الشيخ الدكتور مصطفى حسني السباعي: شاعراً

عمر العبسو

fvdsfvbsdgfg1022.jpg

(1915- 1964م)

   مفكر إسلامي وسياسي سوري، ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين في سوريا. شارك في مقاومة الاحتلال الفرنسي، وقاد الكتيبة السورية في حرب فلسطين عام 1948. أصدر عدداً من المجلات، وألف كتبا، وكان له حضور واضح في الحياة البرلمانية في سوريا.

المولد، والنشأة:

ولد مصطفى حسني السباعي عام 1915، في مدينة حمص بسوريا، ونشأ في أسرة علمية عريقة معروفة بالعلم والعلماء منذ مئات السنين، وكان والده وأجداده يتولون الخطابة في الجامع الكبير بحمص جيلا بعد جيل، وقد تأثر بأبيه الشيخ حسني السباعي الذي كانت له مواقف معروفة ضد المستعمر الفرنسي.

الدراسة، والتكوين:

سافر إلى مصر عام 1933 للدراسة الجامعية في الأزهر، وهناك شارك عام 1941 في المظاهرات ضد الاحتلال البريطاني، كما أيد ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز، فاعتقلته السلطات المصرية بأمر من الإنجليز مع مجموعة من زملائه الطلبة قرابة ثلاثة أشهر، ثم نقل إلى معتقل (صرفند) بفلسطين حيث بقي أربعة أشهر، ثم أطلق سراحه بكفالة.

الوظائف، والمسؤوليات:

   انتخب مصطفى السباعي نائبا عن دمشق في الجمعية التأسيسية عام 1949، ثم انتخب نائبا لرئيس المجلس، فعضوا في لجنة الدستور المكونة من تسعة أعضاء. وفي عام 1950 عُيِّن أستاذا في كلية الحقوق بالجامعة السورية.

   أنشأ عام 1947 جريدة "المنار" حتى عطلها الرئيس حسني الزعيم بعد الانقلاب العسكري عام 1949، وفي عام 1955 أسس مع آخرين مجلة "الشهاب" الأسبوعية التي استمر صدورها إلى قيام الوحدة مع مصر عام 1958.

في عام 1955 نفسه حصل على ترخيص إصدار مجلة "المسلمون" الشهرية بعد توقفها في مصر، وظلت تصدر في دمشق إلى عام 1958، حين انتقلت إلى صاحبها سعيد رمضان في جنيف بسويسرا، فأصدر السباعي بدلا منها مجلة "حضارة الإسلام" الشهرية، وظل السباعي قائما على هذه المجلة حتى توفي، ثم تولى إصدارها محمد أديب الصالح في دمشق.

المسار:

شارك السباعي في مقاومة الاحتلال الفرنسي لسوريا وهو في السادسة عشرة من عمره، واعتقل أول مرة عام 1931 بتهمة توزيع منشورات في حمص ضد السياسة الفرنسية، ثم اعتقل مرة ثانية بسبب الخطب التي كان يلقيها ضد السياسة الفرنسية والاحتلال الفرنسي. وقد شارك في حرب فلسطين عام 1948، وقاد الكتيبة السورية.

   تعرَّف السباعي أثناء دراسته في مصر على مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، وظلت الصلة قائمة بينهما بعد عودته إلى سوريا، حيث اجتمع العلماء والدعاة ورجال الجمعيات الإسلامية في المحافظات السورية وقرروا توحيد صفوفهم والعمل جماعة واحدة، وبهذا تأسست منهم "جماعة الإخوان المسلمين" في سوريا. وقد حضر هذا الاجتماع من مصر سعيد رمضان، وكان ذلك عام 1942، ثم بعد ثلاث سنوات في عام 1945 اختير مصطفى السباعي ليكون أول مراقب عام للإخوان المسلمين في سوريا.

   وفي عام 1952 طلب السباعي من الحكومة السورية السماح لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا بالمشاركة في حرب السويس إلى جانب المصريين، فقامت حكومة أديب الشيشكلي بحل الجماعة واعتقال السباعي وإخوانه، ثم أصدر أمرا بفصل السباعي من الجامعة السورية وإبعاده خارج سوريا إلى لبنان.

   وبعد اعتقال حسن الهضيبي خلال مواجهة الإخوان المسلمين في مصر مع عبد الناصر أسس الإخوان المسلمون في البلاد العربية مكتبا تنفيذيا تولى الدكتور مصطفى السباعي رئاسته.

المؤلفات:

   كتب مصطفى السباعي مؤلفات كثيرة بعضها في علوم الشريعة الإسلامية التي اشتهر منها كتابه "السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي"، كما كتب مجموعة من الكتب التنظيمية والحركية الخاصة بفكر الإخوان المسلمين. ومما اشتهر من مؤلفاته كتاب "هكذا علمتني الحياة" الذي كتبه وهو طريح الفراش أيام مرضه.

الوفاة:

أصيب مصطفى السباعي في آخر عمره بالشلل النصفي، فشلَّ طرفه الأيسر وظل صابرا محتسبا ثماني سنوات حتى توفي يوم السبت 3 أكتوبر/تشرين الأول 1964، وصُلي عليه في الجامع الأموي في دمشق.

ظاهرة الفقهاء الشعراء: الشيخ الدكتور مصطفى السباعي نموذجاً:

ظاهرة قديمة:

ظهر الفقه والفقهاء منذ عهد رسول الله، فقد كان أبو بكر فقيهاً وكان عمر فقيهاً وكان عثمان فقيهاً، وكان علي فقيها، وكان لكل واحد منهم شعر، وكان أشعرهم علي بن أبي طالب.

وبلغ من شهرة علي بالشعر أن جمع شعره في ديوان، وطبع عشرات المرات، وشرح من قبل عدد من علماء الشعر .

والذي يستعرض شعر الإمام علي يجده معبراً عن تجاربه المتنوعة في حياة حافلة، كما يجد فيه أثر الفقه الذي تميز به ومارسه وزيراً للخلفاء وأميراً للمؤمنين .

ظاهرة ممتدة:

واستمرت هذه الظاهرة بعد الفقهاء الأربعة الراشدين رضوان الله عليهم، بل إن هذه الظاهرة تنامت وأشرقت، فظهر من بين الفقهاء شعراء عظام زاحموا الشعراء الذين قصروا عبقرياتهم على الشعر، فلم يعرفوا إلا به :

من هؤلاء الفقهاء عروة بن أذينة، فقد حلق بالشعر حتى عرف به ونسي الناس أنه عالم فقيه، بل إن له شعراً في الغزل تفوق به على كبار الشعراء في هذا الباب منه قوله :

إن التي زعمت فؤادكَ ملّها     خُلِقَتْ هواك كما خُلِقْتَ هوى لها

بيضاء باكرها النعيم فصاغها             بلباقة فأدقها وأجلّها

حجبت تحيتها فقلت لصاحبي         ما كان أكثرها لنا وأقلها

وهو بالإضافة إلى ذلك صاحب البيتين السائرين في التوكل على الله، وهما نابعان من "شعور" عالم فقيه:

لقد علمتُ وما الإسرافُ من خُلُقي   أنَّ الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى له فيعنِّيني تَطَلُّبُهُ                     وإنْ قعدتُ أتاني لا يُعَنِّيني

وكان الإمام مالك بن أنس شاعراً، وهو وإن لم يكن مكثراً إلا أنه قال الشعر وروي عنه، ومما قاله في مدح القناعة والتحذير من الجشع والطمع :

هي القناعة لا أرضى بها بدلاً         فيها النعيم وفيها راحة البدن

وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها   هل فاز منها بغير اللحد والكفن؟

   وكان الإمام محمد بن إدريس الشافعي شاعراً مجيداً، وله أشعار رائقة جمعت في ديوان لا زال متداولاً، ومن أبياته السائرة:

ولولا الشعر بالعلماء يزري   لكنت اليوم أشعر من لبيد

   ونحن وإن كنا لا نوافقه على موقفه هذا إلا أننا نحب أن ننبه على أثر الفقه في هذا البيت، فهو عندما أراد أن يقدم شاعراً مشهوراً ممن مضى من الشعراء قبله ، اختار الصحابي لبيد بن ربيعة ولم يختر غيره من أصحاب المعلقات كامرئ القيس وزهير والنابغة وهم باتفاق العلماء أشعر من لبيد ، ولكن الشافعي الفقيه قدم الصحابي على غيره .

ومن الفقهاء الشعراء الذين روي عنهم شعر رائق، وذاع هذا الشعر وتناقله الأدباء من بعده الفقيه الكبير عبد الله بن المبارك، فقد كان هذا العالم الفقيه مجاهداً لا يترك الثغور، وكان شعره ينم عن شخصيته وعن مذهبه وعن فقهه، وله الأبيات السائرة:

وهل أفسد الدين إلا الملوك     وأحبار سوء ورهبانها

وباعوا النفوس فلم يربحوا     ولم تغل في البيع أثمانها

لقد وقع القوم في جيفةٍ           يبين لذي اللب إنتانها

   وله الأبيات الشهيرة التي وجهها من ساحات الجهاد إلى الفقيه الفضيل بن عياض الذي لازم الحرمين متعبداً، يقول له فيها:

يا عابدَ الحرمين لو أبصرتنا         لعلمتَ أنّكَ في العبادة تلعَبُ

من كانَ يخضبُ خدّهُ بدموعهِ        فنحورنا بدمائنا تتخضَّبُ

أو كانَ يُتعبُ خيلهُ في باطالٍ     فخيولُنا يومَ الصبيحَةِ تتعبُ

ريحُ العبيرِ لكم ونحنُ عبيرُنا   رهجُ السنابِكِ والغبارُ الأطيبُ

ولعبد الله بن المبارك ديوان شعر جمعه وحققه الدكتور مجاهد مصطفى بهجت .

   ومن الفقهاء الشعراء: محمد بن داود الظاهري وأبي محمد علي بن حزم القرطبي ، فقد ألف كلاهما كتاباً في العلاقات العاطفية ، ألف الظاهري كتاب "الزهرة" وألف ابن حزم كتاب "طوق الحمامة" .. ولم يعبهما أحد لعملهما هذا، ولم يقل أحد إن هذا التأليف يقدح في دينهما أو يزري بشخصيتهما !

   وإذا أردنا أن نستقصي من قال الشعر من الفقهاء وأبدع فإننا سوف نخرج عن المقصود من هذا المقال، ولكنني أحب أن أورد أبياتاً مشهورة لفقيهين كبيرين أجعلهما مسك الختام لهذه العجالة في شعر الفقهاء القدماء، أحدهما أبو بكر بن عبد الرحمن الزهري وهو من رجال الرواية والحديث وله البيتان التاليان:

ولما نزلنا منزلاً طَلُّهُ الندى         أنيقاً ، وبستاناً من النَّوْر حاليا

أجدّ لنا طيبُ المكان وحُسْنُهُ           مُنىً ، فتمنينا فكنتِ الأمانيا

   وهما بيتان فيهما من الموسيقى الداخلية الرائعة ما يرفعهما إلى أسمى درجات الإبداع الفني ولعل محبي الشعر ومتذوقيه لا يجهلون أبيات أبي بكر الشبلي، وهو من أكابر الصوفية، فقد أَتْهَمَتْ أبياته وأَنْجَدَتْ وسارت بها الركبان، لروعتها ورقتها وجلال موسيقاها:

ظربّ ورقاء هتوفٍ في الضحى         ذات شَجْوٍ صدحت في فنن

ذكرت إلفاً وعيشاً سالفاً                   فبكت حزناً فهاجت حَزَني

فبكائي ربما أرقها                                 وبكاها ربما أرقني

ولقد تشكو فلا أفهمها                           ولقد أشكو فلا تفهمني

غير أني بالجوى أعرفها                 وهي أيضاً بالجوى تعرفني

لقد أوردت هذه الرقائق من شعر الفقهاء حتى أبين لأولئك الذين يظنون في الفقهاء الجمود وجفاف العواطف أن هذا الظن باطل وليس له من الحقيقة ظل .

إلا أن الفقهاء الشعراء طرقوا في شعرهم أغراضاً متننوعة لا تختلف في جوهرها عن الأغراض التي طرقها غيرهم من الشعراء ، من هذه الأغراض الشعر الفلسفي ومن منا لا يذكر قصيدة ابن سينا في النفس :

هبطت إليك من المحل الأرفع             ورقاء ذات تعزز وتمنع

محجوبةٌ عن كلِّ مقلةِ عارفٍ       وهي التي سفرت ولم تتبرقعِ

ولهم شعر في الأخلاق والآداب والمدح والرثاء والبر والملاحم وحتى الهجاء، أما براعتهم في الشعر التعليمي فحدث عن ذلك ولا حرج .

ظاهرة معاصرة:

وإذا انتقلنا إلى الفقهاء المعاصرين فإننا نجد الظاهرة مستمرة، فهذا الفقيه الشيخ يوسف القرضاوي يعرف في مطلع حياته العلمية بالقرضاوي الشاعر ويؤلف مسرحية شعرية بعنوان "يوسف الصديق" ثم يصدر ديوانين يعتبران في طليعة دواوين الشعر الإسلامي المعاصر، وهما "نفحات ولفحات" و "المسلمون قادمون".

والقرضاوي من رجال الدعوة الإسلامية المعاصرين لهذا كان شعره مستغرقاً هموم الدعوة وأدبياتها، وهو مصدر خصب لما مرّ به الدعاة المعاصرون من محن وابتلاءات ولما مرّت به الأمة من مصائب ونكبات ، وهو في الوقت نفسه دعوة إلى النهوض ودعوة إلى الثقة بالنصر الموعود ...

وهذا مثال مزج فيه د. القرضاوي بين السخرية والجد وهو يصور إحدى المحن التي يمر بها الدعاة وهي الحرب الإعلامية التي تشن عليهم بلا هوادة ملصقة بهم شتى الصفات والنعوت التي تنفر منهم الناس وتصدهم عن دعوتهم؛ وهذه الأبيات من أرجوزة له بعنوان "الأصوليون":

أبلغ رجال الأمن حتى يزحفوا         فها هنا جماعة تطرفوا

من الأصوليين أعداء الوطن     أخطر من جميع عباد الوثن

قد تأمن الهندوس واليهودا             وقد تقيم معهم العهودا

إلا أولاءِ ! فأذاهم يحذر           فهم علينا من يهود أخطرُ !

   ومن الفقهاء المعاصرين الذين ملؤوا الدنيا وشغلوا الناس بعلمهم وفقههم وبراعتهم في مخاطبة الجماهير بكل مستوياتهم والمثقفين بشتى اختصاصاتهم والمستمعين بكل توجهاتهم، بأسلوب سهل ممتنع، يقبل عليه الناس بأفئدتهم قبل أسماعهم، العالم المفسر محمد متولي الشعراوي .

هذا الفقيه الكبير عرفه الناس بعلمه وفقهه ولم يعرفوه بشعره، وإن كان في نفسه شاعراً، له شعر رائق يقوله في المناسبات التي تقتضيه فتبعثه ... والشعراوي على فقهه وعلمه ذو روح مرحة، يعرف هذه الروح فيه من اقتربوا منه ، ولعل أبياته في تحية أهل "دبي" إحدى الإمارات العربية المتحدة وذلك عندما كرموه، فمنحوه جائزة الدعوة إلى الإسلام تمثل هذه الروح:

شكراً دبيُّ بغير حدّ   ولحاكم ولنائب وولي عهد

ولكل أهلِ إدارة           في خدمة، ولكل فرد

أنا إن عجزت عن الردو د فعند ربي خير رد

الله يرعاكم جميعاً         بالسلام وكل سعد

ويديم صفو ودادنا         بمحبة ووفاء عهد

ويزيل وحشة فرقتي     فيسرنا بكريم عَوْد

فدبي لؤلؤة الخليج       وريحها كأريج ورد

ودبي أمنية الغريب يعيش فيها "الويك إند" !

   فأنت ترى روح المرح السائدة في القصيدة، ويصل المرح ذروته في ختام القصيدة عندما يلمعها بالكلمة الانجليزية الشائعة "الويك إند" بمعنى عطلة نهاية الأسبوع !

ومن الفقهاء الشعراء المعاصرين الشيخ محمد المجذوب، فله ديوانان "نار ونور" و "همسات قلب" وهما سجل حافل لأحداث الدعوة الإسلامية المعاصرة، والشاعر بارع في عرض القضايا الإسلامية والدفاع عنها، وهو من أكثر الشعراء الفقهاء المعاصرين التصاقاً بالفقه في شعرهم، فطابع الفقه ظاهر في قصائده وأشعاره، وسمة الإخلاص ظاهرة في كل بيت من أبياته .. وله في رثاء الشيخ الفقيه ناصر الدين الألباني قصيدة رائعة يقول في أحد مقاطعها:

فما عسى أن يقول الشعر في رجل   يدعوه حتى عداه " ناصر الدين "

وأيُّ ضيرٍ إذا فردٌ تجاهله                وقد فشا فضلهُ بينَ الملايينِ

   ومن الفقهاء المعاصرين الذين عرفوا بالشعر الشيخ أحمد حسن الباقوري، فقد كان شاعراً معروفاً ومسموعاً، نشر قصائده في جرائد مصر التي عاصرها، فأقبل عليها الناس لما فيها من روح الدعوة وروح الجهاد ما كان الناس يتلهفون عليه ويطربون لسماعه .

والباقوري صاحب النشيد المشهور الذي ردده شباب الدعوة لفترة طويله، ولازال هذا النشيد من أروع ما قاله شعراء الدعوة من أناشيد، يقول فيه :

يا رسول الله هل يرضيك أنا       إخوة في الله للإسلام قمنا

ننفض اليوم غبار النوم عنا       لا نهاب الموت .. بل نتمنى

أن يرانا الله في ساح الفداء

إلى آخر أبيات هذا النشيد المتميز ..

   ومن الشعراء الفقهاء الشيخ عبد الله كنون، فقيه المغرب، صاحب المؤلفات العديدة، وله شعرٌ منشورٌ في الصحف والمجلات، وقد جمع بعضه في دواوين منها "إيقاعات الهموم" و "لوحات شعرية"، ويغلب على شعره الوطنيات والجهاديات، فقد عاش عصر الاستعمار الفرنسي للمغرب، وشاهد فظائعه وجرائمه، ومن جرائمه التي تركت أثراً غائراً في المجتمع المغربي عمله الدائب على التفريق بين عنصري الأمة في المغرب، العرب والبربر، وعندما أصدر الفرنسيون الظهير البربري "القانون البربري" قال الشاعر الفقيه عبد الله كنون قصيدة جاء فيها:

ضاعت جهودُ الفاتحينا   وجدودُنا المستشهدينا

ضاعت مآثرهم وقد         كانت لنا فخراً مبينا

نقض العدا بنيانهم         من بعد ما راموه حينا

طمسوا معالمه التي           كنا بها مسترشدينا

إلى آخر هذه القصيدة الآسية التي يتحسر فيها الشاعر على أمجاد المسلمين في المغرب...

للفقهاء شعر رائق، وهو يمثل فيما يمثل شخصياتهم وبيئاتهم والتاريخ الذي عاشوه، فقد كان شعر الفقهاء الأوائل الذين عاشوا عهد الجهاد المتواصل شعراً جاداً يمثل ما هم فيه من جهاد ومدافعة وحرص على نشر الدعوة ، ثم جاء الذين من بعدهم فعاشوا عهود النصر والاستقرار وقطف ثمار الجهاد وهي حياة رغدة وفكراً منطلقاً ، فقرأنا من أشعارهم ما يدل على حالهم وزمانهم، ثم دار الزمان دورته فعاد الإسلام كما بدأ ، واحتاج إلى الجهاد والنضال والمدافعة ، فعاد شعر الفقهاء عوداً على بدء ينم عن عهد جديد قديم في شعر يغلب عليه الجدّ ويغلب عليه طابع الدعوة والجهاد .

وقد مثلنا لذلك بشعر عدد من الفقهاء المعاصرين، وهم أمثلة محدودة لشعراء فقهاء عديدين امتلأت بهم ساحة الجهاد والشعر والفقه بامتزاج فريد، هذا الامتزاج الفريد نعرضه في أنموذج حيّ لفقيه شاعر عرفته ساحات الفقه والجهاد والشعر مجلياً في ميادينها الثلاثة ؛ إنه العالم الفقيه الشيخ الدكتور مصطفى السباعي.

إن السنوات التي عاشها السباعي حافلة، قلّ أن تجد مثلها في حياة الآخرين، ونحن إذا تتبعنا حياة العلماء والفقهاء المشهورين وجدنا عطاءهم المميز يبدأ بعد عام الخمسين وحتى بعد الستين، أما السباعي فقد كان عطاؤه المميز في كل الميادين قبل أن يتم الخمسين ..

لقد كان السباعي عالماً فقيهاً سياسياً داعية مجاهداً مؤلفاً ... وهذه صفات قل أن جمعها رجل واحد .. وهو بهذا أحد أعمدة الصحوة الإسلامية المعاصرة ..

وكتب الداعية عبد الله الطنطاوي مقالة تحت عنوان (مصطفى السباعي شاعراً)، جاء فيها:

عرف الناس الدكتور مصطفى السباعي -تغمّده الله بفيض رحمته ورضوانه- خطيباً مفوَّهاً لا يُجارى، وعرفوه سياسيّاً محنّكاً لا يُبارى، وعرفوه كاتباً باحثاً عميقاً قويّ الحجّة، وعرفوه داعية قلَّ في الدُّعاة نظراؤه، وعرفوه فارساً لا يُشقُّ له غبار، وعرفوه سيفاً من سيوف الإسلام شهره الله في وجـوه

الخونة والطغاة والمستعمرين، وقطع به ألسنة الفجّار والفاسدين والملحدين والمارقين، وعرفوه حكيماً، وعرفوه أديباً، ولكنهم لم يعرفوه شاعراً إلا في أواخر عمره القصير الحافل بجلائل الأعمال. وقد روى الأستاذ الكبير محمد المجذوب في كتابه القيّم: (علماء ومفكرون عرفتهم) أنّ السباعي أسمعه قصيدة طويلة، فيها من التوفيق الشيء الكثير، وكان ذلك عقيب مغادرته سجن الشيشكلي، الحاكم العسكري لسورية عام 1952 ويقول الأستاذ المجذوب عن شعر السباعي: "فله في هذا النصّ جولات موفّقات، وبخاصة في الجانبين: الديني والسياسي(1)". ولكن.. أين هذا الشعر؟ وهل ضاع في جملة ما ضاع من كتبه وأبحاثه وخطبه وحكمه وأوراقه؟ يا حسرة على ما ضاع، ويا ويح المفرّطين بآثار هذا الرجل الجليل الذي ترك مكانه شاغراً لمئات السنين، والله أعلم.

ونحن -تلاميذه- ما كنّا نعرف أنه شاعر، وما أسمعنا يوماً شيئاً من شعره، فقد كانت مشاغل الدعوة، ومشكلات السياسة، والتنظيم، تأكل وقته وأعصابه، وكانت ميادين الجهاد تستأثر بجهوده، فما كان يُرى إلا على الصهوات فارساً مُعْلماً، وسيفاً بتّاراً، وما أظنّه من مذهب الشافعي -رحمه الله- القائل:

فلولا الشعر بالعلماء يزري   لكنتُ اليوم أشعر من لبيد

لأنه -رحمه الله- كان يشجّعنا -نحن الصغار- ويدفعنا دفعاً إلى ميادين الشعر والقصة وسائر ألوان الأدب.. كيف لا وهو صاحب الكلمة الشفّافة، والحلم الوضيء، والقلب الكبير، والعقل الحصيف، والنفس الشاعرة، والروح الثائرة، والذوق الرفيع؟

   ما عرفناه شاعراً إلا في مرضه الذي طال عليه وعلينا، وصبر وصبرنا.. كان ينشر بعض قصائده في مجلته الرائعة: (حضارة الإسلام) وكنا نتلقّف ما ينشر، ونحفظه عن ظهر قلب، والدموع ملء مآقينا، وابتهالاتنا الحرَّى تتضرّع إلى الله العليّ القدير، الجواد الكريم، أن يمنّ بالشفاء العاجل على أستاذنا وقائدنا وقدوتنا أبي حسّان، وأن يأخذ من أعمارنا إلى عمره، ويمدّ في أجله، ولكن.. لكل أجل كتاب.

   لقد كان السباعي عالماً فقيهاً سياسياً داعية مجاهداً مؤلفاً، وهذه صفات قل أن جمعها رجل واحد .. وهو بهذا أحد أعمدة الصحوة الإسلامية المعاصرة ..

والسباعي الذي جمع كل هذه الصفات كان شاعراً، انطلقت شاعريته من حسّ مرهف وعاطفة عميقة ونظرات صائبة وإخلاص شديد ..

وهو بهذا المقام في عالم الفقه والدعوة والجهاد أحد أبرز الفقهاء الشعراء المعاصرين .

   وعندما قرأنا رائعته: (طريقي) تذكّرنا أبياتاً لجواد العرب: حاتم الطائي الذي كان يحبّ مكارم الأخلاق، ومنها:

وعـاذلةٍ هبّـتْ عليّ تلومني         كـأني إذا أعـطيت مالي أضيمها

أعاذلُ إنّ الجود ليس بمُهْلكي         ولا مُخْلد النفس الشّحيحة لُومُها

ولكنّ حاتماً كان يبذل ماله، أمّا السباعي فكان يبذل نفسه، فهو أبو النجدات والمروءات.. إنه على قدم الرسول القائد، عليه صلوات الله.. ويا ليتنا ننصت إليه وهو يرسم للدعاة العاملين طريقه ليترسَّموه، فهو طريقهم، يختط الإنسان طريقه في الحياة إما إلى فلاح وإما إلى ضلال، وتبعات الفلاح باهظة وطريقه وعرة ومسالكه شائكة محفوفة بالمكاره .

وقد اختار السباعي طريق الفلاح، وأعلنها في شعره عندما قال:

دعيني وشأني، ليس عذري بشافعٍ       لديـك ، ولا حالي يعنُّ ببالكِ

وهـل يلـتقي طيران: هذا محلّقٌ         تـروم جناحاه سمـاءَ ملائكِ

وذاك مـسفٌّ حائمٌ فـوق جيفة         على الأرض تدنيه لوطء سنابكِ

وكـم بين من يمشي بصيراً بدربه     تضيء له الأقدار وَعْرَ المسالكِ

وبـين عـمٍ لا يـهتدي لطريقه           يحـاط بحجب مظلماتٍ حوالكِ

وهو عندما يقارن بين دنياه المجاهدة المكابدة ودنيا الآخرين يجد لذته وسعادته في الجهاد والكفاح والدعوة والنضال:

دعـيني فـفي دنياي هـمٌّ ومحنة       وقـطعُ طريق في المفاوز شائكِ

وحـلٌّ وتـرحالٌ وحربٌ وهدنة           وتـعليمُ أستاذ وعـزلةُ ناسكِ

ودنياكِ، مـا دنياكِ؟ وهمٌ وخدعة       وسـعيٌ حثيثٌ نحو شتّى المهالكِ

ويبين حقيقة الدنيا التي تعجبه، وهي دنيا الخير، وأما حطام الفانية، فهو زائل، فيقول:

وفي يسرها ضنك وفي عزها ضنى   تثير لأدنى الشيء أقسى المعارك

إذا كنت عن دنياك ترضين إنني         سعيد بدنيا الخير لست بفارك

فإن تسخري مني فلست بساخر      وإن تضحكي مني فلست بضاحك

وبقسم الناس إلى صنفين صيد وصعاليك إلى أن يقول:

همُ الناس بين اثنين: صِيْدٍ تشوقُهم       معاركُ في ساح الهدى، وصعالكِ

دعيني أعيش العمر في غربة الهوى     فـفي الحقّ محرابي ، وفيه مناسكي

وفي النُّصح لذّاتي، وفي الخير ثروتي     وفي العلم مـحراثي، وفيه سبائكي)[1].

هذا هو منهج الدعاة الذي اختاره السباعي وسار فيه ولقي الله عليه .

وهو من الشعراء الذين رثوا أنفسهم قبل أن يرحلوا، ورثاء النفس في الشعر العربي باب من أمتع أبواب الشعر وأصدقها عاطفة وأعمقها تأثيراً ..

والقصيدة التي رثى السباعي بها نفسه مليئة بالعاطفة، مشحونه بالوفاء، عابقة بالإيمان.

ومن كان هذا طريقه، لابدّ أن يتعب ويُتعب، فما كان السباعي لينام، وما كان ينيم.. كان يصل ليله بنهاره، ونهاره بليله، حتى وهو يعاني أشدّ الآلام، بعد أن برّح به المرض، وخاض معه غمار صراع مرير، وسلاحه صبره وإيمانه، وشموخٌ سباعيٌّ وكرامة سباعيّة، يقول في قصيدته (وداع راحل) يقول واصفاً دهره وناسه :

أهاجك الوجدُ أم شاقتك آثار     كانت مغاني نعم الأهل والدار

وما لعينيك تبكي حرقة وأسى   وما لقلبك قد ضجت به النار ؟

على الأحبة تبكي أم على طلل           لم يبق فيه أحباء وسمار

وهل من الدهر تشكو سوء عشرته   لم يوف عهداً ولم يهدأ له ثار ؟

فهو يتساءل مستنكراً أن يكون بكاءه على الأطلال أو بسبب فقد المحبوبة وكذلك هو لا يبكي من غدر الزمان..

هيهات، يا صاحبي، آسى على زمنٍ     سـاد العبيدُ به ، واقتيدَ أحرارُ

أو أذرف الدمع في حِبّ يفاركـني       أو في اللذائذ ، والآمـالُ تنهارُ

فـما سبتنيَ قـبل اليـوم غانيـة             ولا دعاني إلى الفحشـاء فُجّار

   وكيف يبكي على زمن ساد فيه العبيد وأذل فيه الأحرار، وانقلبت فيه الموازين، وليس بكاءه على اللذات التي سوف يفتقدها، ثم يبين السبب الذي يجعله لا يبكي على كل هذا وذاك، ثم يتحدث عن موقفه هو من مغريات الدنيا، وكيف اختار طريق الله دون طرائق الشيطان:

أمَـتُّ في الله نـفساً لا تـطاوعني     في المكرمات، لها في الشرّ إصرار

وبـعتُ في الله دنيا لا يـسود بها         حـقٌّ، ولا قادها في الحكم أبرار

ويشعر الراحل بدنو ألأجل ويتذكر الصبية الصغار ولكنه يتركهم في رعاية الله وحفظه، فيقول مصوراً حدبه عليهم وأسفه على فراقهم ،ثم يوكل رعايتهم إلى الله خالقهم:

وإنما حزني في صبية درجوا     غفل عن الشر لم توقد لهم نارُ

قد كنت أرجو زماناً أن أقودهم         للمكرمات فلا توقد لهم نار

والآن قد سارعت دربي إلى كفن         يوماً سليبسه برّ وجبّارُ

بالله ياصبيتي لا تهلكوا جزعاً     على أبيكم طريق الموت أقدارُ

تركتكم في حمى الرحمن يكلؤكم   من يهده الله لا توبقه أوزارُ

ويوصي الجيران الكرام بهؤلاء الصبية، ويثني على أمه، وزوجته السيدة الفاضلة (سميرة الطباع) التي كانت من كرام الأسر الدمشقية، فيقول:

وأنتم يا أهيل الحي صبيتكم       أمانة عندكم هل يهملُ الجارُ ؟

أفدي بنفسي أمّاً لا يفارقها     هَمٌّ وتنهار حزناً حين أنهار

فكيف تسكن بعد اليوم من شجنِ   يالوعة الثكل مافي الدار ديّارُ

وزوجة منحنتني كل ما ملكت   من صادق الودّ، تحنان وإيثارُ

عشنا زماناً هنيئاً من تواصلنا         فكم يؤرق بعد العزّ إدبارُ

ثم يذكر أصحابه في لفتة وفاء وهو جدير بها لأنه رجل الوفاء والبر..

ويختم قصيدته الوداعية هذه، بهذه الأبيات التي تخبر عمّا يعتمل في نفسه الكبيرة تجاه إخوانه في الله، الذين طالما سهر على تربيتهم ليكونوا رجالاً يتابعون الطريق الذي اختطه لهم الرسول القائد، وسار عليه، من قبلُ ومن بعدُ، الهداة المهديّون:

أستودع الله صحباً كنتُ أذخرهم             للـنائبات، لنـا أنسٌ وأسمار

وإخوة جعلوني بعد فقد أبي               أباً، لآمالهم روض وأزهارُ

الملتقى في جنـان الخلد إن قُبلتْ         مـنا صلاةٌ وطاعات وأذكار)[2].

   وإذا أردنا أن نقارن هذه القصيدة العظيمة بقصيدة مالك بن الريب الشهيرة في رثاء نفسه تفوقت قصيدة السباعي لما فيها من الوفاء الذي لا يحد، والإيمان الذي سكن القلب فاطمأن به، والموسيقى الحانية التي شاعت في أبياته كلها .

   لم يكن السباعي شاعراً محترفاً متفرّغاً للشعر، ملاحقاً للشعراء الفحول، أو الشعراء المتمرسين، ومتابعاً لمذاهبه لدى الشعراء العرب، أو شعراء الغرب، وما ينبغي له أن يكون كذلك، وهو الذي وهب دعوته وأمّته حياته، يجالد هنا، ويقاتل هناك، ويخوض الملاحم في كلّ ميدان يرى فيه ثغرة لا يسدّها سواه، ولهذا لا نرى في شعره الأغراض التقليدية التي نراها لدى الشعراء الآخرين، فلم يمدح من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يقف بغير بابه، يشكو ما ألمّ به من أسقام أقضّت مضجعه، وأطارت النوم من عينيه:

يا سيّـدي، يا حبيب الله جـئت إلى       أعتاب بابك، أشكو البَرْح من سقمي

يا سيّدي قد تمادى السُّقم في جسدي       مـن شدّة السُّقم لم أغفـل ولم أنم

الأهـل حـولي غـرقى في رقاد همو       أنـا الـوحيد جفـاه النوم من ألم

   نظم الأستاذ السباعي هذه (المناجاة) بين يدي الحبيب الأعظم، صلى الله عليه وسلم، قرب المنبر النبويّ الشريف، وتلاها أمام الحجرة النبوية مرتين، قبل الحج وبعده، عام 1384هـ وهي قصيدة طويلة، فيها آلام وآمال وتباريح ممّا آل إليه حاله، وهو الذي كان ملء السمع والبصر، مالئ الدنيا بجلائل الأعمال، وشاغل الناس بإثارتهم، وتوعيتهم بحقوقهم وواجباتهم من أجل النهوض من جديد، لاستئناف الحياة الحرّة الكريمة، تحت راية القرآن.. يقول فيها:

قد عشتُ دهراً مديداً كلُّه عـملٌ       واليوم لاشيء غير القول والقلم

يا سيّدي طال شوقي للجهاد، فهل       تدعـو ليَ الله عوداً عالي العلم ؟

تـالله ما لـهفتي للبُرْء عن رغبٍ       في ذي الحياة ، ولا جاهٍ ، ولا نِعَمِ

وإنـما طمـعٌ في أن يقول غداً :           لقد هَـديتم إلى الإسلام كلَّ عَم

والضمير في (يقول) عائد إلى الله عزّ وجلّ، فهو لا يطمع إلا في مرضاته، ولا يرجو من حياته إلا التقرّب إليه بالجهاد في سبيله، وبصالح الأعمال.

وفي هذه (المناجاة) الرائعة، لا ينسى أحبّاءه الذين ربّاهم على عينه، وهو يرى المؤامرات تحاك ضدّهم، لأنهم أحرار، لا يطأطئون هاماتهم للطواغيت:

واحفظْ جنودك من سوءٍ يراد بهم       لم ينـحنوا لفئام البغي من شمم

تعـقَّبوا الشرَّ أنّى سـار متّجهاً           فأحبطوا كيده دهـراً ولم يقم

هذه القصيدة حافلة بالضراعة والابتهال، والدعاء للمرضى والفقراء البائسين الذين ما كان لينساهم في يوم من أيام عمره، وفيها حِكَمٌ مسدَّدة استقاها من تجاربه الحياتية، وفيها شموخ، وفيها تفاؤل بالتمكين لهذا الدين في قابل الأيام، وفيها:

فأكـرمُ الناس من كانت منيّته     في حـومة الحقّ جلداً غير منهزم

وأهونُ الناس من جاءت منيّته     خلواً من الهمّ، أو خلواً من الهمم

وفيها رضاء بقضاء الله العادل الرحيم، رضاء الصابر المحتسب:

أشكو إلى الله شكوى غير ذي جزع   في شدّة الضرّ وجهي وجهُ مبتسم

مـا في قضائك ظـلمٌ للـعباد ولا       فيه الإساءة ، بل محضٌ من الحِكَم

هـي المـقادير، مـا شكٌّ بحكمتها       عندي ، ولا أنـا منها قطُّ في بَرَم

   وفي شعر السباعي ذاتية ما تنفكُّ ملتحمة مع الجماعة التي أنشأها، وسهر على تنظيمها وإعدادها من أجل الذياد عن الإسلام وأمة الإسلام وأوطان المسلمين، وأبناؤها في ضميره، وفي سائر أحواله، يراهم، يناديهم، يشدّ على أياديهم، يرسم لهم الطريق، ويضع فوقه الصّوى والمعالم، حتى لا يضلّوا في متاهات الحياة.. يهتف بهم أن يلتزموا درب الحقّ، ولا ينسوا ذلك القائد الثائر:

أيّـها السائرون في مـوكب الحقّ سراعاً للخير لا للمغانم

صـدقوا الله عهدهم فتـنادوا      للمنايا لا يعـبؤون بظـالم

عـرّجوا في الطريق نحو جريح كـان في الله ثورة لا تسالم

كـافح الظالمين في صـولة الظلم، وللشرّ دولـة ومعـالم

ثمّ شاءت إرادة الله أن يُقصى بعيداً عن خوض تلك الملاحم

أوثقتْه الأسقام بضع سنينٍ في اكتمال الشباب والحظُّ باسم

أرغمـتْه الآلام أن يلزم البيت إذ الخطب في العشيرة داهم

عـلم اللهُ كرهه راحـة الجسم إذا البغيُ في الـمرابع جاثم

فانثـنى يجرع العذاب، وفي القلب جراح، وفي الفؤاد عزائم

لا تلوموه إن تنحـّى عن الركب قـليلاً، فجسمُه غير سالم

لـكمو مـنه: رأيُه وهـواه     ومـروءاتُه وحملُ المغارم

والرجل الناجح يكثر حاسدوه وشانئوه حتى يتمنون موته، وماذا يكسبون من موته ، لحاهم الله!

هنا لابد لنا من لفته إلى الرجلين الحاسد والمحسود، فالحاسد مقصر في عمله قاعد عن واجباته عبد لشهواته، ينظر إلى المحسود نظرة الكاره لأنه لا يستطيع أن يبلغ أمجاده ولا أن يرقى إلى عليائه.. فشتان ما بين هذا وذاك .. ولقد كان السباعي محسوداً .. وكل رجل ناجح محسود، وقديماً قال نصر بن سيار أحد القادة السادة:

إني خُلِقْتُ وحسادي ذوو عدد ياذا البرية لا تُنقص لهم عددا

فكلما زاد الحساد دل ذلك على كرم المحسود وعلو قدره ورفيع منزلته ..

لقد مرض السباعي .. فشمت به حاسدوه .. وهل في المرض أو الموت حسد إلا عند مرضى النفوس والتحوت من الناس ؟

وكذلك كان السباعي، يعطي ولا يأخذ، يبذل كلَّ ما يملك من مال ووقت وجهد، ولا يعرف للراحة طعماً، دون مقابل، وسعادته في البذل والعطاء، وغايته إرضاء الله سبحانه، غير آبهٍ بالحسّاد والشانئين والذين يغارون منه، لأنهم لا يستطيعون أن يصولوا صولاته، وأن يقتحموا المعامع التي يقتحم:

ومنتظرٍ موتي ليـشفي غيظـه       رويـدك إنّ الموت أقرب موعد

كلانا سيلقى الله من غير ناصر       فيحكم من منا الشقي ومن هدي

أغاظك مـنّي شهرة ومـحبّة       من الناس أولتني قلادة سؤدد ؟

لعمرُك ماذاك الذي قد أهاب بي       إلى دعوة الإصلاح في ظلّ أحمد

ولكنّه الإخلاص والعلم والظما       وطول عناء الأمس واليوم والغد

وحدد الشاعر أن المجد لا يأتي إلا بالإخلاص، فقال:

أبى المجد أن يعنو لكل مضلل           تسيره الأهواء خبطاً بفدفد

فإن تكن الأيام أودت بصحتي           وعاقت خطى عزمي بكل مسدد

فما كنت خواراً ولا كنت يائساً           ولست بثاو في فراشي ومقعدي

فمن ساءه عزمي على السير إنني       إلى الله ماضٍ فليطلْ همُّ حُسّدي

   ثم هل يأبه محسود عظيم القدر بعيد الهمة بحاسد وضيع النوايا رويبض المقام ؟ وهل يثنيه عن عزمه في المضي نحو أهدافه السامية النبيلة ؟ لقد بقى الشاعر المجاهد مصراً على السير في طريق الدعوة اللاحب حبث يقول:

سأمشي إلى الغايات مشي مكافح           ألوذ بغزّ الله من كل معتد

وأحمي لواء الحق من أن يدوسه     طغاة غدوا حرباً على كل مرشد

ويختم قصيدته الحزينة المتحدّية بهذا البيت الذي أسال دموعنا الحِرار:

وإن يأسَ أحبابي عليّ من الردى     لطول السُّرى، فالموت في الحق مسعدي!)[3].

يا لطيف.. ما أقسى حسد الحسّاد!.. ما أنذل عديمي الوفاء!. ما أتفه الذين كانوا يغارون من هذا الفارس الذي أبى أن يترجّل والآلام تفري جسده!.

شعر السباعي كله إيمان وكله مصابرة، وفيه من جمال التعبير ما يضعه في مصاف الشعر الجدير بالدراسة والتأمل ، ومجموع أشعار السباعي تدل على شخصيته العظيمه ونفسه الأبية وحياته الحافلة .

   ثم إن السباعي لا يلجأ في محنته إلا إلى الله، ويرى الابتلاء بالمرض نعمة من الله عليه، فيشكر الله عليها صابراً محتسباً مثنياً على خالقه .

إن شعر السباعي نفثات مصدور يفثأ بها حميّا الحسد والغدر والنكث بعد طول السُّرى والإدلاج جهاداً لا تنطفئ ناره، ونضالاً لا يخبو أواره، مادام السباعي القائد الفارس يطوي المهامه، وينير الدّروب للسالكين، لا يبتغي إلا الأجر من الله الذي لا يأوي إلا إلى ركنه، ولا يلجأ لسواه، في سائر أحواله:

أراك جميلاً حين ترضى وتغضب     وحـين تمنّـي بالوصـال وتـعتب

وحين تعافيني من الهـمّ والضَّنى      وحـين دمـائي من جراحي تثغب

وإن يك جسمي ملؤ عطفيه صحة     وإن تكن الأسقام تضوي وتعطب

وإن غمرتني منك حسنى تسرني           وإن هدّ مني للمصائب منكبُ

وفي الضرّ والنعمى وفي المنع والعطا وفي الأمن والأحزان تأتي وتذهب

أراك جمـيلاً في فعـالك كلّها       فهل أنت راضٍ أم تُرى أنت مغضب؟

وهو دائماً يرنو إليه سبحانه، طالباً عفوه ورضاه:

ولكن ظني فيك أنك معتقي         وأنك تدنيني وأنت تدنيني ولست تعذب

فيا ربّ هب لي منك صبراً ورحمة       ويـا ربّ حـبّبـني بمـا فيَّ تكتب

ويارب زدني عنك فهماً لمحنتي               وثبت يقيني فيك فالقلب قلبُ

وزدني إحساناً بما أنت أهله                  وحسن فعالي أنت نعم المؤدب

وأنزلْ على قلبي الجريح سكينة     وأحسنْ ختامي، ليس لي عنك مذهب

   وفي رائعته الحائية، يسأل أصفياءه أن يحملوه إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن يطرحوه ببابه، ثمّ يشكو إليه ما يلقاه من آلام، ثقة ببركته، سائلاً إياه الدعاء الذي لا يردّ، ثم يقول:

حـسبي الله لا أريـد سواه                 هو أنـسي وفي حمـاه أريـح

ربّ لولاك ما استطعتُ ثباتاً      في مسيري ، ولا سمتْ بي روح

   وحين توفي شكيب أرسلان في التاسع من ديسمبر/كانون الأول عام 1946. ويوم وفاته وقف الشيخ مصطفى السباعي على قبره مرتجلا قصيدته المشهورة:

سلام عليك أبا غالـــب           أمير الجهاد أمير القلـم

هتكت برأيك حجب الظلام       وثرت إباءً إذا الخطب عم

فخضت الغمار وصنت الذمار    وكنت الإمام وكنت العلم

   وخاطب السباعي المشيعين قائلا: أيها المسرعون بفقيد العروبة والإسلام! تمهّلوا قليلا، رويدكم لا تعجلوا! إنكم لا تحملون على أعناقكم رجلا، إنما تحملون جيلا من المفاخر، أعيا التاريخ إحصاؤها وتسجيلها، وإنكم لا تدفنون إنسانا كسائر الناس، إنما تدفنون أمة، وتغيبون في أطباق الثرى آمال شعوب، ورجاء أجيال، كانت ترى في الأمير إمامها وعلمها، وباعث نهضتها.

لقد عرف الشعر العربي ظاهرة الفقهاء الشعراء ، وهي ظاهرة حافلة بالشعر الجيد الجدير بأن يقرأ ويدرس ويصنّف في روائع الشعر العربي .. وقد وجدنا هذه الظاهرة ممتدة منذ فجر الإسلام حتى يومنا هذا .

وكان الفقه هو العلم الجامع لكل علماء الإسلام ، فقد كان الطبيب فقيهاً والرياضي فقيهاً والمهندس فقيهاً والمؤرخ فقيهاً .. وعندما وصل بنا قطار الحياة إلى هذا العصر وجدنا العلوم قد استقلت والتخصص قد دقّ حتى بلغ الفروع وفروع الفروع ، لهذا وجدنا الفقهاء قد اقتصروا على الفقه والأطباء قد اقتصروا على الطب والمهندسون قد اقتصروا على الهندسة . ومع هذا كله لم يترك هؤلاء وهؤلاء الشعر ، بل أضافوا إلى ظاهرة الفقهاء الشعراء ظواهر أخرى منها الأطباء الشعراء، والمهندسون الشعراء وفي كل قد ألف المؤلفون وكتب الكاتبون وصدرت الكتب.

ورحم الله الشيخ الفقيه الدكتور الشاعر مصطفى حسني السباعي رحمة واسعة وعوض المسلمين منه دعاة هداة فقهاء شعراء ...

رحمه الله رحمة واسعة، وتغمّده بفيض رحمته ورضوانه، فهو حسبُه، وهو أنسُه، وهو مثبِّته في سائر أحواله الجهادية، وإليه يلجأ، وفي حماه يريح.

مصادر الدراسة:

  • رابطة أدباء الشام: مصطفى السباعي شاعراً- عبد الله الطنطاوي.
  • شعراء الدعوة الإسلامية في العصر الحديث- جرار والجدع: ج2، ص29- 48.
  • المصدر : الجزيرة نت.

 

[1] -مجلة حضارة الإسلام: ع 4، 5، 6 ، ص 170.

[2] - مجلة حضلرة الإسلام: السنة الخامسة، ع 4، 5، 6، ص59 .

[3] - هكذا علمتني الحياة: ص195 .