لكن الأيام مرَّت بسلام، فأدركوا أن هذه الأوثان لا تضر ولا تنفع، فأخذوا يدخلون في دين الله أفواجاً...

وفي شهر المحرم من السنة الرابعة للهجرة بلغ مسامعَ المسلمين أن خالد بن سفيان زعيم هُذيل يُعِدّ العدّة لغزو المدينة المنورة، ويجمع الجموع في مكان قريب من المدينة يدعى "نخلة"، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه القبائل تجتمع حول خالد بن سفيان، فإذا قُتل خالد تفرق الجمع وانتهى الأمر، وفكر فيمن ينتدبه لهذه المهمة، فاستدعى عبد الله بن أُنَيْس وأجلسه بجانبه وقال له: إنه قد بلغني أن خالد ابن سفيان يجمع لي الناس ليغزوني، وهو بنخلة، فأْتِهِ فاقتُلْه. قال: صِفْه لي يا رسول الله حتى أعرفه!. وأدرك الجندي أمر قائده، لكن كيف الوصول إلى خالد بن سفيان والاقتراب منه لقتله؟! قال عبد الله: يا رسول الله لابد لي في مهمتي هذه أن أقول! [أي أن أخدع الرجل ببعض الكلام حتى أتمكّنَ منه] فأشار له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ما بدا له، فالحرب خدعة.

وانطلق عبد الله لأداء مهمّته، فوَجَدَ خالداً مع بعض نسائه يبحث عن موضع ينصب لهنّ فيه الخيام، فرأى عبد الله الفرصة مواتية، فانطلق نحو خالد وسلّم عليه، فقال خالد: مَن الرجل؟ قال: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل، فجاءك لذلك [أي جئت لأناصرك على الرسول]. قال خالد: أجل، أنا في ذلك، ورحّب به وأمِنَ جانبه، ومشى معه يتحدّث إليه، وظل عبد الله ينتظر الفرصة حتى واتته، فاستلّ سيفه وضرب رأس خالد فأطاحه، ونظرت نساؤه فإذا رأسه يتدحرج على الأرض، فصرخن، واجتمع الرجال والنساء ينظرون ما الخبر، بينما انطلق عبد الله بن أنيس عائداً إلى المدينة، بعد أن قتل رأسَ الفتنة فتفكّك الجمع، وعاد كلٌّ من حيث أتى.

مكافأة لا مثيل لها:

ووصل عبد الله بن أنيس إلى مسجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام لما رآه: أفلحَ الوجه!. فأجابه عبد الله: أفلحَ وجهُك يا رسول الله، لقد قتلتُه. فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخذ بيده وأدخله بيته وأعطاه عصا له، فسأله: لِمَ تعطيني هذه العصا يا رسول الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: "آيةٌ بيني وبينك يوم القيامة". وسُرَّ عبد الله بن أنيس بهذه الهدية الغالية من رسول الله. هي آية جهاده في سبيل الله، وآية الرضا من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن جهاده!.

فقرنها عبد الله بسيفه، فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضُمَّت معه في كفنه.

عملية جريئة:

ومنذ هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، ووضع اللبنة الأولى للدولة الإسلامية... ما لبث اليهود أن كشّروا عن أنيابهم وأخذوا يكيدون للإسلام وأهله، وكان من أشد الناس عدواة لله ورسوله ملك يهود: أبو رافع سلاّم بن أبي الحُقِيق أخو بني النضير، فقد أخذ يحرض على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، ويحثّ الأعراب على غزو المدينة ونهْبها، ويوفد الوفود للقبائل يدعوها للتحالف مع يهود للانقضاض على المسلمين... فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أبا رافع يستحق الموت جزاء ما يفعل، فانتدب جماعة من أصحابه فيهم عبد الله بن أُنيس، وجعل عبد الله بن عَتيك رئيساً لهم لأنه يتقن لغة اليهود...

وانطلقت المجموعة الفدائية إلى هدفها ليلة النصف من جمادى الآخرة سنة ست للهجرة... فكانوا يسيرون ليلاً ويكمنون نهاراً كي لا يُكتَشف أمرهم حتى وصلوا خيبر، فكمنوا حتى جنّ عليهم الليل، واستطاع ابن عتيك أن يدبّر أمر دخولهم إلى حصن اليهود دون أن يشعر بهم أحد، فانتظروا حتى نام مَن في الحصن وهدأت الأصوات... ثم تقدّموا حتى وصلوا غرفة سلاّم بن أبي الحقيق، فانقضّوا عليه في فراشه وتناوشوه بسيوفهم في الظلام، فأصابوه لكنه لم يمت، فما كان من عبد الله بن أنيس إلا أن تقدم بثبات وأنفذ السيف في أحشائه حتى قتله، وأخذت زوجة ابن أبي الحُقيق تصرخ فهُرع مَن في الحصن إليها... وأسرع المجاهدون بالنزول فانزلق ابن عتيك وكُسرت رجله، فحمله عبد الله بن أنيس فخرج به من الحصن.

وافتقد عبد الله بن أنيس قوسه، وظن أنها سقطت منه في الحصن، فعاد ودخل واختلط برجال الحصن وتظاهر أنه يبحث عن القاتل مثلهم... حتى وجد قوسه فأخذها وانسلّ خارجاً بسلام!.

وعاد الفدائيون إلى المدينة، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتسم وقال: أفْلَحَتِ الوجوه! فقالوا: أفلح وجهُك يا رسول الله... وتحلّق الصحابة حولهم يستمعون لما كان منهم، وتنازع الفدائيون فيمن قتل سلاّم بن أبي الحقيق، فكلٌّ يقول: سيفي هو الذي قتله، فطلب رسول الله صلى الله عليه وسلم سيوفهم، فاستعرضها ثم قال: لَسيفُ عبد الله بن أنيس هو الذي قتله! أرى فيه أثر الطعام!.

عاقبة الغدر:

واجتمع اليهود بعد قتل مليكهم، واختاروا لهم ملكاً جديداً هو اليُسير بن رزام، وكان معروفاً بالخديعة والمكر... وسار اليُسير على خطى مَن سَبَقَه يحرض الأعراب والقبائل المجاورة على إعداد العدة لقتال المسلمين ويبذل المال لهم لهذه الغاية، حتى وصلت أخباره إلى المدينة، فشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في أمره فقرروا أن يرسلوا إليه وفداً لإقناعه بالكف عن التآمر على المسلمين، ليجنّب قومه الحرب، فخرج عبد الله بن رواحة على رأس وفد، فيه عبد الله بن أنيس، حتى وصلوا خيبر، فتحدثوا إلى اليُسير بن رزام، وأقنعوه أن يأتي معهم إلى المدينة ليأخذ الأمان لقومه من رسول الله صلى الله عليه وسلم... فاختار اليُسير مجموعة من شباب يهود وخرج معهم بصحبة المسلمين إلى المدينة، وأركب كلُّ واحد من المسلمين أحدَ اليهود معه على راحلته، فكان اليُسير رديف عبد الله بن أنيس... وسار الركب نحو المدينة.

وفي الطريق أخذ اليُسير يفكر في أمره مع المسلمين، فحدّثته نفسه بالغدر، فقرر أن يقتُل عبد الله بن أنيس، فيقوم مرافقوه بقتل من معهم من المسلمين، ثم يعودون إلى خيبر! فهجم بسرعة على سيف عبد الله بن أنيس يريد أن ينتزعه منه، وهو يصيح: يالثارات اليهود! لكن عبد الله بن أنيس كان حذراً فسلّ سيفه وضرب به ساق عدو الله، فما كان من اليُسير إلا أن ضربه بعمود من خشب فشدخ رأسه، وتمالك ابن أنيس على نفسه وكرّ على الغادر فقتله، وبادر بقية اليهود، كلٌّ يريد أن يفتك بصاحبه من المسلمين، فأجهز المسلمون عليهم، ولم ينجُ منهم إلا رجل واحد فرّ عائداً إلى خيبر، وعاد المسلمون إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثونه عن غدر اليهود بهم، وما ذاقوه نتيجة خداعهم!

إنها فراسة النبي صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وتكليف كل منهم بما هو أهل له، وإنها الجندية العالية والحصافة والشجاعة من عبد الله بن أنيس، وإنه التكريم لشأن الجهاد في سبيل الله.

وفاته:

عاش عبد الله بن أنيس بعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وشارك في حروب الردّة، ثم انطلق مع جيوش الفتح، فشارك في فتوح مصر وإفريقيا، ثم عاد إلى الشام حتى أدركه الأجل عام 54هـ. فلما أحسّ بدنوّ أجله دعا أهله وأوصاهم أن يدفنوا معه العصا التي كافأه بها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لتكون آية بينهما يوم القيامة... فما أسعده يومَ يلقى ربّه، ويقدّم عصا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين يدي أعماله، آية على جهاده، لنصرة الله ورسوله.

}من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً{