تحليل طبي نفسي ونقد أدبي لقصص مجموعة "أوان الرحيل" للدكتور علي القاسمي (3)

clip_image002_e42b0.jpg

 

clip_image004_1be0b.jpg

(3)

"معجزة طعام .. وانهيار حضارة"

تحليل قصّة "جزيرة الرشاقة"

 

(ها هي إذن معجزة حضارتكم .. جعلتم الحُبَّ قضية اعتيادية)

                           ستندال في  "الأحمر والأسود"

في قصّة "جزيرة الرشاقة" يضعنا القاسمي أمام مسائل إبداعية شائكة كثيرة لعلّ في مقدّمتها ما يتعلّق بالدور الاجتماعي للأدب من جانب ، وما يتطلبه من الأديب من التزام تجاه قضايا مجتمعه بشكل خاص وهموم الإنسان في كل مكان بشكل عام من جانب ثانٍ مكمّل . فبعض اتجاهات المدارس النقديّة الحداثية وما بعدها ، تسعى وبحماسة ، لفصل النصّ و "منشئه" عن أيّة عوامل خارجية مهما كانت خصوصاً ما يتعلّق منها بالأحوال الاجتماعية والتاريخية التي تحيط بهذا "المُنشيء" . ولاحظ أنّ وصف "المنشىء" هو وصف حداثي جديد وضع ليحلّ بديلاً عن مصطلح "المؤلّف" الذي تعارفنا عليه ، والذي أعلنت بعض مدارس الحداثة النقديّة موته . ومن وجهة نظري أرى أنّ الموقفين – إعلان موت المؤلّف وفصل النصّ عن حاضنته الإجتماعية والتاريخية – هما موقفان متساوقان مع مدّ العولمة الكاسح الذي ستعيقه – ولو نسبيّاً – ايّ محاولة للتمسّك بهويّة النصوص أو الأشخاص في محاولة خلق عالم بلا حدود على الإطلاق . ما يخدم هذه الحركة العاتية هو "تغييب" المصادر والمؤلّفين ، وتوحيد الملامح وفق الأنموذج الغربي ، وضياع الأصول مثلما تضيع "أصول" و "مصادر" صنّاع "النص" العالمي السياسي والاجتماعي والتاريخي من خلال الشركات المتعددة الجنسيات العابرة للحدود والقارات . ويمكن النظر حتى لأطروحة "التناص – Intertextuality" – عندما لا تقف عند حدّ أو ضابط - ضمن هذا الإطار الفكري الممهّد والمتساوق مع طوفان يبغي اكتساح كل المحدّدات الشخصية والقومية . صار الحديث عن همّ قومي وإنساني من قبل الكُتّاب سُبّة وعلامة تخلّف وشُبهةَ تمسّكٍ بأفكارٍ ومواقف مُتحجّرة . وكل ذلك يصبّ في مصبّ رئيسي شعاره الإعلان عن "موت الإنسان" الذي وضع أسسه الفيلسوف "نيتشه"  ، وصعد به إلى ذراه المدوّخة المفكّر الفرنسي الشهير "ميشيل فوكو" الذي يعلن صراحةً :

(لا يوجد ذات إنسانية ثابتة في التاريخ ، ولا توجد حالة طبيعية إنسانية ، ولا يوجد شىء في الإنسان (حتى جسده) ثابت بما فيه الكفاية يصلح أساسا ليتعرف الإنسان على ذاته وليفهم الآخرين) ..

       يقول المفكِّر "نعوم تشومسكي" أن كلّ مساعدات الولايات المتحدة الاقتصادية الخارجية منذ عام 1966 وحتى اليوم تذهب إلى الأنظمة المعادية لحقوق الإنسان !  وكل المؤرخين يجمعون على أن الولايات المتحدة استخدمت القنبلتين الذريتين ضد اليابان بلا سبب ، واختارت مدينتين محاطتين بالسلاسل الجبلية لضمان عدم هدر حرارة القنبلة لتحقيق أكبر قدر من الشواء البشري . مئات ، بل آلاف الأدلة ، التي تثبت أن الولايات المتحدة – كأنموذج لجزيرة الرشاقة التي يتحدّث عنها علي القاسمي كما سنرى - هي الدولة الديمقراطية الأولى في الداخل ، والعدوانية الشيطانية الأولى في الخارج . قد يعترض بعض النقّاد والقراء "الحداثويين" بالقول أن هذا ليس نقداً "حداثوياً" ، فأستدعي هنا ما كنتُ قد استدعيته من قبل – ولأكثر من مرّة - من مداخلة للروائي العراقي الراحل "مهدي عيسى الصقر" – وقد عاش مصرّاً على التمسّك "الكلاسيكي" بقضايا الإنسان المسحوق ! - حين تحدث عن الروائي الفرنسي "ألن روب غرييه" وموجته في "الرواية الحديثة" حيث قال :

(فلو أخذنا الروائي الفرنسي (ألن روب غرييه) الذي يعده الكثيرون من أعمدة الرواية الحديثة المركزية ، فسنجده لا يهتم بالإنسان إلا قليلا في أعماله . القصة يجب أن تقف على قدميها بعيدا عن هذه الأمور حتى لو كانت بالطريقة التقليدية أو أي شكل آخر ، إذ يجب أن تشد القاريء ، وأن يكون فيها حس إنساني وإقناع بصرف النظر عمّا إذا كانت واقعية أو خيالية أو أسطورية . وبالنسبة لي أعتبر الحس الإنساني أهم من كلّ شيء ، على عكس جماعة "الرواية الحديثة" الذين لا يعنون فيه. إذ أن العملية قائمة عندهم على اللعب بالكلمات، والبناء كله كلمات . والمؤسف أن بعض الشباب بدأوا يكتبون بهذه الطريقة بعد أن سوّغها لهم بعض النقاد . فمثلا رواية " الغيرة " لألن روب غرييه ، يتحدث الكاتب فيها عن أشجار الموز وعددها وعدد صفوفها وحجمها وغيرها من الأمور ، بينما يمر على الأفارقة الجالسين مرور الكرام . وينطبق هذا الأمر على القصة أيضا ) (5).

إن الحضارة الغربية ، ومنذ بزوغ البنيوية ، وصيحة فوكو ، تبشّر بموت الإنسان . وعليه ، علينا جميعاً - كبشر مسحوقين مذلّين مهانين - أن نشدّ على يدي كل كاتب يواجه بعزم هذا المدّ ، وينتصر للإنسان في نصوصه ، ويسخّر منجزه الإبداعي لخدمته وللتعبير عن عذاباته وخيباته . فتحيّة مسبقة للمبدع "علي القاسمي" في انتصاره لمحنة إنسان بلاده المحطّم .

ولعلّ من أشدّ مخاوف المناصرين للالتزام إلحاحاً ، هو الخوف من سقوط الكاتب في مصيدة الشعارية على الطريقة "الجدانوفية" إذا جاز التعبير من ناحية ، وإضعاف الجانب الجمالي الذي هو روح الإبداع من ناحية ثانية . لكن علي القاسمي وفّر الناحيتين في نصّه هذا : "جزيرة الرشاقة" ، فقد تخيّل جزيرة للرشاقة لا يمكن للقارىء - وفق مرجعياته التأويلية التاريخية والحضارية والسياسية - إلّا أن يضعها رمزاً لحضارة متسيّدة في الزمن الذي يتكلّم عنه الراوي ، وهو هنا صوت ضمير المتكلّمين الـ "نا" :

(كنّا نحن الأطفال نسمّيها "جزيرة الرشاقة" . وكان بعضنا يتقعّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة" . أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث .

كنّا نسمّيها "جزيرة الرشاقة" لأن بناتها وأبناءها الذين راحوا يؤمّون بلدتنا الصغيرة ، كانوا على قدر مدهش من رشاقة القوام ، وأناقة الهندام ، والنشاط ، وخفّة الحركة . قاماتهم طويلة ، ولمعظمهم شَعر أشقر ، وعيون زرق أو خضر ، وملامح وسيمة ، ووجوه مُشرقة ، وابتساماتهم أخّاذة) (ص 245) .

وقد اتضحت ، الآن ، الأصول العرقية لهؤلاء الزائرين السيّاح ، وتكفي المتلقي العربي خصوصا ، والشرقي عموما ، هذه الإشارات السريعة إلى الشَّعْر الأشقر والعيون الزرق لكشف هويّة هؤلاء القادمين من "جزيرة الرشاقة" إلى بلدة فقيرة جرداء لا يوجد فيها أي مصدر للتسلية كما يقول الراوي ؛ فليس ثمّة دور للهو ، ولا مسارح ، ولا قاعات سينما ، ولا دور للقمار ، ولا منتجعات سياحية مزوّدة بملاعب رياضية أو مسابح أولمبيّة . لم يكن فيها ما يُغري هؤلاء السيّاح على القدوم إلى هذه البلدة ، فهي مجرّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد ، المبنيّة من الطين أو الآجر ، المسقّفة بسعف النخيل ، يتوسّطها مسجدٌ صغير ، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة . فما الذي كان يجذب هؤلاء السيّاح الذين كانوا يأتونها زرافات ووحدانا ؟ :

(كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا ، وتضمّ مدينة بابلية قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة ، لم يبق منها إلّا أطلال وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة . مجرّد شوارع مهجورة ، وقاعات بلا سقوف ، وأعمدة رخاميّة متصدّعة ، وجدران متهدّمة نُحتت عليها كائنات غريبة الأشكال ، بعضها برؤوس حيوانية واجسام آدميّة ، وبعضها الآخر برؤوس بشرية واجساد حيوانية مُجنّحة . وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفّنة بالتراب ، مسلّة حجريّة ، عليها كتابات مسمارية ونقوش وزخارف ، وكان في مدخل المدينة ، تمثال ضخم من حجر صلد لأسد مرعب المنظر ، يربض على صدر امرأة جميلة مستلقية على ظهرها) (ص 245 و246) .

وهنا تحين مقارنة جارحة ، لكنها مُنصفة ، بين "ورثة" هذه الحضارة العظيمة القديمة الذين يتعجبون من اهتمام السيّاح القادمين من جزيرة الرشاقة بهذه "الخرائب" التي لا تنفع ولا تضرّ كما يقول الراوي معبّراً عن نظرة جمعية مُجحفة لدى الورثة . السيّاح يأتون من الجزيرة البعيدة قاطعين آلاف الأميال ، ليتأمّلوا هذه الآثار والخرائب ، ويستكشفوا معانيها من كتبٍ يحملونها أو من شروح الأدلّاء الذين يرافقونهم ، في حين أن معلومات أهل المنطقة لا تزيد على ما تعلّموه في المدرسة الأوّلية الوحيدة في البلدة . أهل جزيرة الرشاقة يتأمّلون هذه الآثار باهتمام بالغ في حين يندهش أهل البلدة من هذا الإنشغال بخرائب لا تضرّ ولا تنفع . ولعلّ المعادلة الدقيقة والمؤلمة التي تصف علاقة أهل المنطقة بآثار حضارتهم القديمة قد لخّصها الراوي بالقول :

(خرائب لا تضرّ ولا تنفع تقبع في مكانها على مرمى حجر مِنّا منذ آلاف السنين ولا نعيرها بالاً ، أو بالأحرى نحن الذين نسكن بالقرب منها وهي لا تعيرنا اهتماماً) (ص 246) .

لقد أربك هؤلاء "الغرباء" - بالمعنى النفسي - القادمون من جزيرة الرشاقة حياة أهل المدينة الرتيبة البليدة . فهم الذين يأتون ولا يأتون ، ويغادرون ولا يغادرون ! ففي كل مرّة تتشكّل لهم "بقية" في النفس المنجرحة و "أثر" ، بقية وأثر تكشفان البون الشاسع والشُّقة الهائلة بين عالمين : عالم حديث يمثله أهل جزيرة الرشاقة ، وعالم قديم متخلّف يمثله أهل البلدة . العالم الأوّل بدأت أخباره المُذهلة تصل أهل البلدة ، قصص وروايات اقرب إلى الخيال منها إلى الواقع تفضح الواقع المُخزي ، الذي يعيشه أهل البلدة الذين يعتاشون على بقايا خرائب متربة وحكايات ماضِ مجيد ، لكنه احتضر ومات منذ آلاف السنين . في حين أنّ حاضر بلاد أولئك السيّاح مُشرق ويمثّل مجتمعاً فردوسيّاً لا تستطيع عقول أهل البلدة الصدئة استيعاب مظاهر حضارته ، مجتمع غني بالمصانع والمزارع .. أناسه يمتلكون الدور الجميلة والسيارات الفارهة التي تفتح بوّابات المرائب باضوائها ، ويسافرون بطائرات ضخمة أو ببواخر مجهّزة بمطاعم ومراقص ومسابح .. والحياة فيه تسيّرها وتيسّرها المخترعات العجيبة والمُكتشفات المُذهلة كالتلفزيون والإنسان الآلي والعقول الإلكترونية .. وغيرها الكثير الذي يتجدّد كل لحظة (ص 247) . وقد استغرب أهل البلدة لأن واحداً منهم قد سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة هناك ، بل استهجنوا ذلك ، ثم استكانوا حين علموا أنّه صار يبعث لأهله بالمال والهدايا ، فظهرت عليهم أمارات الثراء . ثم علموا أن هناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم يهاجرون إلى جزيرة الرشاقة .

ولأنّ سكّان البلدة الضامرة المتهرّئة قد تثبّتوا على درجة الحاجات الفسيولوجية الإشباعية الضرورية للبقاء من سلّم الحاجات وهي درجة واطئة جدا نتشارك فيها مع الحيوانات حسب "هرم ماسلو" (6) ، ولأنّهم عبارة عن أنابيب تصل بين المطبخ والمرحاض إذا ساغ الوصف حسب تعبير بعض الباحثين الإجتماعيين الحداثويين ، ولأنّ حتى هذه الحاجات الأولّية لا يتوفر إشباعها في بلدة المومياءات الحضارية إذا جاز التعبير ، فإنّ الموجّه الاساسي لعملياتهم العقليّة الإدراكية هي الدوافع النفسية والجسدية الأكثر إلحاحاً ، وهي المرتبطة بشروط بقائهم وفي مقدّمتها حاجات أمعائهم ! وهذا ما كشفه الراوي بلا تردد :

(ولكنّ الحكايات التي كان يسيل لها لعابنا ، وتأخذ أفواهنا بالتلمّظ عند سماعها ، كما يفعل الهرّ وهو يترصّد فأراً صغيراً ، هي حكايات الطعام والمطاعم في جزيرة الرشاقة . فقد بلغنا أن أسواقهم زاخرة بأصناف اللحوم والأسماك والطيور والحبوب والفواكه والخضار . وكلّها تُباع بأزهد الأثمان) (ص 247) .

إنّها أعجوبة جزيرة الرشاقة أو العالم الحديث هذا .. إنّها بالنسبة لأهالي البلدة المسحوقين معجزة "غذائية" .. المطاعم فيها مُنتشرة انتشار الفطر في البادية أيام الربيع ، وهي تتفنّن في إرضاء زبائنها بأحدث الخدمات التي توفّر عليهم بذل أيّ جهد من أجل التهام الوجبات اللذيذة ، وفي أي وقت فالمطاعم هناك مفتوحة أربعاً وعشرين ساعة يوميّاً .. وصارت الوجبات "متحرّكة" عبر استخدام الأواني النبيذة .. جزيرة الرشاقة بالنسبة لأهالي البلدة الذين يعيشون على النزر ويأكلون بأيديهم ، وتطبخ أمّهاتهم الطعام ولم يتعلّمن حتى في مدرسة ابتدائية ، هي "معجزة الطعام" حيث الوفرة في جميع أنواع الأغذية ، والطريقة المتطوّرة والآلية في تناول الطعام ، وحيث الكلّيات والدراسات الجامعية التي تعدّ الطهاة . هناك كتب تعلّم الطهي في حين لم يرَ جماعتنا غير الكتب المدرسية (ص 248) . عجائب جزيرة الرشاقة بالنسبة لأهالي البلدة تكمن في مخترعات فذّة لتسهيل تناول الطعام في أي وضع ، فحتى سائقو السيارات هناك ملاعق آلية تضع الطعام في أفواههم !! (ص 249) . 

وحتى الآن ، والقصّ يسير في مسار كلاسيكي ثقيل بلا حبكة أو مفاجآت بالنسبة للمتلقّي المعاصر . لكن من هنا سيبدأ مكر القاص بالتحرّك على المسار الأوّل المرتبط بالتزامه بهموم إنسانه المعذّب حين يجعل الرواي يقول :

(كنّا نكبر بمرور السنوات ، وتكبر معنا مداركنا . فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل ، ونحلّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورة أعمق ، ونفهم . واستمرّت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة . سمعنا أن حكومتها تلقي سنويّاً بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر ، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات ، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين) (ص 249) .

انتهى عهد الإنبهار السريع بالأجسام الممشوقة والشعور الشقر والعيون الزرق ، وصرعات الكتب والمجلات ، ووقفات تأمّل الخرائب والآثار الحضاريّة ، وجاء عهد النضج المتأمّل الذي ينظر إلى ما وراء الأستار السلوكية والممارسات الثقافية العامّة ، ليستكشف الدلائل المرتبطة بإنسانية الإنسان .

وقفة :

------

لا يستطيع أحدٌ منّا إنكار مروره بمرحلة "الانبهار" هذه بمعجزات جزيرة الرشاقة ؛ بعضنا ما زالوا يعيشون في غيبوبة مرحلة الانبهار تلك ، مسحورين بالمنجزات المادّية لتلك الجزيرة ، مغيّبين عن الانتباه إلى تلك الشروخ العميقة في أرواح سكّانها . لنقرأ هذا النصّ الدموي الوحشي :

(النصّ يتحدّث عن تطهير منطقة نيويورك من حثالة السكّان الأصليين (المقصود الهنود طبعاً) :

(لقد أتوا أفعالاً تليق بالرومان عندما قتلوا كل ذلك العدد من الناس النائمين (لاحظ : النائمين !) حيث انتُزع الرُضّع من على أثداء أمّهاتهم ومُزّقوا إرباً أمام ذويهم ، ورُمِيت أشلاؤهم في النار وفي النهر . أمّا الرُضّع الآخرون الذين كانوا مربوطين إلى مهودهم الخشبيّة الصغيرة فقد قُطّعوا بالسيوف وطُعِنوا وذُبِحوا بوحشية تحرّك قلب الحجر . وعندما رُمي بعضهم في النهر أحياء وحاول آباؤهم وأمّهاتهم إنقاذهم لم يسمح لهم الجنود بالعودة إلى اليابسة وجعلوا كلّاً من الآباء والأبناء يغرقون) (6)

هذا النص صدم المؤرّخ والمفكّر الأمريكي "نعوم تشومسكي" فهو من النصوص المقرّرة على طلبة الصف الرابع الابتدائي في ولاية بوسطن . يقول "تشومسكي" :

(لقد استيقظت ذكرياتي الخاصّة قبل أسابيع من انكشاف مجزرة "ماي لاي" عام 1969 ، وذلك في أثناء تصفّحي لأحد نصوص كتاب الصف الرابع الابتدائي الذي يتحدّث على استعماريي "نيوإنغلند" . كان الكتاب مقرّراً دراسيّاً في ضواحي "بوسطن" المعروفة بجودة مدارسها ، ويقرأ الأطفال سرداً معقول الدقّة لمذبحة "البيكوت" التي يمتدحها الكاتب كثيراً ) (7) .

عودة :

-------

هذا ما يحصل في قلب جزيرة الرشاقة والأناقة التي أبهر مظهر سيّاحها وسلوكهم السياحي لبّ أهالي البلدة المساكين أيّام كانوا في مرحلة الطفولة "العقليّة" التي تسحرها المظاهر الصارخة والالوان وقطع الحلوى التي كان يوزّعها هؤلاء الغرباء الرشيقون على أطفالها الذين كانوا يتجمّعون منسحرين بالزوّار الرشيقين الجميلين . لكنّهم يعيشون الآن مرحلة "نضج" عقلي معقول يساعدهم على التساؤل والتأمّل والغوص إلى ما تحت السطح البرّاق الظاهر . ولعلّ واحداً من العوامل الكبرى التي أسّست لهذا النضج العقلي الصحّي الموصل إلى الحقيقة العارية هو الأدب الملتزم شعراً وقصّة ورواية ، والفنّ الملتصق بهموم البشر المُستغلّين ، ناهيك عن الدور الجبّار لوسائل الإعلام المختلفة والأحزاب السياسية الثورية . كلّ هذه السبّل – وخصوصاً الأدب – أُغلقت الآن بوجه صوت المظلومين . بل بالعكس صارت وسائل تُستغل لخنق اصواتهم . وإلّا قُلْ لي بأيّ حقّ يطبّل النقّاد العرب – ناهيك عن مؤسسات النشر الغربية التي باعت من الرواية 40 مليون نسخة – لرواية صهيونية توراتية مسمومة من الصفحة الأولى حتى الأخيرة ، يعلن فيها مؤلّفها أنّ نجمة داود هي المرجع الأوّل لكل تجلّيات الحياة منذ فجر الخليقة حتى يومنا هذا .. حتى كارتون الليث الأبيض وتوم وجيري من منجزات الفكر التوراتي !! هذه الرواية هي رواية "شفرة دافنشي" التي انسحر بها نقّاد البلدة الحداثويون وصاروا يروّجون لمعجزتها بين أهاليها المساكين الذين وضعوا ثقتهم بهم ، فصاروا لعنة على عقولهم يساهمون في تضليلها وإعادة انسحارهم السلبي بنتاجات جزيرة الرشاقة ومنجزاتها حقّاً وباطلاً .

لكن مازالت هناك بقية من أقلام مبدعة عرفت سرّ الحكاية ، وتصرّ على كشفه وتوصيله ، كما هو ، لأهل بلدتها . أقلام يمكنك أن تثق بها . ومنها هذا القلم الذي مزّق غشاوة "سكرة" الانسحار وأمسك بعروة "فكرة" الاقتدار ، فصار يرى بعين ضميره اليقظ الراصد ما يجري حوله ، ويقارنه بما يسمعه ويراه عن سلوك أهل جزيرة الرشاقة . ففي الوقت الذي كان سكان تلك الجزيرة الحديثة يرمون بأطنان القمح والرز في البحر ، كان الناس في البلدات المتخلّفة – بلدات الخرائب الحضارية – يجوعون ويموتون بسبب التصحّر والفاقة ونقص الطعام . كل يوم يموت (1000) ألف طفل أفريقي بسبب الجوع :

(.. وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات ، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين . وكان التصحّر آنذاك يحاصر قريتنا ، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها ، فيحيلها هشيماً تذروه الرياح . ويجوع الفقراء ) (ص 249) .

ومع هذا المسار ينتهي الخوف من سقوط القاص في مصيدة المباشرة وجفاف نبع التوظيف الجمالي في النصّ ، وأن يتحوّل إلى حكاية شعارية أو مقالة حكائية . يبدأ الكاتب بمسارٍ موازٍ لمسار التزامه الذي بدأ يكشف فيه "المستور" من السلوك اللاإنساني لسكان جزيرة الرشاقة ، ويتمثل في لعبة خيالية (فنتازية - غرائبيّة) يحاول فيها رسم تصوّر لـ "عقاب" يصيب سكّان جزيرة الرشاقة السادرين في غيّ الإفراط في تناول الطعام وملذّاته الملحقة من شراب وحلوى . هذه اللعبة توفّر واحداً من أهم الشروط الحاسمة في تأسيس العلاقة بين النصّ وقارئه ، وهي "المتعة" . فكلّ نصّ – مهما كان جنسه ومهما كانت غاياته – ينبغي أن يُكتب أوّلاً لتوفير المتعة للقارىء حتى لو كانت ذات مسحة سادو – مازوخية . إذا أردنا تحليل السلوك الإستغلالي اللاإنساني لسكّان جزيرة الرشاقة ، هناك ألف محلّل يستطيعون تقديم صورة أدقّ مما يقدّمها أي قاص أو روائي على الصعد كافة ، صورة مُدعمة بالمعلومات العميقة والإحصائيات الدقيقة . لكن هؤلاء الألف مُحلّل لن يستطيعوا ملامسة القلب ، ولن يقدروا على تحريك خلجات الروح لدى المتلقّي . هذا سحرٌ يقوم به المبدعون . وعلي القاسمي يقوم هنا بـ "سحره" فيتصوّر أنّ سكّان جزيرة الرشاقة قد أوغلوا في إشباع غريزة الجوع النهمة التي جعلت أجسامهم الرشيقة الأخّاذة تترهّل وتتضخّم بدرجة كبيرة :

(وأخذنا نشاهد أثر الرفاهية والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا . فقد أخذت أجسامهم تزداد طولا وعرضا وضخامة وقوّة . لا بُدّ أنّهم يأكلون اللحم بكمّيات هائلة ، فتنمو عضلاتهم ، وتمتلىء كروشهم ، وتتضخّم اردافهم . وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسّع من مقاسات مقاعدها لتتّسع لهم . وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيين ، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم ، وترهّل صدورهم ، وتضخّم أطرافهم . ولم نعُد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة") (ص 249 و250) .

وهي فعلاً لعنة "سحريّة" يُحلّها الراوي على أولئك الرشيقين الذين صار انهمامهم بالأكل يتجاوز حدود حاجة الإشباع الضروري للبقاء ليدخل في دائرة السلوك "العصابي" إذا جاز القول ، فقد أصبحت حالة السمنة والترهّل الجسدي الجديدة مقزّزة - أوّلاً - مسخت تلك الرشاقة الساحرة التي كانوا يتمتعون بها والتي سحرت أذهان ونفوس أهالي البلدة . وقد بدأت – ثانياً - تعيق حياتهم العامة حيث صار لزاماً عليهم تغيير مقاسات كل الأشياء التي يستخدمونها في الجزيرة من أثاث ومقاعد وملابس ومبانٍ . كما صاروا – ثالثاً – غير قادرين على الذهاب إلى أعمالهم ، ولا على الحركة ، بسبب ثقل أجسامهم . ولكن على الرغم من كلّ مظاهر هذا الخراب الشامل الذي اصاب حياتهم لم ينقطع أهل الجزيرة عن تناول الطعام ليلاً ونهاراً مكتفين بالجلوس في بيوتهم التي صارت تضيق عليهم إلى حدّ أن الشرطة في الجزيرة تُضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهوراً في مسكنه وهو يأكل ويأكل . وحتى هذا الحل لإنقاذ "المُحاصَرين" كما صاروا يُسمّون – وشتّان بين هؤلاء المُحاصرين بسبب الشراهة ، ومَن حاصرهم أهالي الجزيرة من شعوب مسكينه حدّ تقتيلهم جوعاً ! – بات مستحيلا بعد أن تضاءل عدد افراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب (ص 250) .

لكن هذا السلوك يتسع ويشتد ويتصاعد مُنذراً حتى بتهديد حياة من صار محور حياتهم مثلما يهدّد طبيعة الحياة في جزيرتهم . صار الإنسان هناك "آلة" لالتهام الطعام . هذا الإنشغال الرهيب الذي قد يوصل إلى الفناء ، هو شكل من أشكال "الجنون السوي" وفق المصطلح المخفّف للمحلل النفسي الشهير "إريك فروم" حين وصف بدقّة انشغال إنسان جزيرة الأناقة ، أو المجتمع الحديث ، بسلوكيات ينسحب فيها من كل نشاط خارجي ، وينسى روابطه الإجتماعية ، لـ "يلتهمه" نشاطٌ واحد يُكسّر كل اهتماماته . أصبح كثير من أبناء الجزيرة يفضّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام (ص 250) ، وقد استشرف فروم هذه الحالة قبل خمسين عاماً حين وصف السلوك المستقبلي لإنسان الحداثة :

 (سيكون من دواعي دهشتي ألّا يقدَّم إنسان علم التحكم أحاديّ التفكير صورة لسير فصام الحد الأدنى المزمن ؛ الشيزوفرينيا – schizophrenia ، - باستخدام المصطلح من أجل التبسيط . فهو يعيش في جوّ لا يقل إلّا كمّياً عمّا يجري في الأُسر الفصامية ( المُحدثة للفصام ) .

وأعتقد أن من المعقول ان نتحدث عن " المجتمع غير السوي " ، ومشكلة ما يحدث للإنسان السوي في مثل هذا المجتمع . فإذا أنتج مجتمع من المجتمعات أكثرية تعاني من الفصام الشديد ، فإن ذلك سوف يضعضع وجوده . والشخص مكتمل الفصام يتصف بأنه قد قطع كل العلاقات بالعالم الخارجي ، إنه منسحب إلى عالمه الخاص ، وأهم سبب يجعله يُعدّ مريضا بشدة هو سبب اجتماعي ؛ فهو لا يؤدي وظيفته اجتماعياً ، ولا يستطيع أن يُعنى بنفسه كما ينبغي ، ويحتاج إلى مساعدة الآخرين بطريقة أو بأخرى .... والمجتمع ، إذا لم نتحدث عن مجتمع ضخم ومعقد ، لا يمكن أن يديره أشخاص فصاميون . ومع ذلك يمكن أن يديره على ما يُرام أشخاص يعانون من فصام الحدّ الأدنى ، وهم أشخاص قادرون تماماً على إدارة الأمور التي تُدار إذا كان المجتمع يؤدي وظيفته . وهؤلاء الناس لم يفقدوا القدرة على النظر إلى العالم " واقعياً " ، شريطة أن نعني بذلك تصوّر الأمور عقلياً كما هم بحاجة إلى أن يتصورهم الآخرون ليتعاملوا معهم عاطفيّاً . وقد لا يكونون قد فقدوا كليّاً قدرتهم على خبرة الأشياء شخصيا ، أي ذاتيا ، ومن قلوبهم . ويمكن للشخص مكتمل النمو أن يرى وردة ، مثلا ، ويَخْبرُها على أنها ناشرة للدفء أو ملتهبة ( وإذا صاغ هذه الخبرة في كلمات فقد ندعوه شاعراً ) ، ولكنه يعلم كذلك أن الوردة – في مجال الواقع الفيزيائي – لا تُدفىء كما تُدفىء النار . والإنسان الحديث لا يخبُر العالم إلّا من حيث غاياته العملية . ولكن نقصه ليس أقل من نقص مَن يسمّى الشخص المريض الذي لا يستطيع أن يخبُر العالم " موضوعياً " ، ولكنه احتفظ بالمقدرة الإنسانية الأخرى عن الخبرة الشخصية ، الذاتية ، الرمزية .

وأعتقد أن " سبينوزا " في كتابه " فلسفة الأخلاق " أول من عبّر عن مفهوم " الجنون الطبيعي " :

تستحوذ على الكثيرين من الناس العاطفة نفسها باتساق شديد . فتكون حواسّه كلّها شديدة التأثر بشيء إلى حدّ أنه يعتقد أن الشيء موجود ولو لم يكن موجودا . وإذا حدث هذا الأمر عندما يكون الشخص مستيقظاً ، يُعتقد أن الشخص مجنون . ولكن إذا لم يفكر الشخص الجشع إلّا في المال والممتلكات ، ولم يفكر الطامح إلا في الشهرة ، فلايعتقد المرء أنهما مجنونان ، ويكون لدى المرء احتقار لهما عموما . ولكن الجشع والطموح وما إلى ذلك ؛ هي بالفعل من أشكال الجنون ، على الرغم من أن المرء لا يعتقد في العادة أنه " مرض " .

ويغدو التحوّل من القرن السابع عشر إلى عصرنا واضحاً في أن الموقف الذي يقول سبينوزا إنه " يكون لدى المرء احتقار ... [ له ] عموماً ، لا يُعدّ اليوم محتقراً بل جديراً بالثناء .

وعلينا أن نتخذ خطوة أخرى ، إن " أمراض الحالة السويّة " نادراً ما تتدهور إلى الأشكال الخطيرة من المرض الذهني لأن المجتمع يُنتج الترياق المضاد لهذا التدهور . وعندما تُصبح السيرورات المرضية محتذاة اجتماعيا ، تفقد خصيصتها الفردية . بل على العكس ، فإن الفرد المريض يجد نفسه في بيته مع كل الأفراد الآخرين المُصابين بأمراض تشبه مرضه . والثقافة الكلية مرتصفة مع هذا النوع من الأحوال المرضية وتدبّر الوسائل لتقديم الإشباعات التي تلائم الأحوال المرضيّة . والنتيجة أن الفرد العادي لا يعيش تجربة الإنفصال والإنعزال التي يشعر بها الشخص الفصامي تماما . وهو يستأنس بالذين يقاسون من التشوّه ذاته ؛ وفي الواقع ، فإن الشخص السوي تماما هو الذي يشعر بالعزلة في المجتمع غير السوي – وقد يعاني كثيراً من العجز عن التواصل بحيث هو الذي قد يصبح ذهانيا) (8) .

لقد صمّم علي القاسمي شكلاً فريداً وغريباً من أشكال "نهاية الحضارات" ، وذلك حين يصبح الإنسان عبداً لغرائزه ، فقد كانت الجزيرة مكاناً للرشاقة والأناقة حين كان سكّانها يأتون قاطعين آلاف الأميال لرؤية بقايا ممّا أنجزه البشر القدماء على طريق الحضارة الطويل ، الذي يُعمَّد بالعرق والعناء والسهر وكدّ العقول والتضحية بجانب كبير من الغرائز أو "إسمائها وتصعيدها – Sublimation" .

لكن هذا التخييل عن "انهيار الحضارات" برغم كونه كناية عن عبوديّة الإنسان – وهي نتيجة تسير إليها الحضارة الغربيّة الماديّة حثيثاً - يحمل بدوره ملامح عصابيّة "نكوصيّة" ، وهو أمر متوقّع كجزء من أواليات التفكير المبدع الذي – وفق آراء معلّم فيينا – يحمل الكثير من مظاهر التفكير العصابي الإشباعي السحري والنكوصي والتعويضي ... إلخ . ويعكس الإخراج الذي وضعه القاص لمسار وقائع حلّ حبكته والمفردات الوصفيّة المُستخدمة (الجاموس .. الجرب في البدن .. وغيرها) شحنة عالية من العدوان الذي انفلت بعد أن كان مُحتبساً . هذا العدوان يهمّه في بعض الأحوال أن تعمّ المصيبة كي تهون كما تقول الحكمة الجمعية الباهرة ، فيساوي الراوي ، في تخييله ، بين مصير جزيرة الرشاقة الخرابي المُقبل ، ومصير بلدته الترابي الطللي القائم ، عائداً بشحنة العدوان ، أو بجزء منها ، إلى الذات التي ستستقبله بتشفٍّ مازوخي أقل وطأة :

(.. انخفض الإقبال على العمل واضطر كثيرٌ من المؤسسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج ... وبعضها أوصد أبوابه . ولم تجد المنازل من يرمّمها ، ولا الآلات المعطوبة من يُصلحها ... وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري الجرب في البدن ، حتى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابلية القابعة بالقرب من بلدتنا ) (ص 251) .

ذيل من التداعيات :

------------------

لا تكمن أهمية النص القصصي في ما يتعاطى معه الناقد من أفكار ووقائع وسلوكيات شخصيات يعرضها الكاتب بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، ولكن – وهذا ما لا يقل أهمية وقد يفوقه في بعض الحالات – في ما يثيره من تداعيات في ذهن الناقد ، وحتى المتلقي ؛ تداعيات قد تبدو بعيدة عن ساحة النص ولكنها ترتبط به بوشائج تحليلية مستترة . فأمام هذه القصّة قد تثور في الذهن تساؤلات جوهريّة عن حال هذه البلدة البائسة التي يسبت ابناؤها كالمومياءات بجوار أطلال حضاراتهم القديمة العظيمة .. يأكلون ويشربون وينامون .. ألا نقف أمام انحطاط "عصابي" من نمط آخر يلتقي في النتائج مع سلوك أبناء جزيرة الرشاقة ؟ ألم يرسم ابناء البلدة – بكسلهم الحضاري ولا إكتراثهم - مصيرهم الخرابي قبل أن تنحطّ حضارة أبناء الجزيرة ؟ ألم يصل هذا الإنحطاط العصابي بالراوي وأبناء البلدة حدّ أن يتصوّروا ، أو يتمنّوا - لا فرق – أن يلتقي المصير الأسود النهائي لجزيرة الرشاقة والأناقة بالمصير الراهن التعيس لبلدتهم .. بلدة الفاقة والإعاقة ؟ (ومن مصادفات اللغة العربية العظيمة هي أنّ الإبل إذا تعست صار لونها أبيضَ تخالطه شُقرة !) . إنّ من يتأمّل حال أبناء بلدتنا بعين محايدة وبروح موضوعية ، يمكنه أن يؤشّر جنوناً سويّاً راهناً مقابلاً للجنون السويّ لأبناء جزيرة الأناقة ، لكنه الآن الجنون السويّ لأبناء صحراء بلدة نفط جديدة . يقول الروائي الراحل "عبد الرحمن منيف" :

(إن الوفرة المالية المتاحة لعدد كبير نسبيا، والتي حصلت دون مشقة، جعلت الكثيرين ينظرون إلى المال بخفّة ودون مسؤولية، ولجأوا إلى تبديده بإسراف مبالغ فيه . فإذا كان عمر السيارة مثلا ، ووسطياً ، خمس سنوات ﻓﻲ اﻟﻤﺠتمعات الصناعية ، فإن عمرها قلما يتعدى السنة بالنسبة لكثيرين ﻓﻲ الجزيرة والخليج . ليس ذلك فقط ، فإن من مظاهر الإرتقاء ﻓﻲ السلم الاجتماعي : عدد السيارات المملوكة ، ونوعها، وسنة الصنع. ولعل من التعبيرات التي لا يوجد ما يماثلها ﻓﻲ أي مكان ﻓﻲ العالم التعبير المتعلق بشراء السيارات، إذ كثيرا ما يطلب المشتري " حبّتين " أو " ثلاث حبّات " من السيارة المرغوبة. هذا ﻓﻲ الوقت الذي لا تموت فيه السيارة مطلقا ﻓﻲ بعض الأماكن ، كسورية مثلا، حيث تتجدد مرة بعد أخرى نتيجة الحاجة والنظرة الاقتصادية. وينطبق الأمر ذاته على السلع الصناعية الأخرى ، إذ توجد ﻓﻲ أكثر البيوت أعداد تفيض عن الحاجة أو عن المعقول من هذه السلع كالفيديو مثلا. وينشأ عن ذلك ثقافة وعادات من نمط معين كتبدّل مواعيد النوم واليقظة، وبالتالي مواعيد العمل للرجال ، وعلاقة الأم بأولادها، إذ كثيرا ما يُترك الأطفال للمربيات والخدم، ولأنواع من الثقافة والمعرفة لا تتناسب وأعمارهم. أما الأغذية التي يتم تناولها ﻓﻲ عدد كبير من البيوت ، من حيث الكمية والنوعية والمواعيد ، فإنها لا تتلاءم مع الطقس ، أو تلبية الحاجات الفعلية للإنسان ، وقد انعكس ذلك بوضوح على الصحة وعلى الهيئة، خاصة وأن القليلين يمارسون الرياضة . ولعل من مظاهر الإسراف والهوس بالاقتناء أن مجموعة كبيرة من السلع الثمينة الغالية السعر تصنّع خصيصا للدول النفطية ، كالساعات واﻟﻤﺠوهرات، وتجد هذه السلع أعدادا متزايدة من المشترين، خاصة إذا أُحسن توصيلها والدعاية لها . أكثر من ذلك: تعترف شركات صناعة العطور الأوربية ، الفرنسية تحديدا، أن سوق الخليج أحد أهم الأسواق لمنتجاتها ، خاصة العطور التي يستعملها الرجال ، والتي تفوق ما تستهلكه النساء ) (9)

القصّة التي تم تحليلها :

جزيرة الرشاقة

                                                                           

        كنّا نحن الأطفال نسمّيها "جزيرة الرشاقة". وكان بعضنا يتقعَّر في كلامه فينعتها بـ "جزيرة الرشاقة والأناقة". أمّا الكبار فكانوا يلقّبونها بالعالم الحديث.

        كنا نسمّيها "جزيرة  الرشاقة" لأنّ بناتها وأبناءها الذين راحوا يؤمّون بلدتنا الصغيرة، كانوا على قدرٍ مدهشٍ من رشاقة القوام، وأناقة الهندام، والنشاط، وخفّة الحركة. قاماتهم طويلة، ولمعظمهم شَعرٌ أشقر، وعيونٌ زرق أو خضر، وملامحُ وسيمة، ووجوهٌ مشرقة، وابتساماتهم أخّاذة.

        كانوا يفدون إلى بلدتنا سُيّاحًا من نوعٍ خاصّ، فلم يكُن فيها ما يسلّيهم. فليس ثمّة دور للهو، ولا مسارح، ولا قاعات للسينما، ولا دور للقمار، ولا منتجعات سياحيّة مزوَّدة بملاعب رياضيّة أو مسابح أولمبيّة، ولا أسواق عامرة بأصناف البضائع اليسيرة الأثمان. لم يكن في بلدتنا ما يغريهم بالقدوم إليها. فهي مجرَّد مجموعة من الدور البائسة ذات الطابق الواحد، المبنيَّة من الطين أو الآجر، المسقَّفة بالجَرِيّد (سعف النخيل)، يتوسّطها مسجدٌ صغيرٌ، وبنايتان متواضعتان لرجال السلطة. ومع ذلك كانوا يأتون إلينا باستمرار جماعاتٍ ووحدانًا.

        كان مركز الجذب الوحيد لهم تلالٌ تقع بالقرب من بلدتنا، وتضمُّ مدينة بابليّة قديمة يعود تاريخها إلى أكثر من أربعة آلاف سنة، لم يبقَ منها إلا أطلالٌ وخرائب. إنّها بالأحرى آثار مدينة مندثرة. مجرَّد شوارعٍ مهجورة، وقاعاتٍ بلا سقوف، وأعمدةٍ رخاميّةٍ متصدِّعة، وجدرانٍ متهدِّمةٍ نُحتت عليها كائناتٌ غريبةُ الأشكال، بعضها برؤوسٍ حيوانيّةٍ وأجسامٍ آدميّة، وبعضها الآخر برؤوسٍ بشريّةٍ وأجسادٍ حيوانيّةٍ مُجنَّحة. وكانت ترتفع في أحد ميادين المدينة المُكفَّنة بالترابِ، مَسلَّةٌ حجريّةٌ، عليها كتاباتٌ مسماريّةٌ ونقوشٌ وزخارف. وكان في مدخل المدينة، تمثالٌ ضخمٌ من حجرٍ صلدٍ لأسدٍ مرعبِ المنظر، يربض على صدرِ امرأةٍ جميلةٍ مستلقيةٍ على ظهرها.

        كان أولئك السيّاح الشقر يطوفون في أرجاء تلك الأطلال، يتملّون جنباتها، وهم يسترقون النظر إلى كُتب يحملونها بأيديهم، أو يستمعون إلى دليلٍ يرافقهم ويزوِّدهم بالشروح. وكنّا نحن الأطفال نعجب لهذا الاهتمام الذي يبديه أولئك السيّاح بخرائبَ لا تنفع ولا تضرّ، وهي تقبع في مكانها على مرمى حجرٍ مِنّا منذ آلاف السنين ولا نعيرها بالاً، أَو بالأحرى نحن الذين نسكن بالقرب منها وهي لا تعيرنا اهتمامًا. كلُّ ما تعلّمناه عنها في المدرسة الأوليّة الوحيدة في البلدة، أنّها بقايا حضارةٍ قديمةٍ عظيمةٍ، قامت وسادت، ثمَّ انهارت واندثرت، ولم يبقَ منها إلا تلك الخرائب.

        كان بعض أولئك السيّاح ذوي الأجسام الرشيقة والوجوه المشرقة، يبتسمون لنا نحن الأطفال عندما نتجمّع حولهم ونحملق فيهم، ويقولون لنا كلامًا بِلغتهم لا نفهمه، فنحسبه تحيَّة مودَّة، خاصَّةً أن بعضهم كان يشفع ما يقول، بقطعة حلوى يعطينا إياها. وكان عددٌٌ من شباب البلدة الذين يجيدون لغة السياح، يقتربون منهم ويتبادلون الحديث معهم ويرافقونهم أحياناً إلى الفندق الذي ينزلون فيه لليلة أو ليلتين على الأكثر، وهو بناية من طابقين تطل على الخرائب.

        وتسرَّبتْ إلينا، عن طريق أولئك الشبان، أخبارٌ استقوها من محادثاتهم مع السيّاح ومن الصحف والمجلات التي يرمون بها بعد الانتهاء من مطالعتها، فيتلقّفها الشبان. أخذنا نسمع قصصًا ورواياتٍ أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع الذي نعرفه، قصصًا مضخَّمةً فيها كثير من المبالغة والتهويل عن حياة أولئك السيّاح، ورفاهية بلادهم، فتأسر أسماعنا وتبهر عيوننا، ونبني منها قصورًا في مخيلتنا، تخلو منها بلدتنا ذات البيوت المتراصة المتواضعة.

        سمعنا أنّ بلادهم غنيّة عامرة بالمصانع المُنتِجة والمزارع المُثمِرة، وأنّ الناس هناك يمتلكون الدور الجميلة والسيّارات الفارهة التي تفتح بوابات المرائب بأضوائها، وأنّهم يأتون إلى بلادنا بالطائرات التي لم نرَها نحن إلا مُحلِّقة في السماء، أو بالبواخر الفخمة. وكلّ باخرةٍ تضمُّ مطاعمَ راقية، وملاعب، ومسابح، ومراقص ليليّة يُمضي فيها الركاب سهراتهم، راقصين على أنغام الموسيقى التي تعزفها فرق موسيقيّة، حتّى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل، ثمَّ يأوون إلى مقصوراتهم المجهَّزة بأَسِرّةٍ مريحةٍ، وفرشٍ وثيرةٍ، وحماماتٍ نظيفة.

        وعلمنا ذات يوم أنّ أحد أبناء البلدة سافر إلى جزيرة الرشاقة للدراسة في إحدى جامعاتها الراقية. وتهامس بعضنا باستنكار:" إنّه قرر الإقامة هناك ولن يعود!" وتساءل بعضنا الآخر: " وكيف يرضى أهله بذلك ؟!" وجاء الجواب: " إنّه يبعث إليهم بالمال والهدايا، وقد ظهرت عليهم أمارات الثراء." وقيل لنا إنّه ليس الوحيد الذي يهاجر إلى جزيرة الرشاقة، فهناك مثله الآلاف من جميع أنحاء العالم، ومنهم مَن يواتيه الحظّ، فيصبح من أصحاب الملايين.

        وأغرقت القصص، التي كنّا نسمعها عن جزيرة الرشاقة، في الخيال عندما أخذت تتناول أخبار المخترعات والمكتشفات المذهلة، مخترعات لم نسمع بها من قبل: تلفزيون يأتيك بصور الناس وأخبارهم من أماكنَ نائيةٍ، كما كان يفعل جنُّ سليمان، وإنسانٌ آليٌّ يحلُّ محلَ العمّال في المهمّات الشاقَّة، ومركباتٌ فضائيّةٌ تسبح في الكون كالكواكب قاصدة القمر والمريخ، وعقولٌ إلكترونيَّةٌ تأتي بالعَجب العُجاب.

        ولكنّ الحكايات التي كان يسيل لها لعابنا، وتأخذ أفواهنا بالتلمُّظ عند سماعها، كما يفعل الهرّ وهو يترصّد فأرًا صغيرًا من بعيد، هي حكايات الطعام والمطاعم في جزيرة الرشاقة. فقد بلغَنا أنّ أسواقهم زاخرةٌ بأصنافِ اللحوم والأسماك والطيور والحبوب والفواكه والخضار. وكلُّها تباع بأزهد الأثمان.

وأعجب ما في جزيرة الرشاقة مطاعمها الفاخرة الكثيرة، المنتشرة انتشار الفُطْر في البادية أيام الربيع. فبينَ كلّ مطعمٍ ومطعمٍ مطعمٌ. وتفنَّنت المطاعم في إرضاء زبائنها وتلبية رغباتهم بأسرع ما يمكن دون طويل انتظار. فعندما تلج بعضها وتجلس إلى الطاولة التي تختارها، تجد عليها قائمة الأطباق وأمام اسم كلّ طبق زِرٌ، فتضغط على أزرارِ الأطباق التي ترغب فيها، فتُضاءُ إشارةٌ في المطبخ تحمل رقم طاولتكَ وأرقام الأطباق المطلوبة، فيجلبها النادل إليكَ فورًا.

واتّبعت مطاعمٌ أُخرى طريقةً مختلفةً؛ فعندما تلجها، تجد مائدةً عامرةً بأصناف الطعام وألوان المآكل، فتختار منها ما تشاء وتملأ صحنك بنفسك، ثمَّ تعود وتملأه ثانية وثالثة، وتأكل كلَّ ما تشتهي نفسك حتّى تشبع، دون أن يزيد ثمن الوجبة المحدَّد سلفًا. وعندما تجلس إلى إحدى الطاولات، وتضع صحنك العامر بالطعام أمامك، يسرع إليك النادل بكأسٍ من الشراب الذي تفضّله، وقبل أن تشربه كلَّه يملأُه النادل مرّة ثانية وثالثة ورابعة، دون أن تدفع ثمنًا إضافيًّا لما تشرب. وتختم وجبتكَ بأصناف المثلَّجات اللذيذة وأنواع الحلويات الشهيّة التي تنتقيها بنفسك من عربةٍ متحرِّكة يجلبها النادل إلى طاولتك.

         وضحكنا كثيرًا عندما قال أحدنا:

ـ " والطهاة والندل والسقاة هناك يتخرَّجون في الجامعات."

وسأل أحدنا ساخرًا :

ـ " أتصدّق أن الطهي يحتاج إلى دراسات جامعية؟! دكتوراه في الثريد مثلاً!"

وأيّده ثالث قائلاً :

ـ " أمهاتنا يطبخن ولم يتعلَّمن حتّى في مدرسة ابتدائية."

واعترض آخر قائلاً :

ـ" ولكن أخبرني أخي الكبير بوجود كُتُب متخصِّصة بإعداد الأطباق المختلفة."

وحتّى ذلك الحين لم نكُن رأينا في بلدتنا من الكُتُب إلا كُتُب القراءة والحساب المدرسيّة.

        ويبدو أن أهالي جزيرة الرشاقة اكتسبوا ولعًا خاصًّا بالأكل، لوفرته وجودته ومذاقه اللذيذ؛ فكثر الإقبال على المطاعم، حتّى صارت تفتح أبوابها أربعًا وعشرين ساعة يوميًّا، وهي تقدِّم لك ما تشتهي نفسك من وجبات دون التقيّد بأوقاتٍ معيَّنة. فتستطيع أن تطلب من النادل أن يأتيك بوجبة عشاءٍ غنيّة باللحم في أوّل الصباح، وتطلب وجبة الفطور في المساء، وتجمع بين وجبتين وقت الغداء، فأنتَ حرٌّ في اختياراتك. وجزيرة الرشاقة هي جزيرة الحرِّيَّة كذلك. وكلُّ واحدٍ حرٌّ في أن يأكل ما يشاء، ومتى ما يشاء، وحيث ما يشاء، وكيف ما يشاء. يتناول طعامه واقفًا، أو جالسًا، أو ماشيًا؛ في المطعم، أو المنزل، أو المدرسة أو المعمل.

        والمطاعم في جزيرة الرشاقة مجهَّزة بما يلزم لتلبية رغباتك. فقد ابتكروا صينيّات من الورق المقوّى يُحمَل فيها الطعام، وأواني وملاعق وشوكات بلاستيكيّة تُرمى بعد استعمالها مَرَّةً واحدةً، وأكوابًا مُغلقةً تخترق أغطيتها أنابيب ورقية تمتص بها دون أن يندلق السائل منها وأنت تشرب وتسوق سيّارتكَ في الوقت نفسه. وكان يصعب علينا تصوُّر جميع تلك الأدوات لأنّنا كنّا نأكل بأيدينا.

وأخذت مصانع السيّارات تستجيب لاحتياجات أهل الجزيرة الغذائيّة، فرُكِّبتْ أدواتٌ إضافيّةٌ في السيّارة أمام السائق، حواملُ معدنيّةٌ تُثبَّتْ فيها أكواب الشراب وصحون الطعام، وهكذا لا ينقطع صاحب السيّارة عن الأكل والشراب وهو يقود سيّارته. وتنافست شركات السيّارات في إرضاء أذواق الآكلين، فوضع بعضها ملعقةً آليَّةً أمام السائق تحمل الطعام له من الإناء إلى فمه دون أن يلوي عنقه أو يستعمل يده.

        أمّا الذين يفضّلون البقاء في منازلهم لمشاهدة برامج التلفزيون أو مزاولة ألعاب الحاسوب، ولا يرغبون في تكليف أنفسهم مشقَّة الذهاب إلى المطعم، فما عليهم إلا مهاتفة مطعمهم المفضَّل، فتصلهم أكلاتُهم إلى منازلهم خلال دقائق معدودات. فالأطباقُ مُعدَّة سلفًا في مطبخ المطعم، وتسخينها بالمايكرويف لا يتطلَّب إلا بضع ثوان، ونقلُها من فرع المطبخ الأقرب إلى دارِكَ على دراجةٍ بخاريّةٍ فائقةِ السرعة، والطَّعام مُدثَّر بلحافٍ خاصٍّ يحفظ حرارته، لا يستغرق أكثر من دقائق. وسيوضع الطعام إلى جانبك لتتناوله، وأنت تستمتع بمشاهدة برنامجك التلفزيونيّ المفضَّل، ممدّدًا على كرسيّك الطويل المريح.

        كنا نكبر بمرور السنوات، وتكبر معنا مداركنا. فصرنا نستوعب ما نسمع بصورة أفضل، ونحلِّل ما نرى من مظاهر وأحداث بصورةٍ أعمق، ونفهم. واستمرت الأخبار تصلنا عن وفرة الإنتاج وكثرة الطعام في جزيرة الرشاقة. سمعنا أنّ حكومتها تلقي سنويًّا بآلاف الأطنان من القمح والرز في البحر، وترمي آلاف القناطير من الزبدة والحليب في البحيرات، لتحافظ على ارتفاع الأسعار وأرباح المزارعين. وكان التصحُّر آنذاك يحاصر قريتنا، والجفاف يمتصّ النسغ من جذور نباتاتنا وأغصانها، فيحيلها هشيمًا تذروه الرياح. ويجوع الفقراء.

        وأخذنا نشاهد أثر الرفاهيّة والترف على أهالي جزيرة الرشاقة الذين يفدون إلى بلدتنا. فقد أخذت أجسامهم تزداد طولاً وعرضًا وضخامةً وقوة. لا بُدَّ أنّهم يأكلون اللحم بكمياتٍ هائلةٍ، فتنمو عضلاتهم، وتمتلئ كروشهم، وتتضخّم أردافهم. وراحت حافلاتهم التي تقلّهم إلى بلدتنا توسِّع من مقاسات مقاعدها لتتَّسع لهم. وصرنا نراهم وقد أمسوا أقرب إلى الجاموس منهم إلى الأشخاص الطبيعيِّين، بسبب انتفاخ وجوههم وبطونهم، وترهُّل صدورهم، وتضخُّم أطرافهم. ولم نعد نسمّي جزيرتهم "جزيرة الرشاقة".

وبتضخّم أحجام الناس طولاً وعرضًا وثخنًا، تغيَّرتْ مقاسات الأشياء في الجزيرة. فأصبحت شركات الأثاث تصنع أسِرّةً أكبر حجمًا وأصلب عودًا، ومقاعدَ أوسع وأقدر على الاحتمال. وبعد أن كانت في الجزيرة بضعة محلات متخصِّصة بالملابس الكبيرة الأحجام، أصبحت هذه المحلات هي المعتادة. وأخذ البناءون يوسِّعون الأبواب ومساحات الغرف والممرّات والأدراج في العمارات.

وتضاءل وصول السيّاح من الجزيرة إلى بلدتنا. وسمعنا أنهم صاروا أبطأ حركة، وأعسر تنقلاً، بسبب ثقل أجسامهم، وأنهم صاروا يفضِّلون البقاء في منازلهم وتناول أكلاتهم الشهيّة. ولعلّهم لا يجدون ما يكفيهم من الطعام إذا خرجوا من جزيرتهم. بل أكثر من ذلك، تناهى إلى أسماعنا أنّ كثيرًا من أبناء الجزيرة يفضِّلون عدم الذهاب إلى العمل من أجل البقاء في بيوتهم ومواصلة التهام الطعام، قانعين بما يحصلون عليه من راتب الضمان الاجتماعيّ الجيِّد المخصَّص للعاطلين عن العمل. لقد أدمنوا على تناول الطعام حتّى صارت عادة الأكل جزءًا من طبيعتهم.

وأخذنا نسمع أخبارًا يصعب تصديقها. سمعنا، مثلاً، أنّ الشرطة في الجزيرة تضطر بين آونة وأخرى إلى خلع باب إحدى الغرف وتوسيعه أو إزالة السقف، لمساعدة رجل تعذّر عليه الخروج من الباب بعد أن أمضى شهورًا في مسكنه وهو يأكل ويأكل. وتواترت الأخبار عن مثل هذه الحالات حتّى أصبح الأمر لا يثير أيّة غرابة في الجزيرة. ولم تتوقّف نجدة المحاصرين (وهو المصطلح الذي أُطلق على الذين لا يستطيعون الخروج من مساكنهم من فرط السمنة) إلا بعد أن تضاءل عدد أفراد الشرطة الذين يمكنهم الدخول من الأبواب.

وتكاثر غياب العمّال عن مصانعهم، وازداد تغيُّب الموظفين عن مكاتبهم، ولجأت الإدارات إلى تمديد فترة تناول وجبة الغداء إلى ساعتيْن وثلاث ساعات بدلاً من الساعة الوحيدة المقرَّرة سابقًا، ترغيبًا للناس في العمل. واتّخذت معظم الشركات إجراءات تشجيعيّة متنوِّعة مثل زيادة فترات تناول القهوة أثناء العمل، فكلّ ساعة عمل تعقبها ساعة استراحة لتناول القهوة. ولم تعُد كلمة القهوة في الجزيرة تعني ذلك السائل المعروف، وإنّما جميع ما يرافقه من حلويات ومعجَّنات ومكسّرات ومقليّات ومشويّات، إلخ. وأصبح العمّال يأكلون ويأكلون ولا يعملون.

وبالرغم من جميع تلك المُغريات انخفض الإقبال على العمل، واضطر كثير من المؤسَّسات والمصانع إلى تقليل الإنتاج، وبعضها أغلق عددًا من الأقسام أو أوقف طائفةً من الخدمات، وبعضها الآخر أوصد أبوابه. ولم تجِد المنازل، التي هي في حاجة إلى ترميم، مَن يرمَّمها، ولا الآلاتُ المعطوبة مَن يُصلِحها. وتوقَّفتْ آلاف السيّارات عن السير في الشوارع، لأنّ أبوابها الضيقة لا تسمح بدخول أبناء الجزيرة فيها. وسرى الخراب في جميع أنحاء الجزيرة كما يسري الجرب في البدن، حتّى تصوّرنا أنها ستمسي بمرور الزمن شبيهة بأطلال تلك المدينة البابليّة القابعة بالقرب من بلدتنا.

إفضاء ما قبل القراءة..

clip_image001_cbc10.jpg

عندما تعرّفت على الروائي محمّد بن زخروفة في ملتقى الإتحاف الأدبي؛ شعرت بدافع كبير يؤزّني للكتابة عنه وعن إبداعه الروائي ، ولذلك أصررت أن أحصل على إحدى روايتَيه ( رحلة الشفاء ) أو ( زارة الحبّ المقدّس ) ، وكان قلبي يميل إلى الأولى لما أثارته من ضجّة كبيرة في السّاحة الأدبيّة ، وفي الوسط الثقاي ، ولكنّ محمّد بن زخروفة اختار أن يدسّ بين يديّ ( زارة الحبّ المقدّس ) ..

وضعتُ الرواية في محفظتي وبرمجت قراءتها في ذهني متى ما وجدت فرصة من وقت ، ووجدت رغبة عارمة تحدوني للكتابة عنها ، لا أجد لها تفسيرا إلا أنّني ارتحت للمؤلّف وشعرت برابطة نسب فكري ما بيني وبينه ، وكنت أقول في نفسي: أرجو أن لا يَخيبَ أملي في الرواية والرّوائي..

العنوان الخاطف:

براعة المؤلّف تظهر في حسن صياغة العنوان الذي ينجح من خلاله في كسب انجذاب القارئ، وإغرائه بكتابه ويجعله يشعر بفضول كبير لمعرفة ما وراءه ، وذلك ما حدث لي بالضّبط وأن أقلّب مدلول العنوان على وجوهه في ذهني ، حتى قبل أن أتصفّح الرواية ، عندما كان الروائي يستحضر الأجواء التي دفعته لكتابة هذه الرواية ويعرض لتجربته الروائيّة في ملتقى الإتحاف الأدبي السّادس،  وكان الدّكتور الأمين بحري يمسك بالرّواية ، و( يعابث ) المؤلّف بكلماته المستفزّة حول لحيته التي ظهرت فجأة في ( زارة .. ) ، ولم تكن موجودة قبل ذلك في ( رحلة الشفاء ) ، كنت أتساءل من بعيد :

-                ما معنى ( زارا ) وكنت أظنّها تنتهي بالألف ..ما يوحي بأنّها اسم أجنبيّ ، لكنّ الروائي أماط اللثام عن المدلول الحقيقي لكلمة ( زارة ) ، وأنّه نوع من الترخيم الذي فيه تدليل لاسم ( زهرة ) بكلّ بساطة ، ورغم ذلك لم يتضح مدلول العنوان بشكل كامل إلا بعد أن قلّبت الرواية بين يديّ وتأملته جيّدا ..( زارة الحبّ المقدّس )..

وصدق ظنّي في الروائي والرواية لمّا أوغلت في قراءة عتبة العنوان وما وتلاه من عتبات أخرى، فالعنوان الإضافي أو التفسيري ، يضع القارئ أمام الحقيقة الباهرة لمحتوى الرواية بشكل فاتن رغم تجلّيه من أوّل قراءة ( براءة لحبّ لم يذنب ولم يدنّس ) ، هذه العتبة الجميلة التي تحمل نفثات الشعر ، تقودك مباشرة إلى طهارة الحبّ الذي هو محور هذه الرّواية وأيقونتها التي تطوف حولها .. 

02..

 في العتبات والمضمون

استهل الكاتب روايته بثلاث عتبات تلقي زخّات من النور على نصّه الروائي وتضيء للقارئ دربه في دهاليز الرواية المعقّدة ، كانت العتبة الأولى لجبران خليل جبران قال فيه:

" ما أنبل القلب الحزين الذي لا يمنعه حزنه على أن ينشد أغنية مع القلوب الفرحة ! "

وقد آثرت نقل هذه العتبة لعمقها وقوّة دلالتها التي لا تدرك بحقّ إلا بعد قراءة الرّواية ، إنّها تجعل الفرح منهج حياة وقوّة إرادة تذلل الصّعاب..

أمّا العتبة الثانية فهي التي انتفض لها جسدي راعشا ، وأسكرتني بعبقها المذهل ، هي كلمة مدويّة لرجل مزج روحه بتربة الجزائر ، وقرن قوله بعمله حتّى ضمّخت دماؤه أرض الوطن ، إنّه الشهيد مصطفى بن بولعيد الذي قال:

" حاولوا دائما حتّى ولو كانت نسبة النّجاح تبدو ضئيلة جدّا، فإذا فشلتم قيل أنّهم حاولوا ، وفي ذلك رجولة وفخر

هذه كلمات من ذهب لاسيما لمن يعرف من هو مصطفى بن بولعيد ، فلم تكن كلماته مجرّد عبارات جوفاء ، بل هي كلمات كتبت بنار ونور ، وتذكّرنا بكلمات سيّد قطب الشهيرة:

" إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع، حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح و كتبت لها الحياة "  

 ثمّ تأتي العتبة الثالثة وهي لصاحب جائزة نوبل نجيب محفوظ ، حول تأمّله في صورة ضمّت أفراد عائلته ، ثمّ بعد مضّي فترة من الزمن ، مات أغلبهم وصاروا كأنّهم لم يكونوا ، واختيار هذه العتبات الثلاث ، له دلالته القويّة التي تشير إلى مغزى يرمي إليه المؤلّف ، ويريد أن يوجّه بوصلة المتلقي نحوه ، وربما بشيء من التأمّل يمكن استنباط بعض من معاني ذلك المغزى.

جبران يدعو إلى الفرح مهما طوّق الحزن قلب الإنسان ، ومصطفى بن بولعيد يعلمنا أن نسعى إلى التغيير ولا نيأس حتى ولو فشلنا ، وصورة نجيب محفوظ تذكرنا أنّ الحياة فانية ولا يبقى فيها إلا الذكريات الحيّة ..

الاغتراف من المعين:

لقد أحسن المؤلّف اتخاذ تلك العتبات مدخلا إلى روايته ، التي اختار لأحداثها أن تكون في مرحلة الثورة التحريريّة المباركة ، وجعل محورها هو الحبّ السّامي الذي ربط قلبين اثنين هما زارة ( زهرة ) ومادي ( مهدي ) اللذين تحابا في مروج المراعي التي كانا يلتقيان فيها يوميّا ،  وكان مادي يحبّ زارة رغم صغر سنّه ( سبع سنوات ) ورغم أنّها تكبره قليلا ( تسع سنوات ) ، وفجأة تختفي زارة من حياته ولا يدري ما الذي أصابها ، ليكتشف بعد سنتين من ذلك ، من خلال رسالة أوصلتها إليه بطريقة ذكيّة أنّ أباها قد حجبها ومنعها من الخروج لأنّها صارت امرأة ، وصار يخاف عليها من عيون ( المعمرين !! ) الفرنسيين.

وقد أوصته في تلك الرسالة أن يترك قريته (شعابة) التي قنعت بحياة الذّل والخنوع للمحتل الفرنسي ، وأن يذهب إلى القرية المجاورة قرية  (كحالة ) التي كان أهلها يدعمون الثورة ، وبعد مغامرة طويلة يلتحق بالمجاهدين ، وفي يوم من الأيّام يُلقى عليه القبض ويساق إلى المستشفى في حالة يرثى لها ، لكنّه يفاجأ بالعناية الفائقة التي يحاط بها ، ثم بعد تماثله للشفاء يؤخذ خادما إلى قصر أحد المعمرين ، الذي يضلّ يعمل عنده لمدّة ست سنوات شبه أسير ، ثم عند الاستقلال يطلق سراحه ليكتشف أنّ زارة ضحّت بشرفها ومصيرها لتتزوّج بضابط فرنسي كبير ، من أجل أن تنقذ حياته ثمّ تظلّ تنفق عليه بعد ذلك وهو في قصر الضابط الفرنسي الثاني إلى غاية الاستقلال..

وبعد أن يعود لقريته يكتشف موت زارة وزوجها الضابط الفرنسي وابنها الصّغير. بعد أن اعتدت علي بيتهم في فرنسا أيادٍ مجهولة..  

البناء الفنيّ في الرواية..

من خلال الإبحار في أعماق رواية ( زارة الحبّ المقدّس ) نلمس الإمكانيّات الواعدة التي يتميّز بها محمّد بن زخروفة ، فرغم بعض الثغرات التي يمكن أن نكتشفها في تمفصلات الرواية والتي لا يكاد يسلم منها كاتب في انطلاقته الأولى ، وهو مع ذلك يُطعِّم أسلوبه السّردي بقائمة من التقنيات الفنيّة الجميلة ، التي تجعل من الرواية تُسَجِّل تفردا وبصمة خاصة في العالم الروائي.. وسنرجئ الحديث عن الثغرات وبعض الأخطاء التي ربّما كان من بين أسبابها الركون إلى ما صار يعرف اليوم في السّاحة الأدبيّة بالمصحح اللّغوي ، ونذكر أهمّ التقنيات الفنيّة التي تجمّلت بها الرواية والتمس الكاتب أن يوصل رسالته إلى المتلقي بواسطتها..

شخوص الرواية:

بُنيت الرواية على تعدد الشخوص وتنوّعها مع الاحتفاظ بنمطيّة البطل التقليدي الذي يتولى هو نفسه عمليّة السّرد نيابة عن المؤلّف ، إنّه البطل ( مهدي ):

مهدي: هو طفل كان في السابعة من عمره في بداية الرواية ، وصار عمره حوالي ستة عشرة سنة في نهايتها ، أي أنّه لم يتعدّ مرحلة الفتوة الأولى .. ولعلّ هذه هي الصّفة الوحيدة التي تميزه عن الشخصيّة النمطيّة ، ومن صفاته الأخرى ذلك الكبرياء والإباء المصطنع الذي أبدى هو عنه حين قال:

" لنرجسيتي الزائدة أنتظر دوما مقدّماتها للحديث ، بصوتها الهادئ الذي ترتجف له القلوب طائعة تلقي عليّ التحيّة ، ثمّ تصحبها بابتسامة تختصر جمال الكون ... وتملأ قلبي حسرة لتعصّبي وقسوتي "[2]

ورغم سنّها فإنّ عقلها غلب عمرها، فهي تفكّر في الثورة وحريّة الوطن وعمرها لم يتجاوز الحادية عشرة ، وتكتب رسالة توجهها إلى مهدي تطلب منه أن يلتحق بالثوار في الجبل ، ويستجيب لتوجيهها ..

بقيّة أبطال الرواية يعتبرون ثانويين لأنّ حضورهم بشكل أقل في الرواية ، ومنهم المجنون ( الدرويش ) ، و( عمّي المخطار ) والشيخ يعقوب شيخ المسجد. ومنهم الأبطال الهامشيون المكملون للمشهد ، والذين لا يكاد القارئ يلتقط أسماءهم حتى ينساها ، كأمّ زهرة وأبوها ، وأخو زهرة وأم مهدي وجدته وغيرهم..

ما لفت انتباهي في هذه الشخصيّات التي تنوّعت بها الرواية وأعطتها ضجيج الحياة ، هو تلك الصورة الإيجابيّة غير النمطيّة ( هذه المرّة ) للإمام أو شيخ الجامع ، فهو شيخ القرية ، ومرجعها في كلّ شيء ، حتى في الجهاد والثورة ، فشيخ المسجد هو الموجه والمرشد بل المنظم لكلّ ذلك ، فلا يقطع أمر بدونه.

وهذه الصورة للإمام هي الصورة الحقيقية التي تعبر عن الواقع الذي عاشه الشعب الجزائري ، ويجد القارئ أثره الحيّ في تاريخ ثوراته الطويل ، فمعظم قادة المقاومات الشعبيّة كانوا إما علماء أو شيوخ زوايا ومعلمين للقرآن الكريم ، بخلاف الصورة السيئّة ( الشاذة ) والمفتعلة، والتي حاول من خلالها التيار اليساري الأحمر أن يجعل منها هي الصورة السّائدة للإمام أو الرّجل المتدين[4]

هنا نرى ضيق الزمان والمكان معا ( الأسوار العاتمة ) ، رغم رغد العيش ، وقد أحسن الكاتب صياغة شعوره على لسان البطل حين قال:

" أن تعيش سعيدا يتوجّب عليك أن تعيش حرّا ، النّعيم المقيّد ينفّر عنك السّعادة مهما بالغت في ضخّه الطّيبات "

لكن ربّما ما يؤخذ على الكاتب ويعتبر غير مقنع نوعا ما ؛ هو كيف استكان البطل مهدي إلى تلك الحياة وبقي حبيس الزمان والمكان طول تلك المدّة ( ست سنوات ) ولم يقم بأيّة محاولة للتمرّد أو الفرار أو محاولة التواصل – بأيّة طريقة – مع عالمه الأوّل ، لاسيما وأنّه عاش مدّة من الزمن ثائرا في الجبال يسمع أزيز الرّصاص ودويّ القنابل ، ولا يرجف له جفن أو تهتزّ شعرة ، هنا أظنّ أن المؤلّف غلبه قلمه فمرّ سريعا ولم يعقّب .. !!

وهناك زمن آخر متخيّل خارج إطار الواقع اقتضى أيضا مكانا مُتخيّلا ، اختلط فيه الحقيقي بالمتخيّل بل بالعجائبي ربّما .. ! لجأ الكاتب إلى ذلك عند حديثه عن فترة بقائه في المستشفى للعلاج ، وكان غائبا عن الوعي ، إذ رأى في أحلامه ( كوابيسه ) ما اختلط بالذكريات وعوالم الغيب ، يقول في صفحة 86:

" أغمضت عينيّ في هدوء لأرى جسدي عليه ثياب فاخرة خضراء اللون يتخللها طرز خيوط فضيّة وذهبيّة محلّقة تمتد من الأسفل إلى الأعلى ، وعلى الثوب حلي مختلف ألوانه وأحجامه وأشكاله ، فيم رأيت على رأسي تاجا عظيما أسفله جوهرة حمراء .."

هذا التنويع في الفضاءين الزماني والمكاني يعطي بلا شك ثراء للرواية ، ويزيد من جذب القارئ وإقباله عليها بلهفة ، كما أنّه يجعله يندمج فيها بكامل كيانه ، ويعيش أحداثها بكلّ حواسّه ، فيرى ويسمع ويشمّ ويتذوّق ويلمس الأشياء كأنه كان مع أبطال الرواية وشاركهم أحداثها.. 

التصوير الفنّي والتناص

في الرّواية صور فنيّة كثيرة متعدّدة ومتنوّعة زيّنتها وأثْرَتْ محتواها ، وجعلت من المتن الإبداعي لوحة فنيّة شائقة ، نسوق من تلك الصور بعض الأمثلة الحيّة مع تعليق يسير ينبّه إلى مكامن الجمال فيها:

1 – قال المؤلّف في صفحة 7 :

" وستبقى شباك النّدم تمتدّ في أرجاء قلبك طول حياتك حتّى تلتهمه كليّة "

صورة تمثيليّة تجسد النّدم عندما يتجلى في هيئة مأساوية رهيبة ، فجعل الكاتب للنّدم شباكا وهي شباك نامية إذ أنّها تمتدّ وتمتدّ ، ولكنّها تمتدّ في حياة قلب البطل إلى أن تلتهمه كلية .. !! صورة ( تراجيديّة ) رهيبة..

2 – الصورة الثانية التي شدّت انتباهي أيضا هي قوله في صفحة 14:

" .. فأورقت في ذهني عدّة تساؤلات ألهبت فضولي " وهي صورة مركبة تركيبا مزجيا لطيفا من عدّة عناصر فنيّة بديعة ، جمعت بين الكناية والتشبيه ، والصورة التمثيليّة الفاتنة ، والمفارقة المذهلة ، أسئلة تتوالد في الذهن مثل النبات الذي يُورق ويتفرّع ، وهو رغم اخضراره وطراوته يشعل الفضول فكأنّه نار مضطرمة، وكذلك تفعل الأسئلة المحيّرة بالعقول .. !

3 – وهذه صورة أخرى مدهشة يقول فيها:

" وما المطر إلا أداة تغسل السّحب لتعيد لها بياضها النّاصع " ، هي من أطرف ما مرّ بي من صور فنيّة ، وكأنّها صورة مبتدعة لم يُسْبَق لها الكاتب ، فقد جرت العادة أن يغسل المطر الأرض أو النّبات ، أو حتى يطهّر البشر من أوضارهم ، أمّا أن يغسل السّحب ففيه طرافة وغرابة معا ، وربّما لن يفهم القارئ هذه الصورة ، إلا إذا علم أنّ السّحب تحمل معها – بسبب الرياح – أطنانا من الأتربة والأقذار يلزم نزول أمطار غزيرة لتخليص السحب منها ..

4 – يقول المؤلّف في الفقرة الأخيرة من صفحة 26:

" وظلّت وساوسها معلّقة إلى أن أصبحت رفيقتي ثمّ بيتي الذي أسكنه "

تخيّلوا معي أن تصبح الوساوس رفيقا أو بيتا يسكنه الإنسان ، وهذا البيت معلّق ، هو يشبه الشرنقة ، ويا ليته يخرج من الشرنقة فراشا بهيّا .. !

تناص جميل:

وفي الرواية ملمح جمالي آخر هو تبع للتصوير الفني بلا شك ، نذكر من أمثلته أيضا :

1 – المثال الأوّل قوله:

" حينها حملت عصاي التي أهشّ بها على غنمي .." التناص هنا واضح مع قول الله عزّ وجلّ في سورة ( طه ):  

" قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَىٰ غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَىٰ " الآية 18.

2 - وفي صفحة 46 قال:

" ما كنت تراه ليس بأضغاث أحلام .." تناص طبعا مع قول ملإ فرعون له:

" أَضْغَاثُ أَحْلامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلامِ بِعَالِمِينَ  "

3 – ويكثر التناص مع القرآن الكريم بشكل كبير ، إذ يقول في صفحة 97:

" نعم ما شأنهم بصحّتي وهم العدوّ.." هذا التعبير ( هم العدوّ ) قرآني بامتياز، فالمعروف أن يقول الكاتب ( هم الأعداء ) بصيغة الجمع ، أمّا ( هم العدوّ ) بصيغة المفرد الذي يراد بها جنس العدوّ ، فهو أسلوب قرآني خاص ، جاء في قوله تعالى من سورة ( المنافقون ) :

" يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (4) ...

4 – وفي ص 112 قال المؤلّف:

" ولو كان بمقدوري أن اتخذ نفقا في الأرض لأصل إليهم لاتخذت ".

وهو تعبير يتقاطع إلى حدّ ما مع قوله تعالى في سورة ( الأنعام ):

" وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ ۚ " الآية 35.

وهناك تناص من نوع آخر تناص غير مباشر حيث وُظّف مع الرؤيا التي رآها ، شخصيّة الشيخ يعقوب ، الذي يحيل إلى نبيّ الله يعقوب عليه السّلام ، كما تحدّث عن النّمل وقراه ووادي النمل ، وفي ذلك متح غير مباشر من القرآن الكريم الذي تحدّث عن النّمل ووادي النّمل حين ذكر قصّة نبيّ الله سليمان فقال:

" ﴿حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ الآية 18 .

والجميل في التناص مع القرآن الكريم أنّه رغم التوظيف الكبير له من قبل الشعراء والكتّاب إلى درجة الهوس أحيانا ، إلا أنّه لم يفقد يوما ألقه ، ولا خبا جماله ، أو فقد جدّته، فكأنّ التناص مع القرآن يجعل النّص يكتسب حياة دائمة ونورا يشع من بين جنباته ببركة القرآن وإشراق القرآن وعظمة القرآن.. !

واستعان المؤلّف في تأثيث نصّه وإثرائه بالاستمداد من التراث الشعبي أيضا، فذكر قصص جدّته عن ( بوعتريس ، المعزة الصينية ، لونجا بنت التاجر ، الغولة ).

ويقول بعد ذلك في صفحة 46:

" اضرب مطرقك على مطرقي يطيح اللّوح من السما بنيلي دار وروح وخليني .."

وهي نوع من القصص التي ترويها الجدّات فيها الحكمة وفيها العبرة ، والمثل العجيب الذي يغذّي ثقافة القارئ ويوضّح له الفكرة بشكل جليّ.. 

لمسات إيمانيّة:

الرواية الحديثة التي لها رنين وطنين ووهج إعلامي مفتعل في أغلبه ؛ تتنكّر لعنصر الإيمان في الحياة ، وترى الدّين زاوية ضيّقة ، ومن يُشتَمُّ منه رائحة استقامة أو التزام يُوصم فورا بالوعظيّة والخطاب السّطحي المباشر ، لكنّ فئة ممن يحملون أقلاما حَمِيَّة وقلوبا ذكيّة ونورا ملأ جوانب صدورهم ؛ لا يبالون بشيء من ذلك فيكتبون ما يكتبون ، وكلمة ( الله ) تشعّ بين جوانحهم ولا يخافون في تسطير الكلمات المؤمنة الحيّة لومة لائم..

وما أعجبني في أسلوب محمّد بن زخروفة بشكل عاصف ، أنّه يجعل من أبطاله يستعلنون بإيمانهم ولا يخافون حملة ناقد حاقد ، يصمهم بالرّجعيّة أو التقليديّة ، ويثبتون قدراتهم الإبداعيّة عن استحقاق..

وهذه قطوف مما جاء في الرواية يمكن أن نطلق عليها المشاهد ذات اللمسات الإيمانيّة :

1 – عندما يندهش مهدي – إذ يرى وادي النّمل – ويستغرب من نظام حياته الدّقيق وهو الطفل الصّغير الذي لم يتجاوز السبع سنوات، تأخذ (زارة ) بيده وتقول له:

" أنصت يا مهدي ، لقد خلق الله الإنسان والحيوان وفق نظام يحدّد طبيعة كلّ مخلوق ، فنحن البشر نعيش أيضا وفق حدود بيننا، وكلٌّ له بيئته الخاصّة به ولغته ولون بشرته.."

يبدو الكلام كأنّه وعظ مباشر ، وفي ذلك حكم صحيح بلا شك ، لكن إذا كان موجها لطفل صغير يرى الطبيعة فيندهش لعجائبها ، فإنّ الوعظ هنا مقبول ويبدو تلقائيا وطبيعيّا ، وهو على كلّ حال خير من أسلوب كثير من الكتّاب في تصوير الإنسان وكأنّه في صراع مع الطبيعة ، وخير من قول بعضهم ، الطبيعة خَلَقت والطبيعة أَبدعت ، وتحدّي الطبيعة ، وما إلى ذلك مما نالنا غباره من إلحاد الرّواية الوجوديّة !!

2 – ويقول المؤلّف في صفحة 37 :

" بعض البشر يولدون كالملائكة ، ويعيشون حولنا مثل الأنبياء ، يتأملون أفراحنا وأحزاننا في صمت، وكلّما تعثرنا نجدهم هم السّند الذي نرتكز عليه لنقوم مجددا .."

تشبيه الصّالحين من البشر بالملائكة أو الأنبياء ليس تشبيها عبثيّا ، بل هو تشبيه مقصود ، يتكئ على قاعدة إيمانيّة صحيحة ، يحياها النّاس ويعيشونها كلّ يوم ، وهي خلاف تلك التهويمات النكدة التي ينفث سمومها ( كَتَبة ) الرِّوايات المنبّتة ، التي لا أمة أيقظت ولا شعبا أحيت ، ولا جيلا نفعت ، بل ضلّت وأضلّت ..وعاثت في أرض الثقافة والفكر فسادا وإفسادا ..ثمّ يقولون : لا نريد من الأدب أن يكون وعظا مباشرا ، وصدقوا وهم الكذّابون ، ونحن أيضا لا نريده أن يكون بيئة موبوءة لإفساد الخلق والفكر ..

3 – ومثال آخر عن الأسلوب الإيماني الواضح قوله في ص 90:

" كنت أردّد في داخلي : ليتني هلكت وكنت الآن برفقة عمّي الطّاهر في تلك المنزلة الرّفيعة من الجنّة التي كتبت للشهداء.."

التعبير في سياقه الطبيعي ، عندما يتمنى شاب صغير عايش الثورة والجهاد ، ويرى الشهداء يتساقطون أمامه كلّ يوم ، ليس عجبا أن يتمنى الشهادة ويلحق بهم ، لاسيما إذا كان يعيش وضعا مزريا لا يكاد يرى منه خلاصا..

4 – ونختم بهذا المثال الجميل عن النماذج الإيمانية في الرواية ، يقول المؤلّف محمّد بن زخروفة في صفحة  128 وهي الصّفحة ما قبل الأخيرة ولذلك دلالته العميقة  :

"لتعلم يا مهدي أنّ الحياة تهبنا المحبّة ليكبر أشخاص في قلوبنا ، حتّى أننا لا يمكن أن نتخيّل أنّه سيحين موعد فراقهم يوما، نفرح لنحزن ونحزن حتّى يهيئ الله لنا فرحا كنا ننكر إقباله على قلوبنا بعد أن اسودّت أفئدتنا ألما وغيظا ، هذه هي سنن الحياة التي عمادها الحزن والفرح ".

فكر يعبّر عن واقع أمّة مؤمنة ، تعيش الأتراح والأفراح ، النكد والسرور ، لكنّها لا تتنكّر لإيمانها أبدا وإلا كانت أمّة الهباء.. وما هي بذلك !

هِنَات:

الروائي الجيّد هو الذي يقدّم في كلّ رواية جديدة أفضل ما عنده ، ويستفيد من المتن الأوّل ليجوّد في الثاني ويتقن ، وقد كتب الروائي محمّد بن زخروفة روايته الأولى ( رحلة الشفاء ) ، ولم يُكتب لي أن أقرأها بعدُ ويبدو أنّها رواية ناجحة لما لاقته من رواج واستقبال كبير من جمهور القرّاء – بحسب ما قرأنا – ولكن لا يمكننا المقارنة لأننا لم نقرأ الرواية الأولى ، ولنا حول هذه كلمات مؤاخذة نقدّمها بين يدي هذه القراءة عسى أن ينتفع بها المؤلّف ، والقرّاء على السّواء بعضها على مستوى البناء الفكري ، وبعضها على مستوى البناء اللّغوي..

في البناء الفكري:

رغم أنّ أفكار الرواية عموما جاءت مقنعة ومنطقيّة ومترابطة إلا أننا لاحظنا وجود بعض الفجوات ، على مستوى بعض تمفصولات الرواية ، منها:

1 – فتاة في التّاسعة من عمرها تحبّ فتى في السابعة ( حبّ الرّجل للمرأة ) حبّا عفيفا ، إلا أنّ مستوى السّن بدا غير مقنع للمتلقّي.

2 – قبول ( زارة ) بالزواج من الضابط الفرنسي والسّفر معه إلى فرنسا ، وإنجابها طفلا منه من أجل حماية ( مادي ) والإنفاق عليه طول إقامته في قصر الضابط الفرنسي الثاني أيضا كلّ ذلك بدا أمرا غير مقنع ، فكيف تُضحّي امرأة مسلمة بشرفها ، وعرضها وتقبل بالزواج ( الباطل ) من ضابط فرنسي مسيحي ، من أجل فتى صغير كان يرعى معها الغنم في البادية..

3 – بقاء مهدي ( البطل الثائر الشجاع ) في قصر الضابط الفرنسي مدّة ستّ سنوات دون أيّ ردّة فعل أو محاولة للهروب أو المقاومة ، أمر غير مقنع أيضا.

في البناء اللّغوي:

على مستوى اللغة جاءت في الرواية كثير من الأخطاء اللّغويّة التي كان بالإمكان تفاديها ، نذكر أمثلة منها غير ملتفتين إلى الأخطاء المطبعيّة ، حتى لا تتكرر في روايات المؤلّف القادمة بإذن الله تعالى:

1 – يقول المؤلّف حين حديثه عن خصامه مع زهرة ورجوعها له وقد نسيت كلّ شيء دون غلّ أو حقد:

" أقابلها وأنا أنتظر عتابها أو مقاطعتها للحديث معي .."

" مقاطعتها للحديث " صوابها أن يتعدّى الفعل قاطع بنفسه ولا يحتاج إلى حرف جرّ ، فيقول : "مقاطعتها الحديث ".

2 – في صفحة 28 قال:

" تحمل الأخرى جرّة وماء وكيسا أسودا "

(أسودا) هنا خطأ يقع فيه كثير من الكتّاب ، ظنا منهم أنّ نصب ( أسود ) يكون بالتنوين، وهي كلمة ممنوعة من الصّرف لا تقبل التنوين ولا الكسر إلا إذا كانت مضافة ، أو لحقتها (ال ) التعريف ، أو جاءت في ضرورة شعريّة لإقامة الوزن. 

3 – وجاء في ص 49 قوله:

" يحدّقون إليّ " والصّواب أن نقول : ( يحدّقون فيَّ ) فالتحديق في الشيء وليس إليه لغة. وهو بخلاف النظر إذ يمكن القول: ( ينظرون إليّ ) ، أمّا التحديق ففيه تأمّل وتفكر فيكون في الشيء وليس إليه. 

4 – وهناك عبارة عامية جعلها المؤلّف من الفصيح وهي ليست كذلك ، وهي قوله في ص 53:

" يحملون عصيّهم ويهدّدون عليّ " وصوابها " يتهدّدونني ).

5 – وفي ص 59 قال :

" مرتاح البال صفيّ الخاطر " ولا يصحّ ذلك أبدا ، إنّما نقول : ( صافي الخاطر ) ، أي نقيّه، أمّا صفيّ فتعني ( المختار ) وهو بعيد عن المعنى المقصود.

ونكتفي بهذه الأمثلة في الجانب اللغوي والتعبيري ، مما لا يصعب على المؤلّف تداركه في طبعة أخرى بإذن الله تعالى.

قطوف مختارة

بمقابل الهنات والثغرات اليسيرة التي عكّرت التدفق السّلس للرواية هناك عبارات جميلة استوقفتني وملكت عليّ أقطار نفسي للحظات من الزمن ، وأحبّ أن يشركني القارئ في تملّي جمالها وتشرّب رضاب معانيها الحيّة ..

من أمثلة تلك العبارات والجمل قوله عن ( زارة ):

" رغم براءتها إلا أنّها تحمل عرش الحياة في معانيها، أبدا لا تحمل ضغينة أو حقدا "

فما أروع تلك الجملة الشعريّة المكثّفة (أنّها تحمل عرش الحياة ) .. !

وفي عبارة أخرى يقول ص 9:

" من أكبر الأكاذيب التي قدّمها العلم ، هي فصل الأفكار عن الأعمار وتحديد سنّ البلوغ ، هناك من البشر من لن يبلغ أبدا وسيموت وهو قاصر "

وهذا نوع من التأمّل في الحياة عميق جدا لا يتأتّى لكاتب أو إنسان إلا بعد تجربة كبيرة..

ومن هذا القبيل تلك الفكرة الرّائعة التي ساقها في صفحة 38 حين قال:

" عندما تنتصب بين عينيك إشارة تشعّ بنور يلامس شعورك فترتاح له، حينها يجب أن تتّبع آثار هذه الإشارة وتقتدي بنورها إلى غاية أن تدرك وهجها اللطيف .."

كلام يشبه الفتح الرّبّاني والإلهام الصوفي الذي لا يأتي إلا بعد دربة ومجاهدة، وانظر إلى ألفاظه ( إشارة / تشعّ / تقتدي بنورها / تدرك / وهجها اللطيف ).

وهذه الفكرة الجميلة تكملها فكرة أخرى هي من جنسها في صفحة 41:

" أيّها الباحث عن رضا قلب تحبّه ، حين تريد الوصول إلى هدفك غامر إلى آخر خطوة، لا تدع الشّك يلاحقك وأنت تسير نحو اليقين .."  

حقّا ما أصدقها من حكمة لا تدع الشّك يلاحقك وأنت تسير نحو اليقين.. !

[2] - الرواية ص 8 .

[4]  -  ص112 .

الوعي الموجع في استبصار التّيه

أوّلاً- النّص:

عابر الشّرق السّريع./ د. نزار المجاهد

- 1 -

أشفّ من ألقي... فينضح قلقي...

أرنق .....

في زجاج الرّوح...أحترق.

أشعّ على دم المصباح

كالشّفق المعتّق ....في سماء الصّيف ...

كالبلّور ..

أندلق ...

وأمتلئ احمرارا

على قفا تفاحة شاميّة ...

ربعي لأحمرها ...

والرّبع للزّيتون في قرطاجة

والرّبع للرّمّان في غرناطة

والرّبع في سهل البقاع.

قوس القصيدة

ينحني

......كالرّيح

..............تعتصر

.....................الشّعاع.

-2-

تخباني السّطور بمقلتيها..

..تكحّل بصري...

تشدّ أجنحتي

لكي لا تشرد الأرباع في

الملكوت .

....للزّيتون أنباء هنا

و للرّمّان ذاكرة هناك

و للتّفاح شوق إلى خدّيه ..

في بيروت .

لماذا حينما تصحو الشّعوب

تجيء من ماض إلى ماض؟

لماذا حينما تنسى .....

......تموت؟.

...وترمّم الأرباع تاريخ المياه...

"مجردة" يصبّ على "الفرات"

و"دجلة" يحدوه "نيل "....

والبحيرات استدارت حولها

قصص اللّواتي

قد تنازعن الغسيل.

ليت لي عنق النخيل لكي أرى ...

ليت لي صبر النّخيل.

clip_image002_287fc.jpg 

- شاعر وكاتب وناقد وإعلامي وفنان ودكتور في الطب الصيني المكمل - الطب الطبيعي  )

  

      يحوي هذا الديوانُ  ( قصائد وجدانيَّة )  مجموعة  من القصائد  الغزلية الغنائيَّة الجميلة  التي كتبت  وصيغت بشكل وطابع كلاسيكي تقليدي ، ونجدُ في معظم هذه القصائد الإلتزامَ  بالقافيةِ  وبالشكل  والبناءِ  الخارجي  ولكنها غير مقيدة بوزن  معيِّن، وفي نفس القصيدة  وحتى البيت والشطرة الشعريَّة أحيانا نجدُ  أكثر من وزن ، بَيْدَ  أنَّ  هذه  القصائد  تُترعُهَا  موسيقى  داخليَّة  أخاذة  وفيها جرسٌ  ساحر لهُ  وقعهُ  وتأثيرُه  الجميل  والخلاب  على القلب  والنفس والروح  والوجدان ، والبعضُ  من هذه القصائد  قريب  نوعا ما من ناحية الشكل إلى  نمط  وأسلوب الموشَّحات.. والقارىء  لا  يشعرُ بالرتابة  والروتين المُمِلِّ عند قراءته لقصائد الديوان.

      وجاء اسمُ  هذه المجموعة ( قصائد وجدانيَّة ) ملائما  ومطابقا  للفحوى والمضمون . وبالفعل هذه القصائد وجدانيَّة  ومنبثقة  بشكل  تلقائي  وعفوي وبحريَّة وانسياب  مُمَوسق  يتذوَّقُهَا  ويطربُ  لها  كلُّ  قارىء  مهما  كانت نوعيته ومستوى ثقافته ويترنمُ مع كلماتِها وإيقاعاتها ومعانيها الأخاذة ويهيمُ ويحلقُ في أجوائها  وشطحاتها الرومانسيَّة الحالمة  وفي الصور  واللوحات الشعريَّة والبلاغيَّة  الملوَّنة  ويستشفُّ ويرشفُ  من  ينابيع الجمال  والمحبة وينتعشُ من أريجها المضمَّخُ بالحبِّ والدفء والسحر والأمل والتفاؤل .

       لقد عرَّفَ الأدباءُ والنقاد القدامى الشعرَ : هو الكلام الموزون  والمقفى ، وأما المحدثون منهم  فعرَّفوهُ على أنه : لفظ  ومعنى .  وهذا الكلام  ينطبقُ  على  قصائد الديوان  فشاعرتنا المبدعة  والقديرة  ليلى حجة   فنانة  متمكنة  وَمُتمرِّسة  ولها  تجربة  واسعة  وعميقة  وثريَّة  في  مجال  الأدب  والشعر   والكتابة...إنها   فنانة ٌ  في  اختيار الكلماتِ  والمفرداتِ  الشعريَّة  والبلاغيَّة الجميلة والعذبة  والمموسقة  التي  لها  وقعها  وتأثيرُها على  نفسيَّة  المتلقي  وعواطفه ومشاعره  ولواعجه الذاتيَّة ، وفي نفس الوقت  هي تختارُ المعاني العميقة  الهادفة  والصور  واللوحات  الشعريَّة  الجميلة والخلابة  والمترعة بالجمال  والعوالم  الرومانسيَّة  .   وكان  بإمكان الشاعرة  ليلى  أن  تصوغ وتنظمَ جميعَ قصائد هذا الديوان على بحور الخليل بحذافيرها وتلتزم إلتزاما كاملا بالوزن  في كل قصيدة  ولكنها  أرادت التحَرُّرَ والخروجَ  عن الرتابةِ  والمألوف  وروتين  الوزن  الممل  أحيانا ، ولهذا استعملت عدة  أوزان  في كل قصيدة  وأحيانا في نفس البيت أو الشطرة الشعريَّة .   وانا  أشبِّهُ  توزيع وترتيب المقاطع اللفظيَّة  والموسيقيَّة على هذا النمط والشكل  بالتقاسيم على آلةِ  العود، والتي لا تخضع لمقام معين،ولكنها تبدأ وتنتهي بنفس المقام.   وهذه القصائد موزونة - كما  ذُكر أعلاه - ولكنها متحرِّرة من  الرتابة ومن قيود  الوزن  والإيقاع   والجرس  الواحد... ومعظمها  نُظِمَ   باللغة  العربيَّة الفصحى، وهنالك  بعض  المقاطع، في أسلوبها  ولغتها، قريبة  إلى  العاميَّة نوعا ما لأنها كتبت خصيصا للتلحين والغناء.     وهي تحتاجُ إلى موسيقيِّين  وملحنين عباقرة ومتمكنين  ليقوموا على تلحينها  وإعطائها الألحان الجميلة والراقية الملائمة لها. والجديرُ بالذكر أنه عندنا في الوسط العربي نفتقرُ إلى هذا النوع من الشعر( الشعر الغنائي)  وبأسلوب  السهل  الممتنع  والمكتوب  باللغة الفصحى السهلة  والسلسة  والمنسجمة  والمفهومة لأن معظم الأشعار والقصائد الغزليَّة التي كتبت  تكون باللهجة العاميَّة الركيكة. 

       ونجدُ الشاعرة  والأديبة (  ليلى حجة ) هنا ، في ديوانها هذا، في  قمَّة الرومانسيَّةِ والشفافيَّة ِ والأحاسيس والمشاعر الجياشة ،وهذه القصائد تعكسُ مشاعرَها  ولواعجَها  الذاتيَّة  وأشواقها  الملتهبة  والمؤجَّجَة   للقاء  الحبيب وفارس الأحلام الذي هو كل شيىء بالنسبة لها..إنهُ الأمل والمستقبلُ والحياة الهانئة والكاملة  بجميع أبعادها . وتصلح هذه القصائد أن تكون ترنيمة  لكلِّ عاشق وعاشقة ورسائل وبطاقات للعشاق والمُحِبِّين والمتيَّمين..أنها مُضَمَّخة بالدفء  والحنان  والمشاعر الصادقة الجيَّاشة وبأريج وريَّا المحبَّة والجمال

  إن جميع  قصائد هذا  الديوان  جميلة وعذبة ، والشاعرة  والأديبة المبدعة ليلى حجة  تعتبرُ شاعرة مطبوعة ومبدعة بكلِّ  معنى الكلمة  خُلقت  شاعرة وعندها الموهبة الفطريَّة  الربَّانيَّة  من الخالق  وكتاباتها  نابعة  ومنبثقة  من أعماق القلب والروح  والوجدان  وتتسمُ  بالتلقائيَّة  والعفويَّة  وتشعُّ بالصدق والجمال والشفافيَّة،هي غير مُتصَنّعة ولا يوجدُ في كتاباتها أُّيُّ تكلف وتكتبُ عن مبدإ  واقتناع ، والكتابةُ والعطاءُ  الأدبي والفكري عندها  رسالة  سامية على عكس الكثيرين من  الكتاب والشعراء  المحليين  الذين لا  توجد عندهم الموهبة  الشعريَّة والكتابيَّة إطلاقا  ويريدون  بأي  شكل من الأشكال  وبأيِّ ثمن أن يكونوا  شعراء  وكتاب  لكي يشتهروا ويصبحوا  معروفين  في  كل مكان، فالكتابة عندهم  من أجل المكسب والشهرة لا أكثر  .

   سأقتطف  بعض العيِّنات  والنماذج  من شعر ليلى حجة من هذا الديوان ، وسأبدأ بمقطع من القصيدة الأولى بعنوان : ( ما أحلى الرجوع اليه )  حيث تقول :

( " ما  أحلى  الرجوع  إليه      ما   أحلى   هذا   الوصالْ

     ما  أحلى   لمسة    يديه      ما   أحلى   هذا     النوالْ " ) .

وتقول من قصيدة بعنوان (خذني لقلبك  رقم 31 ):

( " خذني     خذني      لصدرك         خذني  خذني  يا  أغلى  الناس " )

     ضمَّني     ضُّمَّني      لقلبِكْ          ضمَّني   لا    تنسَ   الإحساس 

    بعيدا    خذني  خذني   مَعَك ْ          دعنا    نمشي     فوقَ    الريحْ

   لا    تجعلِ  الريحَ     تسمعَكْ           وعن   حُبِّي    لها    لا   تبوحْ : )

   وتقول من قصيدة بعنوان  (حبيبي جدَّد العهدا -  رقم 24 بالديوان ) :

( "  حبيبي      جَدِّدِ       العهدا          كفاكَ       بُعدا       وصدَّا 

      حبيبي    لا     تلمْ      قلبا           تائهًا     ،   فيكَ        جدَّا   " )  .

    وأخيرا : نهنىءُ الممرضة والشاعرة والأديبة والمؤرِّخة ليلى حجة على هذا الإصدار الجديد ونتمنَّى لها إصدارات إبداعيَّة  جديدة في وقت قريب  .

مدخل عام في مصطلحات البحث وطموحه

الظاهرة: لفظ يطلقه أهل العلم والفكر في العادة، على كل ما له وجود مدرك من طريق الحواس) (، قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

وعندما نقول الظاهرة الأدبية، فنحن نتكلم عن إحدى المنجزات البارزة، التي أفرزها العقل البشري أثناء عملية وعيه للحياة على هذه الأرض، وقد ظهرت كإنجاز حسي يتمثل في الآداب الإنسانية، وما أفرزته من الأجناس الأدبية المختلفة (كالشعر والقصة والخطابة والمقالة والمسرحية والأمثال والحكم والتوقيعات... وغيرها) وما لهذه الفنون من أثر عظيم في حياة الأمم والشعوب.

وتشكل الظاهرة الأدبية مع الظواهر الأخرى، كالظاهرة العلمية والفكرية وغيرها، مجموع ما أنجزه العقل البشري في وعي الحياة من حوله.

ويتضح فضل كل ظاهرة من هذه الظواهر، من خلال ما تقدمه من وعي يضيء للإنسان حياته، ويسهل عليه بناء حضارته وخلافته على وجه هذه الأرض، فإذا كانت وظيفة العلم التجريبي أن يكتشف الظواهر المادية ويتابع تفسيرها، ليتعرف على سننها وقوانينها ويسخرها في خدمة الحياة البشرية.

وإذا كانت وظيفة الدين في أن يفسر الحياة وينظمها بشرائعه السماوية ويوضح مقصد وجودنا فيها، فإن وظيفة الفن والأدب في أنه يكشف لنا جدوى هذه الحياة، وقيمة حقائقها لدى نفوسنا، ومدى إشباعها لمشاعرنا وفطرتنا وطموحنا فيها، من خلال (قيمة حقائقها في قلوبنا والموقف القلبي منها) بما يملك من الوسائل الذكية الجميلة المحببة إلى نفوسنا.

وأما حديثنا عن مصطلح المعرفة: فنقصد به العلاقة القائمة أثناء عملية الإدراك بين عقولنا وقواها وأنشطتها من جهة، وبين حقائق الوجود والحياة أو أوامر الوحي من جهة أخرى.

وفيما يخص الظاهرة الأدبية: فنحن نقصد بالذات متابعة عملية الإبداع الأدبية، وكيفية هضم العالم معرفيّاً عند الأديب، من خلال متابعة تنقل عملية المعرفة في قنوات عقله ومحطاته وخياله وتعرفنا على مسارها العام، من بداية تحرش الحياة بعقله حتى لحظة ميلاد النص ومن خلال المعرفة كما يطرحها القرآن الكريم.

وهنا يثور سؤال في النفوس: وما الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من وراء هذا النهج؟

أما الهدف فهو التفسير، وأما الفائدة التي نتوخاها من وراء تفسير الظاهرة الأدبية، فهي أن عملية التفسير تلك، سوف تساعدنا في كشف خبايا التجربة الأدبية، فتكشف لنا مراحلها والعوامل المؤثرة فيها، و خاصة عندما نفسرها من خلال منظور المعرفة كما وردت في القرآن الكريم، لأن هذا التفسير الإسلامي سيضيء لنا جوانب كثيرة، ويجعل لنا وجهة نظر مستقلة في التجربة الأدبية على عمومها، مما يتيح لنا قدراً من الوضوح والمنهجية التي تخدمنا في مشروعنا الإسلامي للنظرية الأدبية التي ندعو إليها.

أضف إلى ذلك أن الكشف عن أسرار الظاهرة الأدبية في نفس المبدع وفي ساحات وجدانه، يشكل مدخلاً مهمّاً في التأسيس لقضايا النقد الأدبي في جميع جوانبه النظرية والتطبيقية، حيث نتعرف على كيفية تكوين الرؤية عند الأديب وكيف يستوعب العالم معرفيّاً، وكيف تتحول المعرفة إلى قيمة وموقف داخل وجدانه، وكيف يتحول هذا الموقف إلى نص أدبي في المراحل التالية لذلك، وبذلك نزداد عمقاً في التعرف على العوامل المؤثرة في ميلاد النص والتحولات التي ترافق ذلك، وتمتد بنا المعرفة حين ندرك أهمية هذه العوامل: كالموهبة والمراس والثقافة لأنها ترفد العمل الفني (النص) بالمرونة والعمق وحسن الإبداع، ويساعدنا في التعرف على مراحل ما بعد ميلاد النص كالعلاقة بين المبدع والمتلقي وأسرار ذيوع الأدب أو اضمحلاله.

ومحاولة تفسير الظاهرة الأدبية ليست قضية جديدة، فقد حاولته العقول في معظم الآداب العالمية، وحاولته العقول في أدبنا العربي قديماً وحديثاً، وكذلك محاولات إخواننا من دعاة الأدب الإسلامي.

لكن الجديد هنا، هو رغبتنا في الخروج من سيطرة التفسيرات الفردية والاحتكام إلى منهج القرآن الكريم في إضاءة هذه الظاهرة من خلال المعرفة القرآنية وكذلك الخروج من براثن التفسيرات التي قدمت إلينا مع بضاعة التبعية والاستعمار الثقافي، وتهدف من وراء ذلك إلى الاجتهاد في السعي لتدريب عقولنا على التمرد على حالة القمع التي يمارسها دعاة العلمانية الأدبية على خيالنا، بدعوى الواقعية، لمنعه من الالتحام والامتداد مع إحياء الفهم الإسلامي للقضية الأدبية وإجهاض مشروعه الأدبي.

ثم إنها متطلب منهجي لاستكمال رحلة التأصيل الإسلامي لهذه الظاهرة وتفسيرها في ضوء النص القرآني الذي نؤمن بضرورة تأسيس النقد الأدبي الإسلامي في جوانبه النظرية تحت مرجعيته، وخضوعاً لهديه وتفسيراً للحياة على نور حكمته.

المعرفة في القرآن الكريم

تناولت آيات القرآن الكريم المعرفة الإنسانية بعمومها وتفاصيلها، حيث أعطتنا صورة لحصول الوعي بعملية المعرفة من خلال المحطات الظاهرة للعقل (الحواس والدماغ والقلب) ثم تناولت تحول المعرفة إلى سلوك مقصود في أفعال الإنسان، وكذلك علاقة العقل البشري بالواقع الخارجي (عالم الشهادة) وما خلفه من حقائق (عالم الغيب)، ثم شدّدت الآيات الكريمة على شروط المعرفة الصالحة ومقصدها وهدفها، ثم تناولت إمكانية المعرفة وحدودها ومصادرها بتفصيل مذهل.

وليست مهمة بحثنا هذا في تقصي هذا الموضوع لأنه يحتاج إلى سِفْر ضخم حتى يغطي جوانبه، ونحن لا نزعم ذلك في بحث محدد الهدف كهذا، ولذلك سنقتصر من نظرية المعرفة في القرآن الكريم على المختصر المفيد، الذي يخدم هدفنا في تفسير الظاهرة الأدبية وتوضيح معالمها.

بعد هذا التمهيد يمكننا الدخول إلى عملية المعرفة في شواهد القرآن الكريم، وخير ما نبدأ به آيات كريمة من سورة آل عمران، تعطينا مشهداً كاملاً مترابطاً ومكثفاً لعملية المعرفة في جميع مراحلها، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. 

الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191].

والذي يدقق النظر في هذا المشهد، يجد أنه جاء على صورة الإجمال العام للقضية ومسارها المنتظم المتدرج، وبوضوح تام من خلال المراحل الأربع التالية:

1.مرحلة التفكير: وقد ورد بصيغة الفعل {يتفكرون}.

2.مجال التفكير: وقد حددته الآيات الكريمة {في خلق السماوات والأرض}.

3.نتائج التفكير: وقد وردت بصيغة نفي العبثية عن الكون من خلال {ربنا ما خلقت هذا باطلاً}.

4.حكم القلب وقيمة الحقيقة من خلال موقفه الذي يلهج بالدعاء {سبحانك فقنا عذاب النار}.

معالم النظرية 

يمكننا تفصيل هذا المراحل الأربع السابقة وبنفس الترتيب، الذي يوضح معالم هذه النظرية ضمن المسار التالي:

أولاً: مرحلة التفكير:

وهي المرحلة التي توظف فيها طاقات الفكر ومواهبه في التعرف على حقائق الوجود، وقد وردت في الآية الكريمة بصيغة الفعل المضارع (يتفكرون) وبكل ما يحمله هذا الفعل من معاني الحركية والاستمرار، ويشمل في دلالته ومعناه جميع العمليات الفكرية التي يجريها الدماغ: كالتفكير الحسي الذي يعني استقبال المعلومات الحسية التي تنقلها الحواس وتفسيرها والانتقال بها إلى مرحلة أولى هي التفكير التحليلي وعملياته (كالتذكر والمقارنة والتعرف والتمييز والاستقراء والاستبعاد والتعميم والاستنباط.. وغيرها) ثم الانتقال بها إلى آخر مراحل التفكير وهي مرحلة الفهم: وهي خلاصة ما توصل إليه الفكر من نتائج تقوم على تكوين (المفهوم أو الحقيقة أو الحكم) وحيث ظهرت في صيغة تفيد نفي العبثية عن الكون والوجود والخلق في الآية الكريمة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وبخضوع جميع هذه المراحل إلى منظومة من القواعد والثوابت والبديهيات نسمِّيها منهج التفكير.

لقد أراحنا الفعل (يتفكرون) من وصف عمليات التفكير المعقد، التي لا نضمن لها الدقة، مهما زعمنا ذلك في علمنا البشري، وبمرونة واضحة ترك هذا الفعل الفضاء مفتوحاً أمام العقل البشري في تفسير ظاهرة التفكير، في الوقت الذي يقع فيه علم التشريح في التعسف ويسرف كثيراً في وصف عمليات الدماغ، مع أنه يبقى وصفاً خارجيّاً، يقوم على متابعة حركة الظواهر المادية من أنشطة الدماغ، كحركة الدم والشحنات الكهربائية، ونشاط الغدد وغيرها، فإن علماء التشريح لا يرون التفكير ولا الأفكار، وإنما يتابعون الحالة الظاهرية ويمارسون مقامرة التخمين، ويهمنا في هذه المرحلة أن نشير إلى القضايا الهامة في موضوع التفكير ضمن النقاط التالية:

1.جهاز التفكير (الدماغ): بما وهبه الله من قوى وأجهزة وطاقات مختلفة، كالذاكرة، وقوة الخيال أو التصور، وقوة الربط والتحليل، والجهاز العصبي الممتد في أنحاء الجسم.

2. منهاج التفكير: يتأثر التفكير بالمنهج، ويتسع أو يضيق وفق شروطه، والمنهج الإسلامي يتصل بتجربة آدم عليه السلام في الجنة، وخروجه من عالم الخلود والسرمدية وهبوطه إلى الأرض، حيث أصبح أسيراً للسنن الكونية التي تحكم الأرض ومؤثرات الحياة فيها.

هذا المنهج الذي يتواصل مع رسالات الأنبياء، انتهى إليه ميراث علم النبوة برسالة محمد صلى الله عليه وسلم فهو يفتح المجال أمام التفكير، ويحرر طاقة الخيال الإنساني من العوائق والأوهام، ليدرك الحياة من خلال مصدرين رئيسيين للمعرفة هما:

الأول:(علم حقائق الوجود والحياة).

والثاني:(علم حقائق النص الموحى به من الله سبحانه وتعالى).

الأول يختبر الحياة من خلال توظيف طاقات العقل في اكتشاف سننها، ليبني حضارته ويقيم خلافته على هذه الأرض.

والثاني يفسر الحياة ويكشف مقصد وجودنا فيها، من خلال استيعاب طاقات العقل لنصوص الوحي وفهم النظام الذي يرتضيه الله لهذا الإنسان في بناء حضارته وخلافته على هذه الأرض.

هذا المنهج أفرز نظاماً من القواعد والثوابت والبديهات والمناهج، تشكل منهج الواقعية الإسلامية، واقعية الجمع بين عالمي (الغيب والشهادة) في مركب واحد، وهذا المنهج له أسلوبه الخاص به في جمع المعلومات واختبار الفرضيات، وقد تمثل في علم مستقل بمنهجه، اسمه علم (أصول الفقه) المستمد من القرآن الكريم والسنة الشريفة وعلوم الأمة وخبراتها المتراكمة في هذا المجال.

وهذا المنهج له الأثر العظيم في تربية عقل المؤمن منذ آدم عليه السلام وحتى يومنا هذا على احترام حقائق الواقع الأرضي، ومحاولة تعلمها كما هي، وكذلك فيما يخص الظاهرة الأدبية فإن المنهج له تأثيره على تكوين الرؤية الأدبية، وامتداد الخيال عند الأديب المسلم عند إطلاله على الحياة وإدراكها من خلال منظاره.

3. ومن قواعد التفكير التي علمنا إياها هذا المنهج:

1.أن يبدأ التفكير من المحسوس (السماوات والأرض وأن يطل على حقائق الأشياء فيهما، كما هي في واقعها المستقل، وأن لا نسمح لرغبات الأنفس وأوهامها بالتدخل في فهم الحقائق.

2.أن نستدل بحقائق (عالم الشهادة) المحسوس (السماوات والأرض) على حقائق وعظمة (عالم الغيب) وذلك بانتقالنا من الحسي خطوة خطوة في اتجاه استشراف الأسئلة الكبرى عن عالم الغيب، وحيث نقرأ الكتاب المنظور (السماوات والأرض) وخلقهما ودلالته بهدي من الكتاب المسطور (القرآن الكريم) وبهذا يجمع دماغ المسلم بين علوم العقل الحسي التحليلي (التفكير) وبين علوم الوحي ومنهجه في إرشاد الفكر وضبط مساره.

3.أن يكون هدف التفكير هو البحث عن الحق وتعلمه والخضوع إليه، وليس مجرد الإشباع لحاجات الجسد أو النفس، وبذلك نشبع رغبات فطرتنا من خلال الخضوع للحق، الذي نبحث عنه ونتحراه، لأن الهدف من قواعد التفكير، هو حماية الحق حتى لا يلتبس بالباطل، بسبب انحراف التفكير عن المسار الموضوعي، الذي يؤدي إلى انقلاب الحقائق وضلال الإنسان، وكم منطق فيه الحقيقة تقلب!

وقد قدَّم لنا القرآن الكريم آياته في حماية المنهج وأنار الطريق بها، وهي كثيرة، ولكننا نقتطف منها ما يوضح المقصد، قال تعالى:

1.{ولا تقفُ ما ليس لك به علم} [الإسراء: 36].

2.{وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً} [النجم: 28].

3.{ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة: 8].

4.{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6].

5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

6.{يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

7.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].

8.{فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].

9.{أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} [البقرة: 44].

10.{واتبع هواه فتردى} [طه: 16].

ونتعلم من ذلك أن المجتهد المصيب له أجران، وأن المجتهد المخطئ له أجر واحد، وأن الخطأ الذي يقع من المجتهد مغفور له، بل وله عليه أجر واحد، ما دام أنه لم يتعمد الخطأ من قلبه، فإذا تعمد القلب الخطأ، فهو ليس مجتهداً، وإنما هو آثم وخرج من حالة الاجتهاد إلى اتباع الهوى والضلال.

4.وتمتاز محاكمة الدماغ للمعلومات بالحياد، وعدم التعاطف معها سلباً أو إيجاباً، حتى تفرض الحقائق نفسها، وتتضح معالمها، فهو لا يفرح لوجود حقيقة ولا يبكي لغياب غيرها، لأن التعاطف مع الحقائق ليس من طبعه بل هو من طباع القلب.

ثانياً: مجال التفكير:

1.ومجال التفكير كما حددته الآية الكريمة {في خلق السماوات والأرض} وفي تحديد المجال حكمة ربانية بالغة، هدفها ضبط عملية التفكير ضمن خطوات وقنوات محددة هي الحواس الخمس، وهي منافذ الفكر على (السماوات والأرض)؛ فالعين تبصر الأبعاد والأحجام والألوان، والأذن تسمع الأصوات، واللسان للمذاقات، والجلد لملامسة الأشياء، ناعمة أو خشنة أو حارة أو باردة، والأنف للروائح. وقد منّ الله على الإنسان بهذه النعمة العظيمة، نعمة الحواس الخمس في آيات كثيرة منها قوله تعالى {والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78].

وقوله تعالى: {ألم نجعل له عينين. ولساناً وشفتين} [البلد: 8-9].

وقوله تعالى: {لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية} [الحاقة: 12].

2.وتتميز الحواس بأنها مصممة على درجات محددة، فهي لا تدرك (ما تحت الدرجة) وهي أيضاً لا تدرك (ما فوق الدرجة).

3.وقد أثبت العلم الحديث أن لدى حواس الحيوانات والطيور من القدرات ما تتفوَّق به على حواس الإنسان حيث تطَّلع على عوالم هي عند الإنسان من الغيب.

بينما لا تستطيع حواس الإنسان أن تدرك إلا من خلال الدرجة المحددة لها، ولهذا يعيش الإنسان في وسط عالم الغيب، ولا يعلم عنه إلا بحدود ما تسمح به قدرات حواسه، وقد شبَّه القرآن الكريم الحواس بالغطاء الذي لا يمرر له من الحياة التي تحيط به إلا بحدود طاقات هذا الغطاء، حتى إذا انفصلت الروح عن الجسد، وتحررت من هذا الغطاء، الذي يشبه غطاء الغواص، رأت حقائق عالم الغيب التي كانت محجوبة عنها في الدنيا، قال تعالى: {لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد} [ق: 22].

وتظهر أهمية الحواس في كونها تربط الإنسان بواقعه، وحيث تساعده على نقل صورة الحياة المحيطة به، ليستوعب وظيفته ومقصد وجوده، ولا يشتّ عن هذه الوظيفة بالهرب إلى ذاته، فيعجز عن الاستمرار في الحياة.

4.وعلم الحواس معرض للخطأ، ولكن التفكير يكشف أغاليط الحس ويصوبها، وعلم الحواس أيضاً علم متفاوت، فأكثر العلم يأتينا عن طريق حاسة (السمع) ثم يليه علم حاسة (البصر) ثم تليها بقية الحواس، ولكن علم (البصر) أكثر دقة وتأكيداً من علم (السمع) الذي يحتاج إلى التروي قبل قبوله، لأن آفتي التحريف والنسيان تلعبان به، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم منبهاً إلى ذلك (ليس المخبر كالمعاين)

5.وقد حددت الآية الكريمة مجال التفكير بـ(السماوات والأرض)، وهو بحاجة إلى معرفتها وإعمارها، ولذلك فالبقاء مع الحواس أثناء عملية الإدراك أسلم للتفكير المسلم، لأن ذلك يحميه من الانفلات مع التخيلات الخرافية والأوهام، التي قد يقع فيها الإنسان، وتكون نابعة من اختراع قوة المخيلة، ومن حملها بعض المحسوسات على بعض، دون التأكد من أصولها الحسية في الواقع، وهو ما حصل بالفعل في الأديان الصوفية التي صنعها خيال شعوب شرق آسيا (كالبوذية والطاوية والبرهمية وغيرها) حيث حالة الهروب الصوفي من الواقع مع الخيال الحر المتحرر من تكاليف الواقع.

6.وتعلَّم المسلم من منهجه أن علم الحواس وجهود الفكر مرتبط باكتشاف العالم المادي المحسوس لتخسيره في حياته، أما (عالم الغيب) الذي لا يقع في متناول الحواس، والأسئلة الكبرى عنه، التي تذهل عقل الإنسان، فيترك أمر العلم فيها إلى علم الوحي، الذي ثبت في أصوله عن طريق العقل والإعجاز، لأنه المصدر الوحيد القادر على الإجابة في مثل هذه الأمور.

ثالثاً: نتائج التفكير:

لا يمكن لعلم الدماغ أن يرتقي في الاتجاه السليم ويحقق الأهداف المنشودة للتفكير، إلا إذا امتلك الأمور التالية:

1.أن يقصد تعلم الحقائق والخضوع لها، ويكون ذلك بقبول الحقائق والسنن التي تحكم الأشياء في واقعها المستقل عن ذواتنا، حتى يصل إلى الحق الذي صدرت عن مشيئته جميع الحقائق.

2.كثرة التجارب التي تزيده قرباً من حقائق الأشياء، حتى تنكشف الملابسات المحيطة بها فتجلو عنها الأوهام وتزيد من خبرته في فهمها وتمييزها وهو ما قصده الشاعر بقوله:

ألم تر أن العقل زينٌ لأهله وأن كمال العقل طول التجارب

3.أن يمتلك قاعدة واسعة من المعلومات والحقائق والخبرات والبيانات والمفاهيم عن الحياة من مصدري العلم: (علم الوحي وعلم حقائق الوجود).

وترتبط النتائج المستخرجة من تلك العمليات الفكرية بصحة المدخلات وصحة قواعد المنهج، وصحة قواعد المحاكمة ومراحلها، حتى تأتي النتائج (المستخرجات) في غاية الوضوح والسداد.

ويفترض في العمليات الفكرية أن تحافظ على حيادها، وأن لا تسمح لعواطف القلب ومشاعره بالتدخل في مسار المحاكمات الفكرية، حتى تكتمل الحقائق والمفاهيم من فرض نفسها، وهذا هو الوضع الطبيعي للتفكير المحايد السليم الذي لا يخضع لهوى القلب، وبذلك يحقق الدماغ وظيفته العظيمة التي أوكله الله بها وهي: الاتصال بالواقع المحسوس والتفكير في فهم هذه الحياة، ليصل إلى الحقائق والفرضيات والمفاهيم الواضحة عنها.

وبذلك يشكل الدماغ بعملياته الفكرية مركز إرشاد للقلب عن حقائق الحياة، حتى يكون الناصح الأمين والوزير المعين لفطرة القلب، والقلب بعد ذلك حر في قبول هذا الإرشاد أو رفضه، وعندها تنتفي العبثية عن الكون من فكر الإنسان، ويطل على مشارف عالم الغيب، بما امتلك من التفسير والوضوح، ليلهج بالحقيقة التي توصل إليها فهمه وتفكيره {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} وقد أشارت آية قرآنية إلى قضية الفهم باعتبارها حصيلة التفكير النهائية في قوله تعالى: {ففهمناها سليمان وكلاًّ آتينا حكماً وعلماً} [الأنبياء: 79].

تناول الكاتب في الحلقة الأولى من هذا المقال تعريف بعض مصطلحات العنوان، وغاية البحث فيه. ثم تحدث عن المعرفة في القرآن من خلال قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]؛ باعتبارها تمثل معالم نظرية المعرفة القرآنية، وذلك من خلال المراحل التالية: مرحلة التفكير، مجال التفكير، نتائج التفكير، حكم القلب وقيمة الحقيقة. 

وتوقف الكاتب عند المرحلة الثالثة، ويكمل معنا اليوم آخر هذه المراحل...

رابعاً: حكم القلب وقيمة الحقيقة

أ. مملكة القلب في ضوء العلم البشري:

والقلب مملكة عظيمة، تتربع على عرشها النفس، والنفس هي الروح التي خالطت الجسد، والذي يهمنا هنا هو التعرف على موقف القلب من الحقائق الفكرية القادمة إليه من الدماغ، ويمكننا إيضاح هذا الموضوع من خلال مجموعة من الأفكار يمكن طرحها من خلال النقاط التالية:

1.الروح في جوهرها شيء غيبي، وإن تعلقت بعضلة القلب، من خلال علاقة ما وقف علم التشريح عاجزاً عن اكتشافها، لأنها سر إلهي مغلق في وجه العلم البشري، يقول سبحانه وتعالى: {يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} [الإسراء: 85].

لقد اكتشف الإنسان القارات الخمس وامتد بطموحه إلى اكتشاف الكواكب، وبقيت نفسه التي بين جنبيه قارة مجهولة، لا يعرف عن كنهها شيئاً إلا القليل، ووقف علم التشريح عاجزاً لا يحير جواباً، أمام اقتطاع جزء من الذاكرة، أو تغيير القلب بقلب صناعي دون أن يؤثر ذلك في وظيفة أيٍّ منهما.

2.مفهوم القلب في نظر الإسلام، ليس في قطعة اللحم الكمثرية الشكل، التي مقرها في صدر الإنسان فحسب، بل بما أخفى من حقائق غيبية عظيمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، وكان علم التشريح الحديث في بداياته الأولى لا يرى للقلب وظيفة أكثر من كونه مضخة للدم توزعه على أنحاء الجسم، ثم تطور علم التشريح ليعترف عنه بحقائق جديدة، منها ارتباط القلب مع الدماغ بالعصب السمبثاوي العاطفي، ومن الشهادات العلمية المذهلة عن القلب ما حققه طبيب القلب المتخصص الدكتور خلوق نور باقي -وهو طبيب تركي- حين اكتشف أن اسم الجلالة (الله) مكتوب على قلب الإنسان، وبعد التأكد من ذلك نشر تفاصيل الاكتشاف في مجلة علمية معروفة. ومن الخلاصة المترجمة ننقل عنه النص التالي في هذا الموضوع الذي يكشف تفاصيل مذهلة عن القلب: \"في أحد الأيام وأنا أتصفح كتاباً علميّاً، أخذتني الدهشة لما رأيت، فقد وجدت في صورة القلب اسم الله مكتوباً في وسطه، اعتقدت أنني تخيلت ذلك واقتربت من الصورة أكثر، فتبين لي أن اسم (الله) مكتوب وكأنه خط بأنامل فنان ماهر.

هل أخطأت؟! أسرعت إلى الطبق المعلق على حائط الغرفة وقارنته مع لفظ (الله جل جلاله) المكتوب وسط الطبق، وتبين لي أنه لم تكن مصادفة وإنما اسم (الله) كان مكتوباً على القلب دون نقصان.

نعم، بدأت أبحث لسنوات ما آمنت به من أن توقيع (الله) الموجود في قلب الإنسان قد وجدته أيضاً في أطلس طبي وضعه العلماء الغربيون بشكل دقيق واضح، وبقيت هذه الأسئلة عالقة في ذهني، ولكن الجواب كان نعم حين التشريح، إذ أخذت قلب الإنسان في يدي، وتأكدت من وجود هذا التوقيع العظيم عليه، وتأكد لي ذلك في عمليات التشريح، إذ إن قلب الإنسان عند الجميع، وقّع عليه الخالق بلا استثناء، وبوضوح تام.

كما أن مكان توقيع (الله) مدهش، مما يوحي بالدقة الفائقة لأن نسيج القلب من ألياف العضلات المنسوجة كالشبك، إلا أن مكان توقيع (الله) لا يوجد فيه نسيج عضلي، كأن هذه المنطقة خلقت هكذا ليتم وضع التوقيع فوقها، وكأن هذه المنطقة المسماة طبيّاً (أوريكولا) المؤلفة من عضوين لم تتوضح حتى الآن المعلومات حولها، وربما كان ذلك حفاظاً على السرية في هذه الناحية من القلب.

ما هي خصائص القلب؟ ولمَ وضع التوقيع الإلهي هناك؟

قال العالم القدير الدكتور (كاود برنارد) منذ سنوات: \"إن ما نعرفه من العلم عن القلب، هو الشيء القليل، مع أن أدق إحساسنا والإدراك يجعلانا نحافظ عليه في بنيته العظيمة وتركيبه الرائع، إن القلب يشبه الرسوم الموجودة على جناح الفراشة بدقته وغموضه في تركيبه\".

ويقول الدكتور نور باقي:

\"يتركب القلب من ألياف عضلية تشبه الشبكة، وهو محاط بنسيج عصبي يشبه الدورة الإلكترونية وهذه الشبكة معززة بمركز عصبي مستقل، يفوق خصائص البيوكيميا العصبية المعروفة.

أما من الناحية البيولوجية فإن جميع أعضاء جسم الإنسان تعمل بأوامر الدماغ، إلا أن القلب مع وجود مراكز تداخل عديدة، فيكون عمله مستقلاًّ وبقيادة النسيج العصبي العائد إليه، كما أن كل حجرة في القلب تنتج طاقة كهربائية واضحة وعالية وثابتة يمكن عن طريق أي نقطة في الجسم تحقيقها، والتأكد من صحة القلب، وإن القلب ومركز الأعصاب الذي يحتفظ به هو بمثابة الكمبيوتر، فترى أن عمل القلب تابع لحسابات صحيحة لا يمكن أن تتأثر حركته المتوازنة العظيمة لا بالتأثيرات الخارجية ولا بتأثير الدماغ، وليس التوقيع الإلهي على هذا الكنز الغامض مصادفة حيث يعتبر مورد الحياة ويبين مدى أهمية الحياة المتدفقة منه\" (1).

ب. مملكة القلب في ضوء المرجعية الإسلامية:

إن الحكم الفيصل في موضوع مهم كهذا، هو مرجعية الأمة (القرآن الكريم والسنة الشريفة) لنتعلم منهما الحقائق العظيمة، والتي تكشف لنا عن كثير من فطرة القلب ووظيفته واستعداداته، بما يوضح كثيراً من مقاصدنا التي نرمي إليها في فقه هذا الأمر.

ومن النصوص والشواهد التي تكلمت عن القلب في القرآن الكريم نقتطف الآيات الكريمة التالية:

أ.قال تعالى:

1.{أفلم يسيروا في الأرض فتكونَ لهم قلوب يعقلون بها... فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج: 46].

2.{لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179].

3.{وطبع على قلوبهم فهم لا يعلمون} [التوبة: 93].

4.{ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم} [البقرة: 225].

5.{وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به، ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

6.{ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم} [غافر: 80].

7.{وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

ب.ومن الأحاديث الشريفة نقتطف هذه المجموعة من أقواله صلى الله عليه وسلم:

1.\"إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب\" (2).

2.\"استفت قلبك وإن أفتاك الناس\" (3).

3.\"الإثم ما حاك في الصدر وكرهت أن يطّلع عليه الناس\" (4).

4.\"التقوى ها هنا\" (5) وأشار إلى القلب.

هذه الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تكشف لنا خطر مملكة القلب وأهميتها ومكوناتها: فهو مستودع الفطرة، التي تحمل خصائص الإنسان، وهو الشاشة الحساسة التي تستقبل جميع إرساليات الشخصية من حاجاتها العضوية والفكرية والروحية، وعلى شاشته تتواجد جميع ألوان الشعور والأهواء والعواطف والرغبات والحاجات والنوايا والمقاصد التي تمثل الموقف والإرادة والاختيار تحت إشراف الفكر وإرشاده.

وفيه تكمن القيمة الحقيقية للأشياء عند الإنسان لأن علمه يظهر على شكل مشاعر وإرادة واختيار تكشف البواعث والنوايا والتوجه الحقيقي الذي ارتضاه هذا الإنسان بعيداً عن ضغوط الواقع وإغراء المصالح.

وقد ربط الإسلام الأعمال بسببها الحقيقي وباعثها في القلب \"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى\" (6)، ويحاسب الإنسان عند الله على ما استقر في قلبه من مواقف واختيار ونوايا وبواعث، لأنها تمثل وتفسر أفعاله وأقواله ومواقفه. فقال تعالى: {وحصّل ما في الصدور} [العاديات: 10].

وهو منطقة مقفلة سرية لا يملك أحد مفاتيحها إلا خالقها وصاحبها، لأن الله سبحانه وتعالى جعله الحصن الأول والأخير لحرية الإنسان وعلامة تكريمه، حتى يختار موقفه بحرية تامة، دون أن تتحكم فيه العوامل الخارجية من ظلم وأحداث وضغوط، ومنه يبدأ الإنسان مواجهة الظلم معتمداً على ما فيه من رصيد الموقف، ومنه تبدأ عملية التغيير نحو الهزيمة أو النصر {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11].

والقلب أيضاً هو مركز الشعور بالجمال والقبح والزمان والمكان والإثم والفضيلة والحق والباطل، والممكن والمستحيل.

والأهم من ذلك كله، هو أن ندرك وظيفة القلب في عملية المعرفة، كيف تتم وكيف يكون مسارها؟ فقد وصفته الآيات الكريمة بأنه هو الذي (يعقل ويعلم ويفقه).

ونظن أن ذلك يتم من خلال قبوله لعلم الدماغ وفكره وإرشاداته أو رفضه لها، لأن الدماغ والحواس تشكل بوابة لعلم القلب عن الواقع الخارجي، وهذا القلب هو الذي يختار الموقف من الأشياء فيميل إليها أو يميل عنها، قال تعالى: {ولكن ما تعمدت قلوبكم} [الأحزاب: 5].

ويكون ذلك عندما تطرح عليها حقائق الفكر والدماغ وجهودهما في الإدراك والفهم، فيدرك القلب وجه المصلحة والإشباع لذاته وفطرته من هذه الحقائق، فيصدر موقفاً شعوريّاً يبين قيمة هذه الحقائق في ضوء المصلحة والإشباع الفطري لذاته وحاجاته.

أما قلب المسلم فالأصل فيه أن يعدل من رغباته لتخضع إلى تعلم الحق من حقائق الدماغ، ويسترشد بها في إشباع فطرته من خلال الخضوع لمنهج الحق، قال صلى الله عليه وسلم: \"لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به\" (7)، ويرتقي في هذا الاتجاه.

وأما قلب الكافر فهو كما وصفته الآية الكريمة بصيغة الجمع {أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها} [الحج: 46]. لأنها تتعلق بتعلم الإشباع من حقائق الدماغ والفكر، ولا يهمها تعلم الحق، بل يلح عليها الإشباع الغريزي دون منهج أو نظام من الحق، لأن لهفتها إلى هذا الإشباع تعميها عن البحث في الحق، بل هو ليس من أهدافها، ولذلك فقلوبهم لا تنتفع كثيراً من حقائق الفكر، بل تحاول أن تحرف تفكير الدماغ وجهوده لخدمة هواجس نفوسهم وإشباع رغباتها، قال تعالى: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف: 101].

فوظيفة التفكير عند الكافر محصورة في تحقيق الإشباع والبحث عن طرقه ووسائله، وهذا هو نهاية المطاف عنده، وقد وصفتهم آية أخرى في قوله تعالى: {إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً} [الفرقان: 44].

وصفة قصر الحياة على الإشباع الغريزي واضحة في سلوك الحيوان بشكل جلي، وهذا هو سبب عقد المقارنة بين الأنعام والكفار.

وتكشف آية أخرى علمهم من الحياة الذي أوقعهم في هذا السلوك، في قوله تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].

لأن الكافر يبحث عن الإشباع ويقصر الحياة عليه ويفكر من أجله، ويخضع لضغطه، ولذلك فاندفاعه في الإشباع يشبه اندفاع الأنعام والبهائم نحو حاجاتها، لأنه يخضع (للدوافع) الغريزية والحاجات العضوية دون هدي من عقيدة أو ضابط من شرع، ولذلك يمتاز سلوكه بالاندفاع والتهور وعدم الاتزان والتقلب، وتأتي الصورة الأخرى وهي صورة المؤمن بسلوكه في الإشباع.

وهي صورة الإنسان الذي يملك عقيدة تحدد له مقصد وجوده في الحياة، وتشرف على تهذيب (الدوافع) الغريزية والحاجات العضوية حتى ترتقي إلى مرحلة جديدة تتحول فيها دوافعه إلى (ميول). والميول هي دوافع محكومة بالخضوع لضوابط العقيدة وأحكام الشرع، لذلك يتحول اندفاعه إلى (ميول) هادئة مسترشدة بالحق تمتاز بالحكمة والاتزان والثبات (8).

4.ومن الأشياء التي تغني علمنا عن القلب، أن ننظر إلى تعدد الأسماء التي وردت للقلب في اللغة العربية، وفي دلالاتها وتعددها ما يشير إلى عظمته، فكانت هذه الأسماء من قبيل أمور كثيرة منها:

1.الترادف الافتراقي: ويكون ذلك عندما تحل صفة الاسم أو بعض منه، محل الاسم في الاستعمال فتدل عليه، وتصبح كأنها اسم ثان له، فهي ترادفه في جزء من معناه أو دلالته، ويفارقها الاسم فيما يحمل من المعاني الأخرى الجامعة للمعاني جميعها، ونحن نرى وجود الترادف بهذا المعنى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} [الأعراف: 180]. فقد سماها أسماء تدل على لفظ الجلالة، لأنها تترادف معه في الدلالة، وفي المعنى الذي يحمله كل اسم منها، ولكن لفظ الجلالة يفارقها في الدلالة على الأعم والأشمل، فالترادف يعني مجرد المشاركة في المعنى، وليس من الضروري أن يدل على التطابق التام، الذي نتفق مع العلماء على نفيه، وكذلك تعدد أسماء القلب، ففيها من الترادف ما يدل على المشاركة في بعض المعاني وفيها من الافتراق ما يدل على معانٍ أخرى.

2.أو إطلاق الجزء وإرادة الكل.

3.أو إطلاق الكل وإرادة الجزء.

4.أو إطلاقٍ يدل على عموم ما يتعلق به من موجودات أو وظائف أو أسرار، وذلك لكثرة وظائفه، وغموض جوهره، وجلال قدره، وعلو شأنه في عملية المعرفة وغيرها. ومن هذه الأسماء: (القلب، والفؤاد، واللب، والذات، والنفس، والعاطفة، والإرادة، والوجدان، والضمير، والنوايا، والمقاصد، والهوى، والشعور، والبال، والعقل، والسر، والروح، والبصيرة، والسريرة، والأنا، والنُّهى، والخلد، والجِنان، والخاطر، والحِجر). هذا هو القلب مرآة حال الشخصية بكل نوازعها، ومع ذلك فنحن ما أوتينا عنه من العلم إلا قليلاً.

استكمل الكاتب في الحلقة السابقة كلامه عن المعرفة في القرآن من خلال قوله تعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب .

الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191]؛ حيث إن الآية -كما يرى الكاتب- تعطينا مشهداً كاملاً مترابطاً ومكثفاً لعملية المعرفة في مراحلها الأربع وهي: مرحلة التفكير، مجال التفكير، نتائج التفكير، حكم القلب وقيمة الحقيقة.

وها هو اليوم -بعد أن انتهى من آخر هذه المراحل- يجلِّي لنا جوانب أخرى من الموضوع، ينهي بها بحثه عن الظاهرة الأدبية، على أمل أن يتناول بعض القضايا التي تطرق لها بشيء من التفصيل في دراسات لاحقة إن شاء الله.

معالم النظرية (تشكل مفهوم العقل):

يختلط مفهوم كلمة العقل على عامة الناس، ولا يملك عنه أهل العلم إلا القليل، فنحن إذا دققنا النظر في بعض العبارات المتداولة على ألسنتهم نحو: فلان ذكي الفؤاد، وفلان صاحب دماغ عبقري، وفلان لا يسمع لأحد ولا يرى نفسه إلا على صواب؛ فإننا نجد أن بعضهم قد ظن من هذه العبارات وما يشابهها أن العقل هو الدماغ، وبعضهم فهم أنه القلب، والآخر ظن أنه الحواس. وقد نسي هؤلاء أن من أساليب اللغة العربية في التعبير إطلاق الجزء مع أنه يقصد الكل، أو يطلق الكل ويريد به الجزء.

والحقيقة أن كلمة العقل أكبر من الدماغ وحده أو الحواس وحدها أو القلب وحده، بل هي الكلمة الجامعة (للحواس والدماغ والقلب)، وأن جميع ما ذكر هو من قوة التمييز والعقل.

ونجد مصداق ذلك من القرآن الكريم، حيث أطلق فعل العقل على القلب {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ وذلك من قبيل إطلاق الجزء وإرادة الكل، ليدل على أجهزة العقل كاملة، لكنه ذكر القلب لأنه آخر المراحل وأرقاها في تدرج عملية المعرفة من الواقع إلى الحواس، ومن الدماغ إلى القلب.

وفي قوله تعالى: {فلما أحس عيسى منهم الكفر} [آل عمران:52]، ذكر الجزء وهو الحس لكنه قصد عملية الإدراك بكاملها؛ لأنه رأى كفرهم متجسداً أمام حواسه بسلوكهم وأفعالهم، وتحققه بدماغه وقلبه. ومع أننا نقر أن جوهر العقل شيء غيبي لارتباطه بالروح التي هي من أمر الله، إلا أن ظاهرة العقل فيما نلمسه من حالة الوعي الظاهرة عند الإنسان من خلال ما قدمناه، تدل على أن مصطلح العقل يعني مجموع (علم الدماغ علم القلب). ولذلك فهو يدل على الأجهزة الظاهرة للعقل، وهو يدل أيضاً على ثمار هذا العقل؛ حيث العلم الذي يجعل الإنسان قادراً على التمييز ويعقله عن الوقوع في الخطأ، من خلال هذا الميزان الذي يتكون من قطبين هما: (الدماغ بحواسه) و(القلب بمملكته) وهما يتجاذبان عملية العلم والمعرفة تجاذباً يضمن لهما التطور والاستمرار. ويمكننا إلقاء الضوء على عملية التجاذب تلك وإيضاح معالمها من خلال النقاط التالية:

1.علم الدماغ: نسمي (المعرفة) التي يتحصل عليها الدماغ أثناء عملية التفكير في المعلومات القادمة عن طريق الحواس، والوصول بها إلى مرحلة استنتاج (الحقائق والمفاهيم والأحكام) بـ(الحقائق الدماغية الفكرية)؛ لأنه يحاكم ويميز من خلال منهج يضبط عملية التفكير حتى يصل بها إلى مرحلة الاستقرار والثبات أو إلى حالة التساؤل والبحث الذي يدفع بها إلى عمليات تفكير جديدة.

2.علم القلب: نسمي (الموقف) الذي يصدره القلب على ضوء الحقائق الدماغية القادمة إليه من جهود الدماغ في التفكير بـ(قيمة الحقيقة)؛ لأنه يحكم على حقائق التفكير الدماغي أو مفاهيمه من خلال مركب من مشاعر التصديق والرضى والقبول، أو من خلال مركب من مشاعر الرفض والخوف والقلق أو منهما معاً، وهي عبارة عن ردة الفعل الطبيعية لدى فطرته أو موقفه الشعوري، حيث يرى قيمة هذه الحقائق وفائدتها في إشباع فطرته وعواطفه ومشاعره وإرادته وحاجاته، كأن يصدر مشاعر الفرح قيمة لحقيقة النصر، أو أن مشاعر الحزن قيمة لحقيقة الهزيمة، أو أن يصدر مشاعر الحزن والهلع قيمة لحقيقة الموت، أو أن يصدر مشاعر الكره والحقد قيمة لحقيقة الظلم والاضطهاد، أو أن يصدر مشاعر مركبة من رصيده الفطري الشعوري تجاه أحداث ومفاهيم وحقائق يكابدها في الحياة.

وإذا عدنا إلى الآية السابقة التي انطلقنا منها، فإننا نجد أن الحقيقة الدماغية المستخرجة من التفكير في السماوات والأرض، ظهرت في صيغة {ربنا ما خلقت هذا باطلاً} ومعناها يدل على حقيقة، ينفي فيها التفكير معنى العبثية عن الحياة والكون والإنسان، ويقر بأن الإنسان خُلق لمقصد محدد، وعندما ظهرت هذه الحقيقة بوضوحها أمام القلب المستقيم الفطرة، أصدر قيمة هذه الحقيقة والموقف منها لدى هذا القلب، وظهرت قيمة الحقيقة في صيغة {سبحانك فقنا عذاب النار} حيث ظهر هذا القلب الخائف أمام انتفاء العبثية وجدّية الحياة، وجاء على شكل دعاء وتعظيم لله سبحانه وتعالى، يتجلى فيه الإيمان والخضوع

والاستعاذة بالله من عذاب النار. وهكذا ظهرت قيمة الحقيقة والموقف منها منضبطة بمعيار متلازم، لا انفصال فيه بين الموقف والقيمة وهي أيضاً متصلة بالرؤية الفكرية التي كوَّنتها؛ لأن القلب هو الذي يعقل علم الدماغ وتفكيره وحقائقه ومفاهيمه، ويستفيد منها ويسترشد بها، أو يعرض عنها وينفر منها، وهكذا فهو يعقل قيمة هذه الحقائق ويدرك جدواها في إشباع ميوله وحاجاته وغرائزه وطموحاته.

ونلاحظ أن عملية المعرفة تتدرج في دماغ يعقل حقائق عالم الشهادة، وقلب يعقل وجه المصلحة من هذه الحقائق.

أما إذا عمي القلب عن إدراك هذه الحقائق ووجه الحق فيها، فمعنى ذلك أنه عرضت أمامه حقائق الحياة وحقائق التفكير ومفاهيمه عنها، لكنه لم يستجب لها، ولم يستفد منها، وأصبحت هذه الحقائق مجرد معلومات عابرة لم تؤثر في موقفه، ولم تعدل من استجابته، وما الفائدة من الحقائق التي يتعب الفكر الدماغي في الوصول إليها، إذا لم يقبلها القلب ويسترشد بها في تهذيب مشاعره وحاجاته وفطرته، حتى يدرك جوهر الحياة وحقائقها، فيخاف وقت الخوف، ويطمئن وقت الطمأنينة، ويتعظ وقت الاتعاظ، ويكره وقت الكره، ويحب وقت الحب. ولذلك وصف الله تعالى هذه القلوب بلسان الجمع في قوله {لهم قلوب يعقلون بها} [الحج:46]؛ لأنهم في آية أخرى تفصل حالهم: {وكانوا لا يستطيعون سمعاً} [الكهف:101]. لا من قوى فكرهم ولا من فكر غيرهم؛ لأن مملكة الهوى تخضعهم لرغباتها، فهم لا يرون الحياة إلا من خلال منظارها.

ولا تخلو عملية التجاذب بين القطبين (الدماغ والقلب) من تبادل التأثر والتأثير فيما بينهما، بحثاً عن الوعي الأفضل والأمثل؛ فتارة يضيق القلب بحالات الجمود والتقليد الذي يعيشه الفكر أحياناً، فيدفع القلق القلبي الدماغ للنشاط والتفكير بحثاً عن العلم والتفسير والطمأنينة، وتارة يقوم التفكير الدماغي بهداية العواطف الجامحة لدى القلب، بما لديه من فكر، وبخاصة أمام حالات الجدة والدهشة والمفاجأة، يرشدها ويربيها؛ لتفيق من هياجها وتخضع للفهم الأفضل فيما استجد عن قناعة ورضى وتسليم

وفي نهاية المطاف، لا بأس من التفريق بين العلم في بعض معانيه وبين المعلومات؛ فالعلم: يدل على حالة استفادة القلب من تفكير الدماغ ومفاهيمه وحقائقه. وفي هذه الحالة يستفيد القلب ويهتدي، وتتحول الحقائق إلى هداية في أعماقه وارتقاء في مشاعره وطباعه وتهذيب في فطرته وانضباط في أهوائه، ثم يمتد هذا العلم إلى سلوك ظاهر في جوارحه وأفعاله وأقواله.

أما المعلومات: فتدل على الحالة الأخرى المغايرة، وهي الحالة التي تمرر فيها حقائق الدماغ عن الحياة وتفكيره وجهوده، وتعرض أمام بصيرة القلب لكنه لا يتعظ بها، ولا يتكيف معها في هداية فطرته، وهذا القلب عمي عن تلك الفائدة وقبول الحق منها، رغم أنها قريبة منه، وفي متناوله، وقد وصف الله سبحانه هذا النوع من القلوب بقوله: {فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور} [الحج:46]؛ لأنها جعلت الإشباع هدفاً وهاجساً ومعبوداً، واستبعدت عملية تعلم الحق من أهدافها، فتحولت الحقائق إلى مجرد معلومات يختزنها في الذاكرة، ولكنه لا يستفيد منها ولا يعتبر بها. قال الإمام الشافعي رحمه الله: \"ليس العلم ما تحفظ، إنما العلم ما نفع\" ) (. ومن الأبيات الجميلة التي دارت في فلك الآية القرآنية قول أحمد شوقي:

لقد أنلتك أذناً غير واعية ورُبّ مستمع والقلب في صمم

الخلاصة:

وهكذا نرى أن المعرفة في المفهوم القرآني، تتدرج في قنوات العقل البشري من الواقع الخارجي (عالم الشهادة) إلى الحواس، ومنها إلى الدماغ ومنه إلى القلب، وهو أرقى الدرجات في السلم المعرفي وأعلاها، ضمن سلسلة من التواصل والتفاعل، تصنع المفاهيم وتكشف الحقائق وتصدر الأحكام التي تشكل الرؤية الفكرية للأديب، فيستقبلها القلب بإصدار قيمة الحقيقة والموقف منها.

وتتم عملية المعرفة تلك في ترابط وتشابك وتجاذب بين قطبي العقل (الدماغ والقلب) حتى تصل إلى مرحلة الحقيقة الكاملة بجميع أبعادها: الواقعية والحسية والفكرية والمنهجية والقلبية.

وكان الهدف من شرحها مفككة هنا، هو تسهيل عملية فهمها فقط، وقديماً قال أحد الحكماء: (إن الله جعل القلب أمير الجسد، وملك الأعضاء، فجميع الجوارح تنقاد له، وكل الحواس تطيعه، والقلب وزيره العقل) ) (، وقصد بالعقل هنا الدماغ والفكر وهو من قبيل إطلاق الكل وإرادة الجزء.

القلب ومصادر المعرفة:

استكمالاً لما سبق، لا بد من إيضاح مسار المعرفة، حيث يتلقى القلب العلم والمعرفة من مصدرين هما:

المصدر الأول: علم المعرفة القادمة للقلب من بوابة الفكر والحواس على الكون والحياة، وهذه المعرفة يأخذها الفكر من مصدرين هما: (علم حقائق الوجود، وعلم حقائق الوحي) ويكون فعل القلب في هذه الحالة هو إصدار (الموقف والقيمة) وهو ما تم تفصيله فيما سبق من الفقرة رابعاً (حكم القلب).

المصدر الثاني: علم المعرفة القادمة إلى القلب من جهة بصيرته (الروح) وهو من بوابة الروح على أصل فطرتها في عالم الغيب، وهو ما اصطلح أهل العلم على تسميته بالإلهام.

الإلهام:

والإلهام (الهداية – الفراسة) هو انفتاح بصيرة القلب لتلقي العلم مباشرة من الله سبحانه وتعالى من خلال طاقاتها ومواهبها وخصائصها، ومن جهة أصلها وفطرتها وانفتاحها على بوابة عالم الغيب، حيث يهجم هذا العلم على شاشة القلب كهجوم الأسد على فريسته، أو يقذفه الله في القلب مباشرة، دون مقدمات أو جهد.

ويختلف عن العلم الذي يأتي إلى شاشة القلب عن طريق الفكر وبوابة الحواس على الواقع الخارجي. وتسمى الروح في هذا العلم بالبصيرة، لأنها تبصر الحقائق بذاتها وطبعها، بصفتها نفخة علوية من عطاء الله للإنسان.

وقد اختلف العلماء في تسمية هذا العلم من جهة تلك البصيرة، إلى تسميات منها: (الإلهام – الهداية – الفراسة). وقد ورد في شرح العقيدة الطحاوية باسم الفراسة وذكر منها ثلاثة أنواع:

1.فراسة إيمانية: وسببها نور يقذفه الله في قلب عبده، وحقيقتها أنها خاطر يهجم على القلب يثب عليه كوثوب الأسد على فريسته، وهذه الفراسة على حسب قوة الإيمان، فمن كان أقوى إيماناً فهو أحدُّ فراسة.

2.وفراسة رياضية: وهي التي تحصل بالجوع والسهر والتخلي، فإن النفس إذا تجردت عن العوائق صار لها من الفراسة والكشف بحسب تجردها، وهذه فراسة مشتركة بين المؤمن والكافر، وهي فراسة لا تدل على إيمان ولا على ولاية.

3.وفراسة خلقية: وهي التي صنَّف فيها الأطباء وغيرهم حيث استدلُّوا بالخَلق على الخُلق لما بينهما من الارتباط الذي اقتضته حكمة الله، كالاستدلال بصغر الرأس الخارج عن العادة على صغر العقل ) 

والإلهام حالة فردية متفاوتة في ظهورها لدى الأفراد، ومن الأحوال التي تسرِّع الإلهام وتيسِّره وترفع القلوب إلى مستواه، حتى تستحق أن تُلهم العلم من الله سبحانه وتعالى:

1.إذا تحرج القلب عن الوقوع في الشبهات أو المعاصي.

2.وإذا استنفذ الفكر الحول والقوة ووقف عاجزاً، واستيقظت في القلب الإرادة التي تتشوَّق إلى معرفة الحق الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.

3.إذا عاش القلب حالة انتظار الفرج، وغمره الصدق والنقاء، وارتفع إلى مراتب التقوى.

4.إذا اشتدت في القلب الحاجة والافتقار إلى عون الله في البحث عن الصواب، وألحَّ في الطلب والدعاء.

وأدلة ذلك كثيرة في كتاب الله تعالى وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومن أدلته في القرآن الكريم:

- {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً . ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2-3].

- {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا} [العنكبوت: 69].

- {واتقوا الله ويعلمكم الله} [البقرة: 282].

- {إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون} [الأعراف: 201].

ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه علَّمنا صلاة الاستخارة والدعاء عندما يغمُّ الأمر، أو تضيق بنا الأحوال والسبل، وعندها لا بد أن يأتي الفرج والهداية ولو بعد حين.

ويأتي الإلهام على صور وأشكال متعددة منها:

1.أن يقذف الله سبحانه وتعالى الفهم السديد على شاشة القلب، فينكشف له وجه الحق والصواب فيما غمَّ عليه.

2.أن يأتيه العلم على شكل رؤيا صالحة واضحة التأويل.

3.أن يجعل الله في قلبه ميلاً وطمأنينة تجاه الشيء الذي غمَّ عليه.

4.أن يجعل الله في قلبه نفوراً وقلقاً تجاه الشيء الذي يهتم به.

5.أن تزول الغشاوة عن البصيرة فينكشف لها الدليل والبرهان في جلاء حقيقة معينة.

6.وقد يأتيه العلم حين يلهمه الله حسن التقدير وصحة التوقع لما يدور حوله من القضايا التي يهتم لها.

7.أن يهجم عليه التذكر بعد النسيان فإذا هو مبصر لما غاب عنه.

تفسير الظاهرة الأدبية في ضوء ما سبق:

وهكذا وبناءً على ما سبق، يمكننا الاتكاء على نظرية المعرفة في تفسير الظاهرة الأدبية، لما لها من فضل عظيم في إلقاء الضوء على النشاط الفكري والنفسي والأدبي عند الإنسان، وتحديداً عندما نتذكر أن الله سبحانه وتعالى قد منّ على الإنسان فأعطاه العقل بقطبيه (الدماغ والقلب) وجعله كائناً مفكراً ا مشاعر وعواطف، ومنحه القدرة على نقل فكره ومشاعره، بما أعطاه من نعمة البيان وبما منحه من أدواته، ومن أدلة ذلك في الكتاب العزيز، قوله تعالى: {علمه البيان} [الرحمن: 4]. وقوله: {واختلاف ألسنتكم وألوانكم} [الروم: 22].

وقوله: {ألم نجعل له عينين . ولساناً وشفتين} [البلد: 8-9]. وقوله {وعلّم آدم الأسماء كلها} [البقرة: 31]. والأصل في التعبير والبيان أنه حاجة داخلية شعورية قلبية، لأنها تمثل الموقف في القلب، لكن الذي يتحكم في صياغتها الفكر والذوق، وهذا ما تبينه الآيات الكريمة في قوله تعالى: {يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} [الفتح: 11]. وقوله أيضاً في وصف موسى عليه السلام عن نفسه وحاله {ويضيق صدري ولا ينطلق لساني} [الشعراء: 13].

والبيان وسيلته اللغة وجهازه الصوتي والفكر، مما جعل هذا الإنسان قادراً على النقل والإيصال والإعراب عما يعتمل في نفسه، من خلال الأبنية اللغوية والأساليب الفنية وبما توصل إليه من الأجناس الأدبية التي تمكنه من إيصال ما يريد، ومن خلال البيان الذي يسحر القلوب بما يوصله من تأثير إلى نفوس المخاطبين.

وكما نعلم أن الأدب في أصله وجرثومته يعتمد على نقل الموقف الشعوري القلبي وبما تصدره مملكة الهوى والإرادة من مركَّب المشاعر، التي تبين قيمة الحقائق والمفاهيم التي قدمتها الرؤية الفكرية للأديب، أثناء حدث خارجي تحرَّش بشعور الأديب وأيقظ حالة الاهتمام والانتباه الشعوري في قلبه، وهو ما اصطلح عليه الشعراء والأدباء باسم: (التجربة الشعورية) للشاعر أو للأديب، وهي التي وصفها الأخطل بقوله:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

وكلام الفؤاد له لغة خاصة به، هي لغة الذات، لغة أغوار النفس، التي تختلف عن كلام اللسان الذي يمثل لغة المجتمع، لأن اللسان هو الترجمان الذي يترجم لغة الذات إلى لغة المجتمع من خلال لغة البيان.

من لغة الذات إلى لغة البيان:

ومن هنا لا بد لنا من متابعة الرحلة، حتى نرى كيف تتحول لغة الذات، التي قال عنها الشاعر (إن الكلام لفي الفؤاد) على لغة اللسان والبيان الذي يفهمه المجتمع، والأمر يتضح عندما نطلُّ على القلب فنرى أن المشاعر في داخله، أبه بالبحر المتلاطم الأمواج، تظهر على شكل موجات من المشاعر المختلفة في شدتها وتمازجها وطولها، تحكمها حالات من الاندفاع والتوتر المتأرجح بين القمة والقاع، تتداخل فيها الجوانب الشعورية بالجوانب الأخرى الحسية والفكرية، وتتعالى أمواجه بالوجدان والإرادة، وتظهر على شكل وجدانات تمتلئ بالأشواق والمعاناة والرغبات والنوايا والمقاصد لترسم قيمة الحقائق التي قدمت مع الرؤية الفكرية وتحدد الموقف الشعوري منها.

ومع ذلك تبقى لغة الذات مجهولة الدلالة، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ثم صاحب ذلك القلب، لأنها لغة خاصة مبهمة غامضة متداخلة في أعماق النفس، إنها لغة تعتمد المشاعر والتوتر والنبضات أسلوباً، ولذلك هي تحتاج إلى نقلها من لغة النبضات والمشاعر الداخلية المبهمة، أو ما نسميه حديث النفس إلى لغة الخطاب الخارجي المتعارف عليها بين أبناء المجتمع، وعندها يحتاج المبدع إلى عملية إبداعية تحولها إلى لغة بيانية، قادرة على حمل ما يجول في ذلك العالم الغريب الخفي من نفس المبدع، من خلال نعمة البيان التي تعتمد الأساليب اللغوية، وحيث توظف هذه اللغة في بناء معمار بلاغي يكون قادراً على نقل هذه التجربة، لأن البشر لا يفهمون اللغة الشعورية للمبدع، إلا بعد تحويلها إلى لغة بيانية اجتماعية جمالية، تترجم لهم عوالم هذه النفس إلى ما يفهمون من لغة اجتماعية لها تقاليدها الفنية المتعارف عليها بينهم.

وهنا تظهر قيمة البيان الذي منحه الله للإنسان حين يتمكن هذا الإنسان من تحويل لغة ذاته وحديث نفسه ومناجاتها إلى لغة البيان الموصلة المفهومة لدى الجميع، وهو أمر مألوف ومعروف في الآداب الإنسانية كلها، حيث أصبحت كل أمة لها لغتها البيانية الخاصة بها، وهي تمثل تقاليدها الفنية وعلومها البلاغية، وخبراتها التي تتميز بها في الأجناس الأدبية، وبما تجمع لها من خبرات تعكس ذوقها الجمالي الذي تتميز به عن غيرها من الأمم، وبما استقر لها من أساليب البيان بنوعيه: البيان العلمي والبيان الأدبي، لخدمة علومها وآدابها، وإلى هنا نتوقف في بحثنا عن الظاهرة الأدبية حيث نحتاج إلى بحث مستقل يتناول المحطة الأخيرة بشيء من التفصيل وعناوين جديدة تتناول طبيعة الأدب ووظيفة الأدب والتمايز بين الآداب العالمية.

المزيد من المقالات...