( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا )

محمد شركي

من المعلوم في الاعتقاد الإسلامي أن مجيء الإنسان إلى هذه الحياة الدنيا، ورحيله عنها إلى الدار الآخرة ثم بعثه فيها من جديد كل ذلك من تقدير الله عز وجل، ولا يملك هذا الإنسان أن يقدم أو يؤخر مولده أو موته أو بعثه . وهذا الاعتقاد يعطي الإنسان قناعة تبعث فيه طمأنينة النفس ، وتدفع عنه الخوف والحيرة  من موت يلاحقه ، كما تدفع عنه ما ينغص عليه حياته من شدة التفكير والانشغال برحيله عنها ،  لم ينشغل من قبل بمجيئه إليها .

ولقد ضمّن الله عز وجل في محكم التنزيل ما يمد الإنسان المؤمن بطمأنينة النفس فيما يتعلق برحيله عن الدنيا في قوله عز وجل : (( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا )) ،وهو قول يقطع كل شك محتمل في أن الموت يمكن أن يكون خارج إرادة الخالق سبحانه وتعالى ، وأنه لا يحصل إلا إذا أذن له بذلك أو قال له " كن " . وقوله تعالى : (( كتابا مؤجلا )) هو تأكيد لقوله  : (( بإذن الله )) لأن كل ما يكتبه الله تعالى، يجعل له أجلا معينا، لهذا جاء في كتاب الله عز وجل قوله : (( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها )) .وأجل موت الإنسان وقت محدد ومعلوم عند الله عز وجل في الزمن . ويقال لمن يموت جاء أجله أي حان رحيله عن الدنيا إلى الآخرة بانفصال روحه عن جسده .

 ولقد جاء في التفسير أن سبب نزول هذه الآية هو ما أشيع عن موت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد ، وذلك للنيل من عزم المجاهدين ، فجاء بيان الله  لهذا السبب عز وجل لحكم  عام أجراه على كل نفس ،وهو موتها في أجل قدره سبحانه وتعالى فلا يؤخر إذا جاء ، وهو ما يؤكد قوله تعالى : (( ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها )) .

ومعلوم أن الله عز وجل حين يجري الموت على الناس، يجعل لذلك أسبابا ، فتشغلهم  في الغالب عما هو أهم، وهو إذنه سبحانه وتعالى برحيلهم عن الدنيا . ولمّا كان رحيلهم عنها له أجل معلوم من تحديده سبحانه وتعالى ، فلا أهمية لأسبابه، كما عبر عن ذلك  الشاعر العربي ابن نباتة السعدي  ببيته المشهور:

وقد ينشغل الناس بالعديد من هذه الأسباب ، وقد يجزمون أن الموت حاصل بها لا محالة إلا أنه أحيانا يحصل شيء منها دون أن يحصل معه الموت لأن الله عز وجل لم يقدره ولم يأذن به  ، لهذا لا بد أن يسبق التفكير اعتقادا في الآجال قبل التفكير في الأسباب .

ولا طائل من وراء الخوض في موضوع الموت بالتركيز على أسبابه كما يفعل كثير من  الناس ، فيشغلهم ذلك عن موضوع الآجال ، لهذا جرت عادتهم إذا نعي لهم أحد من الناس أن يبادروا بالسؤال عن سبب موته ، فإذا ذكر لهم السبب استمروا في طرح أسئلة أخرى متعلقة به من قبيل : كيف ، ولماذا ، ومتى ... ؟حتى إذا استنفذوا كل استفهام نبههم قائل منهم : إنه الأجل ، فيسلم الجميع بذلك ، ولو أنهم انطلقوا بداية من هذه القناعة أو لنقل من هذا الاعتقاد لأغناهم ذلك عن أسئلة لا فائدة من طرحها . وما الفائدة  من معرفة أسباب الموت إن لم يكن ذلك ضروريا كما هو الشأن على سبيل المثال في حال موت يكون سببه جريمة قتل  لا بد أن تعرف مرتكبوها كي يعاقب ...  أو غير ذلك من الأسباب التي يجب تنبيه الناس إليها وتحذيرهم منها   ؟ أما ما عدا  ذلك، فلا فائدة ترجى من وراء ذكره أومعرفته .

ومع  القناعة أو الاعتقاد بأن الموت لا يحصل إلا بإذن الله عز وجل في أجل معلوم محدد، فإن المطلوب من الناس  تنكب الأسباب المؤدية إليه لقول الله تعالى : (( ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما )) ،وقد ورد في سياق  تفسير هذه الآية ذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا ، ومن قتل نفسه بسم ، فسمه في يده يتحسّاه في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا ،ومن تردى من جبل فقتل نفسه ، فهو مترد في نار جهنم خالدا مخلّدا فيها أبدا " .

حديث هذه الجمعة دعا إليه سببان :  أما السبب الأول ،فهو انشغال الناس بهذا الوباء المنتشر بينهم انشغالا صرفهم عما يجب من اعتقاد بأن من هلك به إنما هلك لأن لأجل مكتوب عند الله عز وجل قد حان أوانه ، وما هذا الوباء سوى سبب من الأسباب المتعددة التي تكون وراء الرحيل عن الحياة الدنيا إلى الدار الآخرة، وأما السبب الثاني ، فهو عدم اكتراث بعضهم بخطورة هذا الوباء بالرغم من يقينهم بأنه مسبب للهلاك ، وبالرغم من مناشدتهم كي يحذروا مما يفضي إليه بفعل التقارب فيما بينهم دون تكميم الأفواه والأنوف لمنع العدوى ، أو دون تعقيم ما يتبادلونه بينهم مما يكون ناقلا لها ... إلى غير ذلك مما يوصي به أهل الخبرة بالطب.

والذي يعنينا في هذا الحديث هو السبب الثاني الداعي إليه ، ذلك أن العدوى قد زادت وتيرتها ،واستفحلت خطورتها ،الشيء الذي يعني أن بعض الناس لم ينفع معهم تحذير أو نصح، وأنهم يتعمدون قتل أنفسهم ،وقتل غيرهم أيضا دون الامتثال لنهي الله عز وجل عن قتل النفس ، ودون الانتباه إلى ما حذر منه رسول الله صلى الله عليه وسلم من تعمد قتل النفس بشكل أو بآخر . وإذا كان عليه الصلاة والسلام قد ذكر من تلك الأشكال القتل بالحديدة  أو بالسم أو بالتردي والسقوط من أعلى ، فإن كل أشكال القتل الأخرى يسري عليها  حكم ما يسري على التي جاء ذكرها  في الحديث النبوي الشريف . وبناء على هذا من تعمد أن يصاب  بهذه الجائحة الحالّة بالبشرية أو ينقلها إلى غيره  ، فإنه سيعذب بها يوم القيامة في جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا .

ولهذا كان من المفروض أن ينحسر هذا الوباء في الأمة الإسلامية التي يتلى فيها كتاب الله عز وجل، ويذكر فيها حديث رسوله صلى الله عليه وسلم إلا أنه مع شديد الأسف والحسرة، نلاحظ انتشاره بل استفحاله في بلادها أكثر من انتشاره  بلاد من لا يدينون بدينها .

ولا يعقل أن يتذرع بعض الناس بذريعة حلول الآجال لتبرير تعمدهم نشر الوباء  بينهم عن طريق التقصير في الحمية من عدواه تباعدا ، وتكميما ، وتعقيما ... مما  ينصح به أهل العلم والخبرة  بالطب.

اللهم إنا نؤمن إيمانا راسخا أنك المحيي المميت متى تشاء وأنى تشاء إلا أننا نعوذ بك ألا ننتهي عما نهيتنا عنه من قتل أنفسنا بشكل أو بآخر ، كما نعوذ بك أن تلحق بنا العذاب الذي أعددته  لمن يتعمدون قتل أنفسهم كما أخبر بذلك  الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم . اللهم من كتبت عليه الموت بهذا الوباء ،فاكتب له  يا رب بذلك شهادة مع الشهداء  وفرحه بها .

اللهم عجل برحيل هذا الوباء عنا  بلا عودة ولا كرة ، وآمنّا من خوف ، ورد بنا إليك ردا جميلا ، ولا تخزنا بالبعد عن كتابك أو سنة نبيك عليه الصلاة والسلام ، واجعل اللهم ما حل بنا سببا في  صلحنا معك وعودتنا إليك عودة صادقة  .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .