الزمن الجريح

نعماء محمد المجذوب

الزمن الجريح

رواية: نعماء محمد المجذوب*

(5)

أثناء التنزه بين الأشجار، وعلى ضفة النهر، كانت ليلى في حالة انبهار، تفكر في الكون وخالقه، وأحلام في حالة تفكر في الطبيعة وجمالها، للكون خالق، مدبر عند ليلى، فهي في إيمان مطلق، وأمان، والطبيعة أوجدت نفسها عند أحلام.

كانت ليلى تلتمس رضا الله بالطاعة له، وحسن التعامل مع الناس، وتحس برحمة الله بها، وتيسيره أمورها، إن وجدت في ضيق، أو موقف صعب.

كانت الأم تعد الشاي في ظلال الشجر، نظرت إلى ليلى ببشاشة وقالت:

- ما أقبل عبد بقلبه على الله، إلا أقبل الله على قلوب المؤمنين به حتى يرزقه مودتهم، وأنت يا ابنتي قد غرس الله في قلوب أخواتك المؤمنات الصالحات شعوراً بالمودة والمحبة والارتياح لمن رآك.

بدون مبالاة قالت أحلام:

- تلبسني فكرة أن الإنسان حر، يفعل ما يريد.

- الحرية لها حدود، وقيود، ونحن في مجتمع ذي فضائل وقيم.

- أريد أن أتعايش مع نفسي، ومع الناس بما يحلو لي.. تعبت من مشاعري الغاضبة، الحانقة على من شرودنا.

- انظري إلى ليلى، قلبها عامر بالتقى والصلاح، وتشيع الهناءة في البيت، وتجعل الحياة فيه نديّة، برغم كل ما مر بها من بلاء، أقبلتما معاً من الأرض السليبة، من بين الأوغاد، حين وجدنا الهرب أسلم طريقة، فالطواغيت رووا أرضنا بدماء أبنائها.. ماذا كان علينا نحن النساء أن نفعل؟

صمتت أحلام، وبصوت يشوبه الألم قالت:

- أجل الهرب أسلم طريقة.. كان كل شيء مؤلماً حزيناً.

قالت ليلى:

- أنت تنزفين مشاعرك على الورق.

- وأنت ماذا تفعلين لتسكني آلامك؟

- أفرغها في الصبر، والصلاة، والدعاء.

- ما أخبار الوطن؟.. لا ندري عن الأحرار شيئاً.

- علمت من عمي خيري أن الأحرار يقيدون بالعسف، والشقاء.

بأسف قالت الأم:

- يا حسرتا على الأحرار، أسفاً على أرض القداسة، والطهارة صارت أوكاراً للفاسقين.

- وفساداً جهاراً.

- إن شعبنا يسكنه الذل والقهر في بلده، ويلبسه أكثر في المهجر، فلسطين الأسود صارت مرتعاً للذئاب، والثعالب، ينهشها البؤس والشقاء.

- أنا قلقة حيال ذلك، يمزقني القهر، وكأنني في أغلال تقيدني، أمسي فيها وأصبح، حتى استحكم اليأس في روحي ووجداني.

- سمعنا من الإذاعة أن الصهاينة يفتكون بالأرواح، لا يميزون بين شيوخ وشبان، وأطفال.. الأشجار ذوت، والنار أضرمت في كل حقل.

- الحياة ليست سهلة، فيها أنواع البلاء، والصراع.

كانت أحلام تغوص في ذكرياتها، وتجاربها الذاتية في طفولتها، وصباها، وتعود بها إلى حارتها الأولى التي نشأت فيها، إلى الجيران، والرفيقات، بضيق سألت:

- هل سيخلد اليهود في فلسطين؟

- سيبعدهم الله عنا، بضلالهم، وكفرهم، وصدهم عن سبيل الله.

- حقائق واقعنا الأليم ستدفع باتجاه التغيير، ومقتضيات الحياة تفرض السعي، والتحرك لإنجاز التحرير.

- التحرير للضمير، والإرادة، وللأرض، والإنسان، فالحياة لا تعيش في فراغ، نحن أمة الإسلام مسؤولة أمام الله، حاملة رسالة سماوية، ينبغي الصمود أمام القضية الفلسطينية، ولا نسمح  لأنفسنا في تأييد الخنوع، والركوع.

قالت أحلام:

- الماضي أصبح شيئاً خرافياً، يجب أن نخرج من إساره، الكائن الحي يتطور كل يوم.

فكرت ليلى في كلمات أحلام، كلمة، كلمة، وجدتها لم تزل تؤمن بالهدم، والبناء، قالت:

- بالتطور الذي تؤمنين به نخسر عادات قديمة، ونكسب أخرى جديدة.. فليكن التطور ضمن وجود قيمنا، ليبقى معروفاً أن هذه الحجارة من هذا المقلع، تأثري بمن شئت، ولكن حافظي على أصالتك.

- نحن بمبادئنا اليسارية، نفكر دائماً بآفاق جديدة، نشعر بتعاسة الإنسان المعذب، وننادي بحريته، وكرامته، فالإنسان ولد ليسعد، وليعيش بانسجام مع الغير، ليس لتمضية حياته وهو يحتال على مشكلاتها، إن الحروب، وصعوبات الحياة صارت تهدد وجود الإنسان وكرامته.

- لماذا لا نغير ما بنفوسنا، فالدنيا تتغير بتغيرنا؟

- لا يكون إلا بإلغاء مبادئ الماضي،.. تعفنت.. علينا أن نغير تفكيرنا مع تطور الحياة.

- تريدين منا أن نخرج من جلودنا، ونلبس أخرى؟.. اسألي نفسك من أنت؟

- وأنا أسألك: من أنت؟

بفخر أجابت ليلى:

- أنا عربية مسلمة، من الأرض المقدسة أولاً، تأثرت بشعب بلادي، بفرحه، وحزنه، وآلامه، إذا لم أكن نابعة من أرضي، لا يمكنني أن أكون قوية. تربيت على طبيعتها، أمضيت فيها أياماً، وأزماناً، أراقب فيها تحولات الظلال على الأرض، وخلال أوراق الشجر، وأراقب تحولات الشمس، وصفوف النمل في حركتها، كنت أتأمل، والتأمل قوى صلتي بالخالق المبدع، وبوطني.

- الآن أرضنا لا تُسكن  في زمن البغاة، وباءت بالأسى، وقيد أحرارها بالسلاسل.

كانت الأم تصغي إلى حوار الأختين، بتحسر قالت:

- هل نحن هجرناها، أم هم دفعونا إلى الهجرة؟.. نبقى مرتبطين بها برباط الحب، والنسب.

قالت ليلى، والدموع تترقرق من عينيها:

- فلسطين وطني، روحي تشدو بنجواها شدو الطيور على أغصان الزيتون، والصفصاف، حين أذكرها يذوب قلبي شوقاً إليها، وتحرقني الآهات.

بين ضحكة أحلام ودمعتها قالت:

- أشتاق إلى مرابع طفولتي، إلى شجرة البلوط التي بها أرجوحتي، إلى الساقية تحت جذوع الشجر أغسل فيها قدمي، إلى كل ذرة من تراب فيها، خطوت فوقها.

- ما أصعب عيشة الذل في أرضنا، كيف نستذل بملكنا؟ كيف يعيش الردى بيننا؟، كيف تقتلع منها جذورنا؟.. لقد أصبحنا غرباء في دروب وطننا، يلاحقنا الرعب، والاقتلاع.

- هاجرنا كغيرنا، نجونا بأجسادنا، وبقيت أرواحنا تبحث بين الأكمات، والتلال، والبيوت المهدمة، عن ذكريات كانت، ولا تزال.

- العيش في الوطن مع الفقر كرامة لأهله، وفي غيره خضوع للوهم.

- أف من هذه الحياة التي أصبحت مزيفة، تحطم كبرياء القلوب.

بهدوء قالت ليلى:

- نحتاج إلى الرجوع إلى همة الأولين، ولو قيد شبابنا بسلاسل السجون، لا بسلاسل الأعناق تقليداً للغرب.

بوله قالت أحلام:

- إنني عاشقة لوطني، ولن يزول حبه من قلبي ما حييت.

- لا بد يا ابنتي من التأقلم مع المحيط الجديد.

- بهذا المحيط الذي تسيطر عليه تقاليد جامدة؟

(6)

الأسئلة حائرة، قلقة في ذهن أحلام، تريد لها إجابات واضحة، لجأت إلى عمتها، باستفزاز سألتها:

- لم تركتنا في نابلس، ولجأت إلى بيت عمي خيري؟

- بصراحة، خشيت على نفسي، كان أبوك ثورياً.

- صوته في أذني، لا يزال يدوي.. وعمي خيري، ألم يكن ثورياً؟

مصت شفتيها، تلعثمت بالكلام، ثم قالت:

- لا أدري.. لا أدري.

- لماذا لا تدرين؟.. لا أستطيع أن أنسى الأيام الجميلة التي عشتها في نابلس، لقد خذلها أهلها، أليس كذلك؟

- لم يخذلوها، لكن الأحداث باغتتهم، وخذلتهم، وهم غافلون، الزمن هو الذي شردهم.

- كل شيء نلقيه على الزمن، ونعلق عليه الأشياء بكل ما فيها من خير وشر،.. نحن الزمن، نحن الحياة، الحياة والزمن من غير البشر فراغ، البشر هم الذين يملئون الفراغ.

حدجتها عمتها بنظرات ذات معان، ثم قالت:

- إذاً أنت تلومين السكان؟

- وألوم التخلف عندهم.

- ولذلك تعتبرين التعلق بالماضي تخلفاً، فاعتنقت مبادئ غريبة، لا تمت إلينا بصلة، رأيت فيها يقظة، وبداية جديدة.. رجاء كفي عن الحديث، لا أحب أن أناقشك بمثل هذه الأمور، أعرف عنادك، وإصرارك، رأسي يكاد ينفجر.

ضحكت أحلام، استمرت لحظات في الضحك، وهي لم تأخذه على محمل الجد، ثم قالت:

- عمتي حطمي فيَّ المآسي، ومزّقي أنيني إن استطعت.

بسخط قالت:

- كيف؟ وسموم الأفكار تجتاح نفسك، وتزيدها ظلمة؟

- أحاول بها أن أضيء بها عتمة نفسي، وأحولها إلى نور، لأصل إلى الاطمئنان في روحي.

- يا ويلتاه! أعن طريق الإلحاد؟ ألا تؤمنين بالغيب، والقدر؟

- أؤمن فقط بما تحسه يداي، وتلامسه عيناي، وأذناي.

شهقت العمة بعجب وهي تقول:

- كلام فارغ.

- وأنت تؤمنين بأشياء بعيدة عن الواقع.

- ألا تشعرين بالشقاء وأنت تهذين، وتحلمين؟

- الشقاء؟.. بل أنا في شقاء دائم، في ضيق واكتئاب.

- بسبب بعدك عن الله، تعيشين في وهم، وسراب، تخدعين نفسك،  والفطرة التي جبلك الله عليها.. إن ربنا هو الذي خلقنا، وخلق الحياة، وأنزل لنا منهجاً من السماء، نسير على دربه المستقيم، ليس كما يوحي إليكم شيطانكم بأن الطبيعة هي التي أوجدت نفسها.

- الواقع غير هذا.

- ما هو بنظركم؟

- حياتنا ملك لنا، نصنع بها ما نشاء، هي رغبات، وشهوات، نقبل عليها بنفس مفتوحة، دون قيود.

أمسكت العمة رأسها بين يديها، توشك ألا تصدق ما تسمع من ابنة أخيها الشهيد.. أيمكن أن تصل إلى هذا الحد من الإلحاد، والتمرد؟

أشارت بيدها:

- لا أريد سماع المزيد.. أنت ضائعة، فعلاً ضائعة، بجدالك تزدادين ضياعاً..

ثم بلطف حاولت أن توقظ الفطرة في نفسها، قالت:

- لا تقوم الدنيا يا حبيبتي إلا على الإيمان، وإتباع المنهج الذي رسمه الله للبشرية جمعاء، والتفرغ لتطبيقه، في عبادة وعمل,

- كان كذلك، والآن دفن مع الماضي.

- للأسف مبادئ حزبكم تجعلكم تائهين في فلاة الحياة.. جعلت من نفسك رائدة لجيلك من الشباب، تأتيهم بالسراب، وتوهمينهم بأنها حقيقة، وتعدينهم بحياة مزخرفة في ظل اليسار، بحياة ناعمة.. كلها هم وأوهام... أنت لا تدرين بأنها من صنع الصهاينة، لتشغلكم عن ماضيكم العظيم.. ستنكشف اللعبة التي يلهونكم بها.

- إنها لإنقاذ الشعور من الظلم.

- هم يضللونكم بها.. انظري إلى الشمس كيف تشرق في الصباح، تبهر العيون والنفوس بجمالها الفائق، ثم عند المساء لها أفول وراء الأفق تحلم.. سكتت حين دخل العم خيري، وعضت على شفتها بصمت، وبهمس تمتمت.

- لم يجد النصح معها.

في البيت كانت ليلى تنهال عليها بالنصح، قائلة:

- ما تعتقدينه فيه لذة وهمية، ووسوسة داخلية، وتجربة لعمر قصير، ثم تصيبك رعدة الموت والفناء، اعملي لما يرضي ربك، بعد إيمانك به.

- أتمسك بوجوب التحرر من الماضي.

- التحرر يبدأ بالعقول، وليس بهدم الأخلاق، تراثنا بحاجة إلى نظرة موضوعية، تزيل عنه ترسبات علقت به من ثقافة معادية لنا، حتى نستعيد زمننا المفقود.. وصراعنا مع الصهيونية عقائدي، لا يمكن إخراجه من محتواه، وحضارتنا الإسلامية خلدها التاريخ، واعترف بها الأعداء.. فهل من السهولة أن نلقيها وراء ظهورنا، ونجري وراء أخرى؟... الأمر أخطر مما نتصور، وأعجب مما نفكر.

- وتستمر الحروب؟

- الأعاصير لا تهدأ ما دام الاحتلال في وطننا.. هل هناك شتاء بلا أنواء؟.. طبعاً لا.

- والثائرون؟

- لا يهدؤون إلا بالموت.

- واليهود؟

- سيبقون تائهين.

أردفت ليلى قائلة:

- هل تعلمين بأن الأفكار التي تنادون بها، قد تخرجت من مصنع الصهيونية؟.. إنها ملفقة، مخادعة، مزورة، فكري بعقلك، وليس بهواك.

- شيء محير.

- هي الحقيقة، الصهيونية بذور سوداء داخل ديانة قديمة، زرعوها زوراً، وبهتاناً.. بإسلامنا نحاول استعادة تاريخ فلسطين الحقيقية.. هل اقتنعت؟

- لا أدري.. أحلم بوطن أفضل، بفلسطين....، ويبقى الوطن هو الحلم، قابلاً للتحقيق... ولكن كيف؟.. لست أدري.

- وكلامي؟ ألم يرسخ في عقلك؟.. أم تبقى أفكارك حاجزاً.

وقفت أحلام في شيء من الذهول، ساكنة، بدا عليها الاهتمام، تساءلت في قرارة نفسها:

"لم أحس بالوحدة في هذا البيت؟"

- بم تفكرين؟

- أشعر بالوحدة.. متى يكون الإنسان ميتاً؟

- لست وحيدة، ولكنك متناقضة في علاجك للأمور.

رأت للكلام في نفسها شحوباً، لم يضئها، تعجبت من حالها، كررت..

"هل أنا ميتة؟.. متى يكون الإنسان ميتاً؟"

وجدت أن العلاقة مع الصديقات تهزم الموت، الموت الذي تجده في البيت، كانت تبهت من حديث أختها، وعمتها، وتبقى العتمة في قلبها، لم ينوره ذكر الله أو أيُّ نصح، شعرت بالاكتئاب، وبموت التفاؤل للحياة، أو الطموح، وكأن أبواب الدنيا قد انغلقت في وجهها وبحيرة تتساءل:

"أذلك لبعدي عما يعتقدون؟.. ربما..

كلام عمتي وأختي يجرفني إلى عدم الثقة أحياناً في نفسي، حتى أصبحت أكره الجلوس معهما، لأنني  أشعر بتضارب الآراء فيما بيننا، إلى متى وأنا في تشاجر، وصراع مع من أحب؟"

كانت العمة تقارن بينها وبين ليلى، وابنة عمها منال، كانت أحلام تحدث نفسها قائلة:

"يزداد إحساسي بالوحشة، والوحدة منذ زمن، وبحيرة أتساءل:

أين أنا؟.. من أكون؟.. أين سأكون؟.. أيام عمري تصارعني، ونبضات قلبي تتسارع، ولا أجد في هذا البيت من يواسيني.. أراهم ضدي دائماً،.. وتتتابع الشهور، وتتعاقب الفصول، وأقول: قد ينتصر الأمل، وتشرق شمس كل صباح، ولكنها تجري بلا ارتياح في نفسي.. هل بسبب ما أعتقد، وأنا أحلم بتحقيق الحلم في أرض الواقع؟"

وقفت أمام المرآة تتأمل جمالها الفائق، حدثت خيالها بزهو:

"مثلي يمكن أن يملك العالم.. كل أموري من صنع قراري، من اختياري بطريقتي الخاصة.. سأتحدى، وأعيش لحظات عمري... سأتحدى الشعور بالكآبة، والإحباط.. ولكن كيف؟.. لا أريد أن أفقد معنى الحياة..."

ابتسمت، وغفت على حلم.

مع نسيم الصباح في اليوم التالي، انطلقت إلى مركز الحزب، حيث الرفاق، في عينيها جسارة، وفي مظهرها اختلاف، وفي فمها كلمات تتقافز بفضول، مع الرفاق والرفيقات تنسى آلامها، وتهرب من ذاكرة الأسرة وهمومها، وتكون معهم شخصاً جديداً لا علاقة له بالماضي، رأته الطريق الوحيد الذي يؤنسها، ويستحوذ عليها الزهو حين يصغون إلى عذوبة حديثها، ولطف فكاهتها، وإشراقة ابتسامتها، وتناثر ضحكاتها، كتناثر قطع الفضة فوق صفيح مضيء، ذي رنين محبب، تلتقطه الآذان بسرور، فكان تجاوبهم معها يزيل ما بنفسها من متأثرات متراكمة، قد علقت في ذهنها، وحولتها في البيت إلى خيالات، وأشباح، كان الأجدر بها أن تقبع في أقباء الذاكرة إلى الأبد، فكان الخروج، ومقابلة الناس، وحبهم، يحثها على الاستمرار في الدراسة، ونشاط ذهنها.

قوي شعورها بالانتماء إلى المجتمع الخاص، رأت فيه إغراءات الحياة الاجتماعية المتنوعة، إلا أن حريتها المطلقة ألبستها دور الفتاة المستهترة، فتستفز بتصرفاتها الألسنة، ولا تبالي بما تلوكه، ولا تبالي بما قد يجرفه التصرف المستفز من ضياع، وفي الطريق تكون مبهورة بالمعجبين.

كانت ظاهرة غير مألوفة في البيئة المحافظة، ذات جمال رائع، إذا خطرت في الطريق لاعب النسيم شعرها الذهبي، وهي تميس كغصن البان، بارعة في إهداء الابتسامة، والضحك.

لم تكن ليلى كذلك، كانت تعيش برفق من الله، ويسر في حياتها، ألهمت الحسن في الحديث والمعاملة، وتعلم أنها ليست المهجرة الوحيدة من الوطن.. استطاعت أن تنهض من بين الأحداث المؤلمة، وتبدأ حياتها من جديد بروح متفائلة، حين انضمت إلى جماعة دروس الدين في المسجد، بالإضافة إلى إقبالها على العمل الذي يدر عليها كسباً لا بأس به.

(7)

من الصعب أن يوصف الإحساس تجاه أحلام، كان في عينيها بريق يومض ويخفت، وفي شخصيتها جراءة، واقتحام، وفي حديثها بادرة غير اعتيادية، كانت أمها، وأختها تضيقان ذرعاً بجسارتها، ومشاعرها، وتريان أنها تسعى إلى حتفها بيدها، أما رفيقاتها في اليسار فكن يرحبن بها، ويحاولن أن يسرن على خطاها التحررية، لا يلبثن أن يصطدمن بحاجز القيم والتقاليد، ويرى الغيورون ما في الأفكار الجديدة من أخطار، تتعمق شيئاً فشيئاً مع الزمن، ومع الركون إليها، والتسليم بها، حتى إذا رسخت صعب اقتلاعها.. سمع من الكثيرين قولهم بتذمر:"لقد تركنا أبناءنا بأيد غير أمينة، فماذا ننتظر بعد ذلك؟"

أتى الربيع مبكراً هذا العام، مليئاً بالأمل الذي يتفتح مثلما تتفتح الأزهار، وفيه فيض من الذكرى، والشجن على الثوار في فلسطين والمهجرون يتوافدون، ويقاسون مرارة الغربة دون ذنب جنوه، ويتمنون العودة إلى أهلهم وذويهم الذين خلفوهم وراءهم، وبإلحاح يتساءلون:

"متى يخرج الوطن من أكبر أزمة عصفت به في تاريخه؟

لا ندري كيف غمر وطننا الطيب هذا القدر من السفلة والأوغاد؟

لماذا يحاولون محو هويتنا العربية والإسلامية من على خريطة الوجود؟

متى يتم تحرير الوطن، ويبعث من جديد؟

ومتى يتم إخراج شعبه من ظلمات القهر، والأسر، إلى معانقة المستقبل الواعد؟"

كانت كلمات رائد اليسار تعصف عصفاً، وأفكاره تتناثر في عقول الشباب، ومن ثم على شفاههم، وكان ثمة اندفاع، ونشاط في إرادة التطور، والتحرير.

وجدت أحلام نفسها تتخبط في دروب اليسار، ولا يلذ لها مبدأ غيره، ومن ثم أطلقت نفسها في هذا الدرب، وسرت في دلجة لا ترى من الأشياء فيها إلا شيئاً واحداً، هو في رأسها، يسري بها إلى أمد غير مضيء، كان في نفسها شوق وأحلام، ورحلة في طريق مغاير، تتيه فيه، ولا تدري بأنها تتيه، ورغم نقطة الضوء الذي يضيء لها أحياناً، ترسمه ليلى والمؤمنات الصالحات، إلا أنها ترده بكفيها، وتراه ظلاماً، وليس نوراً، حتى كثرت الفجوات المظلمة التي وصلت بها إلى حد الجهل أو التجهيل.

كانت تفرغ أسرارها في أذن صديقة لها، فتوصد عليها في جنبات نفسها، ولا تكشف عنها، أمانة أودعتها في ذاكرتها، فيها من الآلام الشيء الكثير، غلفتها بالصمت المطبق، ولكن كانت تتأملها بسكون بين يوم وآخر، ثم لا تبرح أن تخلد إلى النسيان.

ماذا تقول تلك الصديقة عن الأحداث التي استعصت على النسيان، والانطواء، وأي صفحة تكشف من تاريخ هذه الفتاة المقهورة؟.. محن لا تحصى، فجرت في نفسها كوة من الحزن، والحنين المتواصل في أعماقها منذ عهد الطفولة.

لم تلهم أحلام كتابة تاريخ عمرها باتزان،.. كان مخلخلاً، مهزوزاً، لم تفكر في إكمال دراستها، بقدر ما بحثت عن الحب الذي فقدته في أبيها، والظهور بتألق في المجتمع، وجذب أنظار الشباب باسم الحرية، والاستقرار في بيت جميل.. كانت تردد كلمتين ترسبتا في أعماقها: الحياة، والموت.. كانت نفسها متموجة بينهما، متكسرة،.. تنهال فوقها ركام الأحزان، وخراب المشاعر، وهي ترى صعود بيت عمها في مظهر مريح، وهبوطها مع أمها في حضيض الفقر.

كانت تسكنها رغبات، وأمنيات، يشدها شعورها بذاتها، وحبها للحياة، ومحاولة الاندماج فيها.. حاولت أن تشق طريقها بمعيارها الذاتي، كما تريد أن تكون، لا ما هي كائنة الآن، وتحاول أن تقهر الظروف التي وضعتها في هذا الطريق المزدحم بالمواقف والأحداث التي لفت حياتها، وأحاطتها من كل جانب.

كانت ودودة، محبة، تدخل السرور إلى قلوب من يجلس معها، سريعة النكتة، ضحوكة مرحة، وكانت رقيقة المشاعر، وجدانية في انشراحها.. تذهب بعيداً، وتترك جسمها مع الأصدقاء، لا تحس أحياناً بوجودهم، فيتساءلون بحيرة: إلى أين ترحل؟.. هل يشدها الحنين إلى وطنها؟.. يتركها الأصدقاء، ثم لا تلبث أن تقبل عليهم في رحاب أحلامها الجميل، بكلماتها العذبة، وابتسامتها المشرقة، وضحكاتها الرنانة.. يهدأ خاطرها بعد أن يرتع بها الخيال، وتستوفي نفسها رحلتها الخيالية.

وكانت دائمة البحث عمن يسعدها، ويطمر حزنها.. ففي البيت وهي مع أمها، وأختها تشعر بالعزلة الموحشة، فلم تأنس بعبرة، أو موعظة، إنما يؤنس وحدتها الناس، وكأنها في جوع عاطفي، اجتماعي.

حين كانت صديقاتها يقبلن على الدراسة، والمطالعة، ويشعرن بطعم الحياة في الكتب، من خلال تجارب الآخرين، حتى تصبح الحياة في خصوبة دائمة، وتجدد، كان كتاب أحلام التصفح في وجوه الناس، وكلماتهم ومشكلاتهم.

انبهر الشباب بحسنها، وغمرتهم الدهشة بمرحها، وحسن لفتاتها، فما كان في البلد فتاة تجرؤ على الخروج مثلها، الفتيات محجبات، يلبسهن الخفر والحياء، يدن بدين الحق، ويأخذن بكل أمر إلهي.. كانوا يعللون مظهر أحلام، بأن بيئتها في وطنها كذلك، ويفترضون افتراضات متنوعة، تساءل الكثيرون:

- ماذا تريد أحلام بعرض مفاتنها؟

- هل تريد المتعة لنفسها، وللشباب؟

قال أحدهم:

- هذا عار في مجتمعنا.

وقال آخر:

- سنرى النتيجة بعد زمن ليس طويلاً.

عض أحدهم بغيظ على شفته، إنه يخشى على بنات البلد من التقليد، طبيعة المجتمع ترفض الفساد، ويرون في هذه المهجرة نمطاً فريداً في بيئتهم، وغير صالحة لتعيش بينهم.. فأسباب الحياة البريئة من السوء تتوافر في مجتمعهم، وتتلاءم مع نفوس أهلها، ويتلاقى فيها حب الدنيا، والآخرة، وتنشط فيها حركة الدنيا باتزان.. فكانت النظرات تحاصرها، متناقضة، منها المريبة، ومنها المشجعة، مما جعلها تحس بقلق في وجودها، وتغيرات مفاجئة في داخلها، ظهر في ردود الأفعال المتنوعة، الملأى في التعبير عن الضيق، والانزعاج.. وانعدمت الحياة الروحية لديها، لتأثرها برياح الأفكار اليسارية التي تهب على البلد.

لم تستطع أحلام أن تسقط الماضي من وجدانها.. لا تدري، أهي التي تتشبث به، أو هو الذي يتشبث بها؟.. هي تعيش الحاضر، ولكن بفكر، وذوق، وتصرف مغاير للواقع المعيش، وتتنكر لكل قديم، وترفض أن تتحول إلى السبيل الصحيح الذي يمكن أن يفصلها عن الأفكار التي تلبسها.

قالت ليلى:

- جميل التنوع، ولكن ليس على حساب شريعتنا.

سألت الأم:

- هل يمكن ترويض أختك؟

- كل شيء ممكن، إن كان لديها رغبة في ذلك، من دون اضطهاد. أمثالها من المهاجرين كثر، أشاهد بأيديهم كتيبات تعرض الأفكار الجديدة، وأملهم إنقاذ فلسطين من أيدي الجزارين، معتمدين على قوة خارجية.

- شيء يدعو إلى السخرية، لا يدرون أنه غزو جديد، واستعمار من نوع آخر.

باستهتار قالت أحلام:

- المرأة في المجتمع أسيرة التقاليد، ومعطلة عن القيام بدورها.

- بل تساهم في بناء مستقبلها، ومستقبل وطنها، وشريكة للرجل في الاعمار والبناء، وفي مواجهة التحديات التي تهدده بالخطر.

بقي النقاش ساخناً، لم ترد ليلى أن تبرده، قد يكون صعباً، تتبعه محاولات، تهز أحلام هزاً عنيفاً، ربما تتنازل عن أفكارها المتوحشة، التي يفرضها على المجتمع غربان غريبة في القيم، والفضائل.

كان رئيس الحزب يستغل جسارتها، لتكون من عوامل نشاطه في نشر الأفكار الإلحادية، لذلك كانت تردد قائلة:

- أريد أن أخرج من جلدي، ضاق بي، وعفا عليه الزمن.. ما المانع؟

قالت ليلى:

- لقد خرجت فعلاً، فلا تخرجي غيرك.. ندعوك إلى الحياة، وأنت تدعيننا إلى الجمود، والموت، وبالانصهار في بوتقة الغير.

- كيف يمكن للإنسان أن يتخلص من حمولة الماضي، أو يرفض الحاضر في ظل أوضاع متجددة؟.. أبحث عن هوية، فقدانها يلقيني في ضياع.

- لماذا تفكرين بهوية؟.. الهوية أوجدها لنا الاستعمار، هي عامل تجزؤ، وتفرقة.. آن لنا أن نفكر بموضوعية، ونغير الأشياء من حولنا، ونشعر في بناء تصور جديد يتلاءم مع تراثنا، وحضارتنا، بحيث تكون لنا هوية موحدة.

- لست أدري، لماذا لم أستطع الاندماج مع مجتمع غير مجتمعي الأصلي، رغم انطلاقي، وتحرري؟

- لأنك خنت القيم، وخنت أباك الشهيد، وأسلمت نفسك للأفكار السوداء.. قيمنا واحدة هنا وهناك، لم تتغير، ولكن نظرتك هي التي تغيرت.

- بحسب ما تمليه علينا الظروف المستحدثة، بحيث تركت بصماتها علي، في أفكار، وسلوكيات، وتصرفات.

- هذا لون من ألوان الاستعمار.. ما يحدث لك من توتر، وانحراف فبسبب علاقتك الوطيدة مع جماعة معينة، نتيجة أسباب معينة، سببت لك القلق، وخيبة الأمل، وجعلتك تنظرين إلى التراث، ظاهرة آيلة إلى الزوال، وجعلتك تتنكرين لأصلك، وتتخلين عن ذاتك.

صمتت ليلى برهة، ثم تابعت:

- إنك تقتلين نفسك ببطء، بابتعادك عن الدين.

أحست أحلام بالغرق، والبرودة في أطرافها، تأملت في هذا الزمن الجريح، في الهزائم، أبحرت في الذاكرة إلى الوطن، وبقلق تساءلت:

"ويح قلبي، هل أنسى المواقف المؤلمة، وألقي بأفكاري وراء ظهري؟"

انطفأت نقطة الضوء، وغلب الدمع في عينيها، ثم سرعان ما جف.

(8)

الشيوعية دفعت أحلام إلى التحرر، والاختلاط بين الجنسين، واتباع الشهوات، كانت تميل إلى ذلك كله، دون الانغماس في حزب معين، إنما هو رد فعل تجاه الواقع التي هي فيه،... نفسية ممزقة، ثم مشاعر، وهوى، ورغبة في الحب، وأم واهية تغزوها الأمراض، وليلى تتحمل شيئاً من المسئولية إلى جانب ما خصصه العم خيري من نقود شحيحة، وأحلام تحلم بأحلام في الأرض، ويملأ عطفها الأوهام.. ترى التقاليد تلبس المجتمع، وتلبسها هي، وتدفن عالماً آخر داخلها تتشبث به، تستمتع باستغراقها فيه.

نظرت إلى ليلى في حجابها، سألتها:

- أراك تسيرين وراء التقاليد، وتغلقين نفسك داخلها.

- إنها من قيمنا، وفضائلنا، تجعل المجتمع محترماً، تكون المرأة في الحجاب متألقة..

- الحجاب سجن، وموت.

- هو حرية معقولة، وحياة سليمة من الفساد... ثم جنة عرضها السموات والأرض، أعدت للمتقين.

- ألا تشعرين بالحاجة إلى التطور؟

- هذا انفلات،إذن سيكون مصيري الضياع.

- تأملي حياة الغرب، هل المرأة في ضياع؟

- أجل، تائهة، ضائعة، لذا يكثر في الغرب الانتحار، لأنهم يلتصقون بالأرض فقط.

توقفت عند هاجس روعها في كلمة انتحار، كانت كرصاصة تنطلق من بندقية، لتستمر في عنق الحياة.

بصوت خافت سألت أختها:

- كيف أتخلص من هواجسي،... تكاد تخنقني.

- بالتقرب إلى الله سبحانه.

- ولكن..

- ماذا؟

- سبق أن قلت: غير مقتنعة بالغيب.. لا أخفي عنك شعوري، كأنني أمشي حافية القدمين في صحراء واسعة، تلقي بي الريح في مكان سحيق، أبحث عن ماء فلا أجده، وعن نبات فلا أرى غير الشوك،.. لا أحس بما تذكرين في نفسي.

- صدقيني، إنه موجود في نفسي، ونفسك، ونفوس الآخرين، لا ترينه.. موجود في الصحراء، في واحات خصبة جميلة، بنبع ماء، وشجر، وثمر، يرتاح عندها العطشى، وعابرو السبيل في الحياة... الدنيا تعب وعقبات، ولكن أرواحنا تذللها باللجوء إلى الإيمان، فترتاح عنده، وتشفى.

كانت ليلى تقف ورأسها بمحاذاة القفص المعلق بالجدار، وطيرها يغرد، ويقفز بحركات صاخبة، تحدثه، فيرد بنغمات مرحة.

- انظري يا أحلام، إنه طائر بديع، أليس كذلك؟

- بلى،... لكن خسارة.

- لماذا؟

- سيموت، وتحزنين، ويبقى ذكرى مؤلمة.

- تفاءلي.. مصيرنا كلنا إلى الموت.. الحياة ستفنى بمن فيها، ثم الانتقال إلى الحياة الآخرة.

لطمها التعبير.. تركتها مع طائرها، ودخلت الغرفة، ضيقة الصدر، وهي تردد باشمئزاز: حياة أخرى.. ما أسخفها!

لحقت بها ليلى:

- لم هربت؟

- أريد أن تكفي الحديث عن الإيمان، والآخرة، و..

- لا يمكن، لأنه ذو صلة وثيقة بالعقيدة.. هداك الله.

نهضت ليلى، آسفة على ما بأختها من ضلالة، وضياع.. وفي الليل تستسلم أحلام للدجية، تتهادى مع أفكارها الغريبة شيئاً، فشيئاً، ثم توشك على الانهيار، ويأخذ بها الاستغراب، تتساءل:

"لماذا لا تقتنع أمي، وأختي بمبادئي؟... أليس هذا غريباً؟"

ثم تتفجر أنوار الصباح، تنهض، ومظهرها يوحي بالتماسك، والقوة، ولكن نفسها متناثرة، فأفكارها تفتتها من الداخل، نار بلا دخان.

كانت كثيراً ما تشعر بالكآبة لما يعتمل في نفسها من الهواجس، والاضطراب، تحتاج إلى من تحدثه بهمومها، قالت لها ليلى:

- أنا مثلك، ولكن تجاوزت الصعاب بإرادة، وسلام، واستقبلت الحياة بطيبة، وحمدت الله ربي، أما أنت فتركتها تستحوذ عليك، وما تزالين في فجر حياتك، أتعبت نفسك، وأتعبتنا معك، أردت تغيير مظاهر حياتك، وعجزت عن تغيير ما بداخلك، وتمردت على الجميع  بأفكار غيرك.. وقانا الله منها.

- البلد عقيم. 

- مخطئة في فهمك لها، فيها تراحم، وتواد، وعدل، وحق، وخير، حرري قبلك من الخوف، ونفسك من الجبن، وعزيمتك من التردد، واملئي قلبك بالإيمان... الدنيا متاع قليل، كانت زمناً، وغدت لحظات يسيرة، يا ويلتنا! نخطط، ونخطئ التخطيط.

- لماذا؟

- لأننا نخطط للأرض فقط، وليس لما فوق الأرض، نعيش بأفكار الآخرين. ونوغل في الوحل شيئاً، فشيئاً، ثم ندعي بأننا مظلومون، مسلوبو الحقوق.. في ذواتنا نفاق مشوب بالشوك.. عصرنا يحمل إلينا قناديل من مهازل السياسة، مظلمة، لا نور فيها، ولا ضياء... هل العيون مفقودة بحيث تحتجب عن النور؟ أم هي بصائرنا التي أظلمت؟.. لا يأخذنا التشاؤم حيال الوضع القائم في منطقتنا، بعد الغزو الصهيوني لفلسطين.

- نسجت حول سقوط فلسطين، حكايات، وقصص شعث.

- حكايات مفتعلة أذاعوا بها، تراخت لها الأعصاب، وتبلبلت لها النفوس، تمهيداً لتحقيق حلم صهيون الكبرى، من غير احتلال حقيقي.

- تتردد كثيراً كلمة "صهيونية" في العصر الحديث، ملازمة لليهودية، ابتدرتها ليلى قائلة:

- قرأت مقالة في إحدى المجلات عن نشأة الصهيونية، هل أسمعك إياها؟

- بكل سرور؟

بدأت ليلى بالقراءة:

"لقد ثبت تاريخياً أن السلطان عبد الحميد الثاني، الرجل الذكي، قد عرف أبعاد المطامع الصهيونية، وأغراض اليهود من الاستيطان في فلسطين"

من الغرفة المجاورة، صرخت الأم:

- لعنهم الله.

تابعت ليلى:

"فإنه بعد أن عقدت جمعية صهيون اليهودية مؤتمرها الأول في مدينة "بال" بسويسرا عام 1897م، كانت قد قررت الخطوط الأساسية للبرنامج الصهيوني في بروتوكول مؤلف من 24 مادة، وركزت جهودها نحو تخريب روسيا القيصرية، والإمبراطورية العثمانية، وقد نجحت في ذلك."

قاطعتها أحلام بدهشة:

- ما غرض الصهيونية بتخريب روسيا القيصرية؟

أجابتها ليلى:

- كان سعيهم إلى تخريب روسيا بسبب ما كان يدعيه اليهود من اضطهاد يلاقونه من الحكومة القيصرية، والكنيسة الأرثوذكسية.

بتعجب سألتها أحلام:

- ولماذا سعوا لِتخريب الإمبراطورية العثمانية؟!

بضيق قالت ليلى:

- لا تقاطعيني يا أحلام باستمرار.. أما بالنسبة إلى الإمبراطورية العثمانية فكان السعي إلى تخريبها هو رفض السلطان عبد الحميد منح اليهود حق إقامة موطن لهم في فلسطين.

بادرتها أحلام قائلة:

- أكيد.. كان هذا الرفض أحد الأسباب الخفية وراء الانقلاب الذي حدث عام 1908م، وبالتالي إلى خلعه.

- أحسنت، فقد اعتبره اليهود العائق المهم أمام تحقيق أحلامهم في فلسطين، وقد استغلت الجمعية الصهيونية، الضائقة الاقتصادية التي كان يمر بها العالم، والدولة العثمانية بشكل خاص، فلجأت إلى الإغراء المالي لتحقيق أهدافها.

بهتت أحلام من مكر اليهود ووقاحتهم، وبادرت قائلة:

- إنهم يريدون أن يشتروا الضمائر بمالهم.. هل استطاعوا أن يشتروا ضمير السلطان عبد الحميد؟

بهدوء تابعت ليلى قائلة:

- اختارت الصهيونية محامياً يهودياً، كان قد أسس محفلاًً ماسونياً إيطالياً في مدينة "سالونيك" اليونانية، و..

- كما أعلم، كانت هذه المدينة ضمن الدولة العثمانية.

- أجل... واسم هذا المحامي (أمانؤئيل قرصو).. أراد هذا أن يقابل السلطان عبد الحميد، وذلك بعد أربع سنوات من مؤتمر بال الصهيوني، وقدم له عريضة يلتمس فيها منح اليهود منطقة ذات إدارة ذاتية في فلسطين، تمتد من شمال يافا إلى شرق بحيرة طبريا، ثم إلى جنوب غزة، انتهاءً بالبحر، وفي مقابل ذلك تقدم الجمعية الصهيونية قرضاً لمدة غير محدودة، قيمته (20) مليون ليرة ذهبية دون فائدة إلى خزينة الدولة، و(5) ملايين ليرة ذهبية إلى خزينة السلطان كهدية.

ضغطت أحلام بكفيها على صدغيها، وانفجرت قائلة:

- أيمكن أن تصل الخساسة باليهود إلى هذا الحد؟.. تراب فلسطين لا يباع بمال الدنيا.. هل وافق السلطان لهذا الإغراء؟

ابتسمت ليلى وهي تقول:

- عندما سمع السلطان عبد الحميد لفحوى العريضة، استشاط غضباً.

- فقط؟ هل اكتفى بالغضب؟

- قال له ما خلاصته: إن أرض فلسطين ليست ملكي، إنما هي ملك الأمة الإسلامية.. اعلم أن ما حصل عليه المسلمون بدمائهم لا يمكن أن يباع بالفلوس.

رفض السلطان عبد الحميد طلب اليهود، وطرد "قرصو" من مجلسه.. ألم أقل لك منذ البداية بأن عبد الحميد رجل ذكي، ومؤمن، يخشى على فلسطين المسلمة،... ثم، هل تدرين ماذا قال لمن في مجلسه بعد ذلك؟

- ماذا قال؟

- ربما.. إذا تمزقت إمبراطوريتي يوماً، يمكنهم أن يحصلوا على فلسطين دون مقابل.

تأوهت أحلام وهي تقول:

- هذا ما حصل، أليس كذلك؟

- الحكاية لم تنته يا أختي.

- هل من شيء آخر؟

- لقد انتقم هذا اللعين من عبد الحميد انتقاماً فظيعاً.

- كيف؟

- لقد تسلل إلى جماعة الاتحاد والترقي في سالونيك، فقد فتح لزعيمهم "طلعت" أبواب محفله الماسوني، لكي يجري اجتماعاته السرية فيه، واستغل مبادئ الماسونية: (الحرية، الأخوة المساواة) في جذب العديد من الضباط الشبان، وغيرهم من المدنيين للانخراط في الماسونية، وفي جمعية الاتحاد والترقي، التي اتخذت لها الشعار المماثل: (الحرية، الأخوة، المساواة)

بذهول قالت أحلام:

- شيء مخيف، وبعد ذلك؟

- تطورت الأمور بسرعة،.. أدت في النهاية إلى أن هبَّ الجيش في وجه السلطان عبد الحميد، وإلى نجاح الحركة عام 1908م، وبالتالي إلى خلع السلطان عبد الحميد.

بأسف قالت أحلام، والدمع يترقرق من عينيها:

- إذاً، الجواب الحازم من السلطان عبد الحميد الذي واجه به العرض الصهيوني كلفه عرشه؟

- أجل... فلم يكن الضباط الشبان، ورجال الاتحاد والترقي ممن يتحلون بالروح العثمانية الإسلامية.

- لقد حكموا على الإمبراطورية بالانتحار.

- وبالتفتت أيضاً، فقد اقتسمها الطامعون الأوروبيون.

- وهل من جديد؟

- أجل يا أختي، ثم صدر وعد بلفور عام 1917م، الذي اعترف بحق اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين.

- هذا الوعد كان تحقيقاً للحلم الخيالي الذي كان يراودهم.

كانت الأم تصغي إلى الحوار، اقتربت من ابنتيها وقالت:

- كان أبوكما رحمه الله يحدثني عن قصة الاستيطان اليهودي، والخطة المهيأة لاستملاك الأراضي في فلسطين، فكرة عميقة، مدروسة منذ زمن طويل، وعلى مستوى عالمي، ووفق تعاون وثيق بين اليهودية العالمية، والصهيونية المسيحية.

بغيرة شديدة قالت ليلى:

- كان أكبر عقبة أمام تلك الأحلام، وجود خلافة إسلامية، وعلى رأسها رجل ذو نظرة بعيدة، وفهم عميق للسياسة الدولية، والأطماع.

يتبع إن شاء الله..

           

 

* أديبة سورية تعيش في المنفى