دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 32

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

وفاة الخليفة أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه (32)

د. فوّاز القاسم / سوريا

بعد أن فرغ خالد رضي الله عنه من مطاردة فلول الروم في أجنادين ، أمر قواته بالتحرّك شمالاً إلى دمشق لمحاصرتها مرّة أخرى ، وسلك في مسيره الطريق الشرقية الخارجية ليبتعد عن الحاميات الرومية في الداخل ، وترك شرحبيل بن حسنة بأسفل الشام ، في منطقة الأردن ، ليحمي مؤخرة المسلمين ، ويمنع أي تعرّض لهم من خلفهم .

نزل خالد بجيشه الذي قدم معه من العراق شرق دمشق قبالة دير للنصارى ، الذي صار يُعرف فيما بعد بدير خالد ، ونزل أبو عبيدة على باب الجابية ، ونزل يزيد بن أبي سفيان على جانب آخر من دمشق ، ونزل عمرو بن العاص على بعض أبوابها وأحاطوا بها إحاطة السوار بالمعصم ، وهم يرجون فتحها...

وبينما هم على ذلك ، إذ جاءت الأخبار إلى خالد ، وكانت عيون مخابراته لا تغفل ، بأن الروم قد حشدوا له جيشاً في مرج الصُّفَّر إلى الجنوب من دمشق بحوالي أربعين كيلومتراً ، وكان ذلك في السابع عشر من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، فتحرّك إليهم خالدٌ على تعبئة كاملة ...

يقول الرواة عن خالد رضي الله عنه : ( وكان من أبصر الناس بالحرب ، مع وقار وسكينة وشفقة على المسلمين ، وحسن النظر لهم ، والتدبير لأمورهم ).

وانقضّ عليهم خالد بجيشه ، وأعملوا فيهم السيوف ، وكثر القتل في الروم ، وكانوا على شاطيء نهر عليه طاحونة ، حتى جرت الدماء في ماء النهر ، وطحنت بها الطاحونة (البلاذري 141 ).

وبعد أن هُزم جيش الروم شرّ هزيمة ، عاد خالد والمسلمون لمحاصرة دمشق والتضييق عليها ، ونزل كل جيش في مكانه السابق ...

وبينما هم على ذلك إذ قدم يرفأ مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بكتاب من المدينة المنوّرة ، ودفعه إلى أبي عبيدة بن الجرّاح ، ولم يعطه لخالد رضي الله عنهم جميعاً ، كان ذلك في السادس من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ...

كان يرفأ يحمل رسالة من عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة رضي الله عنهما ، يعلمه فيها بوفاة أبي بكر الصدّيق ، وتولية عمر الخلافة ، وعزل خالد بن الوليد ، وتولية أبي عبيدة لقيادة جيوش الشام .

ولكن أبا عبيدة لم يشأ أن يخبر خالد رضي الله عنهما بهذا الأمر لما كان يكنّه له من حبّ واحترام ، ولما في هذا الخبر من حرج عظيم لأبي عبيدة ، وسيف خالد يقطر من دماء الروم ، وهو يقود المسلمين من نصر إلى نصر ، وخرج يرفأ من المعسكر راجعاً إلى المدينة ، وأبو عبيدة ما زال يتحرج في إخبار خالد رضي الله عنهما .

ولكنه الفاروق عمر ، الذي لا تأخذه في الحق لومة لائم ، والذي كان يرى في سيف خالد رَهَقاً ، ولطالما ألحّ على أبي بكر بعزله ، ولكن أبا بكر رضوان الله عليه ، كان يأبى عليه ذلك ، ويقول لعمر : ( يا عمر ، ما كنت لأغمد سيفاً سلّه الله على الكفار)

فكتب عمر إلى أبي عبيدة ثانية : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى أبي عبيدة  عامر بن الجرّاح ، سلام عليك .

فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلّ وأسلّم على نبيّه محمد ، وبعد ...

فقد ولّيتك أمور المسلمين فلا تستحي ، فإن الله لا يستحي من الحق ، وإني أوصيك بتقوى الله الذي أخرجك من الكفر إلى الإيمان ، ومن الضلال إلى الهدى ، وقد استعملتك على جند خالد ، فاقبض جنده ، واعزله عن امارته ).

ولكن أمراً كهذا لم يكن ليبقى مكتوماً إلى الأبد ، فلقد كانت رسل عمر بن الخطاب تغدو وتروح على أبي عبيدة ، وأبو عبيدة كاتم للأمر ، محرج من إبلاغه ، حتى علم خالد بالأمر عن غير طريق أبي عبيدة ، فأقبل حتى دخل عليه ، فقال :

( يغفر الله لك يا أبا عبيدة ، أتاك كتاب أمير المؤمنين بالولاية ، فلم تعلمني ، وأنت تصلّي خلفي ، والسلطان سلطانُك .!؟)

فأجابه أبو عبيدة : ( وأنت يغفر الله لك يا أبا سليمان ، والله ما كنت لأعلمك ذلك حتى تعلمه من غيري ، وما كنت لأكسر عليك حربك حتى ينقضي ذلك كلّه ، ثم قد كنت أعلمُك إن شاء الله .

وما سلطان الدنيا أريد ، وما للدنيا أعمل ، وإنّ ما ترى سيصير إلى زوال وانقطاع ، وإنما نحن إخوان وقوّام بأمر الله عز وجل ، وما يضرُّ الرجل أن يلي عليه أخوه في دينه ولا دنياه ، بل يعلم الوالي أنه يكاد أن يكون أدناهما إلى الفتنة ، وأوقعهما في الخطيئة ، لما يعرض من الهلكة ، إلا من عصم الله عز وجل ، وقليل ما هم )

ثم دفع أبو عبيدة كتاب عمر إلى خالد ، كان ذلك في السادس والعشرين من رجب ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة ، أي أن أبا عبيدة كان قد أخفى إمارته ، وعزل خالد ، لأكثر من شهر ، وهو يصلّي خلفَه ، والولايةُ ولايتُه ( تُوفي أبو بكر رضي الله عنه في الحادي والعشرين من جمادى الآخرة ، للسنة الثالثة عشرة للهجرة )...

فلما قرأ خالد الكتاب قال : ( الحمد لله الذي قضى على أبي بكر بالموت ، وكان أحبّ إليّ من عمر ، والحمد لله الذي ولّى عمر ، وكان أبغض إليّ من أبي بكر ، ثم ألزمني حبّه )

سجّل يا تاريخ البشرية ... واحفظي يا ذاكرة الإنسانية ...!!!

سجّلوا هذا الألق ، وهذا الطهر ، وهذا السموّ ، وهذا الإعجاز ، الذي يعزّ على البشرية مجرّد تصوّره وتخيّله ، لولا أنه قد حدث فعلاً في واقع الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، في يوم من الأيام ...!!!

أيها العرب ... يا شباب سورية الثائر ... أيها المجاهدون الأبرار في الشام ...

هذا هو تاريخكم ، وهذا هو  ألق أجدادكم ...

تاريخ يشرّف السوريين ، وسيرة ترفع رأس العرب ، وألقٌ يبيّض وجوه المسلمين.

فهل نقتدي بهم ، ونسير على نهجهم ، ونجاهد جهادهم ...!؟

(( وقل اعملوا ، فسيرى اللهُ عملكم ورسولُه والمؤمنون )) صدق الله العظيم