صعلكة أقلوية
زهير سالم*
الصعلوك في اللغة العربية الفقير الذي لا مال له. وفي المصطلح العشائري العربي هو الخليع الذي يخرج بتصرفاته عن قرار القبيلة ويحملها جرائر أعماله. وفي هذه الحالة تبادر القبيلة العربية إلى نبذ هذا الفرد من أبنائها، فتعلن أنها لا تتحمل جرائره ولا تطالب ،إن هو قتل على يد قبيلة أخرى،بثأره، خشية أن يجر الفردُ الجماعةَ إلى ما لا قِبَل لها به. فالصعلوك يضرب ويهرب والجماعة تدفع الثمن بشيوخها ونسائها وأطفالها.
نتابع منذ فترة غير قصيرة ألسنة حدادا من صعاليك بقايا أقوام وجماعات بين ظهرانينا، يتحدثون أحاديث عمياء، ويلقون كلام فتنة، إن عرضتَه على عقلاء أهليهم نفضوا أيديهم من القول والقائل على السواء.
وبالطبع ليس من شأننا أن نطالب بإعادة تنظيم مجتمعاتنا على أسس أقلوية، بحيث يكون لكل أقلية مرجعية تضبط مواقفها وخطابها، لأن هذا سيكون سيرا في عكس اتجاه التاريخ الحضاري والمدني. إلا أننا نجد أن الاستمرار في سياسة الإعراض عما يطرحه هؤلاء الصعاليك، وقد أعرضنا طويلا، أصبح من السكوت عن الحق الذي لا يليق. والذي يؤكد أهمية البيان في شأن هؤلاء أن شنشنتهم بدأت تمتد من المحيط إلى الخليج، حتى قالت أصوات موازية لأصواتهم، في الخفة، إن المجتمعات العربية والمسلمة بدأت تدفع ثمن تسامحها التاريخي، على أيدي أمثال هؤلاء..
لا أحد ينكر أن القوى الخارجية في أكثر من قطر عربي ومسلم تحاول أن تجد في التركيب المتعدد في بُنانا الإثنية والدينية والمذهبية مدخلات للتفكيك والإضعاف. وهذا يؤكد على الجميع أن يحذر من الاسترسال أو الاستجابة لمثل هذه الاستفزازات. فهذا صوت يصلك مستفزا من صعلوك في لندن ينال من أم المؤمنين طلبا للوقيعة، وثان ينتهض من أرض الكنانة يشكك في آيات القرآن رغبة في النفخ في الكير، وثالث يردده مريض العقل والدين كما يقول المعري ينادي على أصحاب الأرض وصناع الحضارة، وبناة الثقافة: عودوا إلى بلادكم!! مالُ أبينا أصبح علينا صدقة كما تقول العامة.
إن واقعنا المتعدد الحيوي هو شهادة التاريخ على أن حضارتنا العربية الإسلامية، ودولتنا العربية الإسلامية سبقت إلى التأسيس لفكرة قبول الآخر، وحمايته قبل المدنية المعاصرة بأربعة عشر قرنا على الأقل. وأن هذه الحضارة لم تعرف استئصالا كالذي كان في الأندلس على أيدي محاكم التفتيش، أو كالذي لاقاه الهنود الحمر على أيدي الفاتحين البيض، أو كالذي فعلته النازية بأقوام كان من بعضهم اليهود. لم تعرف حضارتنا ولا دولتنا الاستئصال ولو كان، ونعوذ بالله من أن يكون، لما بقي من هؤلاء الذين ما زلنا نتمسك بهم شركاء حقيقيين من ديار ولا نافخ نار..
لا يجوز لأحد أن يجعل من مراهنة الأجنبي على هذا الواقع الحيوي المتعدد دليل إدانة لشركاء الوطن والتاريخ والحضارة بجملتهم. النفوس المراض موجودة في كل مجموعة، قلّت أو كثرت، وتبقى النفوس السوية هي الكثير الطيب الذي يشكل الأساس الصالح الذي به قوام الأرض والحضارات. نقدم هذا اعتذارا مسبقا لئلا يصيب كلامنا قوما بجهالة. ونضيف إليه في السياق نفسه أننا في مجتمع أسنان المشط الذي أقمناه والذي ندعو إلى تعزيزه نرفض أن يكون في لازمة الحقوق والواجبات أقلية وأكثرية. فالمواطنة التي تعني انتماء إلى الوطن ضمن منظومة مدنية حقة يجب أن تكون على صعيدنا المدني مناط الحقوق والواجبات..
والشر الذي تمادى حتى بالغ في الأذى أشرا وبطرا وجهلا وغرورا، من بعض صعاليك بقايا من عبر الزمان أو المكان، أن يحاول أحدهم أن يختصر في شخصه الحضارات والأقوام والدول التي مرت على هذه الأرض الطيبة العريقة في منبتها الضاربة في أعمق أعماق التاريخ. سيسوؤك أو ربما يثير عجبك أن يظن أحدهم نفسه (نبوخذ نصر) ملك الأشوريين، أو باني برج بابل حيث تزعم توراة بني إسرائيل أن الرب قرر أن يبلبل لسان بني آدم لئلا يغالبوه، وآخر يدعي علينا أنه (جلجامش) الطامح إلى سر الخلود، ورابع يظن أنه من نقش الحرف الأول في (رأس شمرا)، أو ( هاني بعل ) قاهر الرومان، وخامس ينسى أن العربية والسريانية أختان، وأن إحداهما قد ذابت واستحالت في الأخرى، إنسانا وثقافة، وبعضهم لا يزال يظن نفسه، وقد نسيته الحضارة أو الثقافة في أحد كهوفها المظلمة، الوارثَ الوحيدَ للعموريين، وآخر للآراميين، وثالث للفينيقيين، ورابع للآشوريين وخامس يعتبر نفسه وارث حضارة (آفاميا)، وسادس يخال ذاته القيم على مملكة ماري قرب أبيلا.. ..
وينسى هؤلاء الصعاليك، وليس أقوامهم، الحقيقة التي يجب أن نضعها واضحة أو فاجعة أمام أعينهم أن هذه الحضارات جميعا بثقافاتها ومعطياتها وإنسانها قد استحالت في هوية إنسانية وثقافية واحدة هي هوية هذا الإنسان الذي نقول عنه المواطن العربي السوري. والذي هو خلاصة كل من مرّ في الزمان والمكان. والممثل الإيجابي لكل من بنَى فأعلى البناء.. وحين يؤثر البعض أن يطيلوا في الكهف نومتهم فإن هذا لا يؤهلهم أن يرفعوا نظرة احتجاج على من استقبل الفجر وسعى مع الشمس واستضاء بنور القمر..
نعتز بالفاتحين من حملة رسالة الخير، الذين فتحوا أعين أبناء الأرض على معطيات الحق والخير والجمال، وننتمي إليهم انتماء عرفان وامتنان أولا، وانتماء روح وثقافة وبنيان، لقد كانوا بحق ونحن ورثتهم من حرر سكان هذه الأرض من عبادة العباد. ومع ذلك نبقى نحن، العرب السوريين، الورثةََ الحقيقين لكل الحضارات التي قامت يوما على هذه الأرض. ولجميع الأقوام الذين أثاروا الأرض وعمروها وراثة لا تعني استئثارا ولا غمطا ولا كبرا لأن طبيعة الحضارة التي ورثناها تأبى الاستئثار، ولأن الإسلام الذي حرر عقولنا وقلوبنا ونفوسنا ألزمنا كلمة التقوى وجعلنا من أهلها. وكان في رأس ما علمنا: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ.) وجعل أول معالم هذه الكرامة الاعتراف بها لكل بني الإنسان. واشترط علينا لكي يكمل منا الإيمان أن نحب لكل إنسان من الخير ما نحب لأنفسنا من المكانة والكرامة على السواء...
وحين نكون الكل حقيقة ووراثة لا يلجئنا صعلوك لنقول:
فغض الطرف..
فلا كعبا بلغتَ ولا كلابا.
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية