بطاقة حمراء في وجه الغلو والغلاة ... (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ)

زهير سالم*

قال تعالى:

(وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَىٰ هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَىٰ أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ ۗ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) سورة آل عمران...

وسأجهد ما وفقني ربي للتصدي لمشروع الغلو والغلاة. وكتبت منذ أيام أن الغلاة المنبثين بيننا بفهمهم وفقههم وعقلهم، أخطر على الإسلام والمسلمين من الغلاة الخارجين علينا. وتجد أحدهم على منبر أهل الإسلام، يتكلم فيهم، وباسم دينهم، وما يزال "الحُطمة" يحطم في بناء هذا الدين. وفي عقول أبنائه، وقلوبهم. وما أكثر ما سمعناهم، أو قرأناهم يوظفون قول الله تعالى، وقول رسوله صلى الله عليه وسلم ، في خدمة عقولهم الكليلة، أو بصائرهم المطموسة. وأقسى السلاح بيد عدوك أو مخالفك، السلاح المستعار، أو المغصوب، وحين تجد المرء يقرأ القرآن لا يجاوز حنجرته، يحمل عليك سلاحا يعتد به وقد انتزعه من غير سياقه من كتاب الله، ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم حوله إلى بطاقة حمراء تقطع كما قولُ جهيزة قول كل خطيب...

وكم سمعنا على المنابر أصواتا قد صحلت، وكم رأينا أحداقا قد برزت، وهي تخاطب جموع المسلمين خطاب ضلال وتضليل، بقول الله تعالى في كتابه العزيز (وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ) وكأن القول وصية الله سبحانه وتعالى لعباده المسلمين والمؤمنين. وكأن الآية الكريمة نزلت رصدا لإغلاق أبواب التعارف الذي هو مقصد من مقاصد الاختلاف والاستخلاف، ثم لمصادرة مدخلات كل حوار بناء...

والآية الكريمة كما قرأها في دلالتها جمهور المفسرين، ليست خطابا ولا توجيها للمسلمين.. واعقد على هذا اصبعك واعلمه وتمسك به..

بل هي – الآية- حكاية تنديد وتسخيف لعقول الطائفة المحكي عنها في سياق الآيات، والتي كانت تتواصى بالعقول المحدودة الموتورة السخيفة: ولا تؤمنوا إلا لمن تبعك دينكم – قل إن هدى الله هو الهدى- أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم...!!

والعجيب أنه عندما يحاول بعض الناس أن ينتزع الآية من سياقها أولا، وأن يوظفها في غير مقصدها ثانيا، وأن يشهرها سيفا على كل من يخالفه في رأي أو فكر ثالثا.. ثم يستمر هذا في مريره، والمسلمون يسمعون وينظرون..

وبعد أن يذكر إمام المفسرين الإمام الطبري رحمه الله تفسير الآيات، وأنها حكاية من الله سبحانه وتعالى عن الطائفة المحدودة العقل، من أهل الكتاب. ويشير الإمام الطبري إلى محاولات بعض أصحاب الآراء جعل الآيات وصية للمؤمنين، بطريقة من التفسير شديدة الالتواء والمعاظلة، ويعلق على ذلك بقوله:

"وإنما اخترنا ذلك من الأقوال التي ذكرناها – يقصد كونها حكاية عن طائفة من أهل الكتاب وهو اختياره، مقابل كونها وصية للمؤمنين، وهو اختيار الأقلين - لأنها أي اختياره، والجمهور من المفسرين معه : "أصحها معنى، وأحسنها استقامة على معنى كلام العرب، وأشدها اتساقا على نطق الكلام وسياقه، وما عدا ذلك من القول فانتزاع يبعد عن الصحة، على استكراه شديد للكلام..."

وحسبك بفهم إمام المفسرين فهما، وبقوله علما..

والذي يرد على هذا الفهم المحدود أو المغلوط للآية الكريمة، ويضع الحق في نصابه من تحديد موقف سوي متوازن من الآخرين، يصادر قول المطموسين من الطائفة من أهل الكتاب التي تواصت بذلك المنهج المنحرف: الإيمان وجه النهار، والكفر آخره. ونزع الثقة مطلقا من الآخرين، قال تعالى بعد، مرشدا إلى الموقف القويم: ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك، ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون..75 آل عمران..

الآية التي تؤسس للعلاقة الإنسانية القويمة بين المختلفين، والقائمة على حقيقة أخرى أن أتباع الملل والنحل: ليسوا سواء في الصدق والأمانة وحب الخير ورفض السوء والشر.

والهدف من هذا المقال أننا كلما سمعنا أحد الذين يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، يشهرون هذه الآية رصدا، لكل محاولات التعارف والتفاهم بين الناس، أن يُصادر قوله، ويرد عليه فقهه، ويوقف عند حده، وينزع منه تذرعه بكتاب الله، وبحديث رسول الله صلى الله وسلم عليه.

ولكن...وليس أقل أهمية ما بعد ولكن...

ولكن هل من معاني وضع هذه الآية الكريمة من كتاب الله في نصابها العلمي الدقيق، أننا ننام هانئين في أحضان الآخرين، ونستسلم لأغاني قبل النوم يترنمون بها فوق رؤوسنا، وأننا نلقي القياد، ونسلم المفاتيح، ونسترخي إذا خاطبنا وزير أو سفير؟؟

إن حجم الخطيئة في الأول هي نفسها في الثاني, والإسلام أراد المسلم دائما ذكي الفؤاد، حاضر العقل، بالحق يأخذـ وبالحق يدع. والحكمة دائما رائده وقوله تعالى ) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ) دائما مصباحه ودليله..

)وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) وبالحق نأخذ وبالحق ندع. وهكذا ندور مع الحق حيث دار...

و انزعوا عن أهل الغلو مخالبهم وأنيابهم...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية