ثلاثة أيّام في الصالون الدّولي للكتاب (بالجزائر)

عبد الله لالي

clip_image001_93181.jpg

في نزل موليير..

أعزّ مكان في الدّنى سرج سابح  * * وخير جليس في الأنام كتاب ــــــــــ المتنبّي..

كانت فترة العطلة الخريفيّة مناسبة لشدّ الرّحال إلى العاصمة ..وزيارة الصّالون الدّولي للكتاب الطبعة الواحدة والعشرون ، رافقني في رحلتي هذه المرّة ابني أسامة البالغ من العمر خمس عشرة سنة ، الذي أوتي بسطة في الجسم بحيث يبدو أكثر من سنه ، فأردته أن يؤتى أيضا بسطة في العلم ، لكنّه كان يفضّل أن يزور معالم العاصمة الأساسيّة على زيّارة صالون الكتاب ، فقلت في نفسي ولمَ لا أجمع له بين الأمرين ..فلعلّ وعسى..!

في حدود السّاعة السّادسة صباحا دخلنا مشارف العاصمة من بوابتها الرّئيسيّة ( محطّة الخرّوبة ) ، كانت تضجّ بالحركة والحياة، وبدا الجوّ جميلا منعشا فكتبت بالهاتف البسيط على صفحتي في الفايس بوك عبارة خطرت ببالي حينها ( صباحك نديّ أيتها العاصمة )..وتفاعل معها كثير من الأحبّة والأصدقاء كانت عبارة صادرة من أعماق القلب ..

بعد أن صلّينا الفجر انتقلنا من المحطّة إلى شارع حسيبة بن بوعلي حيث يوجد نزل ( موليير )، ولطالما أدهشني اسم هذا الشاعر والمؤلّف المسرحي الفرنسي العبقري ، ولكن لا يعجبني أن يسمّى باسمه أي معلم أو مبنى في وطني الجزائر ، في النزل كان الأستاذ محمّد الكامل بن زيد الروائي والقاص ورئيس فرع اتحاد الكتاب ببسكرة في انتظارنا ، إذ حجز لنا غرفة هناك ، كما وجدنا هناك الدّكتور الأمين بحري النّاقد والأديب المعروف ، وهو من بسكرة أيضا ، ويعرف بهوسه العظيم في اقتناء الكتب ، ومعه أيضا الشاعر والإذاعي البسكري الأستاذ بلقاسم مسروق ، الذي ألفيناه على وشك المغادرة فكان لقاؤنا به عابرا..

لم نتمكّن من زيّارة الصّالون الدولي للكتاب إلا في حدود الحادية عشرة .. ويا لهول ما رأيناه.. !

مع الكتّاب والأدباء ..

عندما وصلنا صبيحة الأحد 30 أكتوبر إلى الصّالون الدّولي للكتاب كانت أمواج البشر كأنّها سيول الحجيج قد أفاضت من عرفات، حينها انشرح صدري وشعرت بنشوة تغمر كياني ، ليست ملاعب كرة القدم وحدها من تستقطب شباب الجزائر ! ولا حفلات المغنين والرّاقصين ؛ بل هناك من يقرأ ويهتمّ بالثقافة بشكل مرضٍ جدا في الجزائر قد يُعدّل كفّة الميزان ..

كان مقصدنا الأوّل جناح دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ( بسكرة ) أين ينبغي أن نحطّ رحالنا ، وقد سبقتنا هناك كتُبنا معروضة للطالبين ، وكان من المقرّر أن ينظم الأستاذ محمّد الكامل بن زيد بيعا بالإهداء يوم الاثنين صباحا ، ثمّ أعرض أنا كتابي ( متن وحاشية ) أيضا بالمساء ( بيعا بالتوقيع أو  إهداء بالإهداء ) .. لأنني لا أحسن البيع في حياتي قطّ ، لكنّ تجارتي كانت رابحة دائما بحمد الله تعالى ، فأرجو أن لا تبور ، ولا أعلم من محمّد الكامل بن زيد إلا ما أعلمه من نفسي ، فهو أيضا يُهدي كتبه أكثر مما يبيع ، لكنّه مسدَدُ الخطى بفضل الله..

وجدنا في جناح ( دار علي بن زيد للطباعة والنشر ) رفيق جلول يقوم على عمليّة البيع والترويج لمطبوعات الدّار ، فجلسنا معه مدّة يسيرة من الزمن ثمّ نهضنا لنتجوّل في المعرض ، كانت الكتب المعروضة كثيرة إلى درجة أنّه يصعب استكشافها كلّها في ثلاثة أيّام ، ووددت لو أننّي أبقى هنا كلّ بقية الأسبوع ، غير أنّ ظروف العمل لا تتيح لي ذلك ، ولا ميزانية الجيب أيضا ، لكنّ متعة التصفّح وقراءة العناوين واكتشاف الأسماء الجديدة ؛ تعتبر طُقسا لا يُستهان به في تشكيل ثقافة القارئ والمثقف النّوعي..

التقيت بداية بالروائيّة ليلى بيران – وهي من معارف الفايس بوك الذين يعتدّ بثقافتهم وقلمهم - فأهدتني روايتيها ( رنيم ) و( بصمات ) ، كان عنوان الرّواية الأولى جذّابا بشكل كبير ، تبادلت أطراف الحديث معها ، ثمّ تركتها منسحبا – بسبب انشغالها - رفقة صديقي ابن زيد إلى جناح اتّحاد الكتّاب ، وهناك كان اللّقاء الشيّق والعاجل مع رفقة من أعضاء الاتحاد ، ووجدنا الشاعر الشاب نور الدّين نويجم ( وهو من نجوم حصّة شاعر الجزائر التي نظمتها قناة الشروق العام الماضي ) ، وقد أصدر أربعة دواوين دفعة واحدة ، وكان لي شرف تقديم أحد هذه الدّواوين المسموم بعنوان (مسافات يرشفها الوجد ) ، وقد أبديت له ملاحظة بسيطة حول إصداره أربعة دواوين في وقت واحد، ورأيت أنّ ذلك يستهلكها إعلاميّا ولا يتيح فرصة كبيرة للنّقاد لإعطائها حقّها من القراءة والتحليل، لكن كانت له وجهة نظر أخرى ، وأذكر أنّه قال لي أنّ هناك دواوين غيرها في الانتظار ، ولقينا أيضا في جناح اتحاد الكتّاب الأستاذ الكاتب والشاعر عيسى ماروك ، فاستمتعنا بالحديث إليه ووعدته هو والشاعر نور الدّين نويجم ، بأن أهديهما بعض إصداراتي ، لكن لما عدت مرّة أخرى لم أجدهما ، وشغلت في خضم الصّالون ، فلم أتمكن من إهدائهما ما حملت لهما.. وعسى أن أَفي بذلك يوما ما، لاسيما أنّ نور الدّين نويجم أهداني دواوينه الأربعة.. ! فكان لابدّ من ردّ التحيّة بمثلها ..ويا ليتني تمكّنت من ذلك.. ! 

كان ابني أسامة قد غادر الصّالون متجها على قدميه نحو شاطئ البحر الذي لم يره منذ 2005 تقريبا .. ولا يذكر منه إلا سرابا يلوح من بعيد فلم يقاوم شوق اللّقاء .. وشتت فكري بينه وبين الصّالون ، وأربكني حتّى كدت أخرج من الصّالون لأبحث عنه ..

كلَّمتُ ابني بالهاتف وطلبت منه العودة فورا إلى الصّالون فرجع ، واطمأنّ قلبي وواصلت جولتي داخل الصّالون ، كان هناك كثير من الكتّاب والمبدعين والشعراء الذين تواعدت معهم على اللّقاء هناك ، أو تمنّيت لقاءهم فكنت أفتّش عن الكتب وفي الوقت نفسه عن صائدي الكتب أو صانعيها ، وقفت أنا ومحمّد الكامل بن زيد عند إحدى دور النّشر وبدأنا نفليها فليا ، كانت هناك كتب جيّدة وبأسعار معقولة اخترت من بينها كتابا عن عبد الله بوخالفة ابن مدينة بسكرة الذي وجد ميتا على سكّة القطار في ظروف غامضة كان الكتاب بعنوان ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ).. كان شاعرا متميّزا بشهادة من عرفوه ، فأردت أن أعرف عنه مزيدا من المعلومات..

ووجدت رواية رائعة لعبد الله عيسى لحيلح بعنوان ( حالات ) ، روايات وكتب عبد الله عيسى لحيلح أبحث عنها بشغف، وأشتريها بغير تردد فهذا كاتب من العمالقة الذين يقطر الإبداع من أقلامهم شهدا مصفّى.. !

فعبد الله عيسى لحيلح شاعر وروائي من طراز خاص ، أذكر أنّ جمعيّة الفنون الدرامية ببسكرة نظمت مسابقة وطنيّة عام 1994 م حول أحسن نصّ مسرحي ، وشارك الأستاذ عبد الله عيسى لحيلح بنصّ مسرحي شعريّ ماتع حظي بالجائزة الأولى على المستوى الوطني ، وجاء المؤلّف لحضور حفل استلام الجائزة والتكريم ، وعقدنا معه جلسة أدبيّة ليلا ، دامت أكثر من أربع ساعات تحدّثنا فيها في مختلف شؤون الفكر والثقافة والأدب..

رجعنا إلى جناح ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ) لتفقد الأمور واستقبال الزّائرين ، وكان من الشخصيّات المميزة التي زارتنا الأستاذة القاصّة نسيمة بن عبد الله ، وهي سيّدة في قمّة التواضع والأخلاق الكريمة ، ومتابعة للنّشاط الثقافي والأدبي بشكل لافت جدّا..

ومرّة أخرى رجعت إلى القاعة المركزيّة في الصّالون باحثا عن الجناح الذي تعرض فيه الأستاذة عائشة بنّور روايتها ( نساء في الجحيم ) ، التي كتبتُ عنها قراءة نقديّة مطوّلة في ستّ حلقات ، أردت لقاءها والتعرّف إليها وإلى زوجها الأديب والكاتب المعروف رابح خدّوسي صاحب دار الحضارة الذي كتبت عنه هو أيضا من قبل، ولكن لم أوفّق إلى رؤيتهما ذلك المساء ..

استأذنت من محمّد الكامل بن زيد في العودة مع ابني إلى النزل، لأنني كنت أريد التجوال في بعض أحياء العاصمة القريبة من ساحة أوّل ماي وساحة الشهداء ، ولكن بعدما ركبنا التروماي والميترو وجدنا أنّ الوقت قد انقضى في التنقل، وشعرت بالإرهاق الشديد، فآثرت أن آوي إلى غرفتي في النزل وأتصفّح بعض غنائمي من المعرض..  

أوّل كتاب امتدّت يدي إليه لأقرأه هو كتاب ( حالات ) لعبد الله عيسى لحيلح ، وأخذت قلم الرّصاص لأدوّن ملاحظاتي المعتادة التي تكون دائما نواة لقراءة نقديّة ، لكنني تفاجأت بعد قراءة ثلاث صفحات أنّني أُعلّم على أغلب الأسطر والصّفحات ، ووجدت الرّواية مشحونة ومثقلة إلى درجة أنّها لا يمكن أن تُقرأ في غرفة في فندق ، والذّهن مشوّش وحقيبة السّفر ما يزال يعلوها غباره ..

أخذت بعدها أتصفّح كتبا أخرى بشكل سريع في انتظار القراءة العميقة ، ومنها كتاب ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ) من إعداد عبد النّاصر خلاف وقدّم له الدّكتور أمين الزاوي..

في النزل كانت هناك نافذة مطلة على جهة البحر بزاوية ضيقة قليلا ، لكن يمكن مشاهدة البحر بشكل واضح وملاحظة حركة السّفن وقد أشعلت أنوارها وأضاءت دياجي الأمواج المنسابة في حركة لطيفة كأنّها تمدّ يديها مرحبة برجل من أهل الصّحراء ، لا يلمّ بالبحر إلا قليلا ، وعندما يراه يذكره بصحرائه الممتدة الأطراف ، رهيبة المنظر في عظمة وجلال ..

قلت في نفسي:

" من هنا جاءت فرنسا ذات يوم ،وأسدلت على حرّيتنا ليلا طويلا امتد إلى ما يزيد على القرن وربع القرن .. فكيف أمكن لها أن تدخل إلى هذه العاصمة الشامخة ، والمحصّنة طبيعيّا بشكل يعسر على أيّ أجنبي أن يقتحم تضاريسه الوعرة ..؟ "

في الصّباح عدنا إلى الصّالون من جديد ، كنت أترقّب رؤية بعض الكتّاب والمبدعين من الذين لم ألقهم في اليوم الأوّل ؛ عائشة بنّور رابح خدوسي ، الشاعر سعادي حمزة ، الشّاعر الرّائع مصطفى كبير ، الدكتور حبيب مونسي ...وغيرهم..

كانت المفاجأة في بداية وصولنا إلى الصّالون أن التقيتُ بالمهندس الشاعر الأخضر رحموني ، وكان قد وصل لتوّه من بسكرة ، وليس من السّهل أن يحظى المرء برفقة مثقف مثل المهندس الأخضر رحموني لاسيما في الصّالون الدّولي للكتاب ، فالّرجل مثقف من الطراز الأوّل ، مثقف موسوعي ملم بمختلف تمفصلات الثقافة في الجزائر ، وله ذاكرة حديديّة ، إذ يبسط أمامك سجلا حافلا بالمعلومات عن أهم وأبرز النشاطات الثقافيّة في العقود الأربعة الأخيرة بالجزائر ، وهو أحد صانعيها الأساسيين..

ذهبت إلى نواة الانطلاق ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ) فوجدت محمّد الكامل هناك يوقّع إصداره الجديد ( تجاعيد آسرة )، ووجدت عنده الصّحفيّة المتقدة حيويّة ونشاطا ، خالدة مختار بورجي من جريدة ( وقت الجزائر ) ، وسمعتها تقول له سأذهب إلى الجناح الذي فيه الأستاذة الروائيّة عائشة بنّور ، فقلت لها :

-       هل الأستاذة عائشة توقّع روايتها اليوم ؟ فقد بحثت عنها أمس فلم أجدها .. !

فأجابت أن نعم ، وقالت لي أنّها ستجّل معي حوارا بعد عودتها من الجناح الذي فيه الأستاذة عائشة، فقلت لها : سأذهب معك .. وكان رفقتها مصوّر بارع يعشق فنّ التصوير ، فتجاذبنا ثلاثتنا أطراف حديث شيّق في الطريق ، إلى أن وصلنا إلى جناح عائشة بنّور ، فتلقّتنا بالترحاب وابتسامة عريضة ترتسم على وجهها ، كانت الأستاذة عائشة بنّور نموذجا للزوجة الأديبة التي توافقت موهبتها مع موهبة زوجها ، فزوجها هو الأديب والكاتب المعروف رابح خدّوسي ..

تركتُ الصّحفيّة خالدة مختار تجري حوارها مع الأستاذة الروائيّة عائشة بنّور ، على أن أعود إليها لاحقا ، عدت إلى مقرّنا في دار علي بن زيد ، ولمّا قدّرت أن الحوار قد يكون انتهى رجعت..

كتبت عن رواية عائشة بنّور ( نساء في الجحيم ) كما ذكرت سابقا سلسلة من المقالات لقيت استحسانا كبيرا من المتابعين ، ولمّا زرتها أهدتني راوية أخرى لها في طبعتها الثانية وهي ( اعترافات امرأة) وهي مترجمة إلى الفرنسيّة ، وبعد حديث ثقافي شائق طلبت إلي خالدة أن تبدأ الحوار معي فأجبتها وأثناء الحوار وصل زوج الأستاذة عائشة الأديب الكبير رابح خدّوسي فاكتملت فرحتي بلقاء قطبي الرّحى في ( دار الحضارة للطباعة والنّشر ) ، وهي مؤسّسة ثقافيّة تقوم بجهود عظيمة في نشر الفكر والثقافة ، وإحياء التراث العربي الإسلامي وللأديبين الكريمين جهود لا تنكر أيضا في خدمة أدب الطّفل ..

سألني الأستاذ رابح إن كنت أحضرت معي كتاب ( متن وحاشية ) فارتبكت لأنني كنت أحضرت نسخة واحدة لأهديها للأستاذة عائشة ، ولم أكن أعلم أنني سأجد الأستاذ رابح ، فأخبرته بذلك معتذرا ، فقال بأريحيّة :

-       تكفي نسخة واحدة فنحن لا فرق بيننا ..

قلت ذلك لأنني اعتدت في الإهداء أن أقدّم أكثر من نسخة لأفراد العائلة الواحدة، حتى لا يشعر أيّ طرف بالغبن ، لكنّ الأستاذ رابح خدوسي أزال عنّي الحرج ..

أثناء عودتي من الجناح الذي توقّع فيه الأستاذة عائشة بنور روايتها ؛ التقيت وجها لوجه بالأستاذ الأديب الدّكتور سعيد موفقي، فقلت له وأنا أسلّم عليه :

-       هذه التي يقال لها ( ربّ صدفة خير من ألف ميعاد .. ! ).

ابتسم الدّكتور سعيد وهو يقول لي :

-       فعلا ربّ صدفة خير من ألف ميعاد ..

عرفت سعيد موفقي خلال ملتقى الإتحاف الأدبي الرّابع الذي أقيم ببسكرة منذ حوالي سنتين ، كنت أعرفه من قبل من خلال قصصه ومقالاته النقديّة ، وعرفته في ذلك الملتقى عن قرب ، وأهدى لي مجموعته القصصيّة ( كمثل ظلّه ) ، بكلّ تواضع ومودّة ، وكتبت عنها فيما بعد قراءة نقديّة ، نشرت في عدّة مواقع إلكترونيّة ، كما نشرت في جريدة ( العراق اليوم ) ، وهي ضمن كتاب (متن وحاشية ) الذي أصدرته حديثا ، ولذلك قلت للأستاذ سعيد :

ها هي نسختك وكأنّها تنتظرك ، وحانت منّي التفاتة فرأيت معه فتى صغيرا تبدو عليه مخايل الذّكاء في حيويّة ونشاط ، فسألته إن كان ابنه فأجاب أن نعم.. فأردت ملاطفته وأنا أفتح كتاب ( متن وحاشية ) فقلت:

-       انظر هذا هو اسم أبيك وهذا ما كتبتُه عنه..

ثمّ دعوت الأستاذ سعيد إلى زيّارتنا في جناح دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ، لنتحدّث بشكل أطول ، وفعلا لحق بي بعد ذلك بقليل ، وجاء الأستاذ الأخضر رحموني ، وكانت جلسة ثقافيّة رائعة ، وبعد لحظات أهلّ علينا الأستاذ الشاعر مصطفى كبير ، الذي وعدني بأن نلتقي في الصّالون ووفّى ، وكان جاء بالأمس مساءً لكنّه لم يجدني..

تحدّثنا مطوّلا وأخذنا صورا للذّكرى وأهديت ما حضرني من كتبي للأستاذ الشاعر الفحل – بحق – مصطفى كبير ، الذي سبق أن كتبت عنه في سلسلة ( المدرسة الكعبيّة ) ، وبعدها استأذن الأستاذ سعيد موفقي وكذلك مصطفى كبير ، وشعرت أنا أيضا بضرورة العودة إلى الفندق لأنّ التعب قد أخذ منّي حظّه الأوفى ، وأردت القيام فقال لي الأستاذ الأخضر رحموني أنا أيضا لابدّ أن أذهب ، وكان مترددا بين العودة إلى بسكرة وبين المبيت في العاصمة ، غير أنّه لم يكن قد حجز غرفة ،  فقلت له: نبحث لك عن مكان مع أحد الأصدقاء الذين معنا في الفندق ، وفعلا رحّب به الدّكتور الأمين بحري في غرفته، إذ كان وحده بعد مغادرة الأستاذة بلقاسم مسروق ، وكان ذلك من حظ الأستاذ رحموني وحظّي أنا أيضا..

قلت أنّ ذلك من حظي لأنّي سأحظى بصحبة شحرور الزيبان في سمر ليليّ ، فقد زارني في غرفتي وحدّثني طويلا – مستخدما ذاكرته الموسوعيّة – عن عبد الله بوخالفة ، وعن كثير من شؤون الثقافة والأدب ، وقد رأى عندي كتاب ( أسفار الشاعر عبد الله بوخالفة ) ، وأخبرني أنّه لمّا أقيمت ذكرى وفاة وتكريم عبد الله بوخالفة بعنّاية ، ساهم بمعظم مادة المعرض الذي أقيم عنه ، وكاد يضيع ذلك الأرشيف الثمين بعد اغتيال الرئيس المرحوم محمّد بوضياف ، لأنّ المعرض ترك هناك في دار الثقافة لفترة من الزمن ، وتلك المادة هي التي صارت فيما بعد نواة الكتاب.

جولة الختام ( اليوم الثالث )..

قبل أن نُسلم أجسامنا إلى مضاجعها في تلك اللّيلة ، التي كانت ليلة أوّل نوفمبر ؛ أخبرني المهندس الأخضر رحموني ، أنّه ستكون احتفالات ضخمة قريبة من النزل وأنّ البحريّة سترسل طلقات مدافعها مدويّة عند السّاعة صفر ، احتفاء بالمناسبة ، وذلك ما حدث فعلا واستفزّ المشهد ابني أسامة فراح يصوّر من خلال النّاقذة المشهد الجميل ..

في الصّباح بعد جولة سريعة في منطقة ساحة الشهداء وكورنيش البحر ؛ ذهبنا مرّة أخرى إلى الصّالون  وفوجئنا بأنّ المواصلات الحكوميّة مجّانية في هذا اليوم ، وهذا شيء حسن ، ولكنّ حشود البشر التي تزاحمت على التروماي  والمترو جعلت الحركة شبه مستحيلة ، إلى درجة أنّ التروماي توقّف بنا مرّتين ، وارتفع من صوت من مكبّر داخلي يطمئننا أنّ التوقّف لأسباب تتعلّق بأمن الرّكاب وخمّنت أنّها تخصّ حالة مسار الطروماي..

ووصلنا بعد لأي وكنّا نريد أن نطوف بمزيد من دور النّشر والأجنحة الأخرى التي لم نرها ، وكان بقي لي جناح الأطفال ولابدّ من زيّارته ، رأيت طباعة كتب الطّفل تطورّت بشكل مدهش ، لكنّ الأسعار لا تناسب إلا طبقة محدّدة من أبناء الشعب الجزائري، ولاحظت شيئا ملفتا أيضا بعض الكتّاب والأدباء حُشروا حشرا في جناح الأطفال ليقدّموا كتبهم ، لا أدري هل هو سوء تخطيط ، أم أنّهم اعتبروا كتابا بمستوى ( الأطفال .. !! ).

وعدتُ الشاعرة الأستاذة سليمة ملّيزي أن أهديها كتاب ( متن وحاشية )، ولكن لم أهتدِ إلى مكانها في اليومين الماضيين ، فعزمت أن أجدها في هذا اليوم ..كانت في المبنى الرّئيسي للصّالون ، فذهبت إليها رفقة ( الجنرال ) محمّد الكامل بن زيد ( سمّيته الجنرال منذ أن أصدر روايته الجنرال خلف الله مسعود أو ( الأمعاء الخاوية ) ، وراق له ذلك الاسم ) ، وجدناها تصوّر مع قناة الشروق فآثرنا أن نتجوّل في الصّالون إلى حين أن تَفرُغ من حوارها ، قريبا منها وجدنا الروائي عبد الوهّاب بن منصور فسلّمنا عليه تسليم العابرين ، لم يكن يعرفنا ولذلك لم نطل المكوث عنده، عرّفني  ( الجنرال ) إلى روائي سوري التقيناه في أحد الأروقة غاب عنّي اسمه الآن ، ثمّ عدنا ثانية إلى الأستاذة سليمة ، فرحّبت بنا أيّما ترحيب ، قدّمتُ لها كتابي ( متن وحاشية ) هديّة كما وعدتها ، وقدّمت لي ديوانها الشعري اللّطيف (على حافة القلب ) ، والأديبة سليمة ملّيزي نموذج آخر من نماذج الأديبات المتزوّجات بأدباء أو شعراء ، فزوجها الشاعر المعروف عبد العزيز غرمول ، وكان معروفا بشكل كبير في الثمانينيات والتسعينيّات من القرن الماضي، وكانت زوجته الأديبة سليمة ملّيزي في غاية الحفاوة بنا ، وتبادلنا معنا حوارا عاما حول الثقافة والأدب ، ثمّ ودّعناها مستعجلين لأننا عزمنا على العودة إلى بسكرة ذلك المساء..

قبل خروجنا من المركز الرئيسي للصالون عرّج بي ( الجنرال ) إلى جناح المجلس الأعلى للغة العربيّة ، فطلبنا من المشرفة أن تعطينا نسخا من مجلّة المجلس ، فتكرّمت وأعطت لكلّ واحد منّا ثلاث نسخ، وكنت حصلت أيضا على نسختين من مجلّة المجمع الجزائري للغة العربيّة ، فجمعت حينها بين الحسنيين ، مجلّة المجمع ومجلّة المجلس ، وكانتا توزّعان مجانا لكن لأهل الاختصاص فقط. 

ونحن نغادر الصّالون الدّولي للكتاب الطبعة الواحدة والعشرون ، استوقفنا في ساحته صوت ينادي عليّ من بعيد ، فالتفت فإذا هو شاب طويل القامة مشرق القسمات ، يقول لي :

-       أما عرفتني أستاذ عبد الله ..؟

استغرق الأمر منّي ثوانِ قليلة لأقوم بتحميض الصورة التي في ذهني ، فقلت له وأنا أسلّم عليه:

-       بلى .. رؤوف ..

-       فأضاف هو : ابن الجودي..

فأضفت : أهلا بالصّحفي المشاغب .. !

لقد عرفته إنّه رؤوف بن الجودي العاصمي الألمعي ، صاحب مجلّة ( الخريدة ) الإلكترونيّة ، وهي خريدة بالفعل ، استطاع أن يجمّع فيها نخبّة من الكتّاب والمبدعين الذين استجابوا لدعوته ونشروا نتاجاتهم الأدبيّة أو الفكريّة في تلك المجلّة..

كان شابا مهذّبا للغاية ، أسفتُ على أنّي لم ألقه إلّا في لحظات المغادرة ، هو كاتب ومبدع – لولا بعض السّخط الذي يبدو في كتاباته أحيانا ولعلّه من لوازم الموهبة التي تكون عند بعض المبدعين – متمكن من ناصية الأدب ، وأرى له مستقبلا حافلا بلا شك إن واصل على هذا النّهج من الحيويّة الدافقة والنشاط الدّؤوب.. !

أخذنا صورا للذكرى ثمّ غادرنا متحسّرين على أيّام السعد التي انقضت ، وظننا أنّ فعّاليات الصّالون وما فيها من تفاعل ثقافي قد انتهت ، ولكنّ الطريق كان يخبئ لنا المزيد ونحن لا ندري .. ! 

جلسة البرج السّاحرة وكتاب ( أهل المغارة )

خرجنا من باحة الصّالون على أقدامنا متجهين إلى السيّارة التي ركنها السّائق في مكان بعيد نوعا ما ، بسبب الزّحام وصعوبة العثور على مكان قريب جدّا في محيط الصّالون ، وجاء السّائق ليقلّنا من نقطة مفترق الطرق ، لكن في تلك اللحظة هاتف صديقَنا محمّد الكامل صاحبُ مطبعة من تيزو وزّو ، يخبره أنّه جاء إلى الصّالون ويريد لقياه ، فذهب إليه غير بعيد عنّا ، وظلا يتحدّثان ما يقارب نصف السّاعة ، ثم عاد رفقته ، وأراد السّلام والتعرّف إلينا..

كان ذلك الصّديق ( القبائلي ) رجلا مهذّبا في قمّة الأخلاق والمروءة ، أذكر مما قاله لنا:

-       إذا كنتم ( افْحولة ) حقّا ، فهيّوا معي إلى تيزو وزوا تبيتون هناك الليلة ونضيّفكم ، ثمّ تواصلون سفركم في الصّباح ..

أسرنا بكرمه هذا ..لكن لم يكن هناك مجال لتلبية الدّعوة ، ففي الصّباح لابدّ أن نلتحق بأعمالنا، وإلا فإننا كنّا مشتاقين للتعرّف على تيزو وزو والتقرّب من أهلها الأماجد ..

انطلقت بنا السيّارة تنهب الطريق نهبا غير رفيق ، لم أعتده من قبل ، غير أنّي اطمأننتُ إلى السائق البارع سمير ، الذي يحفظ الطريق عن ظهر قلب ويعرف مسالكه ودروبه ، وبعدما أشرفنا على مداخل مدينة البويرة توقفنا عند إحدى محطّات البنزين للتزوّد بالوقود ، وأداء صلاة المغرب ..

ثمّ استأنفنا طريقنا ..قدم لي محمّد الكامل حصيلة مقتنياته من الكتب التي اقتنصها من المعرض ، كانت أغلبها روايات لكتّاب كبار محلّيين وعالميين ، ومنها بعض الكتب التي اختارها خصيصا للأستاذ فوزي مصمودي ، رئيس الجمعيّة الخلدونيّة السابق ومدير المجاهدين ببشار حاليا ، كانت في اللغة والتاريخ .. بعض الروايات التي تصفحتُها وجدتني أغوص فيها دون شعور منّي ، ثمّ وجدت أنّ الظلام قد أرخى سدوله على الكون ، واستحالت عليّ القراءة فطويت ما كان بين يدي من كتب..

وَرَدَت مكالمة هاتفيّة إلى ( الجنرال ) فهمت من خلال ردّه على المتكلّم في الطرف الآخر من الهاتف أنّ هناك محطّة أخرى عند برج بوعريريج لابدّ أن نتوقّف عندها ، وظننت أنه سيكون لقاء عابرا نسلّم فيه بعض الكتب لأصحابها ، ثمّ نواصل طريقنا نحو بسكرة ..

ولكنّ الأمر اختلف تماما ، ففي البرج وجدنا جماعة من الكتاب والأدباء المعروفين في انتظارنا، عرفت منهم القاص عيسى بن محمود والكاتب الأكاديمي محمّد الصّديق باغورة وغيرهما ، استقبلونا بترحاب كبير ، لم أكن أعرف الموضوع بالضّبط ولم أسأل محمّد الكامل ( الجنارل ) عن ذلك ، ظننته طبع كتابا للقاص عيسى بن محمود وسيسلمه إيّاه ، لكن لمّا دعانا الجماعة إلى الجلوس حول طاولة خشبيّة ملفتة في شكلها التقليدي ، بدأ الأمر يتضح لي شيئا فشيئا..

الكتاب الذي أراد أن يسلّمه الجنرال لجماعة أدباء البرج هو المجموعة القصصيّة للكاتبة والقاصّة السوريّة المعروفة فاديا عيسى قراجة ، كانت المجموعة بعنوان ( أهل المغارة ) ، طبعت بمبادرة من هؤلاء الكتّاب ( الفدائيون ) ، عربون محبّة ووفاء للشعب السوري ووقوفا معه في محنته ، ولذلك بعد أخذ وردّ أنبأونا أنّ عائدات هذه المجموعة القصصيّة ستكون لصالح الأطفال السوريين في الجزائر ، اهتزّت نفسي لهذه الأريحيّة الكبيرة ، وشعرت بالفخر الكبير ، إنّ هناك رجالا أوفياء وكتابا على مستوى عال من الوعي والشعور بالانتماء إلى الوطن العربي الإسلامي ..

وما زاد الموقف حرارة والعاطفة تأججا هو ظهور شاب كان يراقب حوارنا عن كثب ، فسأل في لطف:

-       هل هذا الكتاب موجود في البرج ، فردّ عليه أحد الأستاذة من البرج :

-       سيكون من متاحا بمكتبات البرج خلال أيّام ..

ثمّ مدّ إليه بنسخة من الكتاب وهو يقول:

-       سيباع وتكون مداخيله لصالح الأطفال السوريين في الجزائر ، ولك منّا نسخة هديّة..

فأشرق وجه الرّجل وهو يستلم نسخة الكتاب ثمّ يخرج من جيبه ورقة نقديّة بقيمة 500 دج ويقول:

-       وهذه مساهمة منّي لأطفال سوريا..

كان الموقف مفعما بالحماسة ومؤثرا للغاية ، وكأنّه أوّل الفتح ..

دار في جلسة البرج – التي دامت أكثر من ساعة - حوار ثقافيّ ثريّ جدا وتعرّفنا من خلاله على عدد من الكتّاب والمبدعين ذوي أرواح شفيفة ونفوس شهمة ، كان لقاء وكأنّه على هامش الصّالون الدّولي للكتاب ومنه عدنا إلى بسكرة بخاتمة المسك ..