رحلتي إلى إسبانيا وإيطاليا وسويسرا والبرتغال

عارف كرخي أبوخضيري

من رحلات الشاعر السندباد

رحلتي إلى إسبانيا وإيطاليا وسويسرا والبرتغال

عارف كرخي أبوخضيري

 عندما فكّرت في زيارة إسبانيا رأيت أن أقضي فيها أسبوعين على الأقل ؛ لأن الآثار والأماكن الهامة بها

لاتتركّز في مدريد عاصمتها وحدها – كما هو الحال في باريس- بل تتناثر هذه الأماكن في مدن عديدة كبرشلونة وإقليم الأندلس الذي يضمّ مدناً عدة كطليطلة وغرناطة وإشبيلية وقرطبة وغيرها. ولأنه لاتوجد سفارة لإسبانيا في بروناي فقد اضطررت إلى أن أطلب تأشيرة من السفارة الفرنسية التي منحتني تأشيرة " شنجن " التي تسمح لحاملها بزيارة عدد من الدول الأوربية من بينها إسبانيا والبرتغال وإيطاليا وسويسرا . ومن ثم فكّرت في أن أقضي شهراً في أوربا ، واستقرّ رأيي على أن أزور هذه البلدان الأربع ، وأن أبدأ رحلتي من بروناي إلى بانكوك ثم من بانكوك إلى مدريد ثم منها إلى برشلونة ثم منها إلى جنيف فزيورخ ، ومنها إلى ميلان ومن ميلان إلى روما ومنها إلى فلورنسا ومن فلورنسا إلى فينسيا ومنها إلى برشلونة ومنها إلى قرطبة وإشبيلية وكوستا ديل سول وغرناطة وطليطلة ، وعندما انتهي من رحلتي لإقليم الأندلس أغادر طليطلة إلى مدريد فأقضي فيها ليلة ثم أطير عائداً إلى كوالالمبور.

ومدريد تشبه باريس في مبانيها وتماثيلها الكثيرة في الميادين العامة كتمثال كولومبس والفنانين والملوك الإسبان ومن أشهر المباني جامعة الفنون التي درس بها بيكاسو ، والمتحف الوطني الذي يضمّ أعمال روفائيل وغيره .

 وتعدّ مدريد مدينة الجمال بحقّ ؛ فكلّ شيء جميل في هذه المدينة : الشوارع والمباني والمقاهي والمطاعم والبارات والمحلات . والشوارع تتفرع منها شوارع صغيرة تمضي إلى أعلى وتحيط بها المنازل في نهايتها بشكل معماري متقن بديع . والمؤكّد أن كلّ من يشاهد هذا الجمال البارع يدرك على الفور أن الشعراء العرب كانوا محقين تماماً حين وصفوا في شعرهم إسبانيا بأنها جنّة ساحرة ؛ فهي كذلك بحق ، لا بحدائقها وأنهارها وطبيعتها الفاتنة فحسب بل بالحوريات اللائي يعمرن هذه الجنّة ويفعمنها بحسنهن وابتسامهن وجمال أصواتهن والروائح الزكيّة التي تفوح من أردانهن كعبير الورود والأزهار .

وتركت مدريد، وسافرت إلى برشلونة ، ثم تركتها ومضيت إلى لشبونة . وفي الطائرة قرأت مقالاً بعنوان plane talking (حديث الطائرة ) للكاتب Carlos Riviz Zavon ، و يقال إنه أكبر الكتّاب الإسبان المعاصرين . وثمة بحر كبير يفصل بين شطري مدينة لشبونة ، وهناك جسر طويل يصل بينهما يطلقون عليه جسر فاسكو دي جاما وهي مدينة عتيقة تبدو باهتة اللون بجوار مدريد ولكنها أكثر هدوءاً .

ولعل أجمل المدن في لشبونة مدينة سنترا ، وهي مدينة بديعة رائعة لامثيل لها في حُسنها ، وهي بشوارعها وبيوتها وقصورها وحدائقها مدينة رومانتيكية حالمة . أما مدينة فاطمة فبلدة دينية يحج إليها المسيحيون ويزحفون على ركبهم أول الشارع حتى الكنيسة كنوع من الطقوس أو النذور أو العلاج.

 وفي مدينة الكوباسا وجدت كتاباً بعنوان The Tragedy of Pedro and Ines وهو يدور حول قصة حبّ بين الملك بدرو ووصيفة له تدعى إنيس قتلها والده الملك حتى لا يتزوجها ابنه ، وتصير ملكة للبلاد . ووجدت كتاباً آخر بعنوان فاطمة يدور حول قصة كنيسة شهيرة في لشبونة . وترى بين الحين والحين أحد البرتغاليين يدور في الطرقات وهو يعزف الأكورديون أو القيثارة ثم في النهاية يدور ممسكاً بقبعته في يده ليجمع النقود ، ولكن بأدب جمّ ، ولا يقف بإلحاف لاستجداء الجالسين في الكافتيريا أو المارين من الناس .

 تعرّفت في البرتغال على بعض أدبائها ، ومنهم الأديب فرناندو بيسا Fernando Pessa وهو من أدباء القرن العشرين ، والأديب جوزيه سيراماجو Goze Seramago الذي حصل على جائزة نوبل في الآداب . والشيء الملفت للنظر في البرتغال أنهم يربطون عيدهم القومي بمولد أعظم شعرائهم وهو الشاعر لويس دي كاموس Luis de Camoes ، وكان يعيش في القرن السادس عشر ، وقد ألّف عملاً شهيراً عن فاسكو دي جاما ، وله قصائد غنائية غزلية .

 أما السويسريون فيحتفلون بأديبين فرنسيين ، أولهما فولتير الذي قضى في سويسرا بعض الأعوام التي نفي فيها إليها ، وأسسوا فيها معهداً باسمه زرته في رحلتي ، والثاني جان جاك روسو الذي ولد بجنيف.

 لم أبق في جنيف سوى ليلة سافرت بعدها بالقطار إلى بيرن العاصمة ، ومنها إلى زيورخ التي قضيت بها ليلة أخرى ، وهي أروع بلدان سويسرا في نظري ؛ فهي مفعمة بالحياة والحركة ، وعامرة بالمعارض الفنية والفِرق الموسيقية والمسارح، ويتحدّث أهلها باللغة الألمانية والفرنسية. وفي محطة القطار بحثت في مكتبة لبيع الكتب فوجدت رواية اسمها The Sense of Ending لجوليان بارنيز وهي حائزة على جائزة مان بوكر عام 2011م ، والرواية تمتاز بأسلوب رائع وطريقة حكْي مشوّقة .

 الناس هنا يأكلون في كلّ مكان ، ولا أحد يدعو أحداً ليشاركه في الطعام . كلّ في حاله ، لايتدخل أحد في شأن الآخر ، ولايتكلم أحد مع أحد ، ولايهتم بأحد . بجوار محطة القطار سقط رجل على الأرض ، ولم يهتم أحد بما حدث له ، أو يتوقف عنده ، ماعدا امرأة عجوز ( لعلها من عصر غير عصرنا !) تطلب من الناس أن يستدعوا سيارة الإسعاف ، ولم يسمع أحد لها .

 سافرت من زيورخ بالقطار أيضاً إلى بيرن ، ومنها ركبت القطار وسافرت إلى ميلان بإيطاليا . والقطار مزدحم جداً بالمسافرين ، ولاعجب فهي بلد سياحي جذّاب . والفتاة الفاتنة التي تجلس أمامي في القطار تبدو وكأنها أحد التماثيل الرومانية الجميلة التي دبّت فيها الحياة بشعرها الأسود وشفتيها الرقيقتين وأنفها الأقنى وسمرتها العربية الواضحة .

لقد امتلكت المرأة الغربية كلّ مظاهر الجمال إلا أنها افتقدت أنوثتها ، وصارت أشبه بالرجال ، تدخن كثيراً وتمشي مسرعة ، ولاتعتني بثيابها ولابطريقتها في الكلام .

 زرت معرض الريتيريو ، ولوحاته فيها مزيج من الواقعية والمناظر الطبيعية ، وبعض اللوحات تقسّم قسمين ، أحدهما للحياة العادية ( الجياد والناس ) ، والثاني للمناظر الدينية ( مريم العذراء) ، والرسوم دقيقة ، واللوحات مملوءة ومزدحمة بالتفاصيل الدقيقة . وأهم اللوحات التي يضمّها لوحة المدرسة الأثينية . ويعبّر الفنان بها عن فكرة فلسفية عميقة وهي أن الرسم طريق إلى الله لأنه طريق الجمال . وفي المعرض تمثال المفكّر لرودان الفرنسي ، وأغلب الظن أن المفكّر يمثّل أيضاً الفكر الديني . وفي غرفة أخرى تعرض رسومات للفنان ماتيس الفرنسي ولوحات لسلفادور دالي الإسباني . و للفنان كرفاتجو لوحة تصوّر سلّة فاكهة معطوبة تشير إلى أن الفواكه كالبشر تولد وتمرض وتموت. وفي المعرض لوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي ، وخلف الغرفة مكتبة ضخمة تضمّ أعماله ولوحات تلامذته . والطريف أن دافنشي نفي إلى ميلان سبعة وعشرين عاماً ، وفي ميلان كان يدوّن كلّ شيء يراه في عناية بالغة ؛ إذ كان يرى أنه ربما يفيد منه في عمله فيما بعد ، وتميّز برسمه للحركة ، ومثل ذلك حركة يد السيد المسيح اليمنى التي تدلّ على محاولة إخفاء غضبه من يهوذا . كما ضمّ المعرض لوحات أخرى لدافنشي كلوحة الموسيقي ولوحة الكونتيسة . و العشاء الأخير مفعمة بالرموز: الملح –النقود-الخبز ...إلخ .

وفي الفاتيكان شاهدت القبّة الشهيرة التي صوّرها مايكل أنجلو عندما كان في الخامسة والستين من عمره ، وقد رسمها تلبية لطلب البابا جوليوس الثاني، إلا إنه لم يحقق له رغبته في رسم صورته . و أتم الفنان رسم السقف في سنة 1508م .

 وفي الفاتيكان رسومات للفنان روفائيل، بيْد أنها ناقصة ؛ إذ لم يتمكّن الرسام العظيم من إتمام رسومه للأسف الشديد لأنه توفي بالسلّ وهو في السابعة والثلاثين من عمره . ورسومه مزدحمة بالشخصيات وبالحركة . وفي غرفة أخرى رسوم لروفائيل لموضوعات الحق والخير والجمال بوصفها الطريق الذي يصل الإنسان بخالقه عزّ وجلّ .

والحق أن هذه الكنائس تدلّ على اهتمام البابوات بالفنون باستقدامهم لمشاهير الرسامين والمثالين من أمثال لورناردو دافنشي ومايكل أنجلو وروفائيل لرسم أسقفها وتزيينها.

 الشوارع في روما مزدحمة بالسائحين الذين يسيرون في حشود ضخمة . وإيطاليا تشعر الزائرين بعظمة الحضارة الإغريقية ، وهي دولة متقدّمة لم تقتصر على الماضي وحده ، وإنما صنعت مجداً حديثاً ، ومدّت إمبراطوريتها إلى بضعة بلدان في القارة الأفريقية .

ثم سافرت إلى فلورنسا ، وهي مدينة الفنانين كمايكل أنجلو و لورناردو دافنشىي ، ومصممي الأزياء مثل روبيرتو كافالي وإميلو بوشي وكوسيو كوشي ، والكتّاب كدانتى اليجيري ومكافيللي ، والعلماء كجالليو الذي اكتشف دوران الأرض حول الشمس ، وعندما حاكمته الكنيسة اضطر إلى أن يتخلّى عن رأيه ، وأن يوافق على رأي الكنيسة لينجو من الحرق حياً كما حدث للعالم الفيلسوف جردان برونو.

وفي معرض في فلورنسا شاهدت تمثال النبي داود الذي صنعه مايكل أنجلو ، وهو تمثال ضخم في هيئة شاب مفتول العضلات واقف وعارٍ تماماً ! وعندما أبديت استنكاري أجاب المرشد السياحي بأن التمثال رمز لحرية مدينة فلورنسا ! و العري رمز للحرية ! لقد كان عصر مايكل أنجلو عصر تحرر ، وكان الناس في ذلك العصر يرون أن جمال الفن الممثّل في الجسم العاري دليل على وجود الله وخلقه للبشر . وفي المعرض لوحات لفنانين مثل فيرنزيه وهو رسام من رسامي القرن السادس عشر ، وتمتاز لوحاته بألوانها الداكنة وازدحامها بالشخصيات ، وتركيزها على الموضوعات الدينية كالعذراء والملائكة ونحوها.

وتركت فلورنسا ومضيت إلى فينسيا أو البندقية وركبت السيارة المائية أو water taxi كما يسمونها ، واستغرقت الرحلة إلى الفندق في المدينة ساعة كاملة . وهي مدينة عجيبة ، فالبيوت والفنادق غارقة في النهر ، ولاتوجد بها حافلات . وفي المساء توجّهت إلى سانتا ماريا دي كيكولي وركبت الجندول ، وكان هناك نحو خمسين سائحاً ، وركبنا كلّنا خمسة جندولات ، وكان في أحدها مغن وموسيقي بالأوكورديون وأخذ يغنّي على أنغام الموسيقا أغاني إيطالية شيّقة . وعندما انتهت رحلتنا عدنا بعد أن طفنا بالنهر ساعة من الزمان .

تركت البندقية إلى برشلونة ، وهي مدينة كبيرة جميلة بها مليون نسمة ، وبها شواطيء ومصايف سبعة ، وأهلها يسيرون على الشواطيء ويستلقون على الرمال شبه عرايا.

الإسبان يتحدّثون فيفتحون أفواههم قليلاً فتتساقط الكلمات دون تحكّم منهم كألحان موسيقية عذبة ، في حين إن الإيطاليين يفتحون أفواههم فتنهال الكلمات كطلقات الرصاص عالية دون توقف وبكثرة كالمطر الغزير. أما الفرنسيون فيتكلمون وأفواههم مغلقة وكأنهم يأكلون الألفاظ أ كْلاً ولاسيما أواخر الكلمات ، وتبدو أجزاء الجمل وكأنها ملصقة ببعضها دون صلات مرئية ، فيتحدّثون بلغة أقرب إلى الهمس .

وهذه اللغات الثلاث متقاربة جداً ، فهنّ شقيقات ينتسبن لأمّ واحدة هي اللغة اللاتينية ، وفي بعض البلدان يتحدّث الناس اللغات الثلاث كما هو الحال في سويسرا ، وهي لغات مهمة جداً ، ولعل الإسبانية أهمها الآن ، ثم تتلوها الفرنسية ، فالإيطالية .

لا نهاية للجمال في إسبانيا، فحين تسير في شوارعها تحسّ كأنك تدخل بستاناً فيه أنضر الورود والأزهار. ليت شعري أهذه جنّة عدن وهؤلاء هنّ الحوريات اللائي وعد الله بهن عباده الصالحين ؟ لاعجب أن يولد في هذه البلاد عباقرة الفنانين والرسامين والمثالين من أمثال جويا ودالي وبيكاسو.

 تركت برشلونة وطرت إلى الأندلس مقصدي من رحلتي لإسبانيا كلّها ، وزرت في طريقي مدينة كاستيا دي لامانشا أرض دون كيخوته بطل رواية سرفانتيس، وهي لم تتغيّر كثيراً عما كانت عليه أيام سرفانتيس، ولا يوجد بها بيوت كثيرة ،وهي أرض واسعة خضراء مزروعة . ودون كيخوته رجل جُنّ من كثرة قراءة كتب مغامرات الفرسان ، فقرر أن يقوم بمغامرات مصطحباً خادمه سانشو بانزا ، ويتخيّل أنه فارس ويحارب طواحين الهواء ، وهو لا يفرّق بين الخيال والواقع . وهي رواية فكاهية مضحكة تسخر من عصر الفروسية وتنتهي الرواية بموت بطلها العجوز . وطواحين الهواء موجودة حتى اليوم على قمم الجبال ، عالية كأشجار النخيل.

 ووصلت إلى قرطبة وزرت مسجدها العظيم الذي بناه عبدالرحمن الداخل ثم طوّره الملوك العرب من بعده، وكان يتسع لخمسة وثلاثين ألف مصلٍّ ، وحوّل الإسبان جزءاً كبيراً منه إلى كنيسة. وتحسّ بفخامة البناء في صدر المسجد مما يعكس قوّة المملكة ، كما تحسّ أن الامتداد الأخير في المسجد أقلّ فخامة وأكثر تواضعاً بسبب انشغال الخلفاء بحروبهم فيما بينهم وانحطاط أحوالهم .

 ثم زرت إشبيلية ، وهي بلد تجاري هام ومركز فنّ الفلامنكو ذي الأصول العربية المعروف ، ومما يذكر أن الأديب الفرنسي بروسبير ميريميه له رواية مشهورة بعنوان كارمن تدور أحداثها في هذه المدينة ، كما أن بطلتها منها.

 ومن الأدباء الإسبان ريبيرتا أسيني وهي روائية ، وماندوسا وهو روائي ، وداليرو وهو شاعر . و أيضاً شاعرة ثورية تدعى جلوريا .

 وفي الليلة التي زرت فيها المدينة قدّمت على خشبة المسرح أكثر من رقصة من رقصات الفلامنكو يعجز عنها الوصف لروعتها وجمالها ، وترتدي الراقصات ثياباً ملوّنة بديعة ، وتلبسن شالات مزخرفة وكلّهن آية في الجمال والفتنة ، والشباب من الراقصين شعورهم طويلة ويلبسون حللاً إسبانية كاملة ويتسمون بالوسامة والقوة والحيوية . والمعروف أن الراقصين والراقصات ينفقون في التدريب على رقصات الفلامنكو أعواماً كثيرة لا تقل عن عشر سنوات كما أنهم يتدربون كلّ يوم تدريبات صارمة منتظمة .

 ومررت بمدينة روندا في الطريق ، وكان للبانديز الذين كانوا يقطنونها دور بارز في الحرب ضدّ نابليون . وتعدّ أرض الأساطير ، وقد جاء إليها الكتّاب والشعراء الفرنسيون . وكان البانديزيون أبطالاً يهاجمون الأغنياء ويعطون الفقراء وقد قَطَنها أجدادنا العرب وأقاموا بها أقوى الممالك وهي مملكة غرناطة العظيمة ، وتعدّ خيول المنطقة من أغلى الخيول كما تشتهر بالشيكولاتة الساخنة. وقد أقام فيها عدد من الكتّاب الأجانب كريلكة الألماني وهمينجواي الأمريكي . وليس في روندا شيء يذكر سوى متحف لمصارعة الثيران والأسلحة والأزياء العسكرية ، وبعض اللوحات والتحف القديمة ، وقد زرته ولم أجده يقارن بمتحف اللوفر إلا أنه فريد من نوعه .

 ثم مررت بمدينة كوستا ديل سول ويؤمها أكثر من خمسة وثمانين مليون سائح في العام منذ الخمسينات ، وتعدّ مدينة مربيلا مدينة سياحية هامة ، وللعرب فيها قصور ، وبها كلّ ما يخطر على بال السائحين . ويقضي فيها الإسبان ليلهم على الشواطيء يشربون ويرقصون . ويسكنها مليون ونصف مغربي وبها جامع أبيض صغير.

 ثم زرت قصر الحمراء أكثر الأماكن التي يزورها السائحون في الأندلس كلّها ، جدرانه حمر ، وقد زارها في العام المنصرم ما لا يقل عن ثلاثة ملايين ونصف مليون سائح .

 وفي كوستا ديل سول ولد بيكاسو ، وبالتحديد في ملقى ، وهي ميناء معروف بها ، ثم سافر إلى برشلونة حيث كان يعمل والده مدرساً ، ثم مضى إلى فرنسا، وقد كان بيكاسو شيوعياً ، ولم يعد إلى إسبانيا بعد رحيله قط .

 وفي الطريق لافتات بالخط العربي وأسماء عربية خالصة مثل بلنسية والمرية والعامرية وغرناطة . ومن هذا الطريق مضى الملك العربي أبوعبدالله محمد آخر ملوك بني الأحمر مع أسرته إلى فاس بالمغرب حيث استقر بها بعد أن أخرجه الملك الإسباني فردناد ، وقد أُخرج معه ثلاثمائة ألف مسلم من مسلمي الأندلس .

 والحمراء تنقسم ثلاثة أقسام : قسم عام كان يدخله العامة من الناس ، وقسم رسمي كان يشغله الخليفة وتدار فيه أمور المملكة ، وقسم للحريم كانت تشغله زوجته وبناته الأميرات وأُمّه عائشة . وقد مرّ على الحمراء زمان لم يلتفت إليها أحد حتى زارها الأدباء الرومانسيون من أمثال فيكتور هيجو وكتبوا عنها فاشتهرت بكتاباتهم . وبدأ الإسبان يعيدون ترميمها بعد أن وضعت الحرب الأهلية أوزارها . وبالقصر حدائق رائعة تعرف برياض جنّة العريف ، وبها مدرسة كان الأطفال الصغار يتعلّمون بها القرآن واللاتينية . وبها قاعة المحكمة التي تعرض فيها القضايا اليومية اليسيرة . وهناك غرفة لاستقبال السفراء ، وكان يعقد بها الحكام السبعة اجتماعاتهم وهم جالسون على الأرض .

 وعندما حلّ المساء زرت الحي العربي في غرناطة ، ويضمّ حارات ضيّقة بها بيوت وبارات ومطاعم كثيرة . وفي بيت من بيوت الغجر اصطف السائحون في غرفة طويلة ضيّقة تحيط بها صور وأوانٍ نحاسية وخناجر وسيوف . واستمرت فرقة من الراقصين والمغنيين يرقصون ويغنون ساعات طويلة من الليل.

 وفي يوم الاثنين الرابع والعشرين من يونية 2012م أُقيمت في كاستيا دي لامانشا ندوة شعرية في بعض منتديات المدينة ألقيت فيها عدداً من قصائدي الشعرية منها قصيدة فلامنكو –-الجندول- غرناطة – النهر المهجور.

 وطليطلة مدينة سياحية شهيرة بها قلاع ومحلات ومطاعم وبارات كثيرة ومناظر طبيعية بديعة ويمرّ بها نهر تاجك . وتقسّم طليطلة إلى قسمين اثنين : طليطلة القديمة على اليمين ، وطليطلة الحديثة على اليسار ، ويصل بينهما جسر معروف يسمّى جسر مارتيني . وفي طليطلة زرت كنيسة سانتا ماريا لابلانكا أي البيضاء ، وقد كانت معبداً يهودياً ، بيْد أنه مبني على طراز المساجد الأندلسية الشهيرة .

 عدت إلى مدريد وقضيت بها ثلاثة أيام زرت بها بعض المتاحف والمعارض والقصر الملكي وحديقة الريتيرو .

 أما القصر الملكي فليس به شيء سوى معرض للرسوم والكتب ومطعم في الطابق العلوي . وقد اشتريت من مكتبته رواية دون كيخوته لسرفانتيس ، وكتاباً بعنوان Travellers in Spain لدافيد ميتشيل وهو يعرض لإسبانيا من خلال روايات الرحالة الذين زاروها كلورد بيرون وفرجينيا وولف وهمنجواي وروبرت جريفز. ومما يذكر أن جريفز شاعر إنجليزي كان يدرّس في قسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة القاهرة قبل أن يمضي إلى إسبانيا ويستقر في جزيرة ميورقا. كما اشتريت كتاباً آخر بعنوان Tales of Alhambra أو قصص قصر الحمراء للمؤلف واشنطون ارفينج والكتاب تحفة أدبية ، ويضمّ صوراً لمجموعة رائعة من اللوحات الفنية لقصر الحمراء من إبداعات الفنانين المشهورين العظام من أمثال روبرتس ولويس ودويه .

 وفي اليوم الثاني مضيت إلى متحف برادو وهو متحف مشهور، وهو في نظري يُضاهي متحف اللوفر في الأهمية حيث تعرض فيه لوحات وتماثيل كثيرة ومن بينها أعمال للفنانين العظام مثل جويا والجريكو وفلاسكيز. وفي صالته الأولى لوحة لهانز بالدونج جرين عن المراحل الزمنية الثلاث للإنسان والموت وبها ثلاث شخصيات ، الأولى امرأة شابة جميلة عارية ، والثانية عجوز شمطاء ، والثالثة هيكل عظمي يمثّل الموت ، وفي مقدمة اللوحة طفل يرقد على الأرض وبجواره بومة . أما الهيكل العظمي فيمسك بيد المرأة العجوز ، وخلفهم جميعاً شجرة جرداء . وتمثّل اللوحة هشاشة الحياة الإنسانية وفناء الجمال .

 ومن اللوحات البديعة لوحة استراحة في الهروب إلى داخل مصر للفنان جواشيم باتنير وتمثّل السيدة العذراء وهي ترضع ابنها في ظلّ شجرة وأمامها متاعها وخلفها أشجار وبيوت وتبدو السماء من بعيد .

 وهناك لوحة جميلة أخرى في الصالة الثانية وهي بعنوان ذكريات غرناطة للفنان انطونيو مونوز ديجرين، وهي تمثّل إحدى البلدان الجبلية حيث يجاور الطريق نهر دارو والطريق ينحدر لأسفل . وهي لوحة رومانسية حزينة الطابع ، وقد نجح الفنان في تصوير أمسية عاصفة سوداء وسماء ملبّدة بالغيوم ، والشوارع تخلو من المارة ،وهي من اللوحات الرائعة بحقّ .

 ومن اللوحات الرائعة أيضاً لوحة كبيرة بعنوان اللؤلؤة والموجة للفنان بول بودري وهي عمل فاتن بارع يمثّل فتاة ترقد على جانبها الأيسر على شط البحر وتدير رأسها للخلف وتشبّك يديها أمامها بينما يقذف البحر بموجه ناحيتها. و الخلفية والأصداف توحي بمولد فينوس .

 ومن اللوحات الكبيرة في المتحف لوحة جميلة بعنوان العشاء الأخير للفنان خوان أولتيما سينا استوحاها من لوحة العشاء الأخير المعروفة للوراندو دافنشي سواء أفي المكان أم القديسين ، كما يظهر فيها كذلك تأثّر الرسام بالفنان روفائيل وصلته الوثيقة به .

 وفي اليوم الثالث مضيت إلى حديقة الريتيرو ، وقضيت فيها وقتاً طويلاً وتناولت فيها الغداء ، ثم عدت إلى الفندق أحزم حقيبتي استعداداً للرحيل عن إسبانيا في صباح الغد.

 عدت إلى بندر سري بكاوان من رحلتي لأوربا ووجدت في جعبتي أكثر من مائة قصيدة كتبتها خلال زيارتي لها ؛ فغمرني موج من الرضا والغبطة ، وأحسست بما أحس به السندباد عندما عاد من رحلته الثامنة حاملاً في سفينته صناديق مفعمة بالقناطير المقنطرة من الماس والفضّة والذهب والأحجار الكريمة ؛ فسجدت شاكراً لله عزّ وجلّ لما أسبغ عليّ من نعمه وهباته وعطاياه الجزيلة .