هي فرصةٌ لتغيير النفس والمجتمعات والسياسات

صبحي غندور

يعيش الناس حالياً، في مختلف أرجاء العالم، وحدة حال لم تشهدها الأجيال المعاصرة من قبل. فالعدوّ المشترَك الآن للإنسانية جمعاء هو وباء كورونا، ووسائل الدفاع هي واحدة في البلدان كلّها، والمتغيّرات الحاصلة في المجتمعات بفعل خطر الفيروس تحصد الكثير من العادات والتقاليد الموروثة، وكأنّ هذا الوباء يريد تثبيت وحدة الإنسانية وصياغة نمط جديد من السلوك الفردي والاجتماعي، إضافةً إلى تنبيهه لمخاطر العنصرية وانعدام المساواة بين البشر، وسيّئات عدم توفّر العدل الاجتماعي والرعاية الصحّية لعموم الناس.

صحيحٌ أنّنا ما زلنا في خضمّ المواجهة والحرب مع هذا الوباء، وسينتصر العقل الإنساني عليه عاجلاً أم آجلاً، لكن هناك جملة مسائل تتحقّق الآن يمكن اعتبارها بمثابة فرصة لتحسين واقع حال الأمم، بأفرادها وجماعاتها وحكوماتها. فالوباء المنتشر عالمياً، مثله مثل أي شيء آخر يحدث على هذه الأرض، له سيّئاتٌ وحسنات، ولو بنسب مختلفة تتوقّف على مقدار سعي الإنسان لتقليص حجم السلبيات ولتعزيز الأوجه الإيجابية ممّا يحدث.

فتحدّي فيروس كورونا هو فرصةٌ أولاً لكلّ إنسان من أجل تحقيق التوازن المهمّ لديه بين (العقل والجسد والروح)، فنمط الحياة ما قبل فيروس كورونا كان فيه الكثير من تغليب عنصرٍ على العناصر الأخرى. والبعض الذي كان لا يُعير اهتماماً للجانب الروحي/الديني في حياته نجده الآن يلجأ أكثر إلى الصلاة والدعاء لله من أجل الحفظ والرعاية. والبعض الذي كان يحصر تفكيره ووقته بالمسائل الدينية يُدرك الآن أهمّية التلازم بين الإيمان والعلم، بين العقل السليم والجسم السليم، بين طلب العافية وبين الحرص عليها. وكم هو بليغٌ الحديث النبويّ الشريف (إعْقِلها  وتوكّل).

ويُقال أنّ الإنسان بحاجة إلى أربعين يوماً للتعوّد على عاداتٍ جديدة، أو لتقبّل ما قد يكون قد حدث معه ولا يقدر على تغييره كفقدان حبيب أو كالعيش في ظروفٍ جديدة. وهاهو فيروس كورونا يُجبر الناس لأكثر من أربعين يوماً على ممارسة عادات جديدة، كإرشادات النظافة وعدم المصافحة والتقبيل في اللقاءات الاجتماعية، فعسى هذه "المكتسبات" من الوباء تبقى مع الناس بعد رحيل الفيروس عن مجتمعاتهم.

ورغم مأساة عدد ضحايا الوباء حتّى الآن، فإنّ نتائج إيجابية تنعكس من وجوده على درجة انبعاث غاز أوكسيد الكربون في الأرض، وهو أمرٌ مهمٌّ جداً لحياة الناس في المستقبل، بسبب تأثيرات ذلك الغاز والاحتباس الحراري على المتغيّرات المناخية وما تؤدّي إليه من حرائق وفياضانات في مختلف أنحاء العالم. فعسى أن يدفع ذلك حكومات الدول الصناعية إلى مزيدٍ من الجدّية في التعامل مع مسألة "صحّة الأرض" وقضية مخاطر الاحتباس الحراري.

أيضاً، بسبب الحجر الصحي في المنازل لملايين الناس في معظم دول العالم، فقد تراجعت أرقام ضحايا حوادث اصطدام السيارات على الطرقات بشكلٍ كبير، حيث تقديرات  "رابطة الأمان على الطرقات الدولية" تصل إلى وفاة مليون وثلاثماية شخص سنوياً في العالم، وإلى إصابة حوالي 20 مليون بجروح حصيلة حوادث الطرقات، وحيث يتوفّى في الولايات المتحدة وحدها سنوياً حوالي 38 ألف شخص على الطرقات: https://www.asirt.org/safe-travel/road-safety-facts/

***

” من لم يمت بالسيف مات بغيره، تعدّدت الأسباب والموت واحد” بيت الشعر الذي يتوارث الشعراء العرب معانيه منذ قرونٍ طويلة، من المهمّ استذكاره الآن، حيث لا يقدر أحدٌ على الفرار من الموت حينما يأتي أجله. فما الذي نخافه من فيروس كورونا؟! أهو الموت؟ وهو الشيء الوحيد الذي لا يجب الخوف من حدوثه إذا كنّا نؤمن فعلاً بحتمية الموت في هذه الحياة، وبالآية القرآنية: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ"، وبأنّ وجودنا على الأرض هو رحلةٌ مؤقتّة لا نعلم متى وكيف وأين ستنتهي، وبأنّ المهمٌ فيها ما قاله الإمام الشافعي: " قد مات قومٌ وما ماتت محاسنهم  وعاش قومٌ وهُمْ في النّاس أموات".

فالموت قد يكون أحياناً راحة ورحمة لبعض النفوس التي أتعبت أجسادها الحياة وأثقلتها بأمراضٍ مزمنة غير قابلة للشفاء، وجعلتها همّاً وغمّاً وعبئاً على النفس وعلى الآخرين حولها، وهذا هو الحال الذي يجب أن يخاف الناس من الوصول إليه، حال العطب الجسدي والعقلي غير القابل للإصلاح والتحسّن، والذي يتطلّب الآن من كلّ إنسان الاهتمام الشديد بالصحّة وبالعافية البدنية والعقلية من أجل تجنّب الوقوع فيه.

هناك أمورٌ سلبيةٌ كثيرة تنتج الآن عن انتشار وباء كورونا على الصعد الشخصية والاجتماعية والاقتصادية، خاصّةً لبلدان تعجّ بالمهاجرين واللاجئين وبالمحرومين من العمل، وهي نتائج خطيرة الآن على ذوي الدخل اليومي المحدود، والذين توقّف مدخولهم الآن، والأرجح أن لا يكون لديهم أيضاً أي ضمانات صحّية أو اجتماعية. وهذه النتائج ستزداد سوءاً يوماً بعد يوم، ممّا يؤكّد أهمّية التركيز في مرحلة ما بعد الوباء على هذه الحقوق الصحّية والاجتماعية وجعلها معياراً لمحاسبة الحكومات والحاكمين.

ومن سوء حظّ دونالد ترامب، الذي أخفقت إدارته في التعامل السليم مع انتشار الوباء، أنّ النتائج حتّى الآن تعاكس تماماً ما هو عليه من رؤى. فترامب عمل منذ وصوله للبيت الأبيض على إنهاء الضمانات الصحّية التي أقرّتها إدارة أوباما، فإذا بالوباء يؤكّد أهمّية وجودها الآن. وترامب أنهى دور الوحدة الخاصّة بالأوبئة التي كانت قائمة في البيت الأبيض، فجاء الوباء ليؤكّد خطأ هذا القرار. وترامب يعتقد، كما حزبه أيضاً، بضرورة تقليص دور الحكومة المركزية وعدم تدخّلها في تفاعلات "النظام الرأسمالي" المعتمَد أميركياً، فإذا بالوباء يعزّز الحاجة القصوى لهذا الدور، وأضحت إدارة ترامب (وكل حكومات دول العالم) معنيّةً أولاً بكيفية مواجهة خطر الوباء الآن، وبإقرار المليارات من الدولارات لمساعدة شركات كبرى من أجل منع حدوث انهيار اقتصادي شامل!. ولم يعد هناك الآن أي فارق بين "دول رأسمالية" و"دول إشتراكية" في الحرب على الوباء ومخلّفاته!.

وستأتي انتخابات نوفمبر في الولايات المتحدة والاقتصاد الأميركي يعاني كثيراً من جروح الحرب على الوباء، والمسألة الاقتصادية كانت الأهمّ في حسابات ترامب الانتخابية، وهي تتعثّر كثيراً الآن، وحجم البطالة في أميركا يتضاعف يوماً بعد يوم!. 

ترامب كان من دعاة " أميركا أوّلاً" وهو استطاع فعلاً أن يجعلها "أوّلاً" الآن في عدد الإصابات بالوباء، وفي الفوضى الجارية حول المعدّات الطبية اللازمة للولايات وللمستشفيات ولاستخدام الأفراد!.

ومع توحّد العالم في مصيبة الوباء، والتعاون الدولي الحاصل الآن من أجل إيجاد اللقاح المناسب، سقطت أيضاً مقولة "العزلة الدولية" وتأكّدت الحاجة لتعاون دول العالم كلّها في قضايا الصحّة والمناخ والاقتصاد كما هي تتعاون في مسألة الأمن ومواجهة "الإرهاب".

فهذا ليس بزمن ترامب ونهجه وأجندته الداخلية والخارجية، وإنّما هو زمن "كورونا" ودروسه وخلاصاته للعالم أجمع!.