وداعاً ممدوح عدوان

عبد الله الطنطاوي

وداعاً ممدوح عدوان

عبد الله الطنطاوي

الموت غاية كل حي.. فما من حي يفلت من يده..

وإن المرء ليحزن على فراق من يحب

وقد رُبينا على ألا نقول إلا ما يرضي ربنا..

***

لم تكن بيننا معرفة شخصية..

وكنت – عندما ما كنت في بلدي الحبيب سورية – أكره كثيراً مما يكتب، أيام المراهقة الأيديولوجية..

كان متحمساً منحازاً، وكنت متحمساً منحازاً أيضاً..

كنت أكره انحيازه وتلطيه بالسلطة..

كنت أرى فيه موهبة حقيقية فأقول:

يا حسرة عليك يا ممدوح، تُذهب طيباتك على موائد هي (طيباتك) أكبر منها.

قال الحاكم العادل الذي لم تلد النساء مثله من بعد: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لابن هرم بن سنان:

أنشدني بعض مدح زهير (ابن أبي سلمى) أباك.

فأنشده. فقال عمر: إنْ كان لَيُحْسِنُ فيكم القول.

قال ابن هرم: ونحن والله إنْ كنا لنُحْسِنُ له العطاء.

قال عمر: قد ذهب ما أعطيتموه، وبقي ما أعطاكم.

أجل. لقد ذهب ما أعطاه هرم من مال، وهو الأصيل المصلح الحاقن للدم العربي الحر، وبقي ما قاله زهير فيه..

وكذلك هؤلاء..

كنت آسى على هذا القلم أن يسخَّر في غير ما خُلق له..

وجاءت أحداث الثمانينيات، وكنت مع آلاف من إخواني في أقباء السجون، ونقل إليّ سجان مسيحي حر كان يتعاطف معنا إلى درجة جعلتني أخشى عليه من زملائه الجلادين..

نقل إليّ أخبار ما يجري على الساحة السياسية، وعرفت منه الموقف الشجاع الذي وقفه الأستاذ ممدوح في لقاء الجبهة (التقدمية) مع المثقفين السوريين، ومقاله في مجلة الحوادث (لماذا يكذب النظام؟) الذي كلفه الكثير، وأودى بحياة صاحب المجلة (الأستاذ اللوزي) بعد إحراق يده اليمنى بالأسيد..

عاد الأستاذ ممدوح إلى وعيه، وصحا من سكرة (الأيديولوجية) التي كلفت الوطن – حتى الآن – أكثر من أربعين عاماً من عمره، كان يمكن لهذا الوطن - خلالها- أن يتقدم سائر البلاد العربية، وأريدّ له أن يكون في مؤخرتها.

حورب الأستاذ ممدوح، ومُنع من الكتابة في الصحف المحلية، وتناءى عنه الكثير من (الرفاق) و(الأصحاب) رهباً ورغباً، وصمد ممدوح ولم يتزحزح، وكسب شهرة في الداخل والخارج، وكنّا – نحن المنفيين من وطننا الحبيب – نتلقف ما يكتب، في بعض الصحف العربية والمهاجرة، وكنا نشاهد المسلسلات التي يكتبها، ونعجب بها وبما فيها من إسقاطات على الواقع السياسي، وخاصة في (الزير سالم) واطلعت على سيناريو مسلسل لم ير النور بعد، وقد تألق فيه..

وكان يعجب الصديقان الفقيدان، والأديبان الكبيران: حسيب كيالي – الذي (كان) ماركسياً – وشريف الراس – الذي (كان) قومياً اشتراكياً – كانا يعجبان من ثنائي على الأستاذ ممدوح، على أسلوبه، على مضمونات شعره ونثره – دع عنك ما يتناقض مع ما أعتقد أنه حرام وضلال كنت أدعو الله أن يعافيه منهما – وكنت، في مراسلاتي مع الأستاذ الحبيب حسيب، أثني على جرأة ممدوح، وعلى صموده في وجه العاصفة الهوجاء التي كان ضمن تيارها القاسي، ثم أرز إلى الشعب، وترك ذلك (العنف الثوري) النابع من (أيديولوجية) لا تعرف وجهها من قفاها.. ولولا خشيتي على ذرية الأستاذ الكبير حسيب، لنشرت رسائله في مجلد كبير..

كنت، وما زلت، وسأبقى، معجباً بكتابات ممدوح منذ ثمانينيات القرن الفائت، كما أنا معجب بكتابات الفقيد سعد الله ونوس، والشاعر محمد الماغوط، وسواهما من أدبائنا الأحرار، وفنانينا الكبار..

فَقْدُ الأديب، والمفكر، والشاعر، والفنان، خسارة كبيرة هيهات أن تعوّض، وألاّ تستطيع التواصل مع الأخلاء الأحرار من هؤلاء، وهم في هذه الحياة يعانون ما يعانون، ويلقون الألاقي من الجلاوزة والجلادين و(أسيادهم)- فيه من المرارات ما الله وحده به عليم..

كنت أنشر للأستاذ الكبير حسيب في نشرتنا (النذير) تحت اسم مستعار هو (أبو الريحان) حيناً، وأحياناً بلا اسم، وكنت أسعى لإصلاح ما بينه وبين شريف الراس من جهة، وبين الشاعر الكبير الدكتور أحمد سليمان الأحمد من جهة أخرى، فألقى الممانعة والصدود، وكنت أقول لهم جميعاً:

- ما رأيكم لو تسامحنا، ووضعنا أيدينا بأيدي من هم في الداخل من الشرفاء، كالأساتذة: ممدوح، وسعد الله، والماغوط، وسواهم؟

ولم ألق أي ترحيب أو مبادرة مشجعة.. كانوا يتخوّفون ممن في الداخل، وكنت، وما زلت، ألح في لقاء الأحرار، وأقول لهم:

- لولا خوفي من إحراج هؤلاء.. ممدوح و.. و.. لبادرت إلى مهاتفتهم والتعاون معهم.. وإذا استطعتم أن توصلوا إليهم حبي لأعمالهم، فافعلوا.

*  *  *

افتقدناك يا ممدوح.. يا أيها الشاعر المبدع..

افتقدناك مناضلاً حراً سيعرف الناس دوره المكافح عندما تنجلي الظلمات..

اختلفنا معك وما زلنا، في العديد من المسائل، ولكننا لا ننكر ما تحملته من مضايقات ومصادرات في سبيل ما كنت مقتنعاً به.. فسورية لسائر أبنائها، وليست لفئة أو لحزب أو لجبهة..

سورية معلمة الناس ألف باء الحضارة، وهكذا ينبغي أن تبقى ولا ينبغي لها إلا أن تكون حرة طليقة يرتع فيها الأحرار، ويطيرون في أجواء الحرية والتسامح والإخاء..

ما كنا – في يوم من الأيام – طائفيين، ولن نكون، وكذلك كنت أنت.. فلقيت ما لقيت. التقينا أول ما التقينا هاهنا.. عند هذه المسألة الخطيرة.

أرجو أن تكون سيرتك الوطنية مدرسة يتخرج فيها كتّاب أحرار، كحكم البابا، والدكتور محمود حسين صارم، وسواهما من المبدعين والوطنيين الأحرار، ليعود السوريون سيرتهم الأولى، أحبة أحراراً متآخين.. لا إحن، ولا سجون، ولا مشانق، ولا رصاص، ولا مجازر تبقى محفورة في ذاكرة الأجيال إلى مئات السنين وآلافها..

كنت تقف في وجه الاستبداد والفساد والظلم والكذب ما وسعك ذلك، ومتَّ واقفاً تصفعها بقلمك وكلماتك، غير مبال بعقابيل ما تكتب.. بما يكون من الجلادين الذين مزّقوا الشعب، مثلما مزّقوا الجلود، وسلخوا أجزاء من الوطن الغالي، مثلما سلخوا جلود الشعب بسياطهم..

آسى عليك..

آسى على قلمك وشعرك..

آسى على أصالتك..

آسى على نضالك الذي يحسبه الناس صغيراً وأحسبه كبيراً في عصر الظلام والظلمات الذي نعيش فيه.

آسى على ابتسامتك ومرحك وأريحيتك..

آسى على صمودك في وجوه (السراطين) وليس في وجه سرطان واحد.

وآسى على أشياء أخرى

أيها الشاعر الحر الأصيل.