تَغْرِيدَاتُ الْقُشَيْرِيِّ

د. محمد جمال صقر

 (بَابُ الْبَاءِ)

بُغْضُ الدُّنْيَا إِلَى التَّائِبِ

"قِيلَ لِأَبِي حَفْصٍ -أي الحداد-: لِمَ يُبْغِضُ التَّائِبُ الدُّنْيَا؟

قَالَ: لِأَنَّها دَارٌ بَاشَرَ فِيهَا الذُّنُوبَ.

فَقِيلَ: فَهِيَ أَيْضًا دَارٌ أَكْرَمَهُ اللهُ فِيهَا بِالتَّوْبَةِ؟

فَقَالَ: إِنَّهُ مِنَ الذَّنْبِ عَلَى يَقِينٍ، وَمِنْ قَبُولِ تَوْبَتِهِ عَلَى خَطَرٍ".

بَيْتُ الْخَزَفِ

"قَالَ الْجُنَيْدُ: إِنْ أَمْكَنَكَ أَلَّا تَكُونَ آلَةُ بَيْتِكَ إِلَّا خَزَفًا، فَافْعَلْ"!

بَيْتُ الْمَوْتِ

"سَمِعْتُ الرُّوذَبَارِيَّ يَقُولُ: دَخَلْتُ مِصْرَ، فَرَأَيْتُ النَّاسَ مُجْتَمِعِينَ؛ فَقَالُوا: كُنَّا فِي جَنَازَةِ فَتًى سَمِعَ قَائِلًا يَقُولُ:

كَبُرَتْ هِمَّةُ عَبْدٍ طَمِعَتْ فِي أَنْ تَرَاكَا

فَشَهِقَ شَهْقَةً، وَمَاتَ"!

بَيْنَ الِانْفِرَادِ وَالِاجْتِمَاعِ

"سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا عَمْرٍو الْأَنْمَاطِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ الْجُنَيْدَ يَقُولُ:

مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ دِينُهُ وَيَسْتَرِيحَ بَدَنُهُ وَقَلْبُهُ فَلْيَعْتَزِلِ النَّاسَ؛ فَإِنَّ هَذَا زَمَانُ وَحْشَةٍ، وَالْعَاقِلُ مَنِ اخْتَارَ فِيهِ الْوَحْدَةَ.

وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ الرَّازِيَّ يَقُولُ: قَالَ أَبُو يَعْقُوبَ السُّوسِيُّ:

الِانْفِرَادُ لَا يَقْوَى عَلَيْهِ إِلَّا الْأَقْوِيَاءُ، وَلِأَمْثَالِنَا الِاجْتِمَاعُ أَوْفَرُ وَأَنْفَعُ؛ يَعْمَلُ بَعْضُهُمْ عَلَى رُؤْيَةِ بَعْضٍ".

بَيْنَ الْجُوعِ وَالذِّكْرِ

"الْجُوعُ طَعَامُ الزَّاهِدِينَ، وَالذِّكْرُ طَعَامُ الْعَارِفِينَ".

بَيْنَ الشِّبَعِ وَالْجُوعِ

"مِفْتَاحُ الدُّنْيَا الشِّبَعُ، وَمِفْتَاحُ الْآخِرَةِ الْجُوعُ".

بَيْنَ الشَّوْقِ وَالِاشْتِيَاقِ

"الشَّوْقُ يَسْكُنُ بِاللِّقَاءِ وَالرُّؤْيَةِ، وَالِاشْتِيَاقُ لَا يَزُولُ بِاللِّقَاءِ.

وَفِي مَعْنَاهُ أَنْشَدُوا:

مَا يَرْجِعُ الطَّرْفُ عَنْهُ عِنْدَ رُؤْيَتِه حَتَّى يَعُودَ إِلَيْهِ الطَّرْفُ مُشْتَاقَا".

بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ

"عَلَيْكَ بِالصِّدْقِ حَيْثُ تَخَافُ أَنَّهُ يَضُرُّكَ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَعُكَ- وَدَعِ الْكَذِبَ حَيْثُ تَرَى أَنَّهُ يَنْفَعُكَ؛ فَإِنَّهُ يَضُرُّكَ"!

بَيْنَ الْعَالِمِ وَالْعَارِفِ

"الْعَالِمُ يُقْتَدَى بِهِ، وَالْعَارِفُ يُهْتَدَى بِهِ".

بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ

"مِحْنَتِي فِيكَ أَنَّنِي مَا أُبَالِي بِمِحْنَتِي

قُرْبُكُمْ مِثْلُ بُعْدِكُمْ فَمَتَى وَقْتُ رَاحَتِي"!

بَيْنَ الْمُبَادَرَةِ وَالتَّقَاعُدِ

"الْمُبَادَرَةُ إِلَى الطَّاعَةِ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ التَّوْفِيقِ،

وَالتَّقَاعُدُ عَنِ الْمُخَالَفَاتِ مِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الرِّعَايَةِ".

بَيْنَ النَّفْسِ وَالْقَلْبِ

"أَجْمَعَ الشُّيُوخُ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَا تَصْدُقُ وَالْقَلْبَ لَا يَكْذِبُ".

بَيْنَ الْهَرَبِ وَالرَّهَبِ

"رَهِبَ وَهَرَبَ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمَا وَاحِدٌ مَعْنًى، مِثْلُ جَذَبَ وَجَبَذَ؛ فَإِذَا هَرَبَ انْجَذَبَ فِي مُقْتَضَى هَوَاهُ، كَالرُّهْبَانِ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ، فَإِذَا كَبَحَهُمْ لِجَامُ الْعِلْمِ وَقَامُوا بِحَقِّ الشَّرْعِ فَهُوَ الْخَشْيَةُ".

بَيْنَ الْوَرَعِ وَالطَّمَعِ

"دَخَلَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ مَكَّةَ، فَرَأَى غُلَامًا مِنْ أَوْلَادِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ!- قَدْ أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إِلَى الْكَعْبَةِ يَعِظُ النَّاسَ، فَوَثَبَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ،

وَقَالَ لَهُ: مَا مِلَاكُ الدِّينِ؟

فَقَالَ: الْوَرَعُ.

فَقَالَ لَهُ: فَمَا آفَةُ الدِّينِ؟

فَقَالَ: الطَّمَعُ.

فَتَعَجَّبَ الْحَسَنُ مِنْهُ".