حديث العيد...

أ.د/ جابر قميحة

حديث العيد...

من رحم الآلام تولد الآمال

أ.د/ جابر قميحة

    المحمود هو الله جل جلاله؛ فبه تُستدفع المحنة، وبه تُستجلب المنَّة، والمصلَّى عليه محمد بن عبد الله وآله، خير الخلق أجمعين، وخاتم الأنبياء والمرسلين.

أيها المسلم في كل مكان، لقد ودعنا شهر رمضان، شهر القرآن، وشهر البر والإحسان، وشهر الرحمة والغفران، وشهر محاسبة النفس، وتنقيتها مما يثقلها ماديًّا ومعنويًّا، فهو شهر الصحة البدنية، وشهر الصحة النفسية، وشهر التغذية الروحية، فهو نعمة من أجل نعم الله وأعظمها.

ومن ثَمَّ كان على المسلم- وقد أُعدَّ بهذا الشهر بدنيًّا وخلقيًّا وروحيًّا- أن يتعامل مع بقية شهور العام "بشخصية رمضانية"؛ خلقًا وسلوكًا، نقاءً وصفاء، دون أن يقطع الصلة بينه وبين هذا الشهر الكريم، ومن أوجب الواجبات عليه أن يرفض قول الشاعر "أحمد شوقي":

رمضان ولى هاتِها يا ساقي      مشتاقةً  تسعى إلى مشتاق

   الله غفار الذنوب جميعها..       إن كان ثَمَّ من الذنوب بواقي

وكان من حق ديني علي أن أنقض هذا المروق فأقول:

رمضان  ودع وهو في iiالآماق
مـا كـان أقـصره على أُلاَّفه
زرع الـنـفوس هداية iiومحبة
لا يا "أمير الشِّعْر" ما ولى الذي
رمضان يا "شوقي" ربيع iiقلوبنا
إن يـمضِ عشنا أوفياء iiلذكره





 
يـا لـيـته قد ظل دون iiفراق
وأحـبـه  فـي طاعة الخلاق
فـأتى  الثمار أطايب iiالأخلاق
آثـاره  فـي أعـمق الأعماق
فـيـها  يشيع أطايب iiالأعباق
ويـظـل فينا طيب iiالأعراق

الآماق: العيون. الأعباق: جمع عبق؛ وهو الرائحة الطيبة.(

العيد في صحبة المحن:

ويهل علينا عيد جديد، ومن قبله أعياد، ونحن نعيش أيام الغربة والكربة، والأوجاع والآلام؛ فلا فرحة، ولا شعور بمتعة، ما دامت القدس في يد الأعداء، الذين نهبوا الأرض، وهتكوا الحرمات، وشردوا الشعب الأصيل، وهذا ما عبر عنه الشاعر "عمر بهاء الدين الأميري"- رحمه الله- بقوله:

ما العيد والقدس في الأغلال رازحةٌ
وأسـتـجـير برب البيت في iiقلق
وأرسـل الـدعوة الحرى على iiثقة
فـالـنصر في قدر الله الحكيم على



 
والـمـسـلمات سبيـات iiلـفسَّاق
عـلـى  "المدينة" من فتكٍ iiوإزهاقِ
بالله  فـي صـبرِ فذِّ العزمِ iiعملاقِ
وعـد مـع الصبر في إيمان iiسبَّاق

والنكبات تنزل بالشعوب المسلمة بفعل العدو الخارجي، ولكن حكام هذه الشعوب كانت- وما تزال- جرائمهم في حقها أشد وأنكى، يقول الأميري:

يقولون لي عيد سعيد، وإنه  

                            ليوم حساب لو نحسُّ ونشعر

أعيدٌ، وللبغي العدوّ تفاقم  

                           وأمرُ ولاة الأمر أنكى وأخطر؟

هُمُو أوقعوا الهول الضروس بقومهم 

                          فهم قدروا- ويل لهم- كيف قدّروا؟

مع التاريخ:

ونعود إلى المنابع الصافية.. إلى سيرة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وصحابته، ونصغي لأنس بن مالك- رضي الله عنه- وهو يقول:
"
قدم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- المدينة، ولهم (أي للأنصار) يومان يلعبون فيهما، فقال: "قد أبدلكم الله تعالى بهما خيرًا منهما: يوم الفطر، والأضحى".

وما جاء هذا التشريع إلا من حرص النبي- صلى الله عليه وسلم- على أن يكون للمسلمين شخصيتهم المتفردة، المتميزة في أعيادها، وسلوكها، وعبادتها، ومنهجها في شتى مناحي الحياة.

جهاد موصول:

لقد أباح ديننا في العيد اللهو البريء؛ ترويحًا عن النفس، وتسلية لها، قالت عائشة- رضي الله عنها- فيما يرويه أحمد والشيخان أن الحبشة كانوا يلعبون عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في يوم عيد، فاطلعت من فوق عاتقه، فطأطا لي منكبيه، فجعلت أنظر إليهم من فوق عاتقه حتى شبعت، ثم انصرفت.

ومع ذلك استمرت مسيرة الجهاد في شوال، شهر عيد الفطر، فكان فيه من السرايا سرية "عبيدة بن الحارث"- رضي الله عنه- وسرية "عبد الله بن رواحة"- رضي الله عنه- وكان فيه من الغزوات: غزوة أحد، وغزوة حمراء الأسد، وغزوة الخندق، وغزوة حنين، وغزوة الطائف.

والسرية الأولى كانت بعد ثمانية أشهر من الهجرة، وكانت كلها من المهاجرين؛ التقت أبا سفيان ومائتين من الكفار، وحدث تناوش بالسهام، ولم يحدث التحام، وكأنها كانت مهمة تدريبية؛ استعدادًا لما هو آتٍ من معارك كبرى.

أما السرية الثانية، فكانت في شوال سنة 6هـ لقتل الزعيم اليهودي "أسير بن رزام"، الذي جمع اليهود، وحاول إثارة غطفان على المسلمين، وقد حققت هدفها.

وكانت غزوة أُحُد في شوال سنة 3هـ، وعلى الرغم مما أصاب المسلمين فيها من انكسار في مرحلة من مراحل المعركة، فإنها تمحضت عن نصر معنوي قيم، تمثل في الدرسين الآتيين:

الأول: من أهم عوامل النصر: الانضباط العسكري التام، والالتزام بأوامر القائد الأعلى.

والثاني: ترسيخ مبدأ الشورى بنزول قوله تعالى بعد المعركة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ﴾ (آل عمران: 159)، مع أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يرى مقاتلة المشركين في المدينة، ولكنه تخلَّى عن رأيه بعد أن رأى أن الغالبية- وخصوصًا الشباب- ترى الخروج إلى أُحُد للقتال، والآية تهدف إلى ضرورة مشاورة القائد أصحابه، فيما لم ينزل فيه وحي، حتى لو لم تتحق النتائج المرجوة.

وبعد أُحُد بيوم واحد، وعلى بعد ثمانية أميال من المدينة، نزلت قريش في طريق عودتها إلى مكة، وعلم النبي- صلى الله عليه وسلم- أنهم يهمُّون بالعودة إلى المدينة للإجهاز على المسلمين، فعزم على الخروج إليهم، وظهرت عبقريته في عملين:

الأول: ندب إلى الخروج الذين شهدوا أُحُدًا دون غيرهم؛ حتى يرفع من معنوياتهم، ويعيد إليهم الثقة بأنفسهم.

الثاني: أنه أقام بجنده بحمراء الأسد ثلاثة أيام، وأمرهم أن يوقدوا كل ليلة خمسائة نار، فاعتقد الكفار أن المسلمين آلاف مؤلفة؛ لأن النار الواحدة لا يوقدها إلا مجموعة من خمسة أفراد على الأقل؛ وهو ما جعل الرعب يدب في قلب أبي سفيان ومن معه، فعادوا إلى مكة.

وكانت غزوة الخندق (الأحزاب) في شوال سنة 5هـ، ومن الدروس والقيم التي أفرزتها هذه الغزوة ما يأتي:

1- إثبات النبي- صلى الله عليه وسلم- أن "الحكمة ضالة المؤمن؛ أنى وجدها، فهو أحق الناس بها "، فقد أخذ برأي سلمان الفارسي في حفر الخندق، ولم تكن العرب تعرف هذه الوسيلة الدفاعية من قبل.

 2- شارك النبي- صلى الله عليه وسلم- المسلمين في حفر الخندق كواحد منهم؛ ليثبت أن القائد الحق يجب أن يكون قدوة لجنوده.

 3- ثمت حادث عارض أثناء حفر الخندق، خلاصته أن صخرة عجز المسلمون عن تكسيرها، بل إنها كسرت حديد معاولهم، فهبط إليها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وفتتها بثلاث ضربات، ومع كل ضربة كانت تُخرِج ضوءًا، وفي الأولى بشر المسلمين بفتح الشام، وفي الثانية بشر المسلمين بفتح فارس، وفي الثالثة بشر المسلمين بفتح اليمن.  وقد تحقق للمسلمين فيما بعد- ما بَشَّر به النبي- صلى الله عليه وسلم.

ودلالة ذلك أن على المسلم ألا يفقد الأمل، وييأس من روح الله ومن نصره، حتى وهو في أشد حالات الكرب والمحن.

وكانت غزوة حنين في العاشر من شوال سنة 8 هـ، ومن دروسها: أن الكثرة لا تغني عن تأييد الله، وأن الانشغال بالغنائم والماديات يقود إلى الهزيمة، وأن الثبات والصبر يحولان الهزيمة إلى نصر.

ثم كانت غزوة الطائف بعد ذلك في أواخر شوال من العام نفسه، وفيها ظهر كرم النبي- صلى الله عليه وسلم- وسماحته ووفاؤه، فحينما التقى بعد الانتصار أخته في الرضاعة "الشيماء بنت حليمة السعدية"، قال لها: "سلي تُعطَيْ، واشفعي تُشَفَّعي"، فسألته إطلاق السبي، فأطلقهم وكانوا ستة آلاف.

إنها خواطر عنّـت لي وأنا أتمثل عيد الفطر المبارك، وأستصحب شهر شوال، فأرى فيه الجهاد موصولاً دون انقطاع، وفي كل معركة وسرية دروس وقيم، لو أخذنا أنفسنا بها- يا أخي المسلم- لحققنا على أعدائنا النصر المبين، وكنا جديرين بالشهادة الربانية الخالدة: ﴿خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ (آل عمران: 110 .

والحمد لله رب العالمين