حركة التاريخ بين النسبي والمطلق "في رسائل النور"(3)

أديب إبراهيم الدباغ

حركة التاريخ بين النسبي والمطلق

"في رسائل النور"(3)

بقلم: أديب إبراهيم الدباغ       

التاريخ والقدر!

سيظل التاريخ الإسلامي - بنظر المؤرخ المنصف - معجزاً بعبقريته. وسرعة مدّه، وقدرته الفذة على شق طريقه وأخذ مكانه المرموق في أكثر صفحات التاريخ الإنساني إشراقاً وأجلها حضارة، ومع ذلك فهو لا يخلو - كأي تاريخ آخر - من أحداث مرعبة دامية، ووقائع مأساوية، يقف عندها المؤمن

الغيور موقف الحيرة والانشداه والحسرة ويمتلئ قلبه حزناً وروحه أسىً، وهو يقرأ هذه الأحداث، ويجول في أهوالها، ويُحس وكأن سكيناً حاد الشفرة يغوص في قلبه، ويمزق روحه، ولا يعرف سبباً معقولاً يمكن أن يدفع بهذه الأحداث إلى صفحات التاريخ، ويتمنى - في نفسه - لو خلت صفحات تاريخه منها.

والذين تناولوا بأقلامهم هذه الأحداث المروعة، والفتن الدامية من المؤرخين وكتاب السير - على اختلاف عقائدهم ومذاهبهم ومناحيهم - لم يتيسر لهم أن يضعوا أيدينا على مواضع "الرحمة" التي تنطوي عليها، أو يوقفونا على أسرار "الحكمة" التي تكتنفها وتسري فيها لكي نشعر ببعض العزاء.

ولا أعرف أحداً - على قدر علمي - حاول أن يستشف "الحكمة الإلهية" من وراء هذه الأحداث، أو يتلمس فيها مواطن "الرحمة" ويدلنا عليها.

وغاية ما فعلوه هو تعاملهم معها كأحداث بشرية محضة، معزولة عن آفاقها القدرية الرحيمة، ومبتوتة الصلة بالقدر الحكيم الذي ما انفكت أصابع قدرته تغزل في مغازل الأرض مصائر الدول والأمم، وتنسج على منوال الأحداث نسيج الحضارات، مستخدمة البشر - خامتها الأساس - بما يمتلكون من خيارات هي أيضاً بعض من خياراتها، ومستفزة فيهم إرادات "الدفع والجذب" بعضهم لبعض، لتنقدح من خلال صراعاتهم شرارات الأفكار، وتشتعل مصابيح العقول، فتثرى - بذلك - الحضارات وتخصب المعارف والعلوم.

فحين تسكن رياح الأمم، ويكثف هواؤها ويثقل، ويسترخي روحها، ويشيع في كيانها خدر النوم والتبلد، ويغشاها خريف النضج المبكر، وتكاد ثمار عبقريتها يصيبها العفن، وبذور علومها يأكلها السوس، ونوى معارفها ينخرها الدود.. حين يحصل هذا تمتد يد القدر لتسوط رياح التاريخ بسياطها اللاهبة، فتندفع هائجة مائجة عاصفة عصفاً، وخاضّة شجرة حياتها خضاً فتتساقط ثمار عبقريتها، وتتطاير إلى أرجاء الأرض، وتحمل العواصف الهوج بذورها ونواها في أنحاء العالم، وبذلك تغنى الأرض، وتندى الحضارات وتخضل، فتوجد العقول والأفكار حيثما تقع البذور، وأينما تنقذف النوى.

فالحدث العاصف بالأمة، هو حدثٌ مزلزل مثير للرعب والإشفاق من وجهة نظر الإنسان بقصور رؤيته، ومحدودية عمله، وتشبثه بجزيئات التاريخ ومفرداته، وعجزه عن الإحاطة الكاملة، بكليات التاريخ ومطلق أحداثه، وعموم غاياته ومقاصده.

غير أن "الحدث" نفسه يغدو - في نظر "القدر" المحيط، وفي علمه المطلق الشامل بالماضي والحاضر والمستقبل، وبكلية الزمن آزاله وآباده، ومطلق شؤونه - شيئاً آخر فوق المأساة والآلام والدموع، وفوق الأحزان والفواجع.

لذا فإن "القدر" حين يمضي في سبيله إلى غاياته في بعث العطاء الحضاري للأمة من خلال النوى العاصف داخل كيان الأمة، لا يمكن أن يوقفه عن غايته ويصده عن سبيله شيء مهما كان هذا الشيء مفجعاً ومأساوياً ودامياً، وخالياً من الرحمة والحكمة في النظرة المبتسرة الضيقة.

فما يبدو قاسياً قد ينطوي على الرحمة، وما يبدو عبثياً قد ينطوي على الحكمة، وما يبدو تدميراً لروح الأمة قد يكون سبباً في إنهاضه... ومن بين السحب والأنواء والظلمات تتألق فجأة عبقرية الأمة وتشرق شمس عظمتها(3).

ونحن لا نتمحل هذا الرأي تمحلاً، ولا نتعسفه تعسفاً فالمؤرخون على اختلاف مناحيهم وفلسفاتهم - وحتى الماديون منهم - لا يسعهم إنكار "الحكمة والرحمة" وآثارها الهائلة فيما تنطوي عليه دساتير الكون والطبيعة والحياة ونواميسها.

فما من أحد - مهما اشتط في ماديته - ينكر النظام المشاهد والملموس الذي يحكم هذا العالم ويسيره ويضبط حركات موجوداته من أصغر ذرة فيه إلى أعظم جرم.

والنظام - أي نظام كما لا يخفى - دليل حكمة وعلم.

وبالمقابل فإن أحداً لا يستطيع تجاهل ما يفيض به الوجود من لمسات الرحمة واللطف والود في المخلوقات عموماً، ويكفي فيض الأمومة وحدها في الطير والوحش والإنسان دليلاً لمن يتعامى عن أي دليل.

ولما كان "الإنسان" جزءاً مهماً من هذا الكون، لا بل هو خلاصة حياة هذا الكون، وأنضج ثماره كما يقول "النورسي" لذا فإن دستور "الحكمة والرحمة" الذي يشيع في "كلية الكون" يشيع أيضاً في أجزائه بل في أصغر أجزائه وأقلها شأناً.

وعليه فإن تاريخ هذا الإنسان - الذي يمثل مضطرب حياة الإنسان ومسح فاعليته على الأرض - بأحداثه ووقائعه لا يمكن أن تخلو هي الأخرى - بأي حال من الأحوال - من الحكمة والرحمة، مهما بدت - في الظاهر - عنيفة قاسية خالية من الجدوى والمغزى.

والشر والفساد اللذان يقترفهما الأفراد والشعوب والدول - وإن كانا مُدانين في شريعة العدل والخير، وعائقين إلى حد ما لارتقاء التاريخ وسموه نحو جمالية الكمال الإنساني - إلا أنهما في حصيلة مداهما البعيد يشكلان حافزاً ودافعاً لحركة التاريخ في الاتجاه المعاكس لهما.

وقد سئل "النورسي" - رحمه الله - هذا السؤال:

)ما حكمة تلك الفتنة التي أصابت الأمة الإسلامية في عصر الراشدين، وخير القرون، حيث لا يليق بهم القهر ونزول المصائب؟ وأين يكمن وجه الرحمة الإلهية فيها..؟.

** الجواب

كما أن الأمطار الغزيرة المصحوبة بالعواصف في الربيع تثير كوامن قابليات كل طائفة من طوائف النباتات وتكشفها، وتثير البذور وتطلق النوى، فتتفتح أزهارها الخاصة بها، ويتسلم كل منها مهمته الفطرية... كذلك الفتنة التي ابتلي بها الصحابة الكرام والتابعون رضوان الله عليهم أجمعين أثارت بذور مواهبهم المختلفة، وحفزت نوى قابلياتهم المتنوعة، فأنذرت كل طائفة منهم وأخافتهم من أن الخطر محدق بالإسلام، وأن النار ستشب في صفوف المسلمين مما جعل كل طائفة تهرع إلى حفظ الدين والذود عن حياض الإيمان، فأخذ كل منهم على عهدته مهمة من مهمات حفظ الإيمان وشمل الإسلام، كلٌ حسب قابليته، فانطلق بكل جد وإخلاص في هذا السبيل، فمنهم من قام بحفظ الحديث النبوي الشريف، ومنهم من قام بحفظ القرآن الكريم...

وهكذا انضوت كل طائفة تحت مهمة وواجب من الواجبات التي يفرضها حفظ الإيمان، وصيانة الإسلام وسعت في سبيل أداء مهمتها سعياً حثيثاً فتفتحت - من البذور التي بذرتها في الأرجاء تلك الأعاصير الهوجاء العنيفة - زهور بهيجة بألوان زاهية شتى في عالم الإسلام، حتى غدا العالم الإسلامي رياضاً يانعة بالورود والرياحين، إلا أنه - ويا للأسف - ظهرت بين تلك الرياض البديعة أشواك أهل البدع أيضاً.

وكأن يد القدر الإلهي قد خضت ذلك العصر بجلال وهيبة، وأدارته بشدة وعنف، فأثارت الهمم، وألهبت المشاعر لدى أهل الهمة والغيرة، فبعثت تلك الحركة - المنطلقة عن المركز - كثيراً جداً من أئمة المجتهدين والمحدثين والحفاظ والأصفياء والأقطاب الأولياء إلى أنحاء العالم الإسلامي وألجأتهم إلى الهجرة، وهيجت المسلمين شرقاً وغرباً، وفتحت بصيرتهم ليغنموا من كنوز القرآن وخزائنه)...(4).

       

 الهوامش:

(3) انظر "النافذة الرابعة عشرة" في النقائض والأضداد من كتاب "النوافذ" للنورسي. ترجمة إحسان قاسم الصالحي، عرض وتعليق أديب الدباغ – مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – 1985.

(4) المعجزات المحمدية – الإشارة الخامسة – للنورسي، ترجمة إحسان الصالحي – مطبعة الزهراء الحديثة – الموصل – 1987.