حياة في اللاذقية لا تشبه الحياة

هيفاء بيطار

أجد نفسي مُضطرة لاستعمال كلمة «حياة»، أي شكل الحياة في اللاذقية، لأن مظاهر البؤس وتدني مستوى العيش ورداءته، والتسارع اليومي نحو المزيد من تفنن البؤس والقبح، تضطرني للكلام بلسان كل سوري يعيش في اللاذقية. ومن دون مبالغة أتمنى أن يجتهد أحد المُخرجين النزيهين الوطنيين في تصوير أحياء اللاذقية ومقاهيها وسكانها، من دون تعليق، فالصور وحدها تنطق بالحقيقة.

يمكن اختزال الحياة في اللاذقية بكلمتين: الفلافل والبالة (الألبسة المُستعملة فالتكاثر الجنوني لمحال الألبسة المستعملة في كل شوارع اللاذقية، حتى في أرقى الشوارع وسط المدينة، أي شارع 8 آذار، يجعلك تظن أن اللاذقية «دخلت موسوعة غينيتس بأعلى رقم لمحال الألبسة المستعملة، والمضحك المُبكي أن معظم المواطنين السوريين عاجزون حتى عن شراء ألبسة لائقة نسبياً أو غير مهترئة من تلك المحال، أي أن الأسعار في محلات البالة تفوق قدرة المواطن السوري على الشراء، أي أن السوري يحتاج لما يمكن تسميته «بالة البالة»، أي أن يشتري من البسطات المتكاثرة بدورها في الشوارع والتي تبيع ألبسة مهترئة ومن موديلات القرون الوسطى، فيبدو الذي يرتديها كأنه مُهرج. ولا أبالغ على الإطلاق في هذا الوصف، وكـم يحزنني منظر الأطفال الذين يلبسون ثياباً» بالية فضفاضة عليهم وممزقة مع أحذية من أرخص أنواع النايلون. وكم أحس بالخزي والأسف حين تتحول أهم مكتبتين في اللاذقية إلى محلين للبالة.

أما محال الفلافل فهي المنافس الوحيد لمحال البالة، وكم صُعق أهل اللاذقية حين وجدوا أن أهم زاوية في شارع 8 آذار والتي تطل على شارعين رئيسيين وقريبة من مستشفى الأسد الجامعي ومقابل نقابة الأطباء، تحولت إلى دكان واسع لبيع الفلافل! وعلى بعد أمتار قليلة من هذا المحل، دكان آخر لبيع الفلافل اسمه «فلافل السلطان»، ربما أحد السلاطين كان يحب الفلافل، أو ربما اسم السلطان يرفع قليلاً من معنويات المواطن الفقير إذ يتوهم أنه سيصير سلطاناً» بعد نهش سندويشة الفلافل، والغريب هو أسماء محال المأكولات الشعبية: فعدا «فلافل السلطان» هناك «سندويش سقراط»، و «بار دافينشي»، ولا أفهم العقلية المبدعة التي ربطت بين الفلافل والفلاسفة! إذاً الفلافل والخبز هما الغذاء الجسدي والعقلي لسكان اللاذقية، وبالة البالة هي حدود قدرتهم على شراء الألبسة، وتأتي تقارير منظمة الصحة العالمية لتؤكد أن بين كل خمسة سوريين هنالك أربعة جياع.

ما كتبته حتى الآن صادم إنما الصدمة الحقيقية هي أكوام القمامة أو بتعبير أدق هضاب القمامة المنتشرة في كل الشوارع، خصوصاً في الأحياء الشعبية، ووجود شريحة كبيرة من نساء وأطفال ورجال ينبشون فيها، وبعضهم يأكل مباشرة من أكوام القمامة. وكم أشعر بمذلة حين أجد شابة تنبش في القمامة لتأكل أو لتحصل على شيء تستفيد منه، لم يبق من عزاء لسكان اللاذقية سوى رغيف الخبز، فلا تزال الدولة تؤمن الخبز للناس، والازدحام أمام الأفران يوحي بالازدحام في يوم الحشر. وثمة ما يفوق ازدحام الأفران هو الازدحام على توزيع المساعدات للنازحين، إذ ينتظر المئات من نساء وأطفال ورجال، ساعات طويلة للحصول على كيس أرزّ أو حليب للأطفال أو زجاجة زيت نباتي، أما الشيء الوحيد المزدهر في اللاذقية فهو الأركيلة، بكل أنواعها. وحدها الأركيلة لم تتأثر بالأزمة، طحين الخبز ذاته تأثر فترة وكان شديد الرداءة، أما الأركيلة فهي عصية على التأثر. المقاهي الشعبية وغير الشعبية تغص بزبائن من كل الأعمار وبعضهم أطفال يدخنون الأركيلة، وهي أرخص سلعة نسبياً، أسميها السموم المجانية، وعلى رغم التحذيرات من مضارها وأن معظم مدخنيها يعرفون مضارها لكنها وحدها تساعدهم على تبديد وقت من دم ودمار، والتنفيس عن هموم وآلام مُحتقنة في صدورهم.

لم تعد اللاذقية مدينة بل أشبه ببازار تباع فيه كل المواد المهترئة والمستعملة، وأكثر ما يدهشني تلك الصناديق العملاقة الممتلئة بأنواع من البسكويت، وقد جربت أكل قطعة منها فشعرت بطعم نشارة الخشب. وسألت البائع عن مصدر هذا البسكويت، فتنهد ممتعضاً ولم يرد، والأطفال يأكلون منه لأنه رخيص، والله أعلم ما المواد التي فيه؟ وهل تم فحص تلك الصناديق العملاقة لنرى أي سموم تحوي؟ كذلك البسطات التي تبيع الألعاب البلاستيكية من أرخص الأنواع، وتجد بينها ألعاباً متماشية تماماً مع الجحيم السوري. تجد شاحنة بلاستيكية تحمل براميل ملونة متفجرة، وإذا ألقيت برميلاً على الأرض ينفجر محدثاً صوتاً كالفرقعة، وتجد بنادق تكاد بحجمها وشكلها تطابق بنادق الجنود والمحاربين، كما تجد دبابات متقنة الصنع، لدرجة أنك إذا نظرت إليها بعدسة مكبرة تظنها دبابة حقيقية.

لطالما تساءلت لماذا يصنعون ألعاباً للأطفال كما لو أنهم يزرعون بذرة العنف والقتل في قلوبهم النقية الفتية، كما لو أنهم واثقون أن هؤلاء الأطفال سيصيرون رجالاً ويستبدلون الألعاب بأسلحة حقيقية. من العقل المجرم الذي يصنعها؟ أظن أنهم أنفسهم تجار الأسلحة والحروب.

وفي توصيف مدينة اللاذقية، يبدو الحديث عن الفن والسينما والأدب ضرباً من الخيال المجنون، أما الثقافة التي يُسمونها ثقافة فهي من نوع رسائل تصلنا على الموبايل: (دعوة لمهرجان عين البيضا للتراث، حرف تقليدية، وألعاب شعبية). ويجب أن أنوه أن عين البيضا قرية صغيرة جداً ومعظم طرقها ترابي،! أو ترسل لنا سيرياتيل رسالة: (ذهب بقيمة 2 مليون ليرة سورية في السحب القادم من مسابقة أنت قدها) وكلفة المكالمة 25 ليرة. حتى نشاطات «اتحاد الكتاب العرب» فهي نوع من الزخرفة الثقافية، لا أحد يجرؤ على التطرق لحقيقة ما يجري على أرض الواقع، كأن تعريف الكاتب فقط هو الذي يعتلي منصة ويقرأ أمام حفنة من المستمعين لا يتجاوزون أحياناً أصابع اليد الواحدة.

وسط هذا المشهد الذي أضطر إلى أن أسميه حياة، فإن سؤالاً يتفجر في قلوب كل السوريين: لماذا يمنع على أهل إدلب المُدمرة دخول اللاذقية!! لماذا صدر قرار حاسم وقطعي بأن أهل إدلب يجب أن يتوجهوا حتماً ورغماً عنهم إلى الحفة أو الغاب. ولا أنسى منظر سيدة من إدلب وحالتها المادية لا بأس بها، قالت لي لا أصدق أنه لا يمكنني أن أستأجر بيتاً في اللاذقية، إلى أن قصدت محامياً فقال لي: أن يستأجر الإدلبي في اللاذقية مخالفة فيها قطع أصابع.

ما ذنب أهل إدلب، وبعضهم لديهم أقرباء في اللاذقية يمكنهم أن يساعدوه؟ أية حياة هذه لا تشبه الحياة بشيء، بل هي مثال للقبح والتدني. يبدو أن العزاء الوحيد هو دخان الأركيلة الذي يُسربل حياتنا وعقولنا بالضباب، كي لا تنفجر من نصاعة الحقيقة، الحقيقة التي هي عبارة واحدة: نريد قتلكم ببطء وربما نغير رأينا بعد مدة ونقتلكم بمجزرة، كغيركم من السوريين.