( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة )

من المعلوم أن الرسالة الخاتمة الموجهة إلى العالمين من  لدن بعثة سيد المرسلين وخاتمهم عليه الصلاة والسلام إلى يوم الدين ، تتضمن  ذكر صفقة تجارية رابحة بين رب العزة جل جلاله ، وبين عباده المؤمنين . ومن ذلك الذكر قوله تعالى: (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة )) . ولقد ورد في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة وما تلاها ، هو التنويه بمن خرجوا في  غزوة تبوك، وهم جيش العسرة  ، وقد سموا كذلك لأنهم ساروا في سفر طويل المسافة  شاق ،تحت وهج صيف قائظ ، وبقلة مئونة ، وقلة  عدد عدة ، قلة زاد،  وندرة ماء. وقد تخلف عنهم من تخلف  من المنافقين. وكانت هذه آخر غزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كتب له فيها النصر دون صدام حيث انسحب جيش الروم على كثرة عدده وعدته  فرارا من المواجهة . ولقد جعل الله تعالى من مناسبة التنويه بجيش العسرة وسيلة لعقد صفقة رابحة  دائمة  بينه وبين عباده المؤمنين الذين يجاهدون في سبيله في كل زمان ، وفي كل مكان من أجل إعلاء كلمته إلى قيام الساعة . وهذه الصفقة عبارة عن بيع وشراء ، المشتري فيها هو الخالق سبحانه وتعالى ، والثمن الموعود منه هو سلعة غالية هي الجنة ، والباعة هم عباده المؤمنون ، وبضاعتهم هي أنفسهم وأموالهم .

 وإذا ما استحضرنا حال جيش العسرة  في تبوك ،  وهي حال متكررة لا محالة إلى قيام الساعة، عرفنا لماذا أغرى الله تعالى عبادة المؤمنين بسلعته الغالية التي لا يُمكّن منها إلا من يدفعون ثمنها ، وهو عبارة عن بذل الأنفس والأموال . وإذا كان النفير في سبيل الله بعدد وعتاد يجازى أصحابه بالجنة ، فما بال أصحاب نفير بقلة عدد و شح عدة ، وفي  ظرف عسر  وشدة ؟ فلا شك أنهم أجدر وأحق من غيرهم بسلعة الله الغالية ، ولهم السبق.

ولقد فصل الله تعالى القول في هذه الصفقة الرابحة بقوله عز من قائل : (( يقاتلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)) ، ففي هذا التفصيل بيان للبشرى التي بشر بها الله تعالى من يقاتلون في سبيله ، وهو قتال من أجل إعلاء كلمته ، وإقامة شرعه ، وقد جعله من صفاتهم التي بها يعرفون  . وهذا القتال ، هو ككل قتال يكون بين فئتين، فيه قاتلون وقتلى . ولقد بدأ سبحانه وتعالى بذكر القتل الذي يكون من المؤمنين ، ثم تلاه ذكر القتل الذي يكون فيهم ، وهو وعد ه الحق سبحانه وتعالى ، الذي ذكره فيما أنزل من كتب توراة، وإنجيلا ، وقرآنا ، وعرفه أهل التوراة، وأهل الإنجيل ممن لم يحرفوهما ، ويعرفه المؤمنون في القرآن الكريم . وتأكيدا منه  سبحانه وتعالى لوعده الناجز بخصوص الصفقة الرابحة، يذكرهم  بأنه هو الأوفى بالعهد ، وفي هذه البشرى ما يبعث الطمأنينة في نفوسهم ، ويكون حافزا لهم على المضي قدما في إتمام هذه الصفقة دون تردد ،وهي فوزعظيم  كما وصفها الله تعالى ، وغنم منقطع النظير. ويسترسل الله عز وجل في سرد أوصاف المتعاقدين معه على هذه الصفقة بقوله : (( التائبون العابد ون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشّر المؤمنين )) ، فالاتصاف بهذه الصفات ،هو ما يؤهلهم لعقد صفقة سلعة الله الغالية ، فهم  أكياس يديون أنفسهم بدوامهم على التوبة  ،وهم يدينون لربهم بالعبودية الخالصة ، فيؤدون ما أوجب عليهم على الوجه المطلوب منهم  ، وهم يسعون في الأرض كل سعي محمود في مرضاته ، وهم على صلواتهم دائمون ، وهم ملتزمون بفريضة الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وهم يعملون بكل التكاليف الشرعية عبادات ومعاملات ، لذلك كانت لهم بشرى سلعته الغالية سبحانه وتعالى  .

ولقد سبق ذكر أوصاف وأحوال هذه الفئة المؤمنة ، في نفس السورة ، وفي نفس السياق هي سور ذكر أوصاف المنافقين الذين يظهرون الإيمان الكاذب ، ويضمرون الكفر  ، وهم أشد خطرا على المؤمنين ، وكانوا من المتخلفين عن النفير، بل كانت قلوبهم مع أعداء دين الله عز وجل ، وبذلك أقاموا الحجة على نفاقهم . ولا شك أن مثل هذه الفئة السيئة سيتكرر وجودها إلى قيام الساعة.

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بالبشرى التي بشر بها الله تعالى الذين اشترى منهم أنفسهم بالشروط التي اشترطها ، وبالمواصفات التي أهلتهم لهذه الصفقة الرابحة . وفي نفس الوقت  نحذرهم  من الوقوع فيما وقع ، ويقع فيه  المتخلفين عن هذه الصفقة، كما كان  شأن المنافقين في غزوة تبوك وغيرها .

وإننا لنحذر من هذا، والحرب مستعرة في أرض الإسراء والمعراج ، وقد تكالب على المجاهدين في سبيل الله جموع الصليبيين مع أعداهم الصهاينة ، وكونوا ابذلك  حلف شر لإبادة الشعب الفلسطيني ، وتهجيره من أجل التوسع  في أرضه المسلوبة منه قهرا ، ولقد تخلى المسلمون  مع شديد الحسرة، والأسى، والحزن العميق هذا الشعب وحيدا يواجه قوات عاتية غازية بأعداد كبيرة ، وعتاد فتاك  مدمر للبنيان ، ومهلك للصبيان، والفتيان ،والنسوان ،و العجزة ،والمرضى . وها هو اليوم جيش العسرة يتكرر في أرض فلسطين ، وفي رقعة قطاع غزة  تحديدا ،  وقد ضرب عليها حصار شدبد ظالم ، ومنع أهلها من الطعام، والماء ،والدواء ... وتخلف عن نصرتهم حكام مسلمون عليهم تقع أساسا مسؤولية هذه النصرة المنصوص عليها شرعا في كتاب الله عز وجل، لأن الأمر يتعلق بأقدس المقدسات المهددة بالتهويد،  وهي التي ما ثار أهل غزة  إلا لحمايتها مما يتهددها. وها هم المتخلفون يتكررون أيضا في زماننا ، وهم أولى بدفع ما يهدد تلك  المقدسات ، وأجدر بأن يستجيب لداعي النفير الصادر عن المجاهدين المرابطين ، وهم في عسرة لا مثيل لها ، وحال العالم فئتان : فئة ظالمة لهم ، وفئة صامتة ساكتة على ظلمهم كما قال ناطق باسمهم ، ولئن  جاز سكوت غير المسلمين ، وفي هؤلاء من لم يسكت نصرة للظلم الواقع عليهم ، فما بال سكوت من يعنيهم أمرهم باسم الأخوة في الدين  ؟

ولا بد من التذكير كما جاء في الذكر الحكيم ، بأن ما يؤهل للتعاقد مع الخالق على صفقة سلعته الغالية هو صفات أو مواصفات  بعينها قد عدمها المسلمون في هذا الزمان ، لهذا تخلفوا وتقاعسوا ، وجبنوا ، وفرطوا في فوزعظيم ، أراده الله تعالى لعباده المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج وحدهم دون سواهم ، فهنيئا لهم به ، ولمن تخلف عنهم ، وخذلهم العار والشنار .

أليس من المعرة، واللؤم أن تزين المحالات التجارية في بلاد المسلمين  بشجرة أعياد الميلاد استعدادا للاحتفال بها ، وأهلها أصابعهم على الزناد لقتل أطفال غزة ونسائها ، وطائراتهم تلقي عليهم بالحمم المدمرة الحارقة ، تأييدا للكيان الصهيوني العنصري ، وتخندقا معه في خندق واحد ؟  فما الذي جرى للمسلمين حتى هان عليهم الهوان ، ورضوا بأن تصادر منهم هويتهم الإسلامية مجانا ، وكفى بذلك ذلا وهوانا ،وخسة وصغارا ؟

إن الأمة الإسلامية اليوم شعوبا وحكاما مطالبة شرعا بواجب النفير من أجل المسجد الأقصى المبارك ، وأخلق به من نفير من أجله ،ويكون ذلك حسب الوسع والقدرة والطاقة لا يعذر في ذلك أحد . ومن لم يجد إلى هذا النفير سبيلا ، فعليه ألا يشمت بالمجاهدين المرابطين في سبيل الله بأقوال أو بأفعال يبتاع من سلع أعدائهم ، ويتهافت عليها ويحتفل بأعيادهم ، وكلها شرك وضلال . ولقد تبلد حس كثير من المسلمين في هذا الزمان ، وعدموا نخوتَه ، وهانت عليهم كرامته ، ونكرتهم الهوية الإسلامية .

 فالتوبة، التوبة معاشر المسلمين قبل حلول نقم الله تعالى غضبا منه على التخلف عن نفير أوجبه ،  والتفريط العمد فيه ،وهو نصرة لمظلومين سلب منهم وطنهم ، واستبيحت بيضتهم ، ونصرة لأولى القبلتين ، وثالث الحرمين الشريفين.

اللهم إنا نبرأ إليك من خذلان عبادك المؤمنين المجاهدين المرابطين في غزة كتبت لها ولهم العز بقول أو بفعل لا يرضيك ولا ترضاه لعبادك المؤمنين . اللهم إنا نسألك نصرا عزيزا لهم من عندك ، كما نصرت جيش العسرة  في تبوك، إنك على كل شيء قدير ، وبالاستجابة جدير ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم ، وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1064