مثقفو الهزائم
مثقفو الهزائم
جميل السلحوت
المثقفون العرب -في غالبيتهم- تفكيرهم وجهودهم وثقافتهم منصبة على القضايا السياسية بين مُرَوِّج أو معارض لهذه السياسة أو تلك، أو لهذا النظام أو ذلك، أوفي مهاجمة السياسات الدولية أوالترويج لها، ومع أهمية الانتباه الى السياسة والعلاقات السياسية داخلياً واقيليمياً ودولياً، إلا أنها ليست المُقرر الوحيد لمصائر الشعوب، ومع كل ذلك الا أن الدول والشعوب العربية لا تزال تتمرغ في وحل الهزائم السياسية والعسكرية، بل إن هذه الهزائم تتوالى بشكل مستمر .
لكن هناك هزائم كثيرة في الاقتصاد، والتعليم ، والبيئة الاجتماعية ، والحريات السياسية والدينية والعلمية والاعلامية ... الخ ، وحتى في بناء الانسان نفسه . وهذه الأمور هي التي تحصد انتصارات عسكرية وسياسية اذا ما تمّ التغلب عليها .
فعلى سبيل المثال يمتلك العرب أكبر احتياطي من مخزون البترول في العالم، والدول العربية البترولية هي أكبر مصدر للبترول في العالم، واذا ما استطاعت بعض الدول العربية المنتجة والمصدرة للبترول أن ترفع من مستوى معيشة شعوبها ، إلا أنها لم تحاول أن تستثمر فائض أموالها في اقامة صناعات تدخل من خلالها الأسواق العالمية كمنافس في هذه الصناعات، ولم تحاول استثمار أراضيها الزراعية حتى لتغطية احتياجات سوقها المحلي، بل هي تعتمد على مجال الاستثمار في العقارات والاقتصاد الاستهلاكي، وهذا دفعها الى الاستعانة بأيد عاملة أجنبية وغير عربية، مما يشكل خطراً مستقبلياً على مثل هذه الدول، وامكانية انسلاخ(شعوبها) عن العروبة كون(مواطنيها) في غالبيتهم غير عرب، فالامارات العربية المتحدة على سبيل المثال كما تشير الاحصائيات 80% ممن يعيشون فيها أجانب، وهؤلاء أو أبناؤهم سيطالبون مستقبلاً بحق تقرير المصير .
ومع انتشار التعليم الجامعي بشكل واسع في الدول العربية، في نفس الوقت الذي يوجد فيه 70 مليون أمّي في العالم العربي، إلا أن هذا التعليم هو امتداد للتعليم المدرسي، وكلاهما لا يعطيان للعلوم الحديثة أهمية تذكر، بل انهما لا يواكبان العلوم الحديثة مما يقود في المحصلة الى أن خريجي جامعتنا هم أشباه متعلمين قياساً بخريجي الجامعات في أوروبا الغربية وأمريكا مثلاً، ومع ان النهوض العلمي المدروس والحديث هو الكفيل بالنهوض في كافة المجالات الأخرى، إلا أن ذلك ليس وارد في حساباتنا، وللتذكير فقط فإن العالم المصري الدكتور أحمد زويل-الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء- أوضح في لقائه مع أساتذة الجامعات، وبعض المفكرين في جامعة القاهرة، بأن السبيل الوحيد للنهوض بالشعوب العربية هو العلم فقط ولا شيء غير العلم. ونفس التوضيح جاء على لسان السيد مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا السابق، والذي نهض باقتصاد بلاده من المديونية الى دولة تمتلك مئات المليارات كاحتياطي في خزينتها .
والتخلف العلمي يقودنا الى حلقات مفرغة من التخلف في مختلف مجالات الحياة، واذا ما ألقينا نظرة على القطاع الزراعي في مختلف الدول العربية، فإننا سنجد أن المستغل من الأراضي الزراعية هي نسبة قليلة جداً، فالسودان على سبيل المثال والذي تعتبره الأمم المتحدة مع استراليا وكندا سلة الغذاء الاحتياطية للعالم أجمع، فإننا سنشاهد أن نسبة الأراضي الزراعية المستغلة فيه لا تصل الى واحد في المئة، مما يعني أن ملايين الفدادين من الأرض غير مستغلة زراعياً، وأن بعض مناطق هذا البلد تشهد مجاعات، والسبب أن بعض قبائل السودان تعتبر الزراعة(عيباً) وكذلك الأمر في السودان وجيبوتي وغيرها،فما هو دور الحكومات في التعليم والقضاء على ظاهرة(العيب)هذه؟ .
ومما لا شك فيه أن التخلف في مجالات العلوم يقود أيضاً الى تردي الأوضاع الصحية، والى التخلف الاجتماعي والاقتصادي، مما يولد ظواهر سلبية في المجتمع، تقود الى النزاعات التي ينفذ من خلالها أعداء الأمة لاثارة الحروب الأهلية،كي تسهل السيطرة على هذه الشعوب، كما أنها تولد تململاً عشوائياً وجاهلاً، مثل ظهور التطرف الديني الذي يضر بالدين قبل غيره، فأصحاب الفكر التكفيري يرفعون شعار الدين والتدين عن جهل منهم في أمور دينهم وحتى دنياهم، ويقومون بأعمال ليست من الدين، كأعمال التفجيرات التي يقتلون بها أنفسهم، ويقتلون غيرهم من أبناء دينهم وأمتهم، وبعض الأجانب الذين لم يقترفوا شيئاً يستحقون القتل عليه، كما حدث في بعض العواصم والمدن العربية والعالمية، أو يقومون بأعمال لا يمكن تفسيرها الا أنها ارهاب عالمي مثل تفجير الطائرات المدنية، وهذه الأعمال يتلقفها أعداء الأمّة ويروجونها لمهاجة الاسلام كدين،وكأن هؤلاء المغرر بهم حجة على الاسلام.
ومن المفارقات غير العجيبة مثلا أن دولا كاليابان وألمانيا وايطاليا قد خرجت من الحرب العالمية الثانية مهزومة ومدمرة، وغنيمة حرب للدول المنتصرة كأمريكا التي لا تزال تحتفظ بقواعد عسكرية في هذه البلدان، الا أن هذه الدول نفضت غبار الهزيمة، وبدأت في عملية بناء جديدة، وتعتبر منذ عشرات السنين من الدول الصناعية الثمانية الأولى في العالم، بل هي تنافس أمريكا في السيطرة على سوق الاقتصاد العالمي .بينما الدول العربية التي كانت مستقلة في نفس تلك الفترة، وأخرى كانت في طريقها الى الاستقلال بقيت تعاني من الفقر والتخلف.
واللافت للانتباه أن الشعوب العربية مخدرة الى درجة التغييب عن قضاياها وهمومها، والسبب أن الذي يروج لقبول الهزائم،ويعمل على غسيل دماغ الشعوب، بل ويضلل الحكام هم مثقفون عرب، يركبون مصالحهم الشخصية،وهم يتبوأون المناصب الرفيعة، ويحولون الهزائم الى انتصارات،لترويج استبداد الحكام،وتبعيتهم لدول اجنبية. ولو أخذنا الساحة الفلسطينية كمثال على دور بعض المثقفين، فإننا سنجد مثقفين يبررون أو يشجعون بشكل وآخر الانقسام على الساحة الفلسطينية، من خلال التحيز الأعمى لهذا الفصيل أو ذلك من الفصيلين المتناحرين في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويغذون الانقسام، وسنجد مثقفين فلسطينيين يتكلمون عن انتصارات كبيرة، مع أن فلسطين التاريخية محتلة، اضافة الى أراضي عربية أخرى، وسنجد مثقفين آخرين يروجون لسياسة التذيل والعمالة للدول المعادية بحجة الحنكة السياسية، وسنجد مع الأسف من يصفق لهم غير عابئين بما قاله الشهيد صلاح خلف قبل أربعين عاما:(أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر).
ودور العهر التثقيفي لبعض المثقفين العرب يتعدى الى بقية الدول العربية، فمثلاً هناك مثقفون عراقيون وعرب يدافعون عن احتلال العراق، وعن مقولة الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الذي اعتبر احتلال العراق تحريراً، مع أن هذا (التحرير) تمخض عن تدمير العراق حضارة وشعباً. فأكثر من مليون مدني عراقي قتلوا، وخمسة ملايين طفل عراقي تيتموا ، ومليون امرأة عراقية ترملن وربع الشعب العراقي مشرد خارج حدود وطنه ... وهكذا .
لكن وفي كل الأحوال فأن المثقفين المروجين والمدافعين عن فكر وسياسة الهزيمة غير معنيين بتطوير مجتمعاتهم والنهوض بها، فحلقات التخلف التي تعيشها الشعوب اذا ما خرجت منها فإن الدائرة ستدور على رؤوس هؤلاء المثقفين، وهذا ما يدفعهم الى الاستمرار فيما هم عليه .