الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

الزمن الجريح

رواية: نعماء محمد المجذوب*

(9)

مرت سنوات عجاف، ملأى بالكلام الفارغ، ثم غدت هشيماً، تساءلت ليلى:

- كيف الصمود والتحدي للعدوان، وبأي منهجية؟

أجابت العمة "نبيهة" ليلى قائلة:

- كيف؟ سؤال يقض مضاجعنا... يكون برؤية تاريخية موضحة، برؤية عربية إسلامية.

قالت أحلام:

- كلما فكرت في إجابات على كثير من الأسئلة التي يطرحها هذا السؤال، أرى أنه لم يفدنا الرجوع إلى الماضي، لا بد من تغيير مسارنا.

قالت العمة:

- العالم كله يستفيد من الدين الإسلامي، ومن إنجازاته الإنسانية، وتقولين: لا بد من تغيير مسارنا.. يجب أن يعلم القريب والبعيد، وكل من يحمل أفكاراً للوطن أن هناك شيئين مهمين لا مساومة فيهما، أو عليهما، العقيدة والوطن.

قالت أحلام:

- يقول رائدنا في اليسار: لماذا نعيش في كهوف حقيقية، ننعزل انعزالاً تاماً عن العالم المحيط بنا؟.. ويقول: إن الإنسان مفطور على الحرية، ولكن بالنظر إلى الواقع نستنتج أن الناس لا يتصرفون بالضرورة كأشخاص أحرار.

- الناس يتمتعون بحريتهم كاملة، الحرية المطلقة قد تسبب الفوضى، فالدين يقيدها لنا بالتنازل عن جزء فقط من أجل التمتع بحماية التشريع الإلهي.. ونحن لا نعيش بعزلة، إننا نعيش منذ زمن طويل مع الراديو، والطائرات، وأمور أخرى تحصل عن طريق العلم... المسيحيون سيدهشون لو علموا مدى احترام المسيح في الدين الإسلامي.

قالت أحلام:

- لماذا التقهقر عند المسلمين؟

قالت العمة:

- يرجع إلى جهلهم حقيقة دينهم.

قالت أحلام: - الصهيونية ترفع في الغرب ألوية اتهام المسلمين والعرب بأنهم مجبولون على نفي الآخر.

قالت العمة:

- شيء مضحك، أليس شر البلية ما يضحك؟.. النفي الآن واضح، وضحيته الأولى هم العرب والمسلمون.. وفلسطين، ودماء الفلسطينيين المسفوكة غدراً، وغيلة، شاهد ساطع على ذلك.

كانت سلسلة الانكسارات في فلسطين تمتد وتتوالى، تعمق شرخاً في الروح، وتجسد ملامح مأساة دائمة، ويزيد الإحساس من خلالها بالحصار، والانسحاق، والرغبة الدائمة في التحرر، واستنهاض العزائم، واستثارة الهمم للنضال من أجل التحرير، وتحرير الإرادة العربية، والسير على خطى الآباء، والأوائل، وسجاياهم، ومجدهم الحضاري العظيم.

سألت أحلام:

- هل تراجع أهل فلسطين عن خطة الموت فوق التراب المقدس؟ لقد نزحنا مع غيرنا من المهجرين منذ سنين، نتأبط أحلامنا، ندفن فيها هزائم الوطن، ونستعيد الحكايات، ننزفها، فتمر إلى أفواهنا كالموج هكذا،

قالت ليلى:

- لدى الكثير من الناس الرغبة في السفر والترحال، ونحن نسمي هجرتنا سفراً، وترحالاً، ليس هذا امتيازاً لنا نحن البشر، ولا للحيوانات، والنباتات، تلال الرمال أحياناً ترتحل على ظهر الريح.

كان الحوار بين الثلاثة وعراً، بسبب غياب الإيمان لدى أحلام، وبات غير متكافئ، كل واحدة تتشبث بما لديها، وأحلام لا تزال تكرر مقولات اليسار، وتعتبره الحل الأوحد لإنقاذ الوطن، ويبقى الحوار متعثراً، وأصبح يعز عليها أن تعترف بالخطأ، وأن تفيء إلى الصواب بعد ذلك، حتى باتت العلاقة فيما بينهن مستهجنة.

ازدادت ثقافة ليلى الإسلامية والعربية عن طريق الدروس في المسجد، والمحاضرات في المركز الثقافي، في حين ازدادت الهجمة الشرسة على الوطن الجريح، وتجاهل الغرب وعوده الراهنة، وازداد جشع الجلادين وعدد الضحايا من أبناء فلسطين.. واشتركت ليلى كغيرها من المهجرين في النشاط الاجتماعي، وأخذ الجيل من الشباب يتفهم ما يريده الاستعمار من العرب، يجبرونهم على التبعية، ووقوف المتفرج على القضية، وتحديث القيم الإسلامية، ثم التخلي عنها كلية، والعمل على تشويه الإسلام، وزرع روح التمرد في الأجيال ما أمكنهم ذلك، وجعلهم يرون التراث المضيء ظلاماً، والتحديث تطوراً، وحضارة.

كانت فلسطين تشهد كل يوم أحداثاً أليمة، ويزداد الصراع توقداً، واختلالاً في القوى، وساد في النفوس الصورة البشعة للاستعمار، الذي ولد الصدام، والعدوان، وحمل في طياته المقت للجانب المغتصب، وأيقظ روح المقاومة، حتى يسترد الشعب أرضه، وحريته، ويقضي على العنصرية الدخيلة.

كانت ليلى وأمثالها على علاقة مستمرة مع الجماعات النشطة، التي تعمل على التوعية، والمساهمة في التحرير، كي لا يتعرضوا للتهميش، وهم مبعدون، وجدوا الإرادة والعزيمة قدرة على أن يواجهوا مشكلات الحاضر في وطنهم.

نامت السيارات في الشوارع، وظلت الأم وابنتاها وراء الجدران، نادراً ما تصاب السيارات بالأمراض النفسية.. أرخى القمر ظلالاً فيَّ الغرفة، رسمت أحلام القمر على الورق.. تسلل نوره إلى الغرفة.. أضاء أنفاس الظلام، سألتها الأم:

- ماذا تفعلين؟

- أرسم في نفسي شوقاً عطوفاً للوطن، وفي حنين.

- حسن، الرسم بداية مدهشة، تربط ما بين تسامي ذكرياتك، وفنك على الورق، يمكن أن يكون الرسم الجيد سبيلاً لإعادة بناء الشخصية لديك.

أتت ليلى، فألفتها ساهرة، سألتها:

- ماذا ترسمين؟

- أخترع الأزمنة، التي توافينا بالأبطال.

- لكن أرى باباً مقفلاً.

- وآخر مفتوحاً.

- أرى نجمة طالعة في السماء، وشمساً تشرق.

- وموجاً يتعالى، وعواصف تهدر.

- وأرى بطلاً يزاحم الموج.

- عملوا منه أغنية تصدح.

قالت أحلام:

- من يقوم بالثورة الجادة؟.. ومتى؟.. أرانا نعيش بلا هوية.

- اسمعي قول الشيخ الشعراوي من قصيدة له:

نحن شعب موحـد لا شعوب      مـزقتها مكايـد الأعداءِ

جمعتْه الدنيا على لغة الضـاد     وقوّى عُراه ديـنُ السماءِ

اطمئنّي نـفسي الغيورَ فـإنّا      قد أفقنا من نوبةِ الإغماءِ

قالت ليلى:

- الرسم الذي يرتكز على قيم أخلاقية، وجمالية، يساعدك في تخليص نفسك من الشوائب والكدر.

- أحاول أن أرسم المواقف التي أخاف منها، أو التي أحاول تجنبها، أو الحلم الذي يعيش زمناً طويلاً في قلبي وعقلي، فأحيا من خلالها.

ثم التزمت أحلام الصمت، سألتها ليلى:

- لم الصمت؟

- لعل في الصمت التأسي.

- لا بأس، فالصمت يقودنا إلى عمق نفوسنا الملأى بالذاكرة، وتختلج الظلال.

سألتها أحلام:

- أهي الحياة نمضي فيها، أو تمضي بنا؟

في ظلال القمر، بعد أن لثمت ليلى بجبينها سجادة الصلاة، ناجت ربها بخشوع، وبدعاء تحبه، سألتها أمها:

- ما الدعاء الذي ترددينه؟

- إني أقول:

"اللهم لك الحمد أنت رب السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيم السموات والأرض، ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن، أنت الحق، ووعدك الحق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون والساعة حق، اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت، وما أخرت، وما أسررت، وما أعلنت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت".

أردفت قائلة:

- قرأت في إحدى المجلات:

"بأنه في فلورنسا في مؤتمر عن الحضارة المسيحية، قال طه حسين هذا الدعاء باللغة الفرنسية، ولم يكد ينتهي من إلقائه حتى دوت قاعة المؤتمر بتصفيق حاد، وجاءته سيدة مسيحية، وطلبت منه نسخة من الدعاء، وقالت وهي تبكي: خذ دموعي وإعجابي، وبلغهما للإسلام الذي أحبه كثيراً، فقال لها: لا داعي للدموع، إعجابك يكفي".

ساد صمت خاشع، رفعت الأم كفيها بابتهال:

- نرجوك يا الله، أن تعين شعبنا على تحرير فلسطين، وعلى بناء مستقبل أفضل، ليستعيد موقعه الفاعل، بشتى الطرق النزيهة.

تفتحت شخصية ليلى تفتحاً إيجابياً، مع توازن في مشاعرها، لم تجبر على طريق معين، اختارت الأفضل.. عربية مسلمة بنت الأرض العربية المقدسة، رفضت التغرب، وما يهيج أعصابها باللامعقول، كانت تواجه نفسها بصراحة، وتجدد العلاقة مع ربها، مبتعدة عن التزييف والتشويه، ترى في مبادئ دينها الوضوح، والخير، فينعكس ذلك في علاقتها مع الآخرين، فكانت معهم في سلام دائم. فقد أعطت انطباعاً حسناً، ترجم عن روح مؤمنة طيبة، وعقيدة صافية، وإيمان بالقيم والمثل، وجدت في تقاليد البلد ما يدعو إلى المفخرة، والاعتزاز، لم تجد فروقاً، نفس أخلاق شعبها  في فلسطين، وكأنها بين أهلها في وطنها.

كان يحز في نفسها الأفكار المشوهة التي تهب رياحها من الغرب، لا تمت إلى دين بصلة، يبدو التفاوت والاختلاف واضحاً،.. كثيراً ما كانت تدعو أختها إلى التغيير بدءاً بالعلاقة مع الله سبحانه، والاعتراف في قرارة نفسها بالعلاقة المشوهة مع نفسها، والخروج من الكآبة واليأس، والقنوط التي تضغط عليها، تجعلها سجينة فيها، تجعلها ضمن خليط من التناقضات، والأضداد في صميم تكوينها النفسي، ورغم جرأتها في الجدال، والنقاش، لم تجرؤ على ترك أفكارها الإلحادية.

سألت أحلام:

- هل علمت بميل أبيك إلى اليسار؟

أجابت:

- لا، لم أعلم.

- أما رأيته يحمل البندقية مدافعاً عن أرضنا؟

- بلى.

- أما رأيته يصلي، ويصوم و..؟

- بلى، لم هذه الأسئلة المتلاحقة؟

- إذن، لم تجرين وراء جيش من الأوهام، تظنين فيه الخلاص؟ لم لا تسيرين على درب أبيك، وأنت تدعين بأنك تحبينه، صمتت أحلام برهة، ثم قالت:

- هل ما أفعله يغضب روح أبي؟

أعلم أنه كان يستهدف خير الوطن..

كل إنسان له طريقة في الدفاع عن الوطن.. فما المانع؟

قالت ليلى:

- لا حول ولا قوة إلا بالله.

الحياة قصيرة الأجل، أخشى عليك الندم، بسبب الغفلة عن ذكر الله، وأخشى عليك الحسرة، والأسى، والابتلاء، والعذاب... استغفري ربك، وتوبي إليه، وابتعدي عن الهوى.

كانت أحلام حقاً تشعر باختلال موازين نفسها، وسلوكها، ورغم ذلك تصمم على ما تعتقد.

تابعت ليلى:

- إن هوى النفس شجرة متشعبة الفروع، لكل فرع درب، تمتد إن تركناها، وتتشعب فروعها أكثر، فأكثر، وأرى نفسك تجيش بهوى الطيش والتفريط، والإفراط،... انطلقي من أسرار الشهوة، وانتصري على هواك.

(10)

نظرت ليلى إلى الأفق، أجالت بصرها في الكون، شعرت بالتماع الضوء خلال جميع الكائنات، رحل تصورها إلى الربوة البعيدة في نابلس، وضعت كفها على صدرها، كان قلبها يرف في الحنين، تساءلت بلوعة:

"هل نعود إلى الوطن، أم أن الرحلة إلى هناك طويلة، وشاقة؟

هل بقيت الربوة تهدي أزهارها، وعطرها إلى المحبين، أم سرقتها المستوطنات؟ كانت ربوتنا فاتنة."

تذكرت حين كانت تتسلل بين أشجارها، والشمس تنثر ظلال دراهمها الذهبية من بين الأغصان على ثيابها نهاراً،... كانت تبتعد عن أترابها، وتقطف أزهاراً وحشية الجمال، تنبت من غير أن تزرعها الأمهات، تتأملها، ترى فيها صنع الخالق، وتظل تراقبها على فترات، أياماً،.. قد يقطع تأملاتها صوت أبيها، يناديها مستفسراً عن سبب ابتعادها، وانفرادها في أعالي الربوة، ويسألها عن حالها، فتشعر بحيرة تجاه مخاوفه، إذ كانت تستمتع بهذا النوع من الحرية، تبقى فيها مفتوحة بأزهار الطبيعة، مسحورة برائحتها،.. تكاد تشمها الآن من هذا البعد، يبقى شذاها في ذاكرتها، تشمها الآن في كل زهرة برية، وفي كل زهرة زرعتها أمها في صحن الدار هنا.

ربتت أحلام على كتفها:

- لماذا تنشدين الخروج إلى الطبيعة؟ يبدو أنك مثلي تحبين الحرية.

بانبهار قالت:

- أجل أحب الحرية، أعشقها، ولكن من نوع آخر.. أحب الحرية التي تجعلني أتأمل، وتعمق صلتي بالله، وترحل بي إلى ذكريات بعيدة، صور الجمال هنا تذكرني بصور الجمال في نابلس... أتعلمين لماذا تحاصرني الطبيعة هنا، بجمالها الفاتن، و يشدني كل ما فيها ليعقد الصلة مع طبيعتنا هناك؟ حتى لكأن صورتها هنا تمتزج بصور طبيعتنا في ذلك المدى البعيد الذي كنا نسكنه؟

قالت أحلام:

- هو الحنين إلى الوطن، وحبه المنهمر في أعماقنا، ستظل فترات حياتنا مهما طالت مفتونة به، إنه ملك علينا حواسنا، وقبض منا القلوب، وجعلنا نتيه في الحيرة، ويشدنا الضياع.

ثم أردفت بلهفة:

- ما أخبار الوطن؟

أجابت ليلى:

- لا نجد جواباً مقنعاً شافياً في الأخبار.

بانتشاء نظرت إلى ما حولها، قالت:

الربيع جميل، رائحته الزكية تفوح في الأودية، وعلى السفوح، وفي زهر أمي في الأصص، ونحن نستيقظ عليها مع نسيم الصبح الندي.

قالت أحلام:

- يذكرنا بربيع نابلس، والوطن.

قالت ليلى:

- سنستقبل الصيف بروائح لا تحصى تفتننا، تتسرب إلينا، وتنعشنا. الكون كله يضج بالجمال.

قالت أحلام:

- إنا ننعم بهذه اللحظات، ثم لا تلبث المتعة أن تختفي في ظلال الأخبار المؤلمة عن الوطن، تكبل إحساسنا، ونبقى في حيرة، وتفكير دائمين.

ضحكت ليلى وهي تقول:

- أقرر زيارة فلسطين في ذهني.

قالت أحلام:

- وأنا أقرر زيارتها بريشتي على الورق.

قالت ليلى:

- سنبقى متيمتين بها، عاشقتين لربوعها، منذ ولدنا، ونشأنا بها، ولا مسارب تأخذنا إليها، هجرنا، وبقينا نعيش محلقتين على أجنحة الذكريات.

- أراك مثلي تحدقين طويلاً في الطبيعة يا ليلى.

قالت ليلى:

- أكتشف سر الوجود، المختبئ بين طيات الجمال، في شيء تراه عيناي، مما يزيدني إيماناً بخالقي.

استدارت أحلام، بشجاعة سألتها ليلى:

- لم استدرت، أراك لا تتأثرين بما أقول.

تعثرت في كلماتها، وهي تقول:

- أراك تجنحين بخيالك إلى آفاق غير مرئية، لتعقدي صلة بينها وبين الوطن.

قالت ليلى:

- أنسيت القول الجميل: حب الوطن من الإيمان؟.. الغريب أن حب الوطن فقط في نفسك، ثم تتمنين له النصر بالاعتماد على المخلوقات؟

قالت أحلام:

- لا أرى في الفضاء الواسع مسارب تأخذني إلى ما تعتقدين.

قالت ليلى:

لأنك مغلقة القلب، إلا بما يتصل بالأرض.

قالت أحلام:

- لا أدري، لماذا يضيق الفضاء حينما أنظر إليه، ولا أستشعر بما تستشعرين؟ كأن كل صور الكائنات هي ظل من وطني، ليس إلا..

قالت ليلى:

- ماذا أفعل إذا كان الشيطان يستحوذ على قلبك؟

تمايلت أحلام.. تبسمت باستهزاء.. لم تبد أي دهشة لقول أختها، همست: شتان بين نظرتي ونظرتها!

اتسعت عينا ليلى دهشة، تملكتها الحيرة، تعلم بأن أختها ليست الوحيدة المنكرة لوجود الله، هناك محطة تفريخ لجيل يعتنق الأفكار الإلحادية، التفتت إليها، وبصوت متهدج قالت:

- لا خير يرجى منك يا أحلام.. أرجو ألا يزعجك قولي.. ماذا أفعل؟.. هل أستطيع أن أبعث فطرة الإيمان في نفسك، وأنا أرى قلبك يلفظ نصحي؟.. ربما، سأحاول بصبر.

كان المكان يغرق في عطر أحلام، يحمله الريح جانحاً به، اتسعت عينا ليلى بذهول.. بادرتها أحلام، وهي تميل بغنج:

- سألت نفسي يوماً، لماذا أنا بهذا الجمال؟.. ولماذا أقصيت عن وطني؟ لماذا جعل الشبان ينبهرون بي، ويهيمون حولي؟.. أنا سعيدة بذلك.

قالت ليلى:

- فقط في البداية، ثم يصبح إزعاجاً لك فيما بعد.

قالت أحلام:

- هل تحسين بالغيرة مني؟

- الله سبحانه جعل الجمال في أعماقي، جعلني فتاة عادية في مظهرها، يمر الشاب بي، يقف برهة، ثم ينساني في خضم ما يرى من أمثالك، حتى أهنأ بحياتي، ولا يعكر صفوها شائبة.

بخيلاء قالت أحلام:

- وجدت بهذا الجمال لينتشي كل من يراني، ويظلوا يطلبون قربي، ويحومون حولي، وأبقى في داخلهم.

بأسف قالت ليلى:

- أخشى عليك من غرورك، الجمال في الباطن.. طويل المدى، والجمال في الظاهر حياته قصيرة.. قد تصبح القوة فيك، وبسهولة مرعبة، نقطة ضعفك.

تضايقت أحلام من كلام أختها، وكأنها تلقت على رأسها ضربة بمطرقة.. كأن إنذارات أختها تبعث الصحوة في نفسها.. ولكن.. لم تكن لتؤثر فيها.

بضيق قالت:

- أنت تزعجيني بكلامك يا ليلى.

- بصراحة.. لا أستطيع إخفاء حقيقة مشاعري، كما يفعل بعض الناس.

بعصبية قالت أحلام وهي تلوح بيدها:

- لست مثلك، أنا وأنت في طريقين لا يلتقيان، شجون شتى تتوطن في صدري لا تفهمينها، ولا أتيقن بما تقولين، وإذا حاولت معي التحدث بهذه الوسيلة تركتك وشأنك، أنت لك عالمك، لا تشعرين بالعوائق في حياتنا.

قالت ليلى:

- إذن نزيلها باجتهادنا، وإيماننا، وثقتنا بربنا، إن وجد لدينا خلل فلنصلحه، ولكن ليس بنقض مناهجنا الإلهية.

قالت أحلام:

- أرجوك دعيني.. الصدمات في حياتي استهلكت شعوري بالأمان، ولم يجد الأمل مكاناً في نفسي.

قالت ليلى:

- كل شيء قابل للتغير، حتى النفس الإنسانية قابلة للتغير، بإرادتنا، وعزيمتنا، إن استسلمنا للهوى ورياحه تشوشت أنفسنا، وعجزنا عن التقدم، نحن هنا أشبه بالغرباء، علينا أن نكسب ثقة الجميع، ونكون القدوة، تنقصنا المعرفة بتقاليد البلد، أهلها محافظون، مؤمنون، يعيشون بسلام وهدوء، وأمن نفسي، وتآلف.. إنك تعطين صورة مشوهة.. ومهتزة.. لماذا لا تغيرين هذه الصورة؟

قالت أحلام:

- لست وحدي.

قالت ليلى:

- أدري، رفيقاتك المهجرات  أيضاً، أمية، وابتهاج، وخالدة، وغيرهن. أهن جرفنك، أم أنت جرفتهن إلى محاربة القيم؟

قالت أحلام:

- هي الصدمات، تبعث في نفوسنا التحدي، ونرى الأفكار الجديدة تساعدنا على بناء ذواتنا.

قالت ليلى:

- إنها طريقة ملتوية، تحطمكن، اعتمدن على الفطرة التي فطركن الله عليها بالإيمان.

لم تشك أحلام بأنها تعتلج نفسياً لبعدها عن الله، وتنهار شيئاً، فشيئاً، كانت روحها بين أصابع الشيطان، تقلبها كيف تشاء، ثم هناك العديد من الأسئلة الملحة طرحتها على نفسها:

كيف أعيش أنا؟

كيف أبني نفسي وأنا في الاضطراب والحرمان؟

كيف أبني ذاتي في الغربة؟

آه.. أرى الدنيا وأنا بعيدة عن الوطن صحارى جرداء.

كم كنت أود البقاء فيها؟

لقد ازدادت فجوة المسافة بيننا، تفكيري بالوطن يستهلك مشاعري.. نمط حياتي هناك نمط آخر، كان يشعرني بجمال الحياة، مع المدافع، والصراخ، والأحداث الدامية.. لا هدف أسعى إليه.. كيف أعيش بلا هدف؟.. إنني أضيع.. جداً أضيع.

قالت ليلى:

- اعرفي ما تريدين، وحددي الهدف، ثابري على دراستك في الجامعة.

قالت أحلام:

- هل أقول لك بصراحة؟

- نعم.

- المدرسون لا يحببوننا بما في الكتب من معارف، وثقافات، أساليبهم جافة، لا يبللونها بالمشاعر.

- ورائدك في الحزب؟

- رائع، يتكلم معنا بطريقة عاطفية، يجذبنا بأفكاره، ويدعوننا إلى التجديد.

- إذاً، هناك خلل في الأنظمة التعليمية،.. على المسئولين التعرف على هذا الخلل، ومعالجته، ليشخصوا الداء، ويصفوا العلاج.

أحلام:

- عندما أكون في قاعة المحاضرات يصيبني الذهول والشرود، وأرحل بعيداً، أتصور اليهود وهم يسفكون الدماء.

- أدري، إنهم يقلدون فرعون زمانهم.. كم كان فرعون رجلاً غريباً، لأنه كان يسفك الدماء، ويهين النساء، ويقتل الأطفال.. ألم يكن من الأفضل أن ينشئ مدارس يصنع فيها عقولاً تفكر، ومشاريع تبني الحياة؟

- وما نسمعه من الإذاعة؟

- الإعلام مدرسة الجماهير، والمدرسة بناء للأجيال، تغير النفوس، والعقول.

قالت أحلام:

- المواقف المؤلمة تركت بصماتها الداكنة على حياتي.

قالت ليلى:

- تهربين من الألم، وتتلمسين الحرية السائبة.. كم أنت شقية؟

(11)

كانت أم البنتين هزيلة، تتكسر أجفان عينيها من المرض، وكانت على ندرة بالكلام، أشبه بالصمت، تتردد فيه شفتاها بقلة، وضعف.

وليلى كانت كثيرة الحركة، نشيطة، تساهم بما تكبسه من عملها، كي تنتعش الأسرة، بعد أن كانت تعيش على الحافة.

بيت عمها كان مختلفاً جداً، في جمال أثاثه، وإطلال شرفاته على شاطئ البحر، وستائره المنسدلة فوق النوافذ، وأفراده مغمورون بشتى وسائل الراحة.. لم تشك ابنة العم منال من الحرمان العاطفي، أو التقشف، محاطة بالتنعم، فنشأت سوية المزاج، هادئة الطبع، صافية الذهن، والنفس..

كانت أخبار الوطن تصفع الجميع، وبخاصة أحلام، الأشد رهافة حس، واضطراب، وتفكير، تجد في الخروج من البيت متنفساً لها، فكانت العيون تلاحقها في الطرقات،.. إن مشت ففي مشيتها قفز كالعصافير، تدع النسمات تداعب شعرها الذهبي المسترسل فوق ظهرها، فيتطاير متفرقاً حول جنبات وجهها المتناثر فوقه حبات النمش المنمنمة، وكأن يد رسام قد رسمه في أنوثة متدفقة، وتبدو للعيون تتدفق بحب الحياة، والإقبال عليها، وفي فمها ضحكات تتردد بصورة عفوية، تزيدها تألقاً.

كانت أحلام واحدة من المهجرات اللاتي غيرن موازين الحياة في البلد، ينطلقن بحرية، ينثرن الضحكات في كل مكان، ففتيات البلد نشأن ومعهن الحياء، وعرفن بالحشمة، احتوتهن تقاليد وقيم ورثنها على مر الأجيال، وتعاقب القرون.

أحلام بجمالها، واستهتارها كانت صرخة مدوية بعد سكون، تحرض الفتيات على التمرد، والتحرر، يجرفها حب الدنيا، والتحرق على متع حرمت منها، وهي تقارن بين حالها، وحال منال، ولا تجد في البيت البارد ما يروي عطش نفسها، فهبت فيها ثورة على كل شيء.

استطاعت أن تشكل علاقات ودية مع بعض الأسر، لا تريد من ورائها سوى إشباع ميلها للحياة الاجتماعية، وإفراغ قهرها من الظروف القاسية.. تريد أن تخبر الناس أنها تحب أن تحبهم، وأن تعيش في غمرة هذا الحب، فبادلها الناس نفس الشعور، وحاولت أن تعوض عن الحنين إلى الوطن، بوطن آخر متعاطف.. ولكن ما كان يؤلم الآباء، والأمهات مظهرها المستهتر، وعرض مفاتنها أمام الشباب.

حاولت أمها، وأختها عطفها، إلى دروس المسجد، عسى أن تغير سلوكها، لكنها لم تبد أدنى تجاوب، ولم تعرفا لم كانت تفرغ أجوبتها في بكاء غزير، فتشفقان عليها، وتدعانها وشأنها.. ما يلفت النظر أن اليساريين كانوا يتخذون من المرأة محوراً أساسياً لترويج الحرية، وكأنها سلعة يعلن عنها، يقصدون بهذا جذب أكبر عدد لتسويق أفكارهم.

بتأثر قالت ليلى:

- أعلم أنك انتسبت إلى هذه الفئة الإلحادية، ثم لتصيري مجرد أداة ترويجية، تعيد المرأة إلى عهد الجواري، وانتشار الخلاعة.. ما هكذا تكون الحرة، الإسلام رفع مكانة المرأة الاجتماعية، وحسن أحوالها، إن الصعود إلى القمة هو السعادة الحقيقية.. ولا يكون بالتهتك.. وإنك بشغفك بالحياة تقترحين حياة أخرى جديدة.

قالت أحلام:

- أنت لا تشعرين بما أشعر.

- بماذا؟

- انظري إلى منال، وهي تتبختر بالعز، والدلال، وكيف أنها تحقق رغباتها، وأمنياتها.

قالت ليلى:

- أهذا ما يغير طريقتك في الحياة؟.. إنك تنتقمين منها بنفسك، يا أختي: هذا قدرنا.

بانفعال قالت أحلام:

- بل هذا شأني منذ حرمت من أبي، وهجرنا من بلدنا.. ثم تريدين أن أستسلم لما تسمينه بالقدر، يفعل بنا ما يشاء؟

صمتت أحلام ببله،.. وضعت كفها على صدرها، قالت:

- أشعر بضيق شديد.

كانت الأم تصغي إلى الحوار، ابتهلت إلى الله أن يهديها.. جلست أحلام القرفصاء، وأخفت وجهها بيديها، وبأسى تساءلت:

- لماذا تركنا أبي نحن النساء، لتقتلعنا الغربة من بلدنا؟

- الموت حتم يا ابنتي في موعده المقدر له، ولا علاقة له بحرب أو سلم، أو ما شابه ذلك، إنها العلاقة بين الموت والأجل، بين الموعد الذي قدره الله، وحلول ذلك الموعد.. أبعدي عن خاطرك الهواجس وما تنشئه في نفسك من خوف وذعر.

الدنيا يا ابنتي ليست نهاية المطاف، ولا نهاية الرحلة، إنها مرحلة ووراءها الآخرة، والمتاع فيها هو المتاع.

- آه.. رأسي يكاد ينفجر.

- انسي المآسي، والأحداث القاسية، فلا تزالين شابة، في ريعان الصبا.. دعي الغيرة من منال، لا لزوم لما تشعرين به من السخط، والتذمر.

- هل أستطيع أن أنسى؟.. لا، لا أستطيع.. إن الموت قبل الموت هو النسيان.

أغمضت عينيها لتهرب بخيالها إلى مشهد بعيد جداً، وبحزن قالت:

- إن أبي حين قبض على كفي الصغيرة في طفولتي، وحملني بين ذراعيه يلاعبني، كان قد غمرني بحبه إلى الأبد، عندما أذكر الماضي، أذكر مواقف الحنان عنده، وعند الجيران، التوقف عن الحب يا أمي هو الشيخوخة نفسها.. شبابي ربيع بلا أزهار.

ضحكت ليلى وهي تقول:

- حسبنا من موسم الورد صحبة العبير، تفاءلي يا أختي.. كل شيء يجري بقدر الله،.. فقط كوني مؤمنة، متصلة القلب بخالقك.

باستهتار أجابت:

- لا تزالين ترددين كلمات عن القدر، لا أؤمن به،.. لا أؤمن.. دعيني، وشأني.

- هذا كفر، ما هكذا وجهنا أبونا،.. أنسيت حكاياته لنا عن الصبر والإيمان؟.. كان يهيئنا لمثل هذه الظروف.. ليس لنا في تشردنا سوى الله يحمينا، صلي له، ناجيه في خلوتك.

جرت إلى الغرفة، دست وجهها في الوسادة، وهي متوترة المزاج.. كانت الكوابيس الليلية تنتظرها، وتشل حركتها، ثم تطلق من أعماقها صرخة حادة، تعيدها إلى الحياة.

فجوة عميقة حصلت بين الأختين، ليلى مفتحة القلب على الإيمان، معتمدة عليه، يسر الله أمورها نحو الخير، وهدوء البال،.. وأحلام مضطربة، غير قادرة على إصلاح نفسها، تصدر معظم وقتها إلى خارج البيت، كي تلقى الارتياح، والتناسي، وتستسلم إلى أفكار رائدها.. نجحت في الاندماج مع الرفاق والرفيقات، لكنها فشلت في إضفاء السعادة على أمها، وأختها.

بحيرة تساءلت الأم:

- كيف أتمكن من إنقاذ ابنتي من التفكير الذي لا طائل فيه؟

أجابت ليلى:

- أختي يهزها كل موقف فيه شجى، وأسى، لبسها الاضطراب، لم تستطع الفكاك منه.

في إحدى المرات، والأختان في جلسة هادئة قرب النافذة، والنسيم البليل يلاطفهما، سألتها ليلى:

- أراك عصبية حيناً، ضاحكة، باكية حيناً آخر.. لم ذلك؟

ترقرق الدمع من عينيها، وقالت:

- لم نختلف عن بيت عمي؟ يملكون كل شيء، ونحرم من كل شيء.

- أمور تافهة، وجودنا معاً فيه سعادة، وكسبي من العمل، لا بأس به، وما تفكرين به سيتحقق بإرادتنا، وهمتنا،.. لا تستعجلي الأمور، السعادة ليست بتوافهها، السعادة في الانشراح، والإيمان بالله، والقناعة.

كانت الغيرة تنهش صدر أحلام، ترى عدم التكافؤ بين الأسرتين، مما يسبب لها حرجاً أمام الصديقات، وجرحاً لنفسها، ترى الحياة لا تشبع جوعاً، والأم مكسورة الجناح، تعيش مع ابنتيها على حفنة من المال يرسلها العم خيري أول كل شهر، ولولا عمل ليلى لانكشف الستر.. والهزال يشتد بالأم، وتصفعها أنانية الذوات.. كانت تتذكر طفولة أحلام وهي تقفز منشرحة كحمامة صغيرة، توشك أن تطير بجناحين غير مرئيين، ولكن لسبب ما تبدو على وشك التكسر، ربما لفرط رقتها، ورهافة حسها، كانت كثيرة الحركة، لا تكاد تستقر في مكانها، تضحك أحياناً من دون داع،.. وبمزيد من التقصي اعترفت الأم بأن ابنتها شهدت في طفولتها جنوداً من اليهود يدخلون البيت فجأة، ويقلعون أباها من فراشه، ويضربونه أمامها، ثم يخرجون، فكانت تبكي بعد الموقف بشدة، وتتحرك كثيراً، وتصيبها نوبات من العناد غير المفهوم.

كانت أحلام تهمس لصاحباتها أحياناً بعبارات موجزة عما شاهدته في طفولتها، وهي ترى أباها يتلوى من الوجع، تتمنى أن تلمسه، وتقبله، ولكن ما كان يطيق أن يقترب منه أحد، حتى ابنته المفضلة.

ألمَّ الحطام بكيانها النفسي، وانكسرت أجنحة الحمامة الوديعة، إلى حد الانسحاق، وغدت تصرفاتها غريبة، وهي في حالة تدهور في نفسها مستمر.

عمَّ مناخ عدائي في نفس أحلام تجاه أسرة عمها، وفقد الانسجام، ونشطت الجوانب السلبية، وأخذت تنظر إليهم بريبة، وصارت كثيرة الانفعال، يبدو في الضحك، أو البكاء، أو الأشياء، تبعثرت مشاعرها، كانت تصطنع الهدوء والبشاشة، وفي داخلها مرجل فوق نار، تكتمها بتصرفات سريعة من ضحك، ولفتات دلع، أو اندفاع غير متوقع ذي محتوى متناقض، حتى صارت عرضة نقد الأهل، كأنهم يتربصون كل ما يصدر منها، فيجرحونها، ويلقون عليها باللوم، والتوبيخ، ويعقدون مقارنة بينها وبين منال لأدنى الأسباب، وأتفهها، وكأنها خلقت في جو الإعصار الدائم، حتى فقدت الإحساس بالأمن، فلم تجد إلا التعويض بأساليب مختلفة خارج البيت، ثم وجدت في اليسار ضالتها، فاحتقنت به.

كانت العمة نبيهة تتلوى من القلق على ابنة أخيها الشهيد، وهي ترى حالها البائسة، وتمسكها بحبال الوهم، أرادت أن ترشدها، وتهدئها بقولها:

- هذه العقيدة الإلحادية، إذا رسخت في ضميرك، صارت بلية، إن الله قد قدر، والقضاء قد حل، ولن تهدأ أعصابك، وتسكن نفسك، وتذهب وساوس صدرك حتى تؤمني بالقدر،.. لا تتحسري على ما فات، تفاءلي بالخير يا حبيبتي، بحب ضمتها إلى صدرها، وقالت:

- أبعدي عنك النكد، والضيق، ولا تحبسي نفسك بين جدران الهم والوهم، فمن المحال دوام الحال.

تململت أحلام، وهي أمام عمتها تفرغ وعظها من ثقافتها الواسعة، تعلم أنها مولعة بالكتب، والقراءة، وحفظ أشياء كثيرة، تستشهد بما تقرأ على مواقف كثيرة، وتسعى نحو المثالية في كل شيء.

- هل من نصائح أخرى يا عمتي؟

- إذا داهمك موقف صعب، فانظري في الجانب المشرق.

- وبعد ذلك؟

- تكيفي في ظرفك القاسي، لتخرجي لنا معه زهراً، وورداً، وياسميناً.

بابتسامة قالت أحلام:

- سأخرج رسومات، في لوحات جميلة.

- جميل جداً.

- هل من شيء آخر؟

- حققي ذاتك، ومارسي حياتك كطفلة، ولا تلتصقي بالماضي، تجنبي المظاهر التافهة، وعبري عن إحساسك الخاص في تقديرك للتجارب، تحملي المسؤولية، ولا تلقيها على غيرك، وحاولي استكشاف عيوبك، وتحلي بالشجاعة في القضاء عليها، ولا تندفعي بلا شعور، واقضي على اندفاعاتك اللاشعورية.

بانبهار قالت ليلى:

- ما أروع إرشاداتك يا عمتي! أشعر وكأني كبرت أعواماً كثيرة، سأعمل بها ما استطعت.

هزت أحلام برأسها بارتباك وهي تقول:

- سأحاول أن أكون كما قلت.. سأحاول.

- كوني جادة يا أحلام.

ابتسمت ابتسامة باهتة، ثم نهضت، وهي تقول:

- سأحاول أن أكون جادة.

- إلى أين؟.. أراك تريدين الذهاب.

- كما تعلمين.

قالت ليلى بانزعاج:

-       دعيها يا عمتي، ستنفذ الذي برأسها، ولا تبالي.

(12)

كانت الريح غضبى، تصفع أوجه النوافذ، وتجرح أغصان الشجر، فينزف ورقها، ويهرب متبعثراً في كل اتجاه، والشاطئ والبحر طفلان يعبثان، ويتراشقان،.. يزحف الموج مزمجراً، أو خلسة، في غضب حيناً، ومحبة حيناً آخر.

نظرت أحلام من النافذة، وهي في بيت عمها، تمنت سلاماً بينهما، سلاماً يقترب من البشرية، مثلما يلتئم نصفا الكرة الأرضية، واضحاً كالنهار، مستسلماً للأمان، وإذا أقبل الليل، تسمع صوت اليوم المسالم، وتهدأ الكوابيس، وتتغير حركة الحياة باندهاش، أو تلذذ، بأسف قالت:

ولكن.. يبقى الليل عالماً مختلفاً عن العالم الذي أوده، فيه ترتبك أفكاري، وترتجف العزلة أمامها،.. أفكار جديدة تبرز لي فجأة.. ماذا أفعل؟ كيف أتخلص منها؟.. أهو صعب؟.. ربما.

تنهدت بعمق من خلال أحلامها، وبصوت تتساقط فيه الكلمات تتوهج بالأنات، وهي تستعيد ما سمعته من أخبار عن فلسطين، نطقت:

آهات الوطن، وصيحات الحرية، تثقل كاهلي، فتبوح بأشجاني، ومشاعري في رسوماتي، وتتراءى فيها مشاهد إنسانية مدهشة، من خلال نفسي عن وطني، وعن نابلس خاصة.

في الصباح سألتها ليلى:

- ماذا تخفين في درج الطاولة؟ ألمحك تشمين شيئاً بين يوم وآخر.

جذبت ليلى الصرة الصغيرة، فتحتها، كانت مفاجأة مذهلة.. باستغراب سألتها:

- تراب؟.. تخفين تراباً؟.. لماذا؟

قالت أحلام:

- إنه تراب من فلسطين، من تراب الربوة التي كان فيها بيتنا.. أعلمت الآن لماذا أخفيته كل هذه السنين؟.. كلما عصفت بي الذكرى، أقبله، وأشمه.

ثم انفجرت أحلام بالبكاء، وهي تلثم التراب، وشيء فيه يعلق على وجهها، وتختلط ذراته بحباب النمش المنمنمة في وجهها.

- لكنك تقتلين نفسك بهذه الطريقة يا أختي.

- بل أحييها من الموت.. تموت الأمكنة في الوطن موتاً بطيئاً على إيقاع هجرة سكانها.. ثم هجرة أخرى إلى العالم، للتعلم، ولطلب الرزق.

 بحماسة قالت ليلى:

- فلسطين لم تمت، ولن تموت أبداً، تنهض عبر الأحداث، وكلمات الناس، والأغاني الوطنية، أمور تجعلنا نحس بالحياة تتدفق فيها.

سألتها أحلام:

- أتساءل: ماذا بقي من أرضنا؟

قالت ليلى:

- بقي الكثير، نامت في الذاكرة، ولكن أسرارها لم تنم، وجودها قائم في حكاياتها، نسردها مع إيقاع المطر من غيمة مرت فوقها، ترسم صوراً، ترسم زهراً فوق السفوح.. لم تمت حبيبتنا فلسطين، جذورها تمتد إلى ما قبل التاريخ.

سألت أحلام:

- والضحايا.. والدم؟

أجابت ليلى:

- في ظلال الدم المسفوح على جنباتها، تأتي الكلمة هادرة عبر حناجر الشعراء، صارخة في وجه المستحيل.

بمرارة قالت أحلام:

- في النفس خلجات مثقلة بالسنين.

قالت ليلى:

- نحن في حالة اجترار دائم لأحزاننا، وهمومنا.

أخذت ليلى تلمس التراب بأصابعها، تنهدت وهي تسأل أختها لائمة:

- حملت تراباً من الوطن،.. لماذا لم تحملي القيم والمثل، والصورة الحسنة معك؟.. لعلك تستعيدين أحلامك الضائع!

- غير مهم.

- بل مهم جداً، أراك متبرجة، تستعدين للخروج، تستخدمين بلا خجل جاذبيتك الجسدية للإيقاع بشبان البلد،.. اعلمي بأن الصراع سيبقى حقيقياً، وقائماً بين المبادئ الإلحادية، والإسلامية، وسيبقى الإسلام ثابتاً حضارياً.

كانت الأم تسمع تحاورهما، وترى استعداد أحلام للخروج بمظهر غير لائق، سألتها:

- لماذا تتمردين على القيم؟.. وأين ترحلين بفكرك بعيداً؟ إن قلوبنا جميعاً تهدر بالحنين، والتوجع على فلسطين، نحن نعيش في زمن القهر، والألم، لا تهربي من مشاعرك، اجعليها إيجابية، لا تنفري من الواقع بطريقة مغايرة، كلنا متعبون، نحتاج أن يواسي بعضنا بعضاً، ونمسح دموع الحزن، وننشد السلوى عند بعضنا.

الدرب طويل يا ابنتي، مليء بالشجون، وليالينا ملأى بالأنين، وقلوبنا ترف فيها الأماني، سنقهر القهر بجسارة عبر السنين،.. كوني كأختك في الإيمان، تكوني ضياء متدفقاً ينبع من نفسك، ويهديك، ويهدي بك التائهين.. سيكون الوطن بخير إن شاء الله، فلا نيأس من النصر، فالأيام حبالى، والمولد قريب، والنصر حق للمؤمنين الصابرين، تغلبي على نفسك، وابدئي الحياة من جديد، لك شباب يسندك، ويعينك على التغيير.

أطرقت أحلام تتأمل بكلمات أمها، قطعت ليلى الصمت، فسألت:

- ما أخبار الوطن يا ترى؟

أجابت أحلام:

- نعرفها من الإذاعة، تحتمل الصدق، والكذب، حين أسمعها أشعر وكأني جئت تواً من الوطن، تذكرني رحلة الانكسار.

قالت ليلى:

- في فلسطين أسرار، تخفيها الأخبار، تستحق أن تعلن،... ما المانع بأن تعلن؟ يرسلها مذيع شاحب العبارات، واللسان، وكأنه يأتي بها من قارة غير قارتنا، من شواطئ غريبة عنا.

في يوم هدأت فيه العواصف، وانتشر الدفء، تمشت الأم مع ابنتيها في الحقول، ترويحاً عن النفس، اجتزن حقول القمح، سنابله تتطلع إليهن بجسارة، وشعاع الشمس يزيدها تألقاً، ثم اجتزن الشمس في غروبها، أو لعلها هي اجتازتهن، والأنداء الناعشة تتساقط فوق السنابل، تقبلها مرتجفة.

توقفت الذكرى في ذهن أحلام أمام دراهم في نابلس، كانت نتوءاً من الأرض، تداعى سقفها بذل، يكاد يخفي الأشياء تحته، فوقه ركام من التراب، من شققه يبدو سريرها، وألعابها، ودم سال فجف، دماء أبيها ودموعه.. مرت أعوام وما تزال تحس بقربها من المكان، ذلك النهار، في وضح النهار، رأت البغاة بأيديهم رؤوس البنادق والنار، يتجهون إلى دراهم، وإلى كل دار.

في قرارة نفسها، تساءلت:

هل أنا وحدي أعاني من لحظات التذكر، لحظات الفاجعة؟

هل تأتي إليَّ وحدي حينما تنحسر عن الآخرين،.. عن أصدقاء النكبة.. عن شئون الأرض والحياة؟... أو حينما ترتقي الذكرى وتتفاعل مع الأحداث إلى صورة جديدة، بألوان متنوعة، لتسيطر على العقول والقلوب، وتنكشف الظنون بوضوح، وتتطلع إلى هدف غائب تهدأ إليه، وتطمئن، وتخطط للتغلب المواساة على اليأس، وتخفف من ألم المعاناة، وتسمو الروح إلى شيء من السرور، وكبرياء النفس؟

استأذنت ليلى من أمها قائلة:

- لدينا اليوم محاضرة في المركز الثقافي، ستكون للمعلمة "مليحة"، أختنا في الجراح، والآلام.

كانت المداخلات ساخنة، قال أحدهم:

- أصبحت الحروب تجارة بين الدول.

وقال آخر:

- للأسف، الأمة استسلمت في هذه النكبة واستمرأت الذل وغفلت، وتفرقت شيعاً، وأحزاباً، وانفرط عقدها.

- هذه كارثة كبرى، أن تزول الوحدة بين أقطار عالمنا، بعد أن كانت الوحدة الشاملة تربط بين أجزاء الدولة كلها.

وقال آخر:

- علامات التعجب تتلاعب في الأذهان تلاعب النيران،.. الغريب في الأمر، أصبح الذين كانوا يثورون على الاستعمار، حينما تقلدوا مقاليد الأمور، وأصبحوا حكاماً، هم الذين تشبثوا بهذه التجزئة، وبهذا التقسيم، وغفلوا عن أن هذه الأقطار هي أوصال متقطعة من جسم واحد.

سأل آخر:

- من وراء هذه التفرقة؟

أجاب آخر:

- حصل بعد وجود الاستعمار لأمتنا العربية.

- كيف نتخلص من المحنة؟

- التخلص يكون بالرجوع إلى الله، نقوي عقيدتنا، وننصر منهجه، ينصرنا، ويرفع مجدنا بقدرته،.. الأمة الإسلامية تعرضت على مدى التاريخ إلى أعاصير معادية للإسلام، وعزتنا كانت فيه، ولا يكون توفيقنا إلا بالمضي تحت راية التوحيد، ونحن واثقون بنصر الله، وتكريمه لنا، كما كنا، وكما ينبغي أن نكون في الحاضر، والمستقبل.

سأل أحدهم:

- هل بإمكاننا أن نثق بدولة عظمى، ونعتمد عليها؟

أجاب آخر:

- اليهود والنصارى في العالم سواء في العداء يطاردوننا باستمرار، ألا تعلمون ما يسببه حزب اليسار من شقاق وتفرقة في المجتمع؟

- أجل، يسربون إلينا أفكارهم، ونحن في ظروفنا هذه أشد ما نكون حاجة إلى التضامن، والتآلف، والمحبة.

- الأخوة تجمع، ولا تفرق، تقرب ولا تباعد، يعيش المؤمنون في ظلالها حقيقة، وتخلد نفوسهم إلى الطمأنينة، وهم مع إخوانهم، وتسمو أرواحهم في سعادة، وفي اتصال.

تساءل آخر:

- إننا نرى الشقاق على مستوى الوطن العربي، والإسلامي، ما السبب؟

- اليهود وراء كل شقاق بيننا وتفرق، سأذكر لكم شيئاً عن حزب (شاس) في الكيان الصهيوني.

أخذ يحدثهم قائلاً:

- إن التفرقة بين العرب، والمسلمين، ذكرتني بشاس اليهودي، من بين الأحزاب اليهودية الصهيونية في فلسطين حزب شديد التطرف هو (حزب شاس)، الذي يقوده حاخام متطرف، والثابت لدينا أن أحد اليهود، واسمه شاس كان يسعى قديماً بين الأنصار من قبيلتي الأوس والخزرج الذين التفوا في المدينة حول الرسول الكريم، ونصروه، ونسوا ما كان بينهم من خلافات، وحروب في الجاهلية.

جلس شاس اليهودي يوماً بينهم، أخذ يذكرهم بيوم "بعاث"، اليوم الذي اقتتلوا فيه، وقتل فيه رجال كثر من القبيلتين، وسلبت فيه أموال وأسلحة،.. حرك هذا اليهودي الأحقاد في نفوس بعض الصحابة، حتى أوشك بعضهم أن يقف في وجه البعض الآخر، وأن تمتشق بينهم السيوف، وأن تشرع الحراب،.. علم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم وهو غاضب، يقول باستنكار:" وأنا بين أظهركم"؟! يقول هذا وهو يستهجن موقفهم الذي وقفوه، والقضية التي أثاروها، واعتذر الصحابة رضوان الله عليهم عما بدر منهم، وعادوا إلى صفائهم، وأخوتهم، وأدركوا كيد اليهودي الحاقد اللئيم، وغرضه الذي كان وراء تذكيرهم بيوم "بعاث"، وعداوات الجاهلية، وأحقادها.

لقد ذكرت لكم هذا لأبين لكم أساليب اليهود والصهاينة المتنوعة، للنيل من وحدتنا، وأخوتنا منذ القدم.

بتعجب قالت ليلى في نفسها:

- هي المرة الأولى أسمع باسم شاس، ونعلم عن شخصيته الحاقدة، كل ما كنت أعرفه هو أن (شاساً) اسم حزب في الكيان اليهودي، دون العودة إلى جذور الاسم، ودلالاته، مما يدل على أننا بحاجة ماسة للقراءات الكثيرة المتعمقة في التاريخ اليهودي، كي نعي ما يؤمن به العدو، وما يدعو إليه، وما يفعل في ظل ذلك كله.

تابع المتحدث قائلاً:

- هم يزعمون أن شاساً شخصية توراتية، في أسطورة موهومة.

نهض آخر ليقول:

- وأنا أعلمكم عن الشيوعية، بأن اليهود هم الذين وضعوا مبادئها أيضاً، وأخذوا يغرسونها في عقول الشباب، من الرجال والنساء، نوع من أساليبهم الخبيثة المدمرة لإسلامنا، ومجدنا.

يتبع إن شاء الله..

              

* أديبة سورية تعيش في المنفى