لغتنا العربية والحفاظ عليها

د.عثمان قدري مكانسي

لغتنا العربية والحفاظ عليها

دكتور : عثمان قدري مكانسي

اللغة العربية لغة القرآن والتراث المجيد يتجسد فيها البيان العذب المشرق الجميل والمعنى الرائعُ البديع، وتبرز فيها البلاغة والفصاحة، وسماها القرآن الكريم اللسان العربي المبين. ولقد صمدت خلال القرون الطويلة بفضل انفتاحها المستمر على الثقافات والحضارات وقطعت مراحل حضاريةً وفكرية لم تقطعها اللغات الأخرى  في طول عمرها وعطائها وقدرتها، ولذا ينبغي الحفاظ عليها والاهتمام بها، فهي لغة معطاء زاخرة بالكنوز الثمينة ... والاهتمام باللغة والحرصُ عليها واجب ديني ووطني، وأن ندرأ عنها العجمة واللحن؛ فهي الوعاءُ الذي يحوي ثقافة الأمة وفكرها وحضارتها وتراثها.. وينبغي متابعةُ ذلك بكل حزم ودقة واهتمامٍ تحقيقا للهدف النبيل في المحافظة على جوهر اللغة العربية، ويجب أن نبذل الجهود من أجل الارتقاء بمستوى اللغة العربية وجعلها لغة سائدة في المحافل العلمية وإبرازِ قدرتها على استيعاب العلوم والمخترعات كافة وإيجادِ أسماء عربية لها وتوجيهِ هذه الجهود الاتجاه الصحيح حتى تؤتي ثمارها، وعلى الجامعات ومدرسي التعليم العام الدورُ الكبير في تدريس اللغة تدريسا علميا؛ إننا بنظرة بسيطة إلى مستوى خريجي الجامعات اليوم نجد أنهم يعانون من الأمية الثقافية وذلك يرجع إلى عدم الاهتمام بتدريس اللغة العربية، كما ينبغي أن يكون وفقَ أوضح المناهج وأقْوَم الطرق، وعلينا أن نسعى السعي الجاد لنعيد للعربية رواءها وجمالها ونصاعتها، وأن تكون أداةَ التعبير والبيان في مختلف ميادين المعرفة وضروب المعارف والآداب، وأن نهتم بما تتعرض له اللغة العربية اليوم من غزو لها في عقر دارها واستهانةٍ بها من جانب أبنائها ومن غيرهم ،ولنحرص على صيانتها والنهوض بها لتستطيع أن تواجه هذا الغزو الفكري الذي نشهده اليوم حولنا، والأخذِ بيد اللغة قاعدة ولفظا وأسلوبا.  وهي قادرة على الوفاء بحاجات العصر ومستحدثاته؛ فلغتنا هي التي حفظت تراثنا على امتداد الزمان والمكان وفي تاريخنا البعيد والقريب، وأن نقوم بحملة لغوية غايتها تعزيز مكانة اللغة العربية ، فنجعلها اللغة الأولى في الإعلانات والمخاطبات وفي قاعات الدرس في الجامعات والمستشفيات والشركات والفنادق ووسائل الاتصال المختلفة، ونعمل على بث الوعي بأهميتها ووقفِ مد تيار المسميات والكلمات الأجنبية التي شاعت في مجتمعنا وبين أبنائنا وفي مختلف ضروب الأعمال التجارية حفاظا على الهوية الوطنية وتعزيزاً للغة في نفوس الناشئة،و لننظر إليها بعين العناية والرعاية والاهتمام..

ولقد حبانا الله سبحانه بهذه اللغة الجميلة  سهلةِ النطق والفهم، القادرةِ على التعبير والتمثيل، وكانت على مرّ العصور الحامل الأهم لثقافتنا، وقد كرمها الله جلَّّ وعلا وحفظها من كل سوء وتهمة وباطل بأن جعلها لغة القرآن الكريم، فقال في محكم آياته: {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} (113)سورة طه، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (2)سورة يوسف، {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (3)سورة فصلت، {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (3)سورة الزخرف. صدق الله العظيم.
ومن بدائع حكمته سبحانه أن جعلها أيضاً لسان أهل الجنة.

وقد استطاعت لغتنا العربية أن تصمد وتتجذر وتتطور وتواكب كل جديد رغم التجهيل الذي تعرضت له عبر التاريخ من الغزاة الطامعين الحاقدين أعداءِ الله والإنسانية، الذين مرّوا على منطقتنا منذ القديم وحتى الآن، وحاولوا بكل الطرق والوسائل تدميَر حضارتنا وثقافتنا وتراثنا وتاريخنا، والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى، ولو تجولنا في أرجاء وطننا العربي الكبير لوجدنا آثار مَنْ مروا وكان همهم الأول أن يطمسوا لغتنا ووجودنا وتذويبَ أمتنا ولغتِها. يقول أحد المهتمين باللغة : إن المخاطر التي تُحدق باللغة العربية كثيرة إلى حدّ الفجيعة، منها وسائل الاتصال المرئية التي تتسرطن في الواقع العربي ملوثة بالزيف، والتأنق الكاذب. تلك الوسائل التي تبََرَع في تهديد نقاء اللغة العربية وصفائها، و تتقن تشويه كل شيء بما فيها اللغةُ ومنها كذلك الترجمات الركيكة للآداب الغربية والشرقية ، ومنها أيضاً المجامعُ اللغوية التي تعيش في أبراج عاجية ولا يعنيها من اللغة سوى التنظير والتنظيرش وحده فحسب، إلى آخر تلك القائمة التي تكاد لا تنتهي محاولة تفتيت جسد اللغة وروحِها، مما يتطلّب إيماناً بأنّ اللغة هوية الأمّة وعلامتُها على تجذِّرها في التاريخ.

والحفاظ على اللغة

 دليل على حبها  والاعتزاز بها .

ودليل على الإيمان بهذا الدين الكريم فاللغة وعاؤه الثر " بلسان عربي مبين "

ودليل على الفخر بالأجداد وثقافتِهم والانتماءِ إليهم .

 ودليل على قوة الشخصية الوطنية ، مهما نأى الإنسان عن الوطن.

ومما ملأ قلبي ألماً وحزناً أنني كنت أرى العرب في زياراتي لأمريكا يذوبون في عاداتها ولغتها وينسلخ أكثرهم حتى عن دينهم ، وعن التعامل مع بعضهم بيعاً وشراء ، وشعوراً ونفساً . واتصالهم بعضهم ببعض ضعيف يدل على تنافر وتهافت

بينما أجد غيرهم من الأجناس الأخرى والقوميات المتعددة - ولا أحاشي أحداً-  يحاولون ما استطاعوا أن يساكن بعضهم بعضاً في مجموعات متآلفة متكاتفة ، يتحدثون فيما بينهم لغتهم ، ويأنفون الحديث بالإنجليزية إلا مع الغرباء الذين يجهلون لغتهم - على العكس مما يفعل التافهون في أوطاننا حيث يتعمدون الرطانة باللغة الإنجليزية ويدخلون بعض مفرداتها في حديثهم ويظنون ذلك من الحضارة والرقي -  وترى الوافدين من كل بقاع الأرض إلى أمريكامن كل الجنسيات عدا العرب يتعمدون  البيع والشراء ضمن مؤسساتهم الخاصة ، ويهتمون بالمهاجر الجديد منهم حتى يقف على قدميه ، ويستوي عوده ... علام يدل تصرفهم هذا ؟  إنه يدل على الهزيمة النفسية التي مازجت نفوسهم أمام كل ما هو غربي . وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يصور هذه الحالة فيقول : لتتبعُنّ سَنن من قبلَكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم .

كيف نحافظ على لغتنا

تعويد الأذن سماع العربية الفصيحة في البيت كالإنصات للدروس والأفلام الهادفة التي تتخذ منها أسلوباً للحديث في القنوات الهادفة .

تعويد اللسان النطقَ بها ، وإن كانت البداية غريبة والتعبير بها صعباً  فسرعان ما يصبح الأمر عادة ، والإصرار أمام الآخرين على النطق بها،  ولو استهجنوا فعلتنا ووصمونا بمخالفة المجتمع أو بالتفاصح أو التعالم فإنهم سيعتادون منا ذلك ثم يقلدوننا ، فكل جديد مستغرب .

يساعد على ذلك قراءةُ القرآن والحديث وقراءةُ تفسير كليهما بصورة مستمرة ونقاشُ الأفكار والآراء الواردة ، فالتكرار كفيل بتقويم اللسان ، وملْك الجَنان

ولقراءة القصص الهادفة والكتب ذات الأسلوب الرصين بصوت مسموع دور في صقل لغتنا الفصيحة ، والدربةِ عليها والمران .

وقد جربت هذا مع أسرتي وتلامذتي حتى خارج الصف فلاقيت نجاحاً مطّرِداً ثم استعملت لغتنا الجميلة في السوق ، فنظر الناس إليّ أول الأمر مستغربين يحسبونني غريباً عنهم ثم اعتادوا علي ذلك ، ولربما جارَوْنِي أولاً ثم قلدوني ،  ثم استمرأوا ذلك ورغبوا فيه .

إن الدعاة إلى الله تعالى يجدون لذة في مخاطبة الناس باللغة الفصيحة ويعتبرون ذلك عبادة ، وقربى إلى الله سبحانه. إنّ لغتنا هي هوّيتنا وعونُنا إلى فهم ديننا .

وهي القاسم الثقافي المشترك في العالم العربي ، ولن يستطيع أحدنا إذا سافر إلى المغرب العربي مثلاً أو المشرق ان يتفاهم مع إخوانه هناك ابتداءً إلا بالعربية التي يفهمها الجميع فلو قلت لأحدهم " كيف حالك؟" لفهموها جميعاً دون استثناء،  ويقولها المغاربة بلهجتهم الدارجة " كيداير " بمعنى علامَ تدور ؟ أو ماذا تفعل؟ ويقولها الجزائريون " وشراك " بمعنى أي شيء وراءك؟ أي خبرنا ويقول أهل سوريا والشام " إيشلونك "؟ أيّ شيء لونك وما تغيّراتك؟ ويقول أهل الخليج " ايشحالك؟" ما حالك؟ وهكذا .. ونقول جميعاً "  الآن  "ويقولها أهل المدن " هلّق " أو هلّأ " ويقولها أهل الريف والبادية " هالقيت " وريف حمص " هلّقتينة " بمعنى هذا الوقت وأهل مصر " دي الوقت " وصعيدهم " دلوقيت " ومنهم من يقول : " ها الساع " بمعنى هذه الساعة " ولربما تصير " هسّا " وهذا الوقت " تصبح عند الجزائريين " دروك " وعند بعض أهل الريف نسمع لفظ " الحين  "كما هو ، وقد تسمعه  " الحز " "  مختصرة بـ " الحـَ " في كثير من الاحيان ..وأمثال هذا كثير .. ولو اعتادوا العربية ورجعوا إليها لفهم الجميع بعضُهم على بعض بسهولة ، ولست ممن يقولون : إن القنوات الفضائية عوّضت ، فهي مشوشة وتزيد الطين بَلّة .

بعض ميزات لغتنا الجميلة

-          مفرداتها وفيرة وكل مرادف ذو دلالة جديدة . فالأسد له أسماء كثيرة لكل واحد منها معنى يختص به وللناقة كذلك ، وما من حيوان أو جماد أو نبات إلا وله الكثير من الأسماء والصفات مما يدل على غنى هذه اللغة الرائعة .. ولأنواع الحزن والترح والأسى  معان متعددة... ولليوم الآخر- على سبيل المثال  أكثر من ثمانين اسماً عددها ابن قيم الجوزية رحمه الله في مدارج السالكين .لكل منها سبب ومعنى يختص به . وهذا ملا نجده في أكثر اللغات الأخرى

-          ولغتنا قائمة على جذور متناسقة لا تجدها في اللغات الأخرى قاطبة ....... فالفعل الماضي ذهب ومضارعه يذهب وماضيه اذهب من جذر واحد أما مثيله في الإنجليزية  فماضيه "went " ومضارعه وأمره "go " . كلمتان مختلفتان كلياً .. وخذ الفعل " cut" بمعنى قطع ،يقطع،اقطع تجده رسماً واحداً في الأزمنة الثلاثة كلها وتضطر إلى وضعها في جمل كي تعرف الزمن لكل منها . بينما زمن الفعل في العربية معروف .

 -        كما أن للأفعال المتقاربة الجذور في العربية معاني متشابهةً لا ترى أمثالها في   

             اللغات الأخرى .. تعال معي إلى الفعل قطع .. ثم بدل الحرف الأخير فقط .. وقل :

             قطّ ، قطم، قطف، قطش ، ، وتمعن تجد فيها اشتراكاً في قضسم الشيء إلى قطع .. .

             وفي الفعل  سما المفتوح العين ثلاثة حروف كذلك .. بدّل الحرف الأخير وقل :

             سمج ، سمر سمح ، سمك، ، سمق ، سمط، تجد اشتراكها في العلوّ .. وهكذا ... ولعلك بعدما عرفت الطريقة سوف تجربها مع أهلك ورفاقك بدل الحديث في ما لا يفيد .

من عجائب لغتنا     أن بإمكاننا أن نكتب ابياتاً من الشعر من حروف ليست بذات نقاط ، من ذلك قول الشاعر :

االـحـمـد  لله iiالصمد
الـلـه لا الـه إلا iiالـ
أول    كل      أوّلٍ ii،
الحَـوْ ل والطـوْ ل له



 
حـالَ الـسرور والكمد
لـه مـولاك iiالأحــد
أصـل الأصول iiوالعمد
لا  درع إلا مـا iiسـرد
قـمر 'يفرط عمدا ii'مشرق'
قـد حلا ،كاذب وعد iiتابع
قـبسٌ  يدعو سناه إن iiجفا
قـرّ فـي  إلف نداها iiقلبه



 
رش ماءَ دمعِ طرف يرمق
لعبا تدعو بـذاك iiالحِـدق
فـجـناه  انس وعد يسبق
بـلـقـاها  دنف لا يفرَق

مودّتُه تدوم لكل هولٍ         وهل كلُّ مودتُه تدوم؟

وقد يرقش الشاعر شعره بحرف يكرره في كل كلمة كما فعل أحدهم حين التزم حرف الشين ، فقال

فـأشـعاره مشهورة iiومشاعره
شمائلـه معشوقـة كشَـمولـه
شكور  ومشكور وحشو iiُمشاشه


 
وعـشـرته مشكورة iiوعشائره
ومـشـهده  مستبشر iiومعاشره
شـهامة  شمير يطيش ُمشاجره

وقد تُكرر كلمات أو جمل لفظها واحد ومعناها مختلف ، وهذا من الجناس .. كقول الشاعر :

طرقت الباب حتى كلّ متني        فلما  كـل  متني  ، كلمتني

فقالت لي أيا اسماعيلُ صبراً       فقلت لهاأيا اسما عيل صبري

فقد ظل يدق الباب حتى تعب ، فلما تعب كلمته ، وقالت له يا إسماعيل اصبر ، فرد عليها قائلاً : يا أسماء نفد صبري .

إنني أدعو شباب أمتنا وشابّاتها أن يتعرفوا جمال اللغة القرآنية فيتلذذوا بها تلذذ الجائع بأطايب الطعام ... كما قالها أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه .. فمعرفة اللغة العربية يفتح آفاقاً رحبة لفهم القرآن الكريم والأدب العربي الرائع الذي شهد الله تعالى للغته بالبيان والشمول والسمو ..