حمص
البراء كحيل
حمص مدينةٌ لا تموت وعزيمةٌ لا تلين وقوّة لا تستكين , أنت في حمص فأخفض الرأس خجلاً وحياءً من أهلها فكائناً من كنت ومهما ارتفع مقامك وتنمق كلامك فأنت صغيرٌ أمام رجالها بل عفواً أنت صغيرٌ أمام أطفالها .. هناك الأطفال يُعلّمون الرجال معنى الرجولة وتُذكرك نساء حمص بخنساء وزينب وأسماء , فأمّا رجالها فحدّث ولا حرج رجالٌ لا كرجال هم أشبه بعليّ وجعفر وسعد وعثمان ..
مدينة يظنّ الظالم الباغي أنّه قتلها وأصابها في الصميم ثمّ لا تلبث أن تستيقظ من جديد لكي تكون الخنجر المسموم في صدر جبابرة هذا الزمان .. حار فيها وفي وصفها الكتّاب والشعراء والأدباء كيف لها أن تعيش بعد الموت ؟ وأن تحيا بعد الدمار؟ بل كيف لرجالها أن يدفنوا الخوف في مقابرهم ؟ حتّى أصبح الواحد منهم أمّةً وحده , هامةٌ عالية وهمّة عظيمة وقلبٌ جريءٌ شجاع وجسدٌ صابرٌ على الأذى والبلاء ..
شعبٌ لا يرضى الضيم شجاعً لا يستكين مقدامٌ لا يهاب الموت , مبدعٌ حتى في ثورته ولم ينس الفكاهة حتى في أشد لحظات الألم وفي أقسى أيام الحزن ..
شعبٌ كريمٌ لا يقبل المهانة ويطلب الكرامة حتى ولو قدّم في سبيلها الأرواح والأجساد والأموال .. قالوا: " إمّا حياةٌ كريمة تليق بالكرام أو موتٌ مشرّف يليق بالشرفاء" ...
وكأنّ السماء تمطر عليهم أملاً وحماسةً وتمدّهم بالشجاعة والصبر وكأنّها تُلهب عزيمتهم وترفع رايتهم وتؤازرهم بجندٍ من جندها ...
وكأنّ الأرض تُنبت لهم في قلوبهم عزّة وكرامةً وصبراً على الآلام وكأنّها تمدّهم بمسٍ سحريٍ رهيب يجعلهم مختلفين عن بقية الخلق ..
نعم هناك مدينة مختلفةٌ في كلّ شيء لا تنطبق عليها قوانين العالم ولا نواميس الخلق .. كلّ شيءٍ مختلفٌ هناك كأنّك في مدينة قد هبطت من السماء من جنّة عدن لا بحسنها وعظيم شأنها فحسب بل بشجاعتها وصبرها وندرة أهلها ..
كأنّ الله بارك تلك الأرض ولعلّه اطّلع على أهل حمص فقال: "اعملوا ما شئتم فإنّي قد غفرت لكم ", ولعلّ خالداً يفخر أنّه مسجّى هناك وأنّ هؤلاء العظام هم أحفاده وحُقّ لهذا الوالد البطل أن يفخر بأولئك الأبناء الشجعان فهذا الشبل من ذاك الأسد ..
مدينةٌ حار فيها فكري ووقف أمامها عقلي عاجزاً مشلولاً , هل هي من هذا الزمان ؟ هل أهلها من بني الإنسان ؟ أم إنّهم ملائكةٌ من السماء ؟ ما نوع تُربَتها ؟ هل هي من تراب الجنّة ؟ ما نوع الهواء الذي فيها ؟ هل هو عبيرٌ من الجنان ؟ ..
يا قومي إنّي أرى عجباً وأسمع غريباً كلّما رأيت أو سمعت أهل هذه المدينة , يجعلونك تحلّق عالياً بلا أجنحة في سماء الأمل , وتسبح عميقاً في بحار الصبر والثبات , إنّك تشاهد وتسمع مدينةً قادمة من بلاد العجائب كلّ ما فيها خارجٌ عن مدى تفكيرك ولا يخضع لقوانين عقلك ...
من بين الركام يخرجون .. يهتفون ينادون وللحريةِ الحمراءِ الأيديَ يضرجون .. والأبوابَ يقرعون .. كلّما مات منهم شهيد حثّهم للبعث من جديد .. كلمّا ذرفت منهم الدموع عادوا لينادوا لغير الله لا يكون الركوع ... كلمّا اشتدّ عليهم الألم ازداد عندهم الأمل .. وكلمّا اشتدّ عليهم الظلام آمنوا أنّ الفجر قادمٌ للأنام , ليبدد ظلم الظالمين ويقتل الظلام بخنجرٍ مكتوب عليه "صُنع في حمص" ..
كلمّا ظنَّ الظالم أنّهم قد ماتوا عادوا لكي يزدادوا ... يخرجون من كلّ مكان من تحت الأحجار والصوّان .. ينبتون من الأرض ويهبطون من السماء وكأنّ الأرواح التي تُـدفن تعود لكي تهبط من عليين وكأنّ الأجساد التي تُدفن تعود لكي تولد من باطن الأرض من جديد ...
كيف لمن ملك مثل عزيمتهم أن يستكين؟ وكيف لمن ملك مثل شجاعتهم أن يُهزم؟ وكيف لمن ذاق طعم الحرية مثلهم أن يعود للأسر من جديد ؟ أرواح شهدائهم من القبور تنادي بالحرية ...
كيف لكلّ طغاة الأرض وجبابرتها أن يقتلوا العزيمة في نفوس هؤلاء أو أن ينتصروا على أمثال هؤلاء العظام ... فاز أهل حمص وحسموا الأمر فهم اليوم خير الخلق ومدينتهم خير البلاد ...
أهل حمص هم الأنصار الذين يقدّمون الغالي والثمين للمهاجرين من الثوّار لا يبغون بذلك مجداً ولا عزاً ولا فخاراً , لا يبغون إلاّ الحرية للمهاجرين والأنصار ... فهل يكون المهاجرون لهم كما كان مهاجروا مكّة لأنصار المدينة .. يعرفون لهم فضلهم عليهم ويرفعون لهم شأنهم ويخضعون لرأيهم ولا ينسون لهم نصرهم ؟
تلك هي حمص مدينةٌ لا تموت وعاصمة الثورة السورية كما كانت مصراتة عاصمة الثورة الليبية وتعز عاصمة الثورة اليمنية هكذا هو قدر هؤلاء العظام يُسطّرون بدمائهم الزكية تاريخ الربيع العربي القادم ويجعلون مَنْ بعدهم من الأجيال يفخر أنّه ينتمي لهذه المدن ...
حمص لن ننساك ما حيينا ولن نهدر حقك ما بقي فينا رمقٌ من حياة.