( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )

من المعلوم أن الله عز وجل قد جعل الحياة الدنيا دار ابتلاء ، وجعل مدار هذا الابتلاء خيرا وشرا ، وفيها كلاهما يصيب الإنسان. والناس فيما يصيبهم في هذه الحياة الدنيا صنفان : صنف مؤمنون بالله تعالى ، ومدركون حقيقة ابتلائهم  فيها ا ، وهم بذلك يقبلون على خوض غمارها بنفوس راضية بما كُتب لهم فيها من خير وشر ، وما يعولون عليه في ذلك إيمانهم بربهم وبقضائه وقدره .

 وصنف آخر تغيب عنهم حقيقة ابتلاء الله تعالى لخلقه في هذه الحياة الدنيا ، وهم  يتقلبون فيها بين فرح بالخير ، وجزع من الشر ، وفي هذا نقض لركن من أركان الإيمان الستة ، ألا وهو الإيمان بالقدر خيره وشره . وهذا الصنف يضم المنكرين أصلا لألوهية وربوبية الله تعالى ، وللابتلاء في الحياة الدنيا ، وللبعث  في الآخرة ، وهم دهريون يعتقدون أن الدهر مهلكهم ، ولا رجعة لهم بعد هلاكهم أبدا ، و منهم منافقون يظهرون الإيمان بالله تعالى ، ويبطنون الكفر ، ومنهم مشركون يجعلون  لله تعالى شركاء ، ويضم أيضا آخرين يعتري إيمانهم ضعف عندما يتعلق الأمر بقضاء الله وقدره الذي يكون شرا ، وهم يعلنون الإيمان بهذا القدر بألسنتهم ، لكنهم يفسدونه بأفعالهم ومواقفهم أثناء حلول البأساء والضراء بهم .

ولقد نبه الله تعالى في محكم التنزيل إلى أن  من سننه الماضية في خلقه تناوب الخير والشر عليهم في حياتهم الدنيا ، وبيّن أن ذلك  إنما يكون بإرادته، وتدبيره، ومشيئته مصداقا لقوله تعالى : (( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم )) ، ففي هذه الآية الكريمة تأكيد بأن  كل ما يصيب الإنسان من خير أو من شر، إنما هو من تدبير الله عز وجل ، ومن قضائه وقدره ، وبحكمته،  وبعلمه . وقد جاء في كتب التفسير أن سبب نزول هذه الآية الكريمة هو قول الكفار لو كان المؤمنون على حق لوقاهم الله تعالى المصائب ، فجاء في قوله تعالى ما يسلّيهم عما يمكن أن يحدثه قول الكافرين في أنفسهم من تأثير قد ينال من إيمانهم  الراسخ. ولقد أعقب قوله تعالى : (( ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله )) قوله : (( ومن يؤمن بالله يهد قلبه )) ، وبين القولين  صلة ورابط ، ذاك أن الإيمان بالله تعالى يقتضي ضرورة الإيمان بقدره خيره وشره . ولا يتقبل المؤمن بقلب راض  نزول المصائب به  إلا بقدر ودرجة قوة إيمانه ، ورسوخه في قلبه ، ويكون ذلك هداية من الله تعالى تلهمه الصبر، والتحمل ، والاحتساب  . وينهي الله تعالى  ما سبق بقوله : (( والله بكل شيء عليم )) ، وهو ما يشعر الإنسان المؤمن بمعية الله تعالى في كل الأحوال التي يمر بها في حياته ، لأنه لا يغفل عنه طرفة عين ، فهو عليم بما يصيبه ، وبرسوخ هذا الاعتقاد في قلبه تهون عليه مصائبه ، ويتحملها بصبر، وتجلد ،وثبات .

ولما كانت العبرة  بعموم لفظ كلام الله عز وجل ، لا بخصوص سبب نزوله ، وكان هو الرسالة الخاتمة للناس أجمعين إلى يوم الدين ، فإن ما قاله الكفار للمؤمنين زمن نزول الوحي من أنهم لو كانوا على حق ما أصابتهم المصائب ، سيكرره لا محالة  الكفار في كل عصر ومصر إلى قيام الساعة . وقول الكافرين إنما يؤثر في ضعاف الإيمان ، لا  فيمن قوي  ورسخ إيمانهم . وقد يردد بعض ضعاف الإيمان مقولة الكافرين تحت قوة صدمة المصائب ، مع أنهم لا يشكون في أنهم على حق ،خلاف ما يقوله الكافرون ، وإنما يصدر ذلك عنهم وهم في أحوال من الضعف ، وقد يتداركهم الله تعالى بلطفه ، فيهدي قلوبهم بقوة إيمان ، فإذا هم مبصرون ، ومهتدون بعد زلة لسان تستوجب منهم الاستغفار والتوبة والإنابة إلى خالقهم جل في علاه ، ويتوب الله عز وجل على من تاب.

مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو تذكير المؤمنين بما يجب عليهم من صبر وتجلد ، واحتساب إذا ما نزلت بهم المصائب والشدائد مع اعتقادهم الراسخ بأنها مما كتبه الله تعالى عليهم ، وما جرت به سننه فيهم . نذكرهم بهذا، وهم يتابعون ما حل بإخوانهم في أرض الإسراء والمعراج من مصاب جلل، حيث قضى منهم الآلاف شهداء، وأصيب الالاف بسبب العدوان الصهيوني الشرس والوحشي . ولقد أظهر المؤمنون المرابطون في تلك الأرض التي باركها الله تعالى من قوة الإيمان ، وشدة الصبر والجلد ما جعل الناس في العالم يعجبون من  قوة إيمانهم، وصبرهم ، ويكاد بعض الناس لا يصدقون أنه يوجد في هذا العالم من يستطيع  تحمل مثل آلامهم المبرحة ، وهم يودعون أحبتهم شهداءهم آباء وأمهات وأبناء وبنات وإخوة ، وأخوات ، وأزواج ، وزيجات، وأقارب، وجيران ... بألسنة حامدة الله تعالى ، وبقلوب راضية بقضائه وقدره ، ولا يقولون إلا ما يرضيه عز وجل ، ويسألونه أن يتقبلهم عنده شهداء ، وهم يسترخصون أرواحهم  جهادا في سبيله ، ومن  أجل تخليص المسجد الأقصى من الأسر ، ومن دنس الصهاينة .

ولقد جعل الله تعالى في صبر عباده المؤمنين في فلسطين ، وتحديدا في قطاع غزة آية للمؤمنين في كل أرجاء المعمور، وجعلهم قدوة لهم ، منهم يتعلمون التأدب مع الخالق سبحانه وتعالى عند حلول الشدائد بصبرهم،وتجلدهم ، و تحملهم ، وثباتهم ، وقد تحقق فيهم قول الله تعالى : (( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ))  .

وعلى المؤمنين حيثما وجدوا  أن يحذروا الذين ينتقدون هؤلاء المرابطين في سبيل الله الذين هدى الله عز وجل قلوبهم  بإيمانهم ، وقد أفرغ عليهم صبرا ،وهم يعيبون عليهم جهادهم، وما يقدمونه من تضحيات في سبيله، ويعتبرون ذلك تهورا ، وهم بذلك يحاولون تثبيط  عزائمهم  لترك الجهاد ساعة النفير ، والرضى بالعيش تحت نير أشرس  محتلين  قد ذكر الله تعالى في محكم تنزيله أنهم أشد الناس عداوة  للذين آمنوا . ومن عبارات العار والشنار قول أحد السفهاء  للمجاهدين : " جاهدوا بالسنن " ، وهو يظن أنه بإرسال لحيته إلى سرته ، وحلق شاربه ، وتقصير عباءته ، قد أدى ما عليه، واللحظة لحظة نفير، لكنه رضي أن يكون من الخوالف ، بل لبس قناع النفاق متملقا حكام خذلوا أهل غزة إرضاء لعدوهم .

اللهم زد قلوب عبادك المجاهدين في فلسطين هداية ،وقوة إيمان ، واربط  اللهم عليها ، وأفرغ عليهم صبرا ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك ، واحفظهم من بين أيديهم ، ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ،  ومن تحتهم ،ولا تجعل اللهم للصهاينة وأعوانهم الظالمين عليهم سبيلا . اللهم لا تؤاخذنا بما يفوه به السفهاء في حق عبادك المؤمنين المرابطين المجاهدين  في سبيلك .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1066