رحيل مهدي عاكف: جريمة جديدة للانقلاب

clip_image001_97b20.jpg

خرج أحمد بن حنبل من المِحنة إماما لأهل السنة، يقترن ذكره بنصرة الدين، وأما خصمه ابن أبي دؤاد، فصُودرت أمواله، وأصيب بالشلل، وأصبح مسجونا في جلده، ولحقه العار أبد الدهر.

عاشت أفكار ابن تيمية تبرُق في كل عصر، بينما خصمه علي البكري الذي كفّره واستحلّ دماءه واستجلب له الأذى من السلطان، لُوحق وطُورد وَهَامَ على وجهه، ولم يجد مكانا للاختباء أكثر أمْنًا من دار ابن تيمية، فأتاه صاغرا، ولم تُفارقه المذلَّة في الحياة وبعد الممات.

وبلغت كتب سيد قطب الآفاق، فلا تخلو مكتبة إسلامية من الظلال حتى لدى مُنتقديه، أمّا جلّادُوه وسجَّانُوه فذهبت أسماؤهم إلى مزابل التاريخ، لا يُذكرون إلا وتُذكر فضائحهم الأخلاقية. إن دماء الأحرار المصلحين لا يفنَى شَذاها، تنقضي حياتهم فتتألّق أسماؤهم، أما أعداؤهم فيُفضحون على رؤوس الأشهاد.

التاريخ يعيد نفسه، يموت المناضل محمد مهدي عاكف في سجون العسكر، فيكون موته حديث الساعة، ويبلغ ذِكْره الآفاق، ويرْثِيه القاصي والداني، ويتعرفُ عليه من كان يجهله، ويرفع الله له ذِكره، ليناله من الثناء والمديح ما لم يكن له في حياته. وفي الوقت نفسه تزداد فضائح النظام الانقلابي التي أزكْمت رائحتها الأُنوف، واكتسبت صفحاته مزيدا من السواد، بعد هذه الجريمة، وأسميها جريمة قتل مع سبق الإصرار وليست وفاة، فمثل هذا الرجل المسن الذي تفصِله بضعة أشهر عن بلوغ عامه التسعين، ومع ما أُصيب به من أمراض كفيلة بحصوله على عفو صحي بموجب القانون، ومع الإهمال الصحي البالغ للشيخ الهرم، كل ذلك يجعلها جريمة قتل لا وفاة عادية. فالرجل الذي وجهت له تهم عديدة منها إهانة القضاء وبرأته المحكمة، لكنه بقي في السجن بتهم أخرى تتعلق بمزاعم قتل المتظاهرين، كان يعاني من سرطان البنكرياس والصفراء وسرطان القنوات المرارية، وضعف في عضلة القلب، وتضخُّم البروستاتا، وكسر في المفصل الأيسر، وغيرها من الأمراض التي تحول بينه وبين تناول طعامه وعلاجه، أو تغيير ملابسه بنفسه، ومع ذلك قد واجَهَ تعنُّتا شديدا لإخلاء سبيله بضمانات احترازية بعد التدهور الشديد لحالته الصحية، ورُفض نقله لمستشفى خاص لتلقي العلاج.

ولعل القارئ يتذكر رجل الأعمال المصري هشام طلعت مصطفى المُتهم في جريمة مقتل المطربة سوزان تميم في عام 2008، حينها صدر الحكم ضده بالإعدام، ولكن تم تخفيف الحكم، ليصل إلى السجن 15 عاما.

لم يُكمل الرجل مُدّته، فقد شمله رئيس النظام بعفوه لظروفه الصحية، فخرج كأن شيئا لم يكن، يزاول أعماله ويتفقد مشروعاته منتصب القامة في كامل أناقته ولياقته، لتقوم بعدها وسائل الإعلام الرسمية والموالية للنظام بتلميعه والإشادة برؤيته الاقتصادية القوية، وخبرته في المشروعات الكبرى مع توقعات بأن يحدث طفرة في التنمية والمشروعات العمرانية. أما رجل مناضل وقامة سياسية وفكرية مثل عاكف، فلم يكن له نصيب من هذا العطف وتلك الرأفة رغم أحواله الصحية المتدهورة. هي جريمة مُتمّمة لما سبق من جرائمِ نظامٍ، امتلأت سجونه بمعتقلي الرأي والمعارضين السلميين ومن لا ذنب لهم سوى المطالبة بالإصلاح، بصورة جعلت الملف الحقوقي لذلك النظام مدعاة للسخرية في كل بقاع الأرض.

ونحن في هذا المقام لا نتحدث عن عاكف باعتباره مرشدا سابقا لجماعة الإخوان، خاصة أنه مات وليست له أي علاقة رسمية بالجماعة، الأمر أكبر من الحزبية وأعظم من أي تنظيم، فإنما نتحدث عن مناضل سياسي، نذر نفسه وهو في مقتبل العمر للدفاع عن دينه وأمته ووطنه. لقد كان عاكف الذي ولد عام 1928 في طليعة من زحفوا إلى فلسطين أيام حرب 1948، تحت مظلة الإخوان، وعلى أعين الجامعة العربية، كما شارك بقوة في العمليات الفدائية ضد المحتل البريطاني وترأس معسكرات جامعة إبراهيم (عين شمس حاليا) حتى قيام ثورة 1952.

وكشأن كل عناصر الإخوان في الحقبة الناصرية، تم اعتقال ذلك الشاب المناضل عام 1954، وكان قد سلم نفسه أولا لمقر البوليس الحربي فقضى في السجن 25 يوما، خرج بعدها ليواجه حكما بالإعدام بتهمة مساعدة وتهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، الذي كان قائدا في جيش فلسطين، ثم خفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. خرج عاكف من سجنه عام 1974 في عهد السادات، وزاول عمله مديرا عاما للشباب في وزارة التعمير، واشترك في تنظيم المخيمات للشباب الإسلامي على الساحة العالمية، في السعودية والأردن وماليزيا وبنغلاديش وتركيا واستراليا ومالي وكينيا وقبرص وألمانيا وأمريكا وبريطانيا، وعمل مديرا للمركز الإسلامي في ميونخ. تم اعتقاله مجددا عام 1996 بتهمة رئاسته للتنظيم الدولي للإخوان، وقضى في السجن ثلاثة أعوام.

تم اختيار هذا الرجل للمرتبة الـ 12 ضمن 50 شخصية مسلمة مؤثرة عام 2009 وفقا لكتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الاستراتيجية الإسلامية في الأردن.

عارٌ على النظام أن يكون هذا صنيعُه مع قامة سياسية وفكرية من أبناء الأمة مثل مهدي عاكف، لا لشيء إلا لأنه ينتمي فكريا لجماعة كانت تشغل المقاعد في البرلمان، ولها مؤسساتها الخدمية التي كان يفزع إليها الشعب.

إن لم يشفع لديهم نضاله من أجل الوطن ومن أجل القضية الفلسطينية، فلماذا لم يشفع له سِنُّه ومرضه؟ علما بأن الرجل لم تثبت عليه فعليا أي تهم موجهة إليه. كان بإمكان النظام الانقلابي إبداء لمسة إنسانية بالإفراج عن ذلك الشيخ المُسن، تُلطّف الأجواء بعض الشيء، وتُحسّن من صورة الملف الحقوقي تجاه المعارضين، وتكون على الأقل شيئا يجده أنصار النظام للتحدث والترنم به، لكنه الإصرار على الحماقة.

ونعم إنها جريمة مُتمّمة لما سبق من جرائم العسكر، بكل تفاصيل المشهد، فلم يكتفوا بهذا التعنُّت الذي أوْدى بحياة الرجل، وإنما بالغوا في التشديد والتعسف في إجراءات الجنازة والدفن، عندما رفض الأمن أن يحضر سوى فرد واحد من أسرته أثناء الغسل، وقام بالصلاة عليه في المستشفى الحكومي التي مات فيها، خمسة رجال وأربع سيدات، ولم يُسمح بالتواجد أثناء الدفن سوى لأربعة أشخاص، بحسب وكالة الأناضول، وهو ما يتشابه مع مراسم جنازة مؤسس الجماعة حسن البنا.

فليهنأ ذلك المناضل بلقاء ربه والله حسيبه، وليبوء أهل الجور والظلم بمزيد من الفضائح المُدوّية، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

وسوم: العدد 739