شعراء نقاد في عصر الدول المتتابعة

د. زينب بيره جكلي

شعراء نقاد في عصر الدول المتتابعة

د. زينب بيره جكلي

قد يظن بعض الدارسين أن العلاقة بين الشعراء والنقاد على طرفي نقيض ، لأن الأواخر يوجهون سهامهم إلى الأوائل فيضيق صدر هؤلاء ويتهمون النقاد بأنهم يتحاملون ، ويرد الأواخر مبينين أن ( ابن جني أعلم بشعري مني ) لأن الأوائل يلقون ما يقولون في سلة التاريخ ، والنقاد يبدون آراءهم فيما يقولون سلبا كان أم إيجابا .

والحقيقة هي أن بعض الشعراء كان لهم ذوق نقدي رهيف ، ورأي في الأدب شكله ومضمونه ، وفي دوره في الحياة لا يقل أحيانا عن دور النقاد ، وإن كانت طريقة عرضهم تختلف باختلاف الفن الناقل والمنهج المتبع في العرض ، فالشاعر يوحي ، والناقد يدلي ببراهينه ، والشاعر يمر مرور العجِل أوسحابةِ الصيف ، والناقد يحمل في جعبته براهين    البحث العلمي الموْضِحة .

وللدلالة على هذا سأقتطف من ثمرات عصر الدول المتتابعة وريقات شعرية تحدث فيها ذووهاعن آراء نقدية لهم، وكم أهمل هذا العصر واحتاج لجهد جهيد لكشف الغمة عنه ؟

لقد أدرك شعراء هذا العصر ضعف مكانة الشعراء لدى الخاصة والعامة ،لأنهم لجؤوا إلى القصر الذي يملكه غير العرب ليقدموا لهم ما يوائم أذواقهم ، وكانت أذواق هؤلاء تميل إلى زخرف القول ، فسايروهم فيما يحبون ، سوق للعمل انحدرت به الكلمة حين قدمت الغث والثمين ، وضاق بلغاء العصر مما كان فقال فتح الله بن النحاس (ت1052هـ)، وهو الشاعر المطبوع الموهوب

هان من أمَّ بالمديح أناسا         يستوي الشعر عندهم والشعير

همم رثة،  وألسنة غلف         وأيــد كأنهــن صخـور

وإزاء هذا لان الشعر وبدت عليه الصنعة، بل صار التكلف سمة له بارزة  في هذا العصر ، وهاهو محمد أمين بن فضل الله المحبي(ت111هـ) يقرأ مقطوعة من بيتين للشاعر أحمد المهمنداري(ق11هـ ) وهما :

مذ رأى الورد على أغصانـه      خد من أهواه في الروض الأنيق

صار مغمى ، فلطيف الطيف قد    رش في وجنتيــه كي يستفيق

فيقول لو كان لي هذان بكل شعري ، وهذا التكلف أضعف من قيمة الشعر والشعراء حتى قال أحمد بن محمد الخفاجي ( ت1069 هـ ) في الشاعر يوسف بن عمران(ت1074هـ) وأدبه :

لو كان يدري المرء أن ابنه      يحرم بالآداب ما أدبه

وقال عبد البر الفيومي ( ت1071هـ) معبرا عن هذا الضيق أيضا :

قال لي شخص رأيت العجبا     صدِّر الجهال فوق الأدبا

ولكن ومن خلال تعايشي مع أدب هذا العصر رأيت أن المقطوعات الشعرية كان فيها كثير من التكلف غير المستساغ ، لأن أصحابها كانوا يتسابقون للإتيان بمعنى جديد ، أو تصوير فريد ، لكن أصحاب القصيد كانوا يدركون أهمية جودة اللغة وفنية التعبي، كما يعون  دور المضمون ، ومن هنا وجد شعراء نقاد عبروا عن آرائهم، فأعلى بعضهم  من شأن الأسلوب ،واهتم آخرون بمضمون النص ، و عنيت فئة ثالثة بهما معا.

وكان من أصحاب النظرة الأولى صفي الدين الحلي (ت750هـ) الذي رأى الشعر موسيقا متوائمة ، ولغة مأنوسة ، أما تكلف الغريب فأمر مشين ، ولهذا رد على من عاب شعره لقلة غريبه :

إنــما الحيزبون والدردبيس       والطخا والنقاخ والعطلبيس [1]

لغـة تنفر المسامع منهــا     حين تروى وتشمئز النفوس

وقبيـح أن يذكر النافر الوحـ    شي منها ويترك المأنوس

فالشاعر ينفر من الألفاظ الغريبة الوحشية ، ويحب أن يقدم الأدب بألفاظ مأنوسة تجذب إليها القلوب لأن البلاغة في نظره أن يكون الأسلوب سهلا رهوا كالماء الزلال ، وليس أدل على ذلك من أسلوب القرآن الكريم الذي سمي بالسهل الممتنع ، ولهذا فهو يقول لنا في موطن آخر وبتراكيب لها حلاوة وطلاوة إن البلاغة في الإيجاز والسهولة :

ليس البلاغـة معنى       فيه الكلام يطول

بل صوغ معنى كثير     يحويه لفـظ قليل

فالفضل في حسن لفظ    يقل فيـه الفضول

يظنه الــناس سهلا     وما إليــه سبيل

والعي معنى قصيــر   يحويه لـفظ طويل

أما أحمد بن محمد الخفاجي فإنه يرى الشعر موسيقى عذبة ذات وقع محبب ينعش الأرواح بشذاه العطر وألفاظه المؤثرة ، يقول في حديث شعري له عن يوسف بن عمران الحلبي :

كشعر ذا الحبر بحر في تموجه     يهدي لأسماعنا روحا وريحانا

ذو منطق ساحر مُطْرٍ فياعجبا     للسحر ينشئه وهـو ابن عمرانا

ويضيف الشاعر عبد الرحمن بن محمد بن حمزة ( ت1081هـ) عنصر التصوير إلى الشعر فيقول :

والشعر ضرب من التصوير قد سلكت     فيه القرائح تدريجا وترتيبا

وكأن أصحاب هذه النظرة قد قاربوا في مقولتهم أصحاب مدرسة الفن للفن الذين يقومون الشعر بناء على فنيته، أعني تراكيبه اللغوية ومقدرته التخييلية .

لكن فئة أخرى نظرت إلى الشعر من حيث دوره في الحياة ، فهو وسيلة يجذب بها أصحابه القلوب والعقول إلى قيم وفضائل يجب التمسك بها .

فالبوصيري ( ت 697هـ) مثلا يرى أن الشعر لإضفاء جو من المحبة بين الأديب والمجتمع ، وليس أداة كسب ومغنم ، يقول :

فإنني لا أرى المديح به     للمال بل للوداد والصحبة

وهو في رأي صلاح الدين الكوراني ( ت 1049هـ) مدرسة يفيد منها الآخرون ولا يهمه بعد آستقام وزنه وعذب جرسه أم كان غير ذلك ؟ لأن المضمون هو الأساس والمعول عليه ، يقول :

وليس الشعر قافية ووزنا     وألفاظا على نسق النشيد

ولكن شرطه حِكَم ووضعٌ     على بيت من العليا مشيد

يترجم فيه قائلــه فنونا    وعلما قائلا هل من مزيد

يعبر عن فضائله وما قد     حواه من العلوم لمستفيد

وكذلك كان الشاعر العشري (ق12هـ) يرى الكلمة لبث الفضيلة والمكرمة ، ولهذا فهو أجدى من المال المدخر ، يقول :

فشعري ليس أستجدي           به الأمراء والوزرا

ولكن كلــه حكــم           إذا بين الورى نثرا

فعند أولي النهى قـد فا         ق ملتقطا ومدخـرا

وأما أحمد بن قرصة ( ت 854هـ) فإنه يندد بمن اتخذ شعره للكسب لأنه يريد منه أن يكون مدرجا للفضائل لا للآثام ، يقول :

مالي أرى الشعراء تكسب عـارا     بهجائهـم وتحمـلوا أوزارا

مدحوا الأخساء اللئام فضيعوا الـ    أشعار لما أرخصوا الأسعارا

وأصحاب هذه النظرة يمكننا أن نعدهم كأتباع مدرسة الفن للحياة

أما الاتجاه الثالث فيرى أن الشعر فن هادف ، إنه يتطلب سلامة اللغة كما يتطلب سمو المعنى ، وهذا راشد بن خميس الحبسي ( ت1150 هـ)يقول في هجائه لمن يدعي الشاعرية وهو لم يحُـز متطلباتها الفنية والموضوعية :

يدعي الشعر وهولمّا يُقِـم وز      نا ، ولم يعرفَنَّ نحوا وصرفا

لم يحز من مكارم الخلق جنسا    لا ، ولم يبلغ من العلـم صنفا

وهذا أحمد بن الحسن الخياط (ت735هـ) يندد بشاعر يتوهم أن الشعر نظم ورصف كلمات دون مبالاة بجرسها وعذوبة وقعها ، أو بمضمونها، ويبين أنه يحتاج إلى تنقيح ليغدو كالسحر مؤثرا بمعانيه وبموسيقى تراكيبه أو كالفتاة الفتانة ، يقول في ذلك :

ومن متشاعري عصري أناس     أقل صفات شعرهم الجنون

يظنون القريض قــوام وزن     وقافيـة ومـا شاءت تكون

وما علموا بأن الشعر مـرقى      دُوَيْنَ صعـوده يندى الجبين

وقافية هي الذهب المصـفى       إذا امتحنت بل السحر المبين

معانيهــا الثواقب والـقوافي     إذا يـفزعْنَ أبكار وعيــن

وكذلك يرى فتح الله بن النحاس أن الشعر يقوم على المضمون والشكل الفني معا ، فهو يتطلب الجزالة كما يتطلب النفع ، وعلى الشاعر أن يراعي الأمرين معا حتى لا يتعرض للنقد فيندم ، يقول :

إن خير الكلام ما كان جزلا    وأفــاد النفوس ما يعنيها

فاحذر القول أن تقول قبيحا    واتق الناس أن يروك كريها

رب عوراء قد تعسفها المغـ   رور حتى يقـال قال بديها

ونكات لو تأملهــا الـقا    ئل يوما عض البنان عليهـا

وهكذا رأينا أن شعراء عصر الدول المتتابعة خلفوا لنا نثرات نقدية عبروا فيها عن نظرتهم إلى الشعر ومكوناته وقيمه ، وعن دوره في الحياة الفنية والحياة الواقعية ، وهذه المعطيات النقدية هي نفسها التي يدور عليها النقد العربي قديمه وحديثه ، فالنقاد بين مؤثر للفن ، أو محبذ للمضمون ، أو جامع بينهما مؤمن بأن الشعر تعبير فني هادف وفق نظرة ارتآها صاحبه في حياته .

               

[1] الحيزبون : العجوز ، والدردبيس : الداهية ، والطخا : السحاب المرتفع ، والنقاخ : الماء البارد الصافي ، أما العطلبيس فلو أجد معناها .