الحادث الإرهابي على مجلة شارلي إيبدو الباريسية

إبراهيم درويش

الحادث الإرهابي

على مجلة شارلي إيبدو الباريسية

إبراهيم درويش

[email protected]

/ خطبة الجمعة في 9/1/2015م، في إحدى المدن الفرنسية:

الخطبة الأولى

الحمدلله ثم الحمدلله، الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً. وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء، ليلُها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يتنكّبها إلا ضالّ.

أيها الإخوة الكرام، أيتها الأخوات الفاضلات:

في المثل أن مجنوناً ألقى صخرة في بئر يستقي منها الناس الماء الذي يحتاجونه، فغطت الصخرة فتحة البئر، ثم جاء أربعون عاقلاً لإزاحة تلك الصخرة فلم يستطيعوا! إنسان محسوب عليك، شئت أم أبيت، ثم يسيء إليك بحماقات، بجهالات، فلا تستطيع أن تتبرأ منه، ولا أن تغطي على حماقاته أو أن تعالج آثارها.

أيها الإخوان، أيها المؤمنون:

كلنا في سفينة واحدة، في هذا البحر اللّجيّ المتلاطم، حيث يتربّص بنا الأعداء من كل جانب، ثم يأتي أحمق - أجلّكم الله – فيخرق السفينة، هل هو حرّ في خرق السفينة؟ هل يعود ضرره على نفسه فقط؟ هل فهم معنى الحرية؟ أو إنسان يقص الغصن الذي يقف عليه!! أحمق!! فإن تركته وما يريد عمله هلك وهلكتم، وإن أخذتم على يده نجا ونجوتم. كلنا يتذكر حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي يشبّه فيه حال المسلمين في هذه الحياة بحال ركاب سفينة، فأصاب بعضُهم أعلاها، وبعضُهم أسفلها، فصار الذين يريدون استقاء الماء يُضطرون للصعود إلى الأعلى ليأخذوا حاجتهم من الماء الصالح للشرب، فقال بعضُهم: لو أنّا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا، يعني يُأخذوا الماء مباشرة من الفتحة التي يحدِثونها في أرضها. فإن تُرِكوا وما يفعلون هلكوا وهلكوا جميعاً، وإن أُخِذَ على أيديهم نجوا ونجَوا جميعاً. هذا هو حال المسلمين في هذه البلاد. صحيح أن الذي يوجِد لنفسه الفتاوى أن الذرائع التي تبيح لنفسه هذه الحماقات لن يحتاج إلى أن يستفتيني أو إياك، فقد أوجد لنفسه طريقاً آخر في فهم الإسلام وتطبيقه وفق ما يرى وتخطئة الآخرين أمثالنا، لا أعني بأمثالنا أقصد نفسي، أقصد عامة المسلمين.هذا لا يؤمن بغير الخط الذي سلكه أو خطّه لنفسه؛ لكن بإمكاننا نحن أن ننصحه، أن نحذّره من سوء العاقبة، أن نحصّن أولادنا من الانجرار خلفه. فالعمل الذي حصل في باريس قبل يومين، ينبغي أن نبحث عن الدافع وراءه، المستفيد منه: هل الإسلام هو المستفيد؟ هل الجالية الإسلامية التي بدأت تؤثر على صنّاع القرار في أوربا هل هي المستفيدة؟ بالتأكيد لا.

 قبل يومين من حصول الحادثة صرّح الرئيس الفرنسي فرانسوا أولاند أنه نادم على عدم استخدام القوة ضد النظام السوري عندما استخدم السلاح الكيماوي ضد شعبه قبل سنة من الآن. فجاء الردّ! وقبل ذلك قال مفتي النظام السوري أحمد حسون: إن لدينا أعداداً كبيرة من الانتحاريين والقنابل الموقوتة في أوربا وأمريكا، وعند إطلاق أي رصاصة على سورية سنوعز إلى أولئك بتنفيذ مهماتهم وإغراق القارة الأوربية وأمريكا. يهدد الغرب بالإرهاب.

دول الاتحاد الأوربي في طريقها للاعتراف بدولة فلسطين، بدأتها السويد، ثم تلتها دول أوربية أخرى، هذا خطر على أعداء فلسطين، على أعداء القضية الفلسطينية، لا بد من إحداث قلاقل واضطرابات في الساحة الأوربية لتغذية اليمين المتطرف في أوربا، للحيلولة دون استمرار الحكومات الأوربية في اعترافها بدولة فلسطين.

لنسألْ أنفسنا: هل وجدنا وسائل الحصول على الرزق في بلادنا، ثم تركناها وأتينا إلى هذه البلاد؟ هل وجدنا الراحة والحرية والكرامة في بلادنا فدُسنا عليها وأتينا إلى هذه البلاد؟ ألم يأت معظمُنا بحثاً عن الكرامة الإنسانية المفقودة فيما يسمى بلاد المسلمين؟ بلاد يحكمها القانون هنا. عندك مشكلة، إنسان أساء إلى نبيك برسوم كاريكاتورية، حرّك دعاوى قضائية ضده، لستَ أنت الذي تطبق أحكام الإسلام. لو أن كل إنسان نصّب نفسه حامياً لأحكام الإسلام وطبقها فماذا يحصل في الكون؟! أجمع علماء الأمة أن الحاكم المسلم هو الذي يطبّق الأحكام، أوجدوا الحكام المسلمين في بلادكم، أوجدو الحكومات الإسلامية القادرة على تطبيق الإسلام في بلادكم، هؤلاء الناس، في هذه البلاد لا تطبِّقْ عليهم الإسلام لأنهم أصلاً غير مسلمين. من واجبك أن تحسّن صورة الإسلام في نظرهم، أن تحببهم في الإسلام، أن تحببب الإسلام إليهم، وإذا حصلت مشكلة فبينك وبين صاحب المشكلة القانون. وحّد جهودك مع جهود إخوانك لتصبحوا مؤثِّرين في الساحات التي توجدون فيها. بغير هذا أنت تسيء إلى الإسلام، أنت تنفّر الناس من الإسلام، أنت تألّب أعداء الإسلام من أهل هذه البلاد لأن يشنّوا حملة شعواء على الإسلام وحملة الإسلام، فيذهب الأخضر بسعر اليابس. اسمعوا إلى قوله تعالى: "واتقوا فتنة لا تصيبَنّ الذين ظلموا منكم خاصّة" سورة الأنفال/ الآية 25، الرحمة خاصة والبلاء عامّ، أنت لا تمارس حريتك الشخصية عندما تعتدي على أناس أو على مؤسسات في البلاد التي تحضنك وتوفّر لك الحرية والكرامة ووسائل الرزق.

أيها المسلمون: خذوا حِذْرَكم، خذوا على أيدي سفهائكم، ناقِشوهم، حذّروهم من نتائج هذه الأعمال غير المسؤولة التي لا تخدم الإسلام في قليل أو كثير، إياكم أن تكونوا أدواتٍ أو معاوِلَ في يد أعداء الإسلام لهدم الإسلام باسم الإسلام، إياكم أو تكونوا سوساً ينخر في الجسم الإسلامي. الإسلام رحمة مهداة، رحمة للبشرية، وسيلة لإنقاذ الإنسان من جهنم، من الخزي والضنك، لا تعطوا صورة سيئة عن الإسلام بتصرفات أناس محسوبين عليكم، حاصروهم؛(انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. فقال رجل: يا رسول الله: أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا ظالماً كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره)رواه أحمد والبخاري والترمذي وغيرهم عن أنس رضي الله عنه. إن علمت أن إنساناً من المسلمين لديه أفكار متطرفة حاوِره، أقنعْه بأن يتعلم. أتعرفون من أين تأتي مصيبتنا؟ مصيبتنا تأتي من أناس قرأوا آية بشكل مغلوط، أو فهموا آية بشكل مغلوط، أو قرؤوا حديثاً لم يتثبّتوا منه، ثم بنَوا تصورهم كلَّه عن الإسلام والمجتمع الإسلامي والمجتمع غير الإسلامي على هذا الحديث، فضلّوا وأضلّوا!! اسمعوا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهّالاً، فسُئلوا فأفتَوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا) رواه مسلم. عودوا إلى إسلامكم، استقوه من مصادره الأصلية، عودوا إلى قرآن ربكم، إلى هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ كيف كان يعامل مجتمعه؟ كيف يعامل أعداءه؟ كيف يعامل أتباعه؟ زوجاته؟ أطفال المسلمين؟"وإنْ أحد من المشركين استجارك فأجِرْه حتى يسمع كلام الله ثم أبلِغه مأمنه" سورة التوبة/ الآية6. قضية اللجوء السياسي المتّبعة في هذه البلاد، الإنسان المضطهد في بلاده بسبب أفكاره ومعتقداته، يطلب اللجوء إلى هذه البلاد فيهيئون له الحماية، هذا مبدأ إسلامي. هم طبّقوا الإسلام دون أن يكونوا مسلمين، طبعاً لا أقول إنهم أخذوه وطبقوه في كل مجالات الحياة، أليس الإسلام هو العدل، أليس الإسلام هو المساواة؟ العدل الذي نراه في هذه البلاد هل نراه في بلادنا؟ إذن لماذا تركناها وأتينا إلى هنا؟

أعداء الإسلام في بلادنا ينفّذون مخططات أعدائنا، حتى إذا اضطُرِرنا إلى الهجرة إلى هذه البلاد لاحقونا إلى هذه البلاد بتغذية وتحريض ناس حمقى جهلة بالإسلام، فيُجْرون لهم عملية غسيل دماغ، ليقوموا بأعمال تسيء إلينا حتى تطردنا هذه البلاد فنصبح في مهبّ الريح، فلا بلادُنا تحمينا، ولا البلادُ التي اتجهنا إلينا تقبلنا.

المسلم حكيم يضع الأمور في مواضعها، أما الذي يخبط خبط عشواء، لا يرى موضع قدمه، فهذا ليس من الإسلام في شيء. جعلني الله وإياكم ممن يتبصّرون مواضع أقدامهم، ممن يستنّون بسنّة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ممن يجعل الإسلام الحق النابع من مصادره هادياً له ومرشداً.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين.

الخطبة الثانية:

الحمدلله وكفى، والصلاة والسلام على سيدنا المصطفى، وعلى آله وأصحابه أولي الوفا، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أيها الإخوة:

ليس أقلّ من أن يتصل بعضُنا، الذين يتقنون اللغة الفرنسية، ويُحسِنون التواصل مع وسائل الإعلام، أن يتصلوا بخاصة بالقنوات التلفزيونية، فيعلنون استنكارهم لكل جريمة مهما كان دافعها وسببها، يعلنون استنكارهم لكل أشكال الإرهاب، يعلنون تعاطفهم مع ذوي الضحايا. هذا ليس معناه أنك تتنازل عن دينك. لا. والله إنك تبيّن حقيقة دينك. حقيقة دينك أنك مخاطَب بالقول:"ولا تجادِلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن".سورة العنكبوت/ الآية 46. حقيقة دينك أن الذي يقتله المسلم من غير المسلمين غِيلةً يُقتَل به. عودوا إلى سيرة نبيّكم؛ هذا المسلم الذي قتل غيرَ مسلم غيلة، ثم رُفِع أمرُه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: أنا أحق من وفى بذمته، ثم أمر به فقتل.(ينظر مصنف ابن أبي شيبة والسنن الكبرى للبيهقي). ليس أقلّ من أن تبدي تعاطفك مع ذوي الضحايا، أن تتمنى الشفاء للجرحى، حتى لا ينال المسلمين شرر هذا الحادث الإجرامي.

اللهم ارحمنا فأنت بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، اللهم اهدنا واهد بنا، اللهم آتِ نفوسنا تقواها وزكّها، أنت خير من زكاها أنت وليُّها ومولاها، اللهم من أراد بالإسلام والمسلمين خيراً فوفّقه إلى كل خير، ومن أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً فاجعل دائرة السوء تدور عليه حتى يذبح نفسه بيده. اللهم ولّ علينا خيارنا واصرف عنا شرارنا. اللهم ردّنا والمسلمين إلى دينك رداً جميلا. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعِظكم لعلكم تذكّرون".