خواطر من الكون المجاور

رغم أن المسلسلين ( نسل الأغراب و النمر ) لهما نفس الموضوع ، شخص يعود إلى بلده بعد حوالي عشرون عام لينتقم من أولئك الذين ألحقوا به الضرر ، وكلاهما أيضا يستخدمان العنف في تحقيق هدفهما ، ولكن هناك فرق شاسع بين المسلسلين من حيث تكوين الشخصيات والأحداث مثل الفرق بين بين الأبيض والأسود وبين الخير والشر . فمسلسل (نسل الأغراب) يعاني من جهل تام بمبادئ علم الجمال (الإستاطيقا) سواء في كتابة السيناريو أو في الإخراج . بينما مسلسل ( النمر ) حاول على الأقل تطبيق المبادئ الأساسية لهذا العلم . فكما ذكرت في الأجزاء الماضية أنه بدون الإعتماد على مبادئ علم الجمال يخسر العمل هويته الفنية ويتحول إلى عمل شيطاني هدفه تدمير القيم الإنسانية في المجتمع . لهذا كنت بعد مشاهدة كل حلقة من مسلسل نسل الأغراب اشاهد مباشرة حلقة من مسلسل النمر ليساعدني على نسيان ذلك المجتمع الهمجي الذي إخترعه مؤلف ومخرج المسلسل ( محمد سامي ) وأراد أن يعيشه مشاهدي مسلسل نسل الأغراب .

مسلسل نسل الأغراب تكلمنا عن عيوبه الكثيرة بالتفصيل في مقالة ماضية ، وهنا سنتكلم عن علم الجمال في نقد مسلسل النمر بشيء من التفصيل أيضا لنوضح الفرق بين نوعية اسلوب العنف في تحقيق الإنتقام بين مسلسل نسل الأغراب ومسلسل النمر .

لا أدري إذا كان إختيار كلمة (النمر) ليكون عنوانا لهذا المسلسل قد حصل من إحساس فطري ل(محمد صلاح العزب) مؤلف قصة المسلسل أو من تحليل عقلي . فاختيار صفة (النمر) للتعبير عن شخصية بطل المسلسل يتفق تماما مع مبادئ علم الجمال . فلو كان (محمد سامي) مؤلف ومخرج مسلسل نسل الأغراب ملم بعلم الجمال لكان أطلق على مسلسله أسم (نسل الذئاب) بدلا من نسل الأغراب ولكان في تلك المشاهد التي يعرض فيها أسد داخل القفص وضع ذئب بدلا من أسد لأن روح شخصيات أبطال المسلسل لا علاقة لها بالأسود على الإطلاق . فالفرق بين شخصية بطل مسلسل نسل الأغراب وشخصية بطل مسلسل النمر هو تماما كالفرق بين الذئب والنمر أو بشكل عام بين الفصيلة الكلبية والفصيلة القططية. أفراد الفصيلة الكلبية (كلب ، ذئب ، ثعلب...إلخ) هي رمز الروح النجسة في معظم الديانات ، والفنان الحقيقي لا يسمح بأن يكون البطل الرئيسي لعمله الفني من هذه الروح النجسة . أما أفراد الفصيلة القططية (الأسد ، النمر ، القطة ....إلخ) فهي رمز الروح الطاهرة في معظم الديانات ولذلك نجد أن أول تمثال ضخم في تاريخ البشرية كان تمثال أبو الهول الذي يمثل رأس إنسان وجسد أسد. هذا التصنيف الروحي لأفراد الفصيلتين ليس تصنيفا عبثيا ولكن من وحي إلهي . فرغم أن الفصيلتين هما من الثديات اللاحمة (المفترسة) ، ولكن هناك فرق كبير في طبيعة السلوك ، فالذئب مثلا عندما يهاجم قطيع من الخرفان فهو رغم أن خروف واحد منها يكفيه ليؤمن غذائه ويسد جوعه ، ولكن روحه الشريرة تجعله يهاجم منها قدر المستطاع ، ومن المعروف أن عضة الذئب عادة تؤدي إلى وفاة الماشية فأي هجوم من الذئب على القطيع يعني وفاة عدد كبير من أفراد القطيع هكذا وبدون أي فائدة للذئب فقط سببها إشباع غريزة القتل عنده . أما الأسد فسلوكه مختلف تماما فمعروف عنه أنه لا يذهب إلى الصيد إلا عندما يجوع ، فيصطاد فريسة واحدة ليسد جوعه ، ومعروف عنه أنه صياد كسول فهو عادة يهاجم الحيوانات المفترسة الأخرى ويأخذ منها ما اصطادته هي ليؤمن غذائه . ومعروف أيضا أن الأسد الشبعان لا يشكل أي خطر على بقية الحيوانات . ولهذا كان الأسد يمثل رمز البطولة والشجاعة بينما الذئب يمثل رمز الروح الشريرة في ثقافات الشعوب القديمة .

حكماء الحضارة الإغريقية درسوا أيضا فلسفة العنف في الإنسان ، فاخترعوا مسابقات الألعاب الأولمبية من أجل تحويل العنف من النوعية الإجرامية (الذئبية) إلى النوعية الدفاعية (القططية) ، فبدلا من أن يكون حب العنف هدفه القتل واشباع غريزة القتل تحول إلى رياضة بدنية هدفها الحصول على جسم صحي سليم يستطيع مقاومة الأمراض ويساعد في ممارسة الأعمال اليومية الشاقة التي كانت تفرضها عليهم ظروف المعيشة في ذلك الزمن وكذلك الدفاع عن النفس والوطن إذا لزم الأمر . فمن خلال الرياضة أصبحت ممارسة العنف متعة للذي يمارسها وكذلك للذي يشاهدها وبدلا من أن ينمي العنف العداوه والبغضاء بين المتعاركين أصبحت الرياضة تنمي بينهما الإحترام والتقدير وكذلك المتعة للمشاهدين . الألعاب الأولمبية والرياضة بشكل عام ساهمت هي أيضا في إزدهار الحضارة وتقدم المجتمع الإنساني .

يجب أن نعلم أن مرحلة الطفولة والمراهقة هي مرحلة النمو الجسدي ، وفي هذه المرحلة الطفل أو المراهق يشعر بحاجة إلى تلك الأشياء التي تدفعه إلى الحركة والنشاط الجسدي . فأنا أذكر تماما تلك المرحلة ، فكانت أحب الأفلام لي ولأصدقائي هي أفلام العنف ، ولكن الحمدلله أن الأفلام التي كنا نراها في ذلك الوقت كان معظمها من نوع العنف الرياضي (القططي) وليس من العنف الإجرامي (الذئبي) . فكنا مع أصدقائي نقلد الحركات الرياضية التي يفعلها بطل الفيلم ونستمتع بها دون أن نستخدمها في المشاجرة أو أن نرغب في افتعال مشاكل مع الأطفال الآخرين لنتشاجر معهم . فهذا النوع من أفلام العنف نمى في داخلنا حب الرياضة وليس حب العنف والعراك مع الآخرين . ولهذا أنا شخصيا وكذلك أصدقائي بعد دخولنا في سن الرشد كنا شبانا مسالمين لديهم المقدرة على حل مشاكلهم مع الآخرين بالحوار الجميل وليس باستخدام الأيدي والأرجل كما يحدث مع أطفال وشباب هذا الجيل الجديد .

عندما نقول فيلم عنف رياضي (القططي) نقصد كمثال على ذلك أفلام جاكي شان وأفلام روبن هود وزورو القديمة . أما أفلام العنف الإجرامي (الذئبي) نقصد أفلام سيلفستر ستالوني وأفلام جيمس بوند وأفلام محمد رمضان وأحمد السقا وغيرهم .

للأسف اليوم وبسبب جهل المتخصصين بفن السينما فإن أفلام العنف الرياضي عادة تعتبر أفلام تجارية ولا تدخل في المهرجانات السينمائية ، ولكن في الحقيقة هذه الأفلام لها قيمة فنية مثلها مثل أي فيلم جاد آخر ، فهي ضرورية جدا في فن السينما ليس فقط من أجل متعة الأطفال والمراهقين ولكن أيضا من أجل متعة ذلك الطفل الذي يعيش في داخل كل إنسان مهما كان سنه ، فكل إنسان بغض النظر عن سنه يحتاج بعض الأحيان أن يشاهد فيلم أو مسلسل فقط من أجل المتعة ومن أجل تهدئة أعصابه من المشاكل اليومية . فصحيح أن الصلاة والعبادة تنمي الروح المعنوية في الإنسان ولكن أيضا مشاهدة فيلم جميل مرح ومشوق مع أفراد العائلة أو مع الأصدقاء لا يضر فهو يساعد أيضا في تهدئة الأعصاب وتنمية الروابط الإنسانية بين أفراد العائلة وأفراد المجتمع .

مسلسل النمر هو من هذا النوع والذي يمكن لجميع أفراد العائلة مشاهدته والإستمتاع به . ورغم أنه مسلسل غير رمضاني ولكن بالمقارنة مع بقية المسلسلات التي عرضت في شهر رمضان فهو أفضل بكثير من غيره من المسلسلات .

قبل الكلام عن المسلسل سنعرض ملخص سريع عن قصة المسلسل لنشرح بعض النقاط الإيجابية التي جعلته يختلف تماما عن مسلسل نسل الأغراب :

" المسلسل يبدأ بمشهد رجال عصابة يطاردون شاب صعيدي (محمد إمام) الذي يحاول الهروب منهم بطريقة بهلوانية ممتعة جدا . بعد الهروب ينتقل المشهد إلى منطقة صاغة الذهب في القاهرة حيث يتم التحضير لزفاف مَلك (هنا الزاهد) ابنة الشيمي (أحمد رياض) أحد كبار تجار الذهب مع الشاب حسن (خالد أنور) ابن تاجر الذهب عنتر (بيومي فؤاد) . ولكن ملك تكتشف أن خطيبها حسن يخونها مع صديقتها ، فتخرج من الفندق وتقود سيارتها وهي تبكي وفي الطريق تقوم بصدم (محمد إمام) فتأخذه إلى المستشفى وهناك يخبرها الطبيب أن الصدمة قد جعلته يفقد ذاكرته ، فتطلب ملك من والدها أن تكون هي مسؤولة عنه حتى عودة ذاكرته إليه وتسميه بأسم (نوح) ، ومن هنا تبدأ الأحداث تأخذ شكلا ممتعا جدا ومشوق بسبب غموض شخصية (نوح) ، فمع تتابع الأحداث يظهر عدة أشخاص يعرفون نوح وكل شخص يعرفه باسم مختلف «رجب وكرم وسليمان وجمعة» والأمر الغريب أن مع ظهور نوح في سوق الصاغة تحدث أمور غريبة تجعل كبار الصاغة يشعرون بقلق وخوف من كثرة أحداث السرقة التي تحصل في السوق ، ويتبين لهم أن الشخص الذي يقوم بهذه السرقة هو (النمر) . ففي الحلقة العاشرة توجد أغنية في المسلسل تشرح وضع شخصية نوح (النمر) الغامضة ، كلمات هذه الأغنية تقول :

" انت مين …

انت ابو قلب طيب الحنين البسيط

ولا السهن ابو قلب ميت الحويط

انت لعنه ولا نعمة… رد قول ...انت مين

انت الجدع اللي بيفهم في الاصول

ولا انت شر في اي لحظه بتبقى غول

قولها بصراحة انت مين من كل دول

عمال تغير في الوشوش انت حد مانعرفوش

انت من صنف البشر ولا من صنف الوحوش "

أحداث المسلسل تسير بشكل سلس جدا فالأحداث تتطور بشكل مشوق ، مرح وممتع ومحير ، فبدلا من أن تتوضح الأمور عن شخصية نوح تزداد غموضا . ثم شيئا فشيء يتبين أن نوح هو عبدالله ابن ماهر رضوان الذي كان أحد كبار تجار الذهب والذي تم قتله وسرقة ثروته على يد أربعة من كبار تجار الذهب (محمد رياض، نيرمين الفقي، بيومي فؤاد، أحمد حلاوة) . وأن عبد الله هو (النمر) الذي عاد لينتقم وليأخذ منهم ثروة أبيه المسروقة .

حتى تحافظ مشاهد العنف في المسلسل على شكلها الرياضي (القططي) حرص مؤلف القصة (محمد صلاح العزب) أن تكون أهم صفة في عبدالله (النمر) أنه لا يقتل ويحاول دوما أن تبقى يديه بريئة من دم أي إنسان ، وأن يستخدم ذكائه ولياقته البدنية وحركاته البهلوانية في تنفيذ خططه وإنتصاره على الآخرين. من الأشياء الهامة أيضا أن المؤلف (محمد صلاح العزب) اخترع شخصية بأسم سكلانس يجسدها الممثل (محمود حافظ) ليقيم مع (النمر) في بيته كصديق يعاونه في مهمته ، فشخصية سكلانس بروحه الكوميدية وطيبة قلبه وسذاجة تصرفاته أضافت نوع من الدعابة في نفوس المشاهدين ، وبدلا من أن تنتقل مشاعر الإنتقام من الكراهية والغضب إلى نفوس المشاهدين إنتقلت مشاعر مناقضة لها ، كمشاعر الصداقة والوفاء ومساعدة الضعفاء . وقد أبدع الممثل (محمود حافظ) في تجسيد هذه شخصية سكلانس على أحسن ما يرام . فوجود شخصية سكلانس في فيلم موضوعه الإنتقام هي ضرورية جدا لتحول عملية الإنتقام من شكله الإجرامي إلى شكله الإنساني والذي هدفه تحقيق العدالة .

في مجتمع سوق الذهب حيث تعامل تجار الذهب مع بعضهم البعض ومع الزبائن يتم بطرق غير قانونية فتحدث بينهم مؤامرات وعمليات إحتيال . أيضا المؤلف حرص أن يضع بينهم مَلك (هنا الزاهد) كشخصية نقيضة لهم لتمثل رمز الأمانة والنزاهة والإخلاص في عملها وفي تعاملها مع الناس . فهي تدافع عن الحق وعن العمل النزيه . وعندما تحزن أو تمر بظروف نفسية كئيبة ، تشتري بعض الألعاب والهدايا وتذهب إلى دار الأيتام لتقدمها للأطفال اليتامى فمن خلال رؤيتها لفرحتهم بالهدايا تعود إليها أيضا مشاعر البهجة والسعادة فتتخلص من تلك الحالة النفسية الكئيبة التي كانت عليها .

أيضا شخصية صفية (حنان سليمان) زوجة تاجر الذهب عنتر الحلق (بيومي فؤاد) المرأة البسيطة التي ترمز إلى نموذج المرأة المظلومة التي سلمت أمرها لله ، فبأموالها هي أصبح زوجها من كبار التجار ، ولكنه بعد ذلك أهملها نهائيا وتزوج عليها إمرأة صغيرة بالسن ، ولكن رغم ذلك نجدها تتعامل مع الجميع بحب وطيبة قلب وتحاول دوما أن تقف بجانب ضرتها وابنتها لتحميهما من أذى زوجها . ورغم أن دورها بسيط وتظهر بمشاهد قليلة وقصيرة ولكنها في كل مرة تكون هي البطلة الحقيقية للمشهد ، فكل ما يحدث في المشهد سينتقل منه فقط سلوكها الطيب إلى نفوس المشاهدين . فصفية تمثل النموذج المثالي للمرأة الأمية في الجيل القديم ، بينما ملك تمثل النموذج المثالي للمرأة المتعلمة في الجيل الحديث . ملك وصفية كان دورهما في المسلسل تصحيح هوية المرأة المشوهة التي تمثلها شمس الحلق (نيرمين الفقي) التي تخلت عن هويتها الانثوية وتحولت إلى إمرأة ذكورية لكي تستطيع حماية نفسها وابنها من المجتمع الذكوري الذي ظلمها وهي في ربيع عمرها ، ولكن اختيارها الخاطئ هذا قد جعلها في النهاية أن تخسر كل شيء .

شخصيات قصة المسلسل موضوعة بشكل يحقق توازن روحي بين روح الخير وروح الشر ولكن بشكل يضمن للعواطف النبيلة أن تنتصر وأن تدخل هي فقط إلى العقل الباطني للمشاهدين .

المؤلف (محمد صلاح العزب) قام بدوره كفنان رواية على أحسن ما يرام ، ولكن مخرجة المسلسل (شيرين عادل) لها أيضا فضل كبير في نجاح مسلسل النمر كعمل فني . فالمخرجة بإحساسها الإنثوي النقي استطاعت أن تعرض هوية شخصيات المسلسل بأنقى أشكالها لتجعل المشاهد يتعاطف معها بكامل أحاسيسه . واختيار زاويا الرؤية في تصوير المشاهد وكذلك نوعية اللقطات تم بطريقة يحقق معنى المشهد وبشكل يحافظ على توازن المشهد من الناحية الجمالية . فمثلا في بداية المسلسل تحدث عملية قتل واحدة عندما يقبض أفراد العصابة على صديق الشاب (محمد إمام) الذي هرب منهم . المخرجة وضعت الشاب في زاوية مظلمة من الشاشة بحيث يراه المشاهدين من الخلف فقط فيتم قتله بالرصاص دون أن نرى وجهه ولا أين أصابته الطلقة . فمثل هذه التفاصيل قد تبدو بسيطة ولكن لها تأثير كبير على نفوس المشاهدين . فمشاهد العنف تدخل نفوس الأطفال والشباب بسبب أخطاء بسيطة يرتكبها المخرج في طريقة عرضها للمشاهدين.

أيضا المخرجة لم تتبع الأسلوب الأمريكي الذي يستخدم اللقطات المتقطعة القصيرة الزمن ، والتي تجعل المشاهد يشعر وكأن كل الأشياء التي يراها أمامه في الشاشة تتصارع مع بعضها البعض ، فتسلسل لقطات المسلسل بالنسبة لزمن مدتها كان فيها نوع من الإنسجام يريح عين وفكر المشاهد .

كل ما ذكرته قبل قليل عن محاسن مسلسل النمر ، ينطبق على الحلقات من الأولى وحتى الحلقة ٢٥ ، أما الحلقات التي بعدها فلا أدري لماذا المسلسل سار في طريق مشابه لبقية أفلام العنف . فشعرت وكأن مؤلف حلقات الخمسة الأخيرة غير مؤلف الحلقات الأولى وأنه كتبها لتصبح مناسبة لشخصية الذئب التي يقوم بها محمد رمضان أو أحمد السقا .فنجد أسلوب الانتقام يتحول من أسلوب نمر إلى إسلوب ذئب ، فنرى مثلا بطل المسلسل يقتل مساعده الذي خانه بدم بارد ، وكذلك نجده يضع المسدس أمام عدوه عنتر الذي وصل إلى حالة يرثى لها ليدفعه إلى الإنتحار . وبدلا من أن يتزوج حبيبته ملك يتزوج شمس التي تكبره بأعوام عديدة والتي هي أيضا شاركت في قتل والده رغم معارضة والدته لهذا الزواج . أما ملك فتتحول هي الأخرى إلى فتاة مشابهة لشمس وتبدأ بالإنتقام ولكي تغيظ حبيبها النمر لأنه تزوج غيرها تتزوج هي من حسن خطيبها السابق الذي خانها والذي يلعب دور شاب شرير يساعد والده في أعماله الشيطانية ليسيطر على سوق تجارة الذهب . وكذلك نجد فجأة خال النمر الذي ساعده في تنفيذ خطته من بدايتها لتحقق نجاحها يتحول هو الآخر إلى شخص مخادع يسعى فقط لتحقيق مصالحه مثله مثل بقية تجار الذهب .... لا أدري لماذا تحولت أحداث المسلسل هكذا فجأة إلى أحداث دموية غير منطقية أفسدت جمال شخصيات وأحداث المسلسل . ولكن الذي فهمته من هذا التغيير أن جميع الفنانين الذي لديهم موهبة حقا في تقديم عمل فني صحيح ، لديهم خوف على مستقبلهم لأن تيار الفن الحديث يسير في طريق يسمح فقط للأعمال من النوع (الذئبي) أن يستمر وينجح تجاريا وكل من يحاول الخروج من هذا النوع سيكون مصيره الطرد من ممارسة عمله ، ولهذا عندما وصل المؤلف إلى وضع نهاية مثالية لقصة المسلسل (في الحلقه ٢٥) يبدو أنه أعاد قراءة القصة من البداية فشعر أنها بنوعية مختلفة كثيرا عن تلك الأعمال الشهيرة التي يلعب بطولتها محمد رمضان أو أحمد السقا ، فربما خوفه على قصته من الفشل اضطر المؤلف أن يغير نهاية قصته ليجعلها تسير ضمن معايير التيار الذي تعتمد عليه شركات الإنتاج في جميع أنحاء العالم ليضمن استمراره في كتابة قصص أخرى يمكن لها أن تتحول إلى مسلسل أو فيلم . ربما والله أعلم .

clip_image001.png

إن كلمة الصورة تعنـي خيـال الموتـى وَطيفهُـم وَصارت تسمى لاحقًا بـ الصورة، فجـذر الكلمة من أصل ينتمـي لعالَم ما وراء الوجود المـادي لعالم الأرواح، وقد أخذ ابن عربي معنى الصور وَربطها بعالم الخيال والمُثل المرتبط بحيـاة ما بعد الموت أو البـرزخ، كما ترتبط كلمة صورة بالصُـور وَالتخيّل من اليونانيـة أي القناع الشمعي الذي يوضـع على وجوه الموتى لتطبـع ملامحُهم وَتقدسهم. من هنا، حضر ياسين بورم دماغي جعلهُ يرى كل شيء مقلوباً، ومن هنا أيضاً، ربط الكاتب صورة ذهنية عميقة توزعت على الرؤية الرافضة للمجزرة من جهة، ومن جهة أخرى رؤية من يتعطشون للدماء ليقيموا فوق عظام السكان الأصليين مدينتهم الفاضلة.

من هناك، من تلك المدينة التي سعى إليها القتلة، أقاموا مشفى للمجانين، وجعلوا من قبر ياسمين قبر القديسة (ايدين) ابنة يهودا لتكون محجاً لهم من جهة، ويزروا حقيقة جريمتهم من جهة أخرى.

من هنا يعكس الكاتب الصورة المقلوبة التي أراد الكاتب أن يصور حقيقتها للقارىء، صورة الحق التي شوهها الكيان الغاصب على طريقته وشاهدها العالم على أنها الحقيقة.

من لغته المدهشة، إلى سرده الممعن في التفاصيل، من المد والجزر في الأحداث، إلى الصور التي طبعها بأبعادها الحقيقية وانعكساتها، من البنية المتراصة والسطور المشبعة بالحكايات والصور أدخلنا الروائي إلى دير ياسين بحلتها الأولى، وقبل أن تنهش الكلاب ثوبها الأبيض النقي وتغمسه في الدماء، فنراها تضعُ قناعها الشمعي لتخلد فينا ملامحها التي حاول قتلتُها دمل ملامحها.

كثيرةٌ هي المجازر التي حدثت بحق الشعب الفلسطيني، وكانت من البشاعة بما لا يصدقه عقل، و أبرزها مجزرة دير ياسين التي تحدثت عنها رواية "يس" للروائي أحمد أبو سليم.

لفت انتباهي عنوان الرواية "يس" برسمها القرآني، مما استدعى عندي فكرة أن الكاتب تقصد ذلك ليعطيها نفحة من القدسية والخصوصية والتمييز عن غيرها من العناوين والأسماء، كما أنه بين ارتباط البطل "ياسين" بسورة يس في الفصل الثالث من الرواية التي كانت والدته أيضا تردد بعض آياتها على الجنود لتمنع شرهم.

في فصلها الأول والمعنون بـ"المجزرة" ندرك أن الروائي اتخذ أو انتهج أسلوباً مختلفاً عن أسلوبه في أعماله السابقة، ومن سبق له قراءة أعماله سيدرك ذلك بسهولة، فهل كان هذا النهج من متطلبات موضوع الرواية وفكرتها المباشرة؟ أم أن الكاتب أراد بذلك أن يطلق رصاصة أولى يسمعنا عبرها صوت الأرواح الذين دكتهم قنابل ومتفجرات وآليات العدو؟

وأستطيع القول إن الكاتب قد نجح بذلك فعلاً عندما أدخلنا من بوابة دير ياسين مباشرة، وبدأنا بسماع الأصوات ورؤية الحقائق كما هي وبأسمائها.

وأكثر ما يمكننا تصورهُ قبل قراءة الرواية، هو سؤال يطرح نفسه في مخيلتنا، ما الذي يمكن أن يضيفه الكاتب إلى مجزرة حدثت ونعرف تفاصيلها؟ أم هي رواية تاريخية تتحدث عن تفاصيل وأسماء حقيقية لتسجيل الحدث برمته، وكما حدث فعلاً بالإضافة إلى أحداث وشخصيات متخيلة هي من متطلبات إتمام العمل؟

لكن المفاجأة تكمن منذ البداية عندما يقول أبو سليم "هل يمكن للذَّاكرة أَن تصاب بالصَّدأ، وتهترئ؟". وكأنه بذّلك يفتق الجرح القديم ليرينا الصورة الحقيقية التي لا زالت حتى اليوم تتكرر بعبثيتها وهمجيتها وإجرامها، صورة الاحتلال الصهيوني، وإنني لأرى أن ما يحدث اليوم من انتهاكات في المسجد الأقصى والشيخ جراح وسلوان، وما حدث أيضاً في غزة من قتل وتدمير ما هو إلا انعكاس لتلك الذاكرة التي لم ولن تصدأ. وهذا يحسب للرواية أنها رواية المعيش واليومي، وهي مع ذلك خالدة طالما أن هناك احتلال ويكرر ما فعله هناك، في دير ياسين. وما يفعله غيره أيضاً من المحتلين في كل زمان ومكان.

كثيرةٌ هي الأسئلة التي طرحها الكاتب على لسان البطل ياسين، وهي أسئلة مبطنة بالفلسفة مشتبكة بألم اللحظة المعيشة والصورة المطبوعة بل والمحفورة في الذّاكرة، حيث زاوج بين الموت والحياة، فالبئر التي كانت تغذي القرية بالماء، هي ذاتها التي تحولت إلى قبر أثناء حدوث المجزرة، والمسجد الذي كان ملاذ المصلين إلى الله وأمانهم تناثرت دماء جده هناك عندما اقتحمته مجموعة "يهودا سيفل" وأطلقوا النار عليه.

كذلك التفاصيل التي جعلتني أتجول مع أبطالها من مكان إلى مكان ومن جرح إلى جرح حتى خلت أنني عشت المجزرة و كوابيس من كان لهم نصيب النجاة، فكانت الصورة التي تسبح في التفاصيل متقنة حد الدهشة، وفضح آلية ومنهجية العملية العسكرية أو الإرهابية على أدق تعبير التي قاموا بها، وتتضمن القتل وبث الرعب والتخويف في النفوس وتمثل في قوله:

"كانت الخطَّة تقضي بمحاصرة القرية تماماً من كلِّ الجهات، وإبادتها بكلِّ من فيها، ببشرها، ودوابِّها، وطيورها، وحشراتها، وكلِّ ما يتنفَّس فيها، كانت جزءاً من عمليَّة "نحشون"* الَّتي خطَّطت لها الهاغاناة...".

"سدَّد مجنَّد نحو ظهرها.... إلى القلب تماماً، وهي تركض مبتعدة، ثمَّ عاد وخفض فوَّهة البندقيَّة، سدَّد إلى الرُّكبة تماماً، أَصابها هناك، كان يمتحن قدرته على التَّصويب، وهو يتذكَّر تعليمات يوشع: نريدُ بعض الشُّهود مشوَّهين كي يروهم النَّاس في القرى الأُخرى، والمدن، ويشعروا بالرُّعب ممَّا قد يصيبهم، ويتركوا بيوتهم، تلك تعليمات الهاغاناه، ولو ترك الأَمر لي لما تركتُ منهم حيَّاً يتنفَّس... قال له يوشع".

كان الفصل الأول زخم جدا بتفاصيل المجزرة بكل أهوالها وفجائعها وما حملته من صدمات وقصص تقشعر لها الأبدان، كما أنه لم يغفل عن تفاصيل المقاومة والأسماء الحقيقية لمقاومين معروفين مثل عبد القادر الحسيني وبهجت أبو غربية وغيرهم، كذلك فتح لنا نافذة للأمل في قصة حب ياسمين والخال التي كان مهرها قتل قاتل أبيها "وليام جاك"، وقد تمكن بالفعل من قتله ليحوز بذلك على رضاها والزواج منها.

ولم تنته المجزرة هناك في دير ياسين إلا بفجيعة أخرى لم يغفل عنها الكاتب في نهاية الفصل الأول، وهي فجيعة اللجوء، وسأذكر ذلك على لسانه في صفحة 51:

"الجيوش العربيَّة ستدخل فلسطين بعد انسحاب بريطانيا، وستحرِّرها من اليهود، قالوا، وهو صدَّق الكذبة.

لم يكن يعرف أَنَّنا سنكون طلائع اللَّاجئين، هو، وأُمِّي، وأَنا، لم يعرف.

اللَّاجئون هم من لحقوا بنا، هم من استقرَّ بهم المقام في الزَّرقاء، وبنوا المخيَّمَ حول المسجدِ والمقبرةِ الملاصقةِ له".

في الفصل الثاني يبدأ الكاتب بسرد تفاصيل حياة المخيم من معاناة بدءاً من الخيم التي عاشوا فيها مؤقتا، وقد تحولت فيما بعد إلى بيوت من الطوب الأحمر المخلوط بالقش، ومدارس وكالة الغوث التي كانت تفيض بالطلاب، ولا تستوعب الأعداد، كذلك تحول الناجون من أصحاب أراضٍ وبيوت إلى أرقام في بطاقات المؤن من أجل استقطاب المساعدات الدولية، وتعلق أهالي المخيم بأوهام الحرب والعودة يسمعونها عبر أثير راديو احتفظ فيه الجد، وكانت المجزرة حاضرة دائما في حكايات الأم وكوابيسها وقدمها الخشبية التي تدك الأرض جيئة وذهابا والمفتاح المعلق على الجدار، والخال العائد بعد غياب بلسان مقطوع، وحال هزيلة حتى ياسين البطل الذي تبين فيما بعد أنه يعاني من ورم دماغي جعله يرى كل شيء بالمقلوب وجاء على لسان الكاتب:

"أَفقد قدرتي على النُّطق، إلى أَين تمضي والمجزرة فيك، والقتلى ينهضون كلَّ ليلة من جديد..."

"كان عليَّ إذن حسب نظريَّة الطَّبيبة أَن أَشعر بالسَّاخن بارداً، والعكس، وأَن أَشمَّ الرَّوائح بالمقلوب، وأَن أَتذوَّق الأَطعمة بالمقلوب، كان يمكن أَن يكون ذلك الأَمر حقيقيَّاً، ما الَّذي يمنع تلك النَّظريَّة ما دمتُ أَرى الأَشياء بالمقلوب؟". كأن الكاتب أراد أن أبناء المجرزة لا شفاء لهم منها فهي تلاحقهم حتى بعد انتهائها، بل أراد تذكيرنا بأن الإنسان بوضعه الطبيعي قد تدهشه صورة ما وقد يفتنه منظر ما وقد تجذبه رائحة، أما بعد المجزرة، كيف سيحدث ذلك.. سيكون كل شيء مقلوباً لا طعم ولا رائحة له سوى رائحة الدماء وصورة الجثث.

وتحضر المجزرة في فصلها الثالث أيضا، عندما يكون البطل ياسين بعمر العشرين، وينتمي إلى حركة فتح باسم حركي "أمين"، على اسم توأمه الذي استشهد في طريق الهروب من دير ياسين: "رغبة الأَحياء في إيقاظ الموتى من موتهم لا تتوقَّف نعيدهم حين نسمِّي أَطفالنا بأَسمائهم، أَو حين نطلق أَسماءهم على الشَّوارع، والمعالم البارزة، أَو حتَّى نبني للمشاهير منهم المتاحف، ونحتفظ ببعض مقتنياتهم فيها".

كما أن مفهوم العودة وعدم التنازل عنها، والرغبة الملحة سواء أكانوا أحياء أم أمواتاً تجلى أيضا في هذا الفصل على لسان والدة ياسين حيث قالت: "إن متُّ قبل أَن تنتهي الحرب ونعود، إيَّاك أَن تدفنني في المخيَّم، احمل جثَّتي مع الأَمتعة، ادفع دينارين أَو ثلاثة دنانير أُخرى لسائق الشَّاحنة، وادفنِّي في فلسطين".

وفي الفصل الرابع أيضا حضرت المجزرة وبقوة في رسائل الخال التي عثر عليها ياسين بعد وفاته وبشكلها الجديد الذي تحولت إليه فيما بعد، حيث تم إقامة مستشفى للمجانين هناك، وقد جاء فيها "أَليس من العبث أَن يُقام مشفى للمجانين فوق أَشلاء القرية الممزَّقة؟ تعود حنَّا نوسين لتسأَل". الخال ياسين وحنا نوسين اللذان أصبحا من النزلاء في ذلك المشفى، ليتم إبعاد ياسين لاحقاً إلى الاردن لتبقى حنا الصحفية الإسرائيلية الشاهدة على المجزرة نزيلة هناك.

الفصل الخامس، سأكتفي هنا بمقطع من الرواية: "ثمَّة بائع صحف ظهر فجأَة داخل المشهد وهو يصرخ:مذبحة في صبرا، وشاتيلا، اقرأْ أَخبار المذبحة، رأي، دستور، دستور، دستور"، وكما قلت في بداية هذا المقال أن رواية "يس" هي رواية معيشة وخالدة طالما أن هناك عدواناً، لا زال ينام في فراشنا.

أما النهاية التي تخلى فيها سكان المخيم عن أثاثهم، وبدأوا بهدم البيوت، وقالوا إنهم سيعودون من حيث أتوا مشياً، وياسين الذي قذف بكل شيء في منزله خارجا وتعرى، ثم عاد وارتدى ملابسه بالمقلوب وعقد العزم على العودة إلى فلسطين، ترك المجزرة وأهوالها في أعمق أعماق القلب ليعود من حيث أتى.

وفي الختام أقول لولا أنني أعرف الكاتب لخلتُ أنهُ أحد الناجين، ولا زلت حتى اللحظة أسمع قدم والدة ياسين الخشبية تدكّ الأرض، وأرى كف الجد تودع كف توأمه من التابوت، والخال مربوطاً إلى شجرة الكينا ينظر إلى ياسمين، وهي تخطف مسدس أحدث الجنود لتفرغ رصاصة كاملة في رأسها. أرى الأطفال يتطايرون خلف السور وجبريل منهك وهو يحملهم إلى السماء.

afdhd933.jpg

في مجموعتها الشعرية "ممتلكاتٌ لا تخصّني" راهنت الشاعرة "آمنة محمود" على تأكيد بصمتها الشعرية بمثولها اللغوي واللغوي المصور والتعبيري في بناءاتها الشعرية وبما شاكلها من ايجاز دلالي وايماء وتشبيه ، وباقي المرورات الفنية الراكزة في ذهنيتها وتجربتها الشعرية ، كرؤى صانعة ومندفعة لشروق النص وسطوعه، وقد اتسمت نصوص المجموعة بلسانيات حميمية في تعالقها للخطاب الشعري وتدوينة بتواجد لغوي اكثر ملائمة واناقة في التشكيل والتكوين الشعريين،و حلت النصوص بتوالي وتصاعد تساؤلات الشاعرة وبروحها النافذة للمطالبة والافصاح وبما يمثل لفيوضات صَيَرتها من خلال ايمائية لغتها الايحائية المؤشرة التي وجدت داخل النص كتداخلات غير مرئية في الجمل والانساق و أخرى خارجه كإيماءات اشارية كما في نص... الدمعة الراقصة ص9(كنت منشغلا بمحو طيفها من مرآتك /وحين عجزت...بدأت بتقشير وجهك/بينما كانت الملامح متداخلة).

وقد نهجت الشاعرة في بناءات بعض النصوص الى تقطيع ايجازي مختصر ومتنوع في انتقاءه التعبيري الصوري و كما في نص -الارض الحرام ص12(*وطن /وطن بلا رتبة: جندي أعزل...يمطره الاعداء موتاً /حبيبته التي بها يحلم /خاطت لعودته ثوبين : ثوب للزفاف ( ربما ) /و آخر للخلاص)

وقد حرصت الشاعرة للاشارة هنا لألام فواجع المشهد العراقي ، حيث نكوص الاشياء الودودة وتعثرها الدائم ، والمعبر عنها من وجود ذلك الجندي العراقي الاعزل. وهو اعزل جراء تسليبه لسلاحه و منع تسليحه وتركة يجابة شراسة العدو المقابل، وبقية الاشياء المسلحة المواجه له مواجهة موت يومي بوجوده هذا ، وهناك حبيبته المنتظرة له بين عرسها و موته المؤشر له بالخلاص. و يعد هذا السرد الشعري مثول لاعلى حالات الفجيعة الرهابية الضاغطة التي يعيشها المواطن العراقي المهدد بالموت اليومي من جميع الجهات وفي جميع الازمنة.

وحاولت الشاعرة " آمنة محمود " كثيراً أن تقارب و تلامس المشهد شعرياً ،المشهد الباعث لقلقها المجانب لها والمنتزع منها بنزوعات هادئة في النص وصارخة ماخلف النص. بمعنى تلك التداعيات الحزينة كردة فعل من قساوة الأحداث وتغَوّلها.

وقد اتسمت الجمل الشعرية بتعبيرات طازجة مرنة منوعة منها الخروج من حدود الجملة إلى فضاء النص،لبعث الصورة الى بنية اكثر فتوح شعري و وبأكثر توهج باهر ، كما نراها في النص المقطعي الاخر والمعنون –جسر الضوء اليك - ص14 (من مخابي النسيان /يجرجر اسمك علب الالوان /يرسم على حائط مبكاي شفاها تبتسم وفراشات / يخيط من قز الكتمان ثيابا لفرح مؤجل ) و تتضح هدوء واستكانة سيميالسانية المفردات المستعملة في الجمل الشعرية بمثول ملائم لثيمة ومعنى الجملة والنسق المقطعي النصي كما في (مخابي ،نسيان،يجرجر ،يرسم شفاه، قراشات وذلك الهدوء المصاحب لما يمنح القز من ثياب ساتره مفرحة لفرح اخر لكنه مؤجل )،هذه الكلمات تحمل في روحها الدلالي واللفظي الكثير من السيميائيات الشفيفة في تعبيرها الخفيض الصوت والعالي التدليل.

وفي نص – عند قبر الحكاية – وهي ترجم السلوكيات والظواهر الكاذبة المحيطه بأشيائها الذي قولت نصها به...

(أيها الغدر العصا /القف ما أفِكنا من قصائد /وما ادعينا من جنون / وارقص ايها النصل الرحيم على انغام الاكاذيب / رقص ريش في مهب الريح / واسكت ايها القلب الذي /ما امتلك يوما بصيرة/ من انت كي تقول لا / او تتمنى زوال هذا الكابوس الثقيل)ص49.فقد كان كشوفات آمنة بحقيقة الانسانة والشاعرة "آمنة محمود " وبما اوتيت من تقانة تعبيرية لقبول شعري لاذ القراءة ومؤنس لتلقية والترحيب به  

و من قرائتنا هذه نلاحظ اتسام التجربة الشعرية لآمنة محمود - بالدقة والتلامس اللغوي، فلا ارغام واحشار في الاشتغالات الشعرية المعبرة ،فالقصيدة لديها مجالاً دقيقاً وحذرا للتفكير البعيد عن الرتابة و القريب المجانب والملائم لخاصية الكتابة الشعرية الكامنة في نسق العلاقات التي تقيمها القصيدة ما بين الدال والمدلول أولا، ثم ما بين المدلولات المُنطِقةْ ْ للذّات في اتّصالها بالعالم الخارجيّ الّذي أدركتهُ من خلال خبرتها بهِ والّتي كوّنتها عبر الزمانيّة المتذوتةِ للشعر فيها، وعبر عالم حسي وشعوري معاش ملتصق بالشاعرة ومجانب لتوليدها الشعري.

و نلاحظ حضور الشاعرة في النص والماثل بواضح خطابها الشعري المحقق بملمات تفاصيل النصوص ،بتمكين تسويغها لتجويز رؤاها الذاتية الرائية والمحاورة للأشياء.

لذا نرى بقاء الشاعرة مسكونة بلج وهوس تساؤلاتها في تقصيها وتقصدها المعنى والمسك به ليمنحها الشعر الشعور بالتطهير ،فلا تخلع القصيدة ابهتها لدى الشاعرة " آمنة محمود " لتبقى هاجسة بتجليات اللذة والألم مع المرأة والعالم وذات الانثى. وهذا ما نراه في نص – ممتلكات لا تخصني –ص17

(هذي اليد التي لا تكفُّ عن الارتعاش /ظننـتها عاطـلة .. وما كـفّت./ هذا القلب الصاخب كــان /كم يشبـهُ طفلاً شبِعَ تعباً ونام /هذي العين وتلك الخطوة / كم غامت شـوقاً / كم عادت أدراجها انكسارا / كم حارت أسئلةٌ في هذا الرأس المجنون / أين تُراهُ يكون ؟!/ أبخير ؟ّ!أبحب ؟! /أبرفقة ؟!..) وهنا تتجلى اللغة و كما في معنى اصطلاح المفكر الاديب "جون كوهين" للغة الشعر وتسميتها - اللغة العليا – حين تكون اللغة بين يديها في النص ألة لإستغوار يقارب كثيراُ ليمس كثيراً اعماق الروح الملتاحة للبوج بكل هواجسها وتطبيعها نصياً.

كما في دوالي - بقاء- و- ارتعاش اليد – فمعنى بقاء الذي يشير لإطالة وكثرة هذا الارتعاش الذي عطفته الشاعرة على ذلك القلب و اوغلته بتشبيهه بذلك الطفل التعب حد النوم وبما فيه من براءة حتى وصفت العاشق بالمجنون وهو بمثل العاشق الهائم التائه الذي فقد الكثير من الذاكرة وتياه العقل.

و تظل الشاعرة مأخوذة بنزوع العبور والانفتاح والتجلّي للافصاح وكشف سرائر وخفايا خطوط المنع الخانقة لنفسها الحياتي المطعم بأناشيد مرورتها الشعرية المتقدمة والملوحة بقيمها الجميلة.

لا نكاد نقرأ اليوم مقالة أو بحثاً في قضايا "التنوير" إلا وجدنا أنفسنا أمام سيل من الأسماء البراقة لفلاسفة أوروبا، وكأن الفكر والتنوير والعقلانية قد بدأ هناك وينتهي هناك؛ وقلما وجدنا بحوثاً جادة تدلنا على المصادر الحقيقية لذلك الفكر والتنوير !

ولأنني من المهتمين بقضية التنوير فقد عثرت خلال بحوثي على بعض  تلك المصادر، فاكتشفت جملة من السرقات الفكرية الفاضحة، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حالات سطو عديدة على تراثنا الإسلامي، أقدم عليها الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت رينيه ديكارت (1596-1650م) الذي يعد من أبرز رموز التنوير الأوروبي، فقد ثبت لي ولآخرين من دارسي تاريخ العلوم أن كتاب (مقال في المنهج) الذي يعد إنجيل التنوير الأوروبي، قد بناه ديكارت على ما سرق من أعمال ثلاثة من رواد تراثنا الإسلامي، هم : الإمام الشافعي (767 – 820م) والإمام أبي حامد الغزالي (1058 – 1111م) والعالم الرياضي الحسن ابن الهيثم (965 – 1040م) :

  • فقد أخذ ديكارت عن الإمام الشافعي وعن الحسن ابن الهيثم أصول المنهج العلمي ومبادئه، وأخذ عن الإمام الغزالي "نظرية الشك" التي جعلها ديكارت أساس نظريته في المعرفة، وهي النظرية التي طرحها الغزالي في كتابه العظيم "المنقذ من الضلال" ولخصها بقوله : (من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في متاهات العمى) وهذا هو المنهج نفسه الذي سطا عليه ديكارت فادعاه لنفسه، ولخصه بعبارته المشهورة: ( أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود ) ولا يخفى ما في تطابق عبارة ديكارت مع عبارة الغزالي، وهو تطابق لا يتوقف عند المضمون فحسب، بل يتعداه إلى الصياغة، حتى إن عبارة ديكارت تبدو وكأنها "نسخة طبق الأصل" عن عبارة الغزالي! ولم يكتف ديكارت الفيلسوف بالسط على المنهج العلمي الذي سرقه من الشافعي والغزالي، فقد راقت له السرقات حتر نسي أنه أساساً فيلسوف، فأخذ عن الحسن ابن الهيثم إنجازاته في علم الضوء والبصريات، فوضع ديكارت رسالة في انكسار الضوء وخواص البصريات نشرها في عام  1637 ضمن كتابه في المنهج، دون أن يشير إلى أعمال ابن الهيثم من قريب ولا بعيد !

ولا تنتهي لصوصية التنويرعند ديكارت، ففي تاريخ الفكر الغربي سرقات لا تعد ولا تحصى، يدل عليها حرص الاستعمار الغربي على نهب كنوز الفكر الإسلامي من كل بلد إسلامي دخلها، فقد كان حرصه على سرقة كنوز العلوم الإسلامية أشد من حرصه على الذهب والفضة والبترول، وأقرب شاهد على ما نقول ما نهبه من مخطوطات إسلامية من مكتبات بغداد خلال غزوه للعراق في عام 2003 !

وإذا كنا لا نعجب من هذه اللصوصية (التنويرية !؟) فإننا نعجب أشد العجب من "أدعياء العلم"العرب الذين يعظمون ديكارت وأضرابه من لصوص التنوير ويرفعونهم إلى مصاف الأنبياء والقديسين، ويتغافلون عن سرقاتهم الفاضحة، واعتداءاتهم المتكررة على الحقوق !

يعد الناقد الأدبي وليد أبو بكر من النقاد المعدودين في الساحة الثقافية، عربيّا وفلسطينياً، ويتميّز بشخصيته النقدية الحادة والجادة، وقد أتيحت لي الفرصة أن أقرأ له نقدا متنوعا، كتباً ومقالات. لكن هذه الصورة لأبي بكر الناقد أو هذا الجانب الأبرز من حياته الكتابية ليست هي الوحيدة، وقد نازعتها الكتابة الإبداعية المتنوعة في الفنون السردية ما بين الرواية والمسرحية. وما يفاجئ القارئ هو أن الناقد وليد أبو بكر قد بدأ حياته الأدبية شاعرا، فأصدر ديواناً شعرياً يتيماً تحت عنوان "الوجه الطيب للأحزان"، وقد صدر عن دار كاظمة للشعر في الكويت عام 1977. ثم توقف عن إصدار الشعر، وربما أيضاً توقف عن كتابته.

ومن اللافت للنظر أيضاً أن وليد أبو بكر قد أصدر كتاباً واحدا يتيما عن الشعر في باب الدراسات النقدية تحت عنوان "في دائرة الشعر الفلسطيني". صدر عن وزارة الثقافة الفلسطينية عام 2013. وضم كتابه "الأرض والثورة" قراءات في الرواية الفلسطينية، في حين يتناول كتابه "الكتابة بنكهة الموت- قراءات في سرد فلسطيني حديث" السرد النسوي دون الشعر، والشيء نفسه يقال عن كتاب "المزاج في النص الأدبي ومخاطر التطبيع في السرد الفلسطيني". وقد أشرت إلى هذه الكتب تحديدا لما فيها من إمكانية لدراسة الشعر، فالموضوع العام لهذه المؤلفات يمكن أن يكون للشعر نصيب فيه، ولكن الكاتب ينفر من الشعر نفوراً لافتا للنظر، فيقصر مجال الدراسة على السرد وحده؛ ما يجعل هذه الدراسات- على أهميتها ورصانتها- تعاني من عدم اكتمال المشهد، وقد ألغت الشعر من اعتبارها.

على أيّ حال، لقد انحاز أبو بكر إلى الفنون السردية كتابة ودراسة ونقداً، وشملت دراساته النقدية السرد بأنواعه: القصة القصيرة والمسرحية والرواية. وأما جهود المؤلف في الترجمة فتشير إلى أن جهوده انصبت على الرواية والقصة والمسرح أكثر من غيرها من الحقول الأخرى، وخاصة التربوية والتعليمية، وعندما اختار أن يترجم شيئا من العربية إلى الإنجليزية لم يختر أن يترجم الشعر، بل ترجم مجموعة من القصص تحت عنوان "Palestinian Short Stories". وأهمل الشعر إهمالا تامّاً. فهل يومئ هذا إلى أمر ما؟

ربما حدث عند "أبو بكر" صدمة تجاه الشعر ونفور من كل شعر ومن الشعراء جميعاً، على إثر نشر ديوانه الأول، فلم يحظ بالقبول والدراسة والتلقي النقدي على الرغم من أن المرحلة التي نشر فيها الديوان (1977) كانت مرحلة الشعر بامتياز، ففترة الخمسينيات وحتى أوائل التسعينيات كان الرائج في الحركة الثقافية هو الشعر، لذلك وجد في هذه الفترة شعراء كثيرون، وكان حضور الرواية قليلا وهامشياً، ولم يكن لها هذا الرواج الذي تتمتع به في العقدين الأخيرين.

حالة "أبو بكر" في هجرته المبكرة للشعر، وهجرته النهائية إلى الرواية والنقد ربما كانت قليلة في زمنه، فالكل يريد أن يكون شاعراً، وقد أشار غسان كنفاني في كتابه "فارس فارس" في واحدة من مقالاته النقدية الساخرة إلى تهافت "الكتّاب" على كتابة الشعر والتلبُّس به في زمنه ذاك. يشبه هذا إلى حد بعيد تهافت الكتّاب اليوم على الرواية والارتماء في أحضانها، فولد نتيجة ذلك سيل من الروايات غير الناضجة، هذا السيل الروائي المرَضي كثيرا ما يشير إليه أبو بكر نفسه في كتاباته النقدية، وخاصة كتابيه "التثاقف وآثاره المدمرة على السرد" و"الفكرة الأصيلة في النسيج الداخلي للرواية"، ويعد الرواية عملا أدبيا فنيا صعبا يحتاج إلى موهبة خاصة.

من باب آخر، فإن حالة "أبو بكر" الإبداعية هذه لها نظائر كثيرة عند كتاب عالميين وعرب وفلسطينيين، وقد أشرت إلى ذلك عند الحديث عن "غسان كنفاني شاعرا"، فكان من الطبيعي أن يبدأ الكاتب أولى كتاباته في الشعر أو فيما يشبه الشعر، فإذا تيقن أنه لن يحقق فيه ذاته أو أنه لن يكون له شأن كبير فيه، فإنه يهجره إلى غيره، كما صرح مثلا الكاتب حسن حميد في أحد اللقاءات. وكذلك فعل مكسيم غوركي من قبل.

عدا ذلك، فإن الناظر في تلك الفترة التي نشر فيها أبو بكر ديوانه اليتيم، كانت ظاهرة الشعراء الكبار عربياً: أدونيس وأنسي الحاج ومحمد الماغوط ونزار قباني وغيرهم، بالإضافة إلى أن شعر المقاومة كان في أوج تألقه فلسطينيا، إذ تربّع على عرشه ثلاثة شعراء كبار: محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد، هذا الثلاثي وما كان يمثله كل واحد منهم من توجه فنيّ أو موضوعاتي أو أسلوبي استولوا على جمهور الشعر ومستمعيه، وعلى نقاده، وعلى ناشريه، فشكل هؤلاء الثلاثة "لعنة" ما لكثير من الشعراء الفلسطينيين، فلم يحالفهم الحظ للظهور وللطباعة ولشيوع أشعارهم كهؤلاء الثلاثة، فكل ذنبهم أنهم وجدوا في هذا العصر، تماماً كما هو الحال مع كثير من الشعراء المبدعين الذين هرستهم سلطة المتنبي الشعرية لزمن طويل في عصرهم. وربما امتدت سلطته إلى ما بعد عصره كذلك.

لقد وجد أبو بكر شاعرا في الوقت الذي وجد فيه حنا أبو حنا وسالم جبران وعلي الخليلي وخالد أبو خالد ومريد البرغوثي وعز الدين المناصرة، وغيرهم من الشعراء الفلسطينيين، وكلهم قد احتملوا وهج هؤلاء الثلاثة (درويش والقاسم وزياد)، فآمنوا بمشاريعهم الشعرية وتابعوا مسيرتهم، فأكثر ما يوجع المبدع أن يصمت النقاد عنه، أو أن يقارنوه بغيره فيجعلوه في ذيل القائمة. فقد ظُلمت هذه القامات الشعرية كثيراً، سواء في الإعلام أو في الدراسات أو في نشر كتبهم، ما تبعه ظلم في تلقي الجمهور لأشعارهم.

بكل تأكيد، فإن الناقد والروائي والمترجم والمسرحي وليد أبو بكر، لم يعد شاعراً، وإن أصرّ على أن يذكر ديوانه اليتيم في قائمة كتبه التي ينشرها في ذيل كل كتاب يصدره، وإنما سيبقى دالّا على حنين في نفس كاتبه لمرحلة مرّت ولن تعود، وليُختصر هذا الديوان ويؤول إلى مجرد اسم في "ببليوغرافيا" الشعر الذي تكتفي بتعداد أسماء الدواوين مع مؤلفيها ودار النشر والسنة، كما فعل الدكتور يوسف حطيني في كتابه "ديوان الشعر الفلسطيني" حيث احتل ديوان "الوجه الطيب للأحزان" الرقم "2501"، لينتهي الأمر عند هذا الحد في شاعرية وليد أبو بكر وشعره. كما انتهى غيره من أصحاب الديوان الواحد، كما هو الحال مع الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي صاحبة الديوان اليتيم "العودة إلى النبع الحالم"، فتترك الشعر، لتتفرغ إلى مشروعها الثقافي الأهم في ترجمة الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية ضمن مشروع "بروتا"، حيث بدأته عام 1980.

ومهما يكن من أمر، فإنه ينبغي أن أوضح مسألتين مهمتين في هذا السياق؛ الأولى أن الالتفات إلى هذه الملاحظة في خريطة الإبداع عند الكاتب، أي كاتب، تكشف عن التحوّلات الإبداعية لديه، وتبين مدى احترام الكاتب لمواهبه وتقديرها حق قدرها، ليذهب نحو تلك المجالات التي يستطيع أن يحقق فيها ذاته على الوجه الذي يأمل ويتمنى. وأما الثانية، فمن حق الكاتب أيضاـ أي كاتب- أن يجرّب ما أتيح له من فنون تعبيرية، ومن حقه أن يفشل، ومن حقه أن ينجح، ومن حقه أن يقيّم تجربته هو نفسه، بعيدا عن تقييم الآخرين، "فما عاتب الحر الكريم كنفسه". ولعل وليد أبو بكر بعد أن أصبح ناقدا يشار إليه بالبنان ينظر إلى باكورة إنتاجه الشعري نظرة مختلفة الآن، وفي أغلب الظنّ أن له على نفسه شاعراً انتقادات بنيوية، جعلته لا يندم على ما فعل من هجرة الشعر، وربما لسان حاله يقول كما قال الروائي التونسي كمال الرياحي أنه رحم القراء من رداءة شعره، إذ قال ذلك وهو يضحك، غير نادم على هذا الهجران الجميل والانغراس في لحم السرد وأعصابه إلى آخر حدّ ممكن.

يبدو لي أنّ حالة "أبو بكر" في هجران الشعر تشبه حالة الخليل بن أحمد الفراهيدي الذي رغم اشتغاله بالشعر إلا أنه لم يُعرف شاعراً، وقال قولته المشهورة: "ما يأتيني منه لا أرضاه، وما أرضاه لا يأتيني"، وكذلك أبو بكر فإنه ربما وصل إلى هذه القناعة، رغم اشتغاله بالنقد، ومنه نقد الشعر، وإن كان بمؤلف واحد. ولعل ذلك أيضا صحيح، وينطبق على إنجازات "أبو بكر" الروائية والمسرحية المتعددة، فإنها لم تجعل منه روائيا مشهورا أو مسرحيا بارزا، وإنما استحوذ عليه النقد، فصار علامة مميزة فيه. ولعلّ هذا يكفيه ويغنيه.

المزيد من المقالات...