( إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )

مما جاء في الرسالة الخاتمة الموجهة لعموم البشر إلى قيام الساعة ، ذكر الغاية من خلق الإنسان ، وهي استخلافه في الأرض ، وهو استخلاف اقتضته طبيعته وجبلته التي فطر عليها ، والتي تميزه عن  طبيعة باقي المخلوقات من حوله، حيث أودع فيه خالقه سبحانه وتعالى ملكة العقل التي تمكنه من إدراك ما لا تدركه باقي المخلوقات ،ويحصل له بذلك علم ومعرفة يمكنانه من التأثير فيما حوله،وقد أراد منه مستخلفه أن يكون تأثيرا إيجابيا ، وجعل ذلك أمانة في عنقه ألزمه برعايتها ، وعدم تضييعها أو التفريط فيها . وبملكة العقل صار الإنسان مستخلفا أي مستأمنا ، وهو بذلك مسؤول ، ومحاسب لامتلاكه القدرة والمؤهلات على الاستخلاف.

ولقد عبرت الرسالة  الخاتمة عن طبيعة الأمانة التي قُلّدها الإنسان باعتبار طبيعته وجبلته في قوله تعالى : ((وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل وكنا ذرية من بعدهم أفتهلكنا بما فعل المبطلون )). ففي هاتين الآيتين الكريمتين إقامة الله تعالى  حجة على عموم الخلق بقبولهم تحمل ما قلدهم به  من آمانة توحيده دون سواه ، وما ينشطر عنها من آمانات أخر متدرجة ، ومترابطة فيما بينها،  يقتضيها الاستخلاف في الأرض . وفضلا عما جاء في كتب التفسير من مسح الله تعالى على ظهر آدم عليه السلام مسحا خرجت به كل نسمة قدرها سبحانه وتعالى إلى يوم القيامة ، ومن مخاطبته لها وسؤالها عن خالقها ، وإقرارها بربويبته وألوهيته ، لا بد من استحضار الطبيعة والجبلة التي جبل عليها الإنسان ، والمتمثلة في امتلاكه ملكة العقل، وكفى بها حجة عليه تشهد بأنه بامتلاكها ،يكون في حكم المقر بتوحيد خالقه دون سواه . ومن أجل بيان نعمة العقل على الإنسان، ساق الله سبحانه وتعالى ما يقنعه بأنه قد ملّكه ما يؤهله لحمل آمانة عظمى لا قبل للمخلوقات الأخرى بحملها مهما كانت عظمة خلقها مقارنة بخلق الإنسان  وهو الأضعف بنية ، وذلك في قوله عز من قائل : (( إنا عرضنا الامانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا )) ، ففي هذه الآية الكريمة ما يؤكد أن طبيعة المخلوقات العظيمة المحيطة بالإنسان ، وهي بمثابة وعاء يسعه ، لم توهب ما يؤهلها لحمل الأمانة التي قلّده الله تعالى إياها . ولقد جاء في بعض كتب التفسير أن عرض الأمانة على تلك المخلوقات وإباؤها حملها ، والإشفاق منها ، لا يجب أن يفهم  على أنه عرض كالعرض الذي عُرض على الإنسان بتمليكه العقل ،  بل هو إشارة إلى خطورة حمل تلك الأمانة ، ذلك أن تلك المخلوقات العظيمة التي يعاينها الإنسان من حوله ، وتعظم في عينه ، لم توهب ما وهب  يؤهله لإدراك ما لا تدركه هي علما ومعرفة ، وتصرفا  . وفي هذا التمثيل ما يجعل الإنسان يدرك خطورة المسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه ما قُلّد من أمانة أعلاها توحيد الخالق سبحانه وتعالى ، ودونها  استخلافه في الأرض وأدناها ما كان من جزئياتها ، وهي تكاليف عبارة عن أوامر ونواه، بالتزامها تستقيم حياته في الدنيا ، ويحوز أجر ذلك في أخراه .

ولقد اختلف المفسرون في معنى الأمانة التي  حملها الإنسان ، ولم يف بما تعهده من صيانتها، وعدم تضيعها لطبع الظلم فيه ، وهو اعتداء على حق الغير، وأول هذا الغير هو الله تعالى الذي يشرك به  غيره عن علم ، وهو أولى بالتوحيد ، ثم تليه حقوق المخلوقات المختلفة، ولطبع جهله بجسامة ، وخطورة تضييع الأمانات المستأمن عليها .

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بالعهد الذي أخذه الله تعالى عليهم حين أشهدهم بأنه ربهم  الوحيد دون شريك ، وقد أقروا بذلك ، وشهدوا على أنفسهم شهادة لا عذر لهم بعدها يوم يحشرون إليه ،وقد جعل الله ذلك أمانة كبرى في أعناقهم ، وعنها تتفرع باقي الأمانات الأخرى المتدرجة ، والمتسلسلة ، وكفىاه أمانة أن أودع الله تعالى فيهم ملكة العقل التي بها يحصل له العلم واليقين ، والتصرف فيما حولهم تصرفا أُمرهم به خالقهم .

وإذا ما ربطنا موضوع الأمانة في هذا المقال بواقعنا المعيش ، نجد ظلم الإنسانية وجهلها بجسامة مسؤولية الأمانة مثيرا للانتباه، والدهشة، والاستغراب، والإنكار . فها نحن نعيش في عالم تتصرف فيه البشرية بأهوائها ، وهي عندها بمثابة آلهة مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . ولا شيء مما أراد الخالق سبحانه وتعالى تلتزم به البشرية ، وعلى رأسها من يقودونها ، ويسوسنها ، وقد صاروا عندها هم أيضا بمثابة  شركاء لله تعالى . و من أجل مزيد من التوضيح، نقتصر على التمثيل لذلك بما يقع اليوم في أرض الإسراء والمعراج ، وتحديدا في قطاع غزة  حيث ترتكب أفظع جريمة يأباها الخالق سبحانه وتعالى واهب الحياة للناس . فالإنسان اليوم، وهو الذي شهد على نفسه أمام خالقه عند بدء الخليقة  بأنه مقر له بالربوبية ،قد تنكر لذلك ظلما وجهلا ، وركب أهواءه ، وصار ينازعه فيما لا حق له فيه بإزهاقه أرواح الأبرياء ظلما وعدوانا ، مع  سبق الإصرار على ذلك .

ولقد تواطأ كثير من الخلق مع من يزهقون الأرواح البريئة  في فلسطين المحتلة ، وهم يسايرونهم في جرائهم المنكرة والفظيعة ، ويقرونهم عليها إما بتأييد صريح أو بتلميح أو يلتزمون الصمت حيث لا يحسن ، مع أن زوال الدنيا أهون على الخالق سبحانه وتعالى من إزهاق نفس واحدة ، فكيف يكون الحال إذا ما أزهق الآلاف منها ، وهي مؤمنة موحدة ؟  ومن الانخراط في تجاسر من يقتلون الأبرياء عن عمد السكوت على أفعال القتلة ، وهي من المنكر الذي لا ينبغي السكوت عليه، مع أن الأمانة تقتضي ألا سكوت على ما يقترفون . وقد يغيب عن كثير من الموحدين أو لنقل على كثير من المحسوبين على التوحيد، أنهم مقصرون في أداء الأمانة العظمى من خلال التقصير فيما يتشعب عنها من أمانات  تصب جميعها فيها خصوصا أمانة صيانة النفس عموما، والنفس المؤمنة خصوصا التي حرم الله تعالى إزهاقها دون وجه حق . ومن ظن أنه بمنجاة من المساءلة عن هذه الأمانة المضيعة  يوم العرض على خالقه ، والوقوف بين يديه، فهو واهم، بل هو في غفلة لا تحمد عواقبها . ولهذا يتعين على الأمة المؤمنة الموحدة أن تنتبه إلى  العهد الذي قطعته على نفسها بأن تؤدي أمانتها العظمى، وما ينبثق عنها من أمانات على الوجه الذي يرضي خالقها ، وعليها أن تتوب توبة عاجلة، صادقة، نصوحا من خذلانها للمستضعفين في أرض الإسراء والمعراج ، وهم في أشد المحن وأقساها . ومن لم تبرأ ذمتهم من رعاية أمانتهم ، فعليهم أن  يستيقنوا أن خالقه سبحانه وتعالى سائلهم عن ذلك  لا محالة ، ومحاسبهم يوم يأتونه فرادى . وليعلم أن من وجب عليه الوفاء بأمانة نصرة المستضعفين في فلسطين بيده ،أو بلسانه ، ولم يفعل ، فقد خان هذه الأمانة ، ومن لم يرق لهم قلبه ،وهو أضعف الإيمان ، فليحذر مما حذر منه الله تعالى مباشرة بعد آيتي الأمانة ، في قوله عز من قائل : (( ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفورا رحيما )) ، صدق الله العظيم .

اللهم إنا نعوذ بك من خيانة أمانتك ، التي شهدنا بها على أنفسنا يوم أشهدتنا ، ومن خيانة كل ما يتعلق بها من أمانات قصرنا في رعايتها .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1065