التنين صناعتنا
علاء الدين آل رشي
المدير الإعلامي في مركز الراية المعرفية
الثقافة المزورة ثقافة ترفض العقل والمحاكمة ، وتفرض زيها بالشحن ، والتعبئة ، والقولبة، وتتخذ من عصاها التأثيمية للمخالفين آلات عمياء تسوق بها الأتباع أيضا كرهائن لبرامج وتصورات تحتمي بالحجب والاستبعاد والمصادرة .
إن "البهدلة" والهوان اللذين يحيقان بنا هما من صنع أيدينا بامتياز فالأحادية من أكبر العوائق التي تقف مطبا في وجه مشاريع الإصلاح والتنمية والبناء ، لأنها تقوم على تبسيط الواقع المعقد ، بقدر ما تتعامل بمنطق الثبات والجمود والبطء مع ما هو محتمل ومتحول ومتسارع .
من رحم نرجسية الفكرة نخلق التطرف فلفظ الأحق والأفضل والأصدق وسائر مفردات التجميل الذاتي هي التي تبيح للمرء أن يجلس على كرسي التبخيس والتنجيس للآخرين .
لن نقوى على التحرك خطوة واحدة مالم نقم بالغربلة والمراجعة لثقافتنا أولا وذلك بإخضاع نصوصها وأقوالها وأفعالها ومؤسساتها وممارساتها للدرس والتحليل أو للتشريح والتفكيك من أجل إعادة الصوغ والتركيب والبناء
يقول شيخنا محمد الغزالي يرحمه الله :
(الثقافة الرديئة التي أسقطت بغداد في أيدي التتار, وسحقت الخلافة العباسية, والتي أسقطت الأندلس في براثين الكاثوليك, وجعلت الإسلام ذكريات, والتي أسقطت الخلافة العثمانية, وأورثت عملاء الصليبية وجواسيسها حطاماً مهشما, هذه الثقافة هي التي لا يعرف غيرها بعض المتحدثين في الإسلام, العارضين لمبادئه في زحام المذاهب المغرية[1].).
قال لي شيخ صديق – درس معي الشريعة في بلدتي – الفقه والحياة كل ذلك موجود في حاشية ابن عابدين يرحمه الله، صمت ّ وانصرفت فأنا لست من الممانعين الاستفادة من كتب التراث فهي مخزن معرفي ثر ومعرفة العقول خير ما يفتح ذهن المرء على التدوال الطيفي للفكرة وانبجاساتها الملونة وهو يخرج من قمقم تضخم الذات ، ولكن أن نصل إلى حد العبادة لكتب التراث فهذا مايرفضه الفقهاء أنفسهم رحمهم الله تعالى .
مانحتاجه اليوم ليس عبادة الحقيقة بل إتقان لغة الخلق والابتكار للحقائق ، وليس التقوقع عما نحن عليه لاختراق المستحيل واجتراح الإمكان ، وليس التمترس وراء الهوية بل ممارستها بصورة ديناميكية وغنية وليس التماهي مع الأصول والتراثيات ، بل استثمارها بصورة حية وفعالة وراهنة .
وحتى نحقق نهوضا حقيقيا وخروجا على صناعة التنين الحارق علينا أن نؤمن بجزئية رأينا وكذلك نسبية صوابيته.
"ارتقاء الفكر من ناحية واحدة وطلب الإصلاح من جهة واحدة ، مع إغفال الجهات الأخرى، هو عمل في نظر العلم أعرج لا يؤدي إلى نتيجة ثابتة، فنحن مع حاجتنا القصوى إلى الحرية نحتاج كذلك إلى إصلاحات اجتماعية من الطراز الأول، ولأننا نعتقد أن الحرية من غير هذه الإصلاحات مهددة بالخطر. وليس التنازع بين الشعوب مقتصراً على ناحية واحدة من نواحي الحياة بل هو صراع عام شامل يتناول المجتمع من جميع نواحيه المادية والمعنوية، فلا غرو أننا في جهادنا مضطرون إلى إصلاحات جمَّة تتعلق بالأسرة والدين والأخلاق والوطنية والحكومة والعلم والاقتصاد وغير ذلك من الشؤون الحيوية.[2]
وكذلك علينا أن نفرق وبدقة متناهية وهذا يستوجب جراءة وكذلك تجردا وعمقا وإحاطة بين ماهو دين أي بين ماقال الله وبين شرح الشارح "لكي ألقي كل تحدِّ ثقافي وأنا راسخ القدم, أحب أن أعرف ديني من مصادره السماوية, لا من تقاليد الأجناس المختلفة, وأن أفرّق بين اليقينيات والظنيّات, وأن أدرس التاريخ الفقهي والسياسي دراسة اعتبار, واستفادة تحميني من التورُّط فيما تورّط فيه قوم آخرون[3]."
وفي سبيل رسوخ الإسلام كمحرك وناظم أخلاقي وفكري علينا أن نعتقد أن "الدين الحق هو الإنسانية الصحيحة, والإنسانية الصحيحة هي العقل الضابط للحقيقة, المستنير بالعلم, الضائق بالخرافة, النافر من الأوهام, بيد أن الذكاء الحاد وهو جزء من هذه الإنسانية, ما يكمل ويستقيم إلا بجزء آخر ينضم إليه ويتّحد معه, وهو القلب النظيف من الكبر والأثرة, الشاكر لأنعم الله, والمعترف بأمجاده, والماضي إلى غايته في هذه الحياة على ضوء من أسمائه الحسنى, وهداه القويم[4]."
لكن "الفكرة الشائعة عنا – نحن العرب والمسلمين – أننا نحب الوجاهة, ونعشق السلطة, ونموت في طلب الرياسة من أي سبيل, أما القدرة البارعة على إثارة الأرض, وإحكام الأمور, وإبداع الأدوات والوسائل, وإدارة الأشياء والأشخاص, وسوق هذا كله لنصرة العقيدة, فشأن آخر (!!) قد يجيء في المرتبة الثانية, أو لا يجيء أبداً.
والحكم بما أنزل الله ليس هتافاً ولا أملاً...
إنه خبرة وقدرة وتفوُّق وسبق... إنه عمل صالح لا يستطيعه الفارغون ولا القاعدون[5]."
المشكلة أننا نضيع الأنفع فصناعة التنين الحارق للذات والمدمر للآخرين من آفاته أن يضيع العقل عن ترتيب أولوياته ومعرفة الأنفع وواجب الوقت "الأنفع للناس هو العدل سياسيّاً كان أو اجتماعياً, والشورى ولو بين أفراد الأسرة الواحدة, والنظام الشامل لا الفوضى السائدة, والحرية التي تكتمل في جوها العقول, وتنضج الملكات, وتمحص الآراء, والتعارف لا التناكر, والتعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان, وإتاحة الفرص للفطَر السليمة والمواهب الرفيعة أن تنقح وتبدع[6]."
من المضحكات أن لي معرفة بمفكر ناقد يعشق فكرته إلى درجة أنه يتمنى بنقده أن يدخل في (غينس) كرقم صعب في نقده لمر الواقع وقد فكر صديق لي أن يناقشه في بعض أفكاره فما كان من المفكر إلا فكر بما قسى من الكلام والنقد غير المعقلن وانهال به على من ناقشه .
إننا نضيق ذرعا بمن يخالفنا وننتقد ونظن أنفسنا خيرا ممن ننتقدهم ويكبر التنين ونبدع في صناعتنا له فهو الطائر الذي يعلو فوق الرؤس ويحرق من ليس على رأينا فلنتعلم فن التواضع ولنكف عن قياس غيرنا بالسنوات الضوئية وأن نزن الناس بأفكارنا فلنرحم ولنتواضع فهما سر النجاح ...