( فأقم وجهك للدين حنيفا )

محمد شركي

( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )

من المعلوم أن الله تقدس اسمه ،وعز سلطانه، وله الأسماء الحسنى والصفات العلى قد أحسن خلق كل شيء مصداقا لقوله عز وجل : (( الذي أحسن كل شيء خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون )) ، ففي هذا النص القرآني الكريم إشارة واضحة إلى تنزيه الله عز وجل كل ما خلقه عن القبح أو العيب أو النقصان ،لأنه جل في علاه الصانع الذي أتقن صنع  كل شيء .

ولا يشذ خلق الإنسان عن خلق غيره من المخلوقات إتقان صنعة  وحسنا . وليس أحسن عند الله عز وجل من بدء خلقه من طين ، وليس أحسن من جعل نسله من ماء مهين على ما قد يظن البعض من دونية في الطين وفي الماء المهين، لأن نفخ الله عز وجل فيهما من روحه جعل منهما أحسن ما يخلق منه الإنسان ، كما أن جعله  سبحانه فيه دقة الإبداع حيث جعل الإنسان سميعا بصيرا عاقلا .

ويسمي الله عز وجل الهيئة التي خلق عليها الإنسان فطرة ، وهي اسم هيئة من الفطر وهو الخلق ، أو الجبلّة  وهي من الجبل ـ بتسكين الباء ـ ولها تجليّان : أحدهما مادي ، والآخر معنوي ، أما المادي فهو الهيئة الجسدية التي صور عليها الإنسان  ، وأما المعنوي فهو الهيئة النفسية التي جعله عليها  . وخلق الإنسان على هاتين الهيئتين اقتضتهما الغاية التي من أجلها خلق وهي استخلافه في الأرض ، وابتلاؤه في الحياة الدنيا  ليجازى على ذلك في الآخرة حسب سعيه الذي سعاه .

ولما كانت هذه الغاية في غاية الأهمية بالنسبة للإنسان ، فقد فطره الله سبحانه وتعالى ليكون في مستوى الاستخلاف والابتلاء ، ولا تكون له بعد هذا الفطر حجة على خالقه يتذرع بها أو يبرر بها ضلاله عما هداه إليه من صراط مستقيم . والفطرة التي فطر عليها الإنسان فطرة سوية تؤهله إلى بلوغ الاستقامة لخالقه كما أمره  وكما يرتضي له ذلك .

ولقد ذكر الله تعالى بعد النفخ في الإنسان من روحه جعله سميعا بصيرا عاقلا ، وهاتان الحاستان ومعهما ملكة العقل أو الفؤاد تقود الإنسان إلى سبل الهداية، وبها يدرك أنه مخلوق لله تعالى لا لغيره ، و بها يدرك أن ما أمره به  ربه وخالفه مما أوحى به إلى رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين هو عين الصواب ، وحينئذ يكون على الفطرة التي فطره عليها سبحانه وتعالى ، وكلما انحرف عن هذه الفطرة سقط في الضلال المبين  ، وتردى من أحسن تقويم إلى أسفل سافلين .

ولقد حصل لكثير من الناس عبر التاريخ البشري الطويل أن انحرفوا عن الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها ، فكانت لهم سلوكات وتصرفات وأفعال  ومعاملات مناقضة للفطرة منها على سبيل الذكر لا الحصر أنهم عبدوا المخلوقات انحرافا عن عبادة الخالق مع أنه زودهم بما يوصلهم إلى حقيقة ألوهيته وربوبيته ووحدانيته من عقول وحواس تدلهم على الآيات والأدلة والبراهين الدامغة التي لا سبيل لجحودها أو إنكارها.

 ولقد دأب الله عز وجل على تقويم وتصحيح انحراف الناس في كل زمان عن الفطرة التي فطرهم عليها من خلال رسائله إليهم  وفيها ما يقنع عقولهم بالإنابة إلى فطرتهم التي فطروا عليها  . ولقد كان من انحراف كثير منهم عن هذه الفطرة أن ألّهوا ، وعبدوها،، وسجدوا وركعوا لها ، فردهم سبحانه وتعالى إلى الصواب بقوله في كل الرسالات بما فيها الرسالة الخاتمة الموجهة للعالمين إلى يوم الدين قائلا : (( ومن آياته الليل والنهار والشمس والقمر لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون )) وأي توجيه يرقى إلى هذا التوجيه الإلهي المخاطب لعقول الناس؟ وهو ينبههم إلى أن الأولى بالسجود هو من خلق الشمس والقمر، وقد جعلهما هما ووقتهما  دليلين على ألوهيته . وكل من لزموا الفطرة السليمة التي فطرهم الله تعالى عليها  يدركون بما أودع فيهم  من ملكات الإدراك عقولا وحواسا أنه لا يستوي من يخلق مع من لا يخلق، وهو يقنعهم  سبحانه وتعالى بذلك قائلا : (( أفمن يخلق كمن لا يخلق أفلا تذّكرون )) ، وقوله تعالى (( أفلا تذّكرون)) دعوة صريحة لهم  لاستخدام ملكاتهم التي أودعها فيهم ، وهي الكفيلة بالتمييز بين من يخلق ومن لا يخلق ، ومن يسجد له ممن لا يسجد له .

ولقد أدركت الرسالة الخاتمة يوم نزولها على خاتم الأنبياء والمرسلين كثير من الناس يومئذ وهم ناكبون ومنحرفون عن الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها ، فجعل يصحح نكوبهم وانحرافهم عنها ،ويقنعهم بالإنابة إلى جادة  الصواب ، وبذلك صحح كثيرا من سلوكاتهم وأفعالهم  ومعاملاتهم ، فجعل ركوعهم وسجدوهم له وقد كانوا يسجدون ويركعون للمخلوقات  أصناما وأوثانا ، فجعل لهم عبادة الصلاة تصحيحا يردهم  به إلى الفطرة السوية ، كما جعل لهم عبادة الحج تصحيحا لما كانوا عليه من انحراف وهو يطوفون بالبيت عراة وعاريات إناثهم ، ولهم مكاء وتصدية تقديسا للأصنام والأوثان  ، فسترعريهم ، وأبدلهم بالمكاء والتصدية تلبية، وتوحيدا ، وحمدا ،وإقرارا له بالنعم والملك . وعلى غرار تصحيح ما كانوا عليه من ركوع وسجود للأوثان والأصنام ، وطواف لها إشراكا به تعالى عن الشركاء ،صحح معاملاتهم المنحرفة من أنكحة فاسدة ، وبيوع جائرة ، ومأكولات ومشروبات خبيثة ... إلى غير ذلك مما صححه لردهم إلى فطرتهم السوية  التي فطرهم عليها بعدما أفسدوها باتباع خطوات الشيطان وقد أخبرهم أن هذا اللعين  قد أقسم بعزته تعالى أن يفسد فطرتهم فقال على لسان إبليس اللعين  : (( قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ))  كما قال على لسانه أيضا  : (( ولأضلنّهم ولآمرنّهم  فليبتّكنّ آذان الأنعام  ولآمرنّهم فليغيّرنّ خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليّا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا )) ، وبهذا نبّه الله تعالى عباده إلى مفسد فطرتهم التي فطرهم عليها حتى صاروا يتجاسرون على تغيير ما خلق سبحانه وتعالى .

ومما جاء  من أمر الناس بالتزام الفطرة السليمة في الرسالة الخاتمة إليهم أجمعين قوله تعالى  مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ومن خلاله مخاطبتهم جميعا : (( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) ، ففي هذه الآية الكريم أمر سبحانه وتعالى نبيه الكريم ومن آمن به واتبع هديه  بإقامة الوجوه لدينه ، وإقامتها إنما هو توجيهها إلى دين الله دون ميل عنه يمنة أو يسرة ، وهو إقبال عليه ، وتمحض له دون غيره ، وهو الدين الحنيف الذي لا ميل فيه ولا انحراف ، وأتباعه حنفاء أيضا وهم على حنيفيته  لا انحراف لهم عنه ، وإقامة الوجوه له هو التزام الفطرة التي فطر الله تعالى الناس عليها ، وهو التزام الهيئة التي خلقوا عليها ، وهي هيئة سوية ، وبهذا يكون الدين القيم أو المستقيم هو التزام الفطرة السوية .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بضرورة  التزام الفطرة التي فطرهم الله تعالى عليها ، وذلك بإقامة وجوههم لدينه القيم في هذا الزمان الذي تتكالب فيه على دين الله عز وجل جهات عدة كفرية، وشركية ،وعلمانية ، وإلحادية ، وإباحية...  ويجمعها كلها قاسم مشترك هو إضمار العداء الشديد له ، ومحاربته بخبث ومكر  بشتى الطرق والأساليب ،وعبر عدة جبهات تتولى كل جبهة النيل منه من زاويتها ، والمستهدفون إنما هم أتباعه الذين يكاد بهم الكيد الخبيث تحت مختلف الشعارات الكاذبة والمبهرجة  والتي تظهر عكس ما تضمر من سوء وشر مستطير  ، وما يخطط لتضليلهم في خفاء ، وما يدبر لهم من شر بليل في محافل الشر والفساد من مفاسد فاضحة صارخة ، وقد جعلت شرائع عوضا عن شرع الله عز وجل ،وصارت تنعت بالمعايير الدولية  المتعارف عليها والملزمة لكل أقطار وشعوب المعمور، يحاسب عنها من لا يلتزم بها ، ولا يخضع لها ،وقد صارت  حقوقا وحريات من قبيل ما يسمى الحرية الجنسية الرضائية ، والحرية الجنسية المثلية ، وحرية الإجهاض ، وحرية السكر العلني والتخدير  ، وحرية العري  والتهتك ، وحرية التجاسر على دين و شرع الله تعالى ، وعلى كتابه ، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ،على مشاعر وقيم المسلمين الدينية .

وعلى المسلمين أن يتنبهوا إلى كل هذه المؤامرات التي تحاك ضدهم، وضد دينهم ، كما أنه عليهم بإقامة وجوههم له حنفاء كما أمرهم بذلك خالقهم سبحانه ، ملتزمين الفطرة التي فطرهم عليها ،رافضين  كل ما يراد بهم من انحراف عنها .

اللهم إنا نسألك الثبات على دينك القيم حنفاء لا مبدلين ولا مغيّرين، ولا فاتنين ولا مفتونين ، ولا ضالّين ولا مضلّين ، كما نسألك التزام الفطرة التي فطرتنا عليها لا نحيد عنها  أبدا حتى نلقاك وأنت راض عنا . اللهم إن أعداءك وأعداء دينك لا يعجزونك، فاحصهم اللهم عددا وأهلكهم بددا ، ولا تبقي منهم أحدا . اللهم انصر دينك، وأيد بنصرك من ينصره ، واخذل اللهم من يخذله .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .