قصيدة " وأخر متشابهات " للشاعرة المغربية أمامة قزيز وقراءة بعنوان " بلاغة الاشتنباه"

الزهرة حمودان

نص القصيدة:

كتلك التي

تعدد علي محاسنه

وتنآى بجنبها

في تغرز طبائعه

اما دريت ان العشق يربى

الشوق

في خلد من طابت له هوائمه

وانت الغافلة

على مدى اللوعة

في بوحك

الفائض على عواهنه

رفقا بوحدتي

فما كل الانام لها في الحظ حظ

والحب أسمى شعائره

رأفْتُ من حال الوفا

وخضت جدالا

ويحي مني انثى تطرب لغوايته

اذ يرفل كالطاووس متمخترا

على لسان الوصف وعَتَه مرسولَتِه

وانها لتفضح خباياه

وتسوغ في

النفس شغفا متألقا كإله زمانه

وزادت عن حد الصواب

وشكلت

من حكيها السامري فتنة عجله

وأقسمت جهدَ أيمانها

انها مُعرِضة

والشرك به أهون لها من عبادته

اواه منك ومن عماك

ابك جنة؟

كي تُقربي بينه

وبين معشوقته

ام لمثلك تشابهت آيات المثنى

والثلاث

واحكمت على قرين عواطفه

لبيك عشقي

وان انا شعت

فلا افلت

جماحي عن سداد معاقله.

بلاغة الالتباس وشبهة الغواية :

     ينتمي النص الذي بين أيدينا إلى القصيدة الحديثة، لهذا تجْدرُ الإشارة أنني أعني بمفهوم البلاغة، في قراءتها، بالبلاغة الحديثة، إذ تنبني اللغة الشعرية على الانزياح، ومن أهم خاصيات الانزياح؛ الذي اعتمدته الشاعرة في تكثيفها، آلية الإيحاء؛ حيث يكفي الملحمح الدال حسيا كان أو ملفوظا، أن يسهم في التكثيف سواء بالتضمين أو الإيهام، أو التلميح.

   تنبني قصيدة "وأخر متشابهات" للشاعرة المغربية أمامة قزيزعلى مرتكزات الابداع الشعري في البناء اللغوي والدلالي، التي يمكن أن نَرْصدها كالتالي :

أ - اللغة:

   تتسربل لغة القصيدة بالتناص، محملةً بشُحْنات نفسية، ماتحة وحداتِها من المعجم القرآني، إلى جانب التناص الموظف للاقتباس المباشر من الآيات القرآنية؛ وتتبدى مفردات هذا المعجم - مثلا - في شطر القصيدة القائل:

واقسمت جهد ايمانها

انها معرضة

والشرك به اهون لها من عبادته

حيث ترد جملتي : أقسمت جهد أيمانها ونأت بجنبها، ومفردات: الشرك – أهون – عبادة-.. بمرجعيتهن القرآنية. لغة الشاعرة؛ لغة الصوغ الانزياحي، من أجل الوصول إلى التصوير النفسي لشخصيات الحكاية كما سنري، ولتشييد رؤية تبئيرية لقضية القصيدة ورسالتها.

ب - الدلالة:

   يبوح السرد في القصيدة مجدولا بما يسمى باللغة الثانية أي الانزياح، كما تبرز من خلاله خاصيةٌ أخرى للقصيدة الحديثة، وهو الانفتاح على الأجناس الأدبية التي تخدمها فنيا ودلاليا؛ فمن خلال تقنية الحكي تبني القصيدة دلالتها.

   تلحم الشاعرة التناص بالإيحاء، لتصوغ تبئيرا ذاتيا، لن تعلن عن دلالته إلا عند آخر شطر في القصيدة.

   يربط الإيحاء بين عتبتي العُنوان ومطلعِ القصيدة، وهو إيحاء مُشوِّق؛ وكأن الشاعرة تسترسلُ في كلامِها داخلَ سياقِ حديثٍ كان جاريا بين الشاعرة والمتلقي، فيأتي شكل الاستهلال كالآتي:

   وأُخَر متشابهاتٌ

   كتلك التي

تُعِدُّ علي محاسنَه

وتنأى بجنبها..

فيَّ تغرزُ طبائعَه

   يتربع التشبيه على عتبة استهلال القصيدة، وهو من أهم آليات البلاغة؛ وظائفه الأساس الإيحاء والتكثيف والايجاز. يزكي التشبيه في مطلع القصيدة، تقنية الانزياح المنتجة للدلالة، فالقضية التي تجمع بين "التي نقضت غزلها" في الآية الثانية والتسعين من سورة النحل، التي تقول :" "لَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ .. "، تشبه قضية المرأة المتخمة بعشق حبيبها، إلى حد جعلها تَزْهد فيه، إذ تقول الشاعرة/الراوية والشخصية المنفعلة:

...........

اقسمت ْجهد ايمانها

أنها مُعْرِضةٌ

والشِّرك به

أهونُ لها من عبادتِه

وهو كما سنرى يخدم دلالة احتمالية " الاشتباه " التي تلتبس به مشاعر امرأتين، إذ تحكي الشخصية الأولى، من خلال تقنية التبئير الداخلي :

اواه منكِ ومن عماكِ

أَبِكِ جُنَّة

كي تُقربي بينه

وبين معشوقته

   وكأن الشخصية الناطقة باسمها الشاعرة هامت عشقا بالمحكي عنه، وهو عشق – حسب سياق الحكاية الشعرية – يحمل شبهة " الخيانة"، المنبنيه على تقنية الاستفهام بالهمزة الذي وظفته الشاعرة في شطر : أبك جنة؟، وهو استفهام بليغ يفيد الإنكار والرفض.

   يعود التشبيه مرة أخرى، ليعلي من وتيرة الإيحاء ، وهي تقدم الشخصية الثالثة في الحكاية، من خلال شبهة الافتتان بالذات الذكورية ، إذ تقول :

اذ يرفل كالطاووس متمخترا

تدعم هذا الزعم َفي استنباط الدلالة، الآيةُ مرجعُ التناص الواردةُ بالعُنوان؛ وهي الآية السابعة من سورة آل عمران: " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ ۖ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ.. "، وهنا سيفاجأ المتلقي بتناسق الرؤية التبئيرية للشاعرة مع موضوعة " الشبهة " الناتجة عن الإغواء، إذا قمنا بربط كلمة " الفتنة بالآية مع ما جاء بالقصيدة في هذا البيت:

وزادت عن حد الصواب

وشكلت

من حكيها السامري فتنة عجله

     وفي البيت الأخير هذا تتضاعف شبهة الفتنة، بتوظيف تناص قرآني آخر، يخدم السياق العام للقصيدة، وهي شبهة الغواية.

     تستقبل كلٌّ من عتبتي العنوان والاستهلال القارئَ في رداء التناص القرآني؛ وظيفتُه الفنية في عتبة العنوان، صياغةَ صك العفة، يمنح الشاعرة الحصانة في حرية القول، فتحكي حكاية ملغمة ملتبسة بالغواية والفتنة؛ بطلتاها امرأتان، يحتار المتلقي في الحكم على من فيهما البريئة ومن فيهما الآثمة..

     يقدم السرد الضمني، الأحداثَ في القصيدةِ، ملتبسا هو الآخر بالتخفي وراء الشعر، كما تجري أحداثه في فضاء من الأحاسيس الملتبسة بشبهة الغواية، واحتمالية الخيانة داخل مشاعر كلا المرأتين.. إذ تمارس الشاعرة من خلالها لعبة الحضور والغياب، في التشكيل والدلالة، من خلال حضور المرأتين، وغياب الشخصية الثالثة؛ المحركة للحدث الذي يمثله الانفعال والتفاعل لدى المرأتين.

     يحضر البعد النفسي للشَّخصيات في القصيدة، بهذه الأبيات التي تصف تفاعل مشاعر الشخصية الرئيسة التي تروي الشاعرة بلسانها، مع الشخصية الذكورية الوحيدة في النص، وهي تحت تأثير غواية حكي صديقتها، إذ تقول :

ويحي مني انثى تطرب لغوايته

على لسان الوصف وعَتَه مرسولَتِه

وانها لتفضح خباياه

وتسوغ في

النفس شغفا متألقا كإله زمانه

وطبعا يتم ذلك عبر آلتي التكثيف والإيحاء؛ ومن أُسس بنائهما الخيال والإيماء، ومما أتت به القصيدة في هذا المنحى من القراءة:

اما دَرِيتِ ان العشق يُربي

الشوق

في خلد من طابت هزائمه

وانت الغافلة

عن مدى اللوعة

في بوحك

الفائض على عواهنه

تتجلى البلاغة في نص القصيدة كما أسلفت الإشارة في الانزياح وأدواته، كالتناص، والتشبيه، والاستفهام ، ثم الإيحاء، والتكثيف، غير أن المتلقي سيجد تقنية بلاغية أخرى ، في شطر " أما دريت أن العشق...يربي العشق"، وهو الاستفهام الانكاري؛ المجازي المفيد للتنبيه؛ تنبيه المرأة/ الصديقة، التي تصفها بالغافلة.

يحيل المقطع الشعري " أم لمثله تشابهت المثنى والثلاث.." على الآية الثالثة من سورة النساء في قوله تعالى : " فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.."، وهنا أيضا يحضر التناص القرآني، في صيغة استفهام مجازي آخر يفيد التوبيخ، الذي تسمح به وظيفة "أم" الاستفهامية، التي تتيح مساحة للخيال أن ينتج دلالة ما وراء التكثيف، وهو ما يمكن استخلاصه من الأبيات التالية:

.................

كي تُقربي بينه

وبين معشوقته

ام لمثلك تشابهت آيات المثنى

والثلاث

تقوم بلاغة " الاشتباه " في القصيدة، على الصور الشعرية التي شيدتها عبر وظيفة التناص، المانحة لكل من الشاعرة والمتلقي، مساحات أوسع للتخييل، حين تبدأ فنية التباس القصيدة نفسها بالحكاية بكل عناصرها من شخصيات وحدث يحركه الوصف المحرك للانفعال. كما يفاجأ المتلقي بنهاية تكسر أفق انتظاره، مما أعطى للقصيدة دفقة جمالية/ قيمية أخرى، تصل فيها الشخصية التي تعرضت للإغواء، إلى ذروة التطهير، حين تقول:

وان انا ضعت

فلن أفلتَ

جماحي عن سداد معاقله

وكأن البطلة تتحرر من شرنقة الغواية وتعلن أنها لن تفلت جماح عشقها المحرم.

وتبقى قصيدة " وأخر متشابهات " نصا قابلا لعدة قراءات، كالتبئير، والأبعاد النفسية للشخصية، أو من خلال بوابة أسالت الكثير من حبر الكتاب شرقا وغربا، وهي تيمة "الحكي والخلاص " في الليالي وشخصية شهرزاد.