هو شاعر النيل حافظ إبراهيم  (1871م 1932م) علم مشهور من أعظم شعراء العصر الحديث، وقد عالج كثيرًا من الفضائل والقيم الأخلاقية في تضاعيف عشرات من قصائده في المدح والتهاني، والمراثي، والوصف، والأهاجي، وهذا الجانب لا تتسع له هذه المساحة المتاحة . ولكننا نقصد في السطور الآتية إلى بعض هذه الصفات والفضائل التي تنبثق أو ترتبط بجوهر الدين، وأصوله ومثله العليا.

    وشعره الاسلامي في هذا المجال يأخذ وجهتين:

الوجهة الأولى: استنكار ما يتعارض مع الدين من خلق وعادات وتقاليد وضلالات.

الوجهة الثانية: الإشادة بالقيم الدينية، وبيان محاسنها، والدعوة إلى أخذ النفس بها على مستوى الفرد والجماعة.

وقد تأثر حافظ ابراهيم بفكر الامام محمد عبده رائد السلفية الاصلاحية في مصر الذي دعا الى صفاء عقيدة التوحيد ونبذ البدع في أمور الدين كما دعا الى اصلاح التعليم والى نيل المرأة حقها في الحياة السياسية والعلمية والاجتماعية ...

    وها هو ذا حافظ ابراهيم يحمل بشدة على كثير من البدع، والضلالات، ويشتد نكره بخاصة على هؤلاء الذين يقدسون قبور الأولياء، ويطوفون بها، كأنهم يخصونها بالعبادة من دون الله، ويستصرخ الإمام محمد عبده أن ينقذ هذه النفوس المنحرفة، ويطهرها من هذا الضلال، فيقول:

إمام الهدى إني أرى القومَ أبدعوا

بدعا عنها الشريعة تعزف

رأوا في قبور الميتين حياتهم

فقاموا الى تلك القبور وطوفوا

وباتوا عليها جاثمين كأنهم لهم 

على صنم للجاهلية..عُكَّف

    وحافظ إبراهيم الذي عاش بائسًا، أو على الأقل كان يستشعر البؤس والحرمان يهوله ما يتدفق على “صناديق النذور” من أموال يتوزعها لا البائسون والمحتاجون ولكن القائمون على خدمة “المقام” أو الضريح الذي يثوى فيه الولي وفي ذلك يقول حافظ بحرارة شديدة:

أحياؤنا  لا يرزقون بدرهم

وبألف ألف ترزق الأموات

مَنْ  لي بحظ النائمين بحفرةً

قامت على أحجارها الصلوات

يسعى الإمام لها ويجري حولها

بحر النذور وتقرأ الأيات

ويقال هذا القطبُ بابُ المصطفى

ووسيلة  تقضي بها الحاجات

    ويحمل حافظ بشدة على صنف من أدعياء العلم والفقه والتقوى، لم يرعوا للعلم والفقه حرمة، فسلكوا طريق النفاق والكذب والفتن والوقيعة في سبيل تحقيق أهداف وغايات دنيا، فيقول:

كم  عالمٍ مدَّ العلوم حبائلاً

لوقيعة وقطيعة وفراق

وفقيه  قوم ظل يرصد فقهه

لمكيدة أو مستحل طلاق

يمشي وقد نصبت عليه عمامة

كالبرج لكن فوق تل نفاق

يدعونه  عند الشقاق وما دروا

كأن  الذي يدعون أصل شقاقِ

    ويعرض حافظ لمرضى الدنيا ومطالبها الخسيسة الذين يعتنقون فكرة “الغاية تبرر الوسيلة” من أطباء ومهندسين، وأدباء، لا يرعون شرف المهنة، ومتطلبات الأمانة التي حملوها، والرسالة التي تعهدوا بأدائها.

    ومن هذا القبيل هؤلاء القادة الذين يتشدقون بالقيم الدينية والإنسانية، والورع والتقوى، وأعمالهم تناقض أقوالهم، فيقول مخاطبًا “غليوم الثاني” إمبراطور “ألمانيا” وهو ينكر عليه إثارته الحرب العالمية الأولى، وما ارتكبه فيها من فظائع:

أكثرت من ذكر الإله تورعا

وزعمت أنك مرسل وأمين

عجبا!! أتذكره، وتملأ كونه

ويلا لينعم شعبك المغبون

وكذلك القصابُ يذكر ربه

والنصل  في عنق الذبيح دفين

    والظلم هو شر الظلمات، وأبعدها أثرًا في المجتمعات، وأضراها على الأفراد، والقاسطون (أي الظالمون) لا يرعون حق المواطنة، ولا حق الدين، فعلى أيديهم يخرب الوطن، ويدمر بنيانه، يقول حافظ:

لحى الله عهدَ القاسطين الذي به

تهدم من بنياننا ما تهدما

إذا  شئت أن تلقى السعادة بينهم

فلا تك مصريا ولا تك مسلما

سلام على الدنيا سلام مودع

رأى في سلام القبر أنسا ومغنما

      ويرى حافظ في الدين أقوى الروابط التي تجمع المشاعر والقلوب على الحق، ويدعو عنصري الأمة إلى المحبة والتسامح:

يا قوم إنجيل عيسى

                            وأمة  القرآن

لا تقتلوا الدهر حقدا

                        فالملك للديان

    ويتحد ث عن الدستور، ويطالب الملك فؤاد به، ثم يقول:

بآي محمد وبآي عيسى

        فَعَوِّذهُ وآيات الكليم

    وسماحة المسلم تدفعه إلى أن يعترف بالفضل لأهل الفضل، ويثني على “مسرة” الشام مطران طائفة الروم الأرثوذكس الذي كان يُعنى بالجرحى عندما اعتدى الأسطول الإيطالي على بيروت سنة 1912م:

مسرة  الشام إنا

            اخوانكم ما حيينا

ثقوا فإنا وثقنا

            بكم وجئنا قطينا

إنا نرى فيك عيسى

        يدعو الى الخير فينا

قربت  بين قلوب

        قد أوشكت أن تبينا

فأنت فخر النصارى

        وصاحب  المسلمينا

    ويتغنى حافظ إبراهيم برأي الجماعة الذي يعتمد على قاعدة الشورى، فهو سر سعادة الأمم، أما الانفراد بالرأي والاستبداد به فيجلب لها الشقاء.

    رأي الجماعةِ لا تشقى البلاد به         

  رغم الخلاف، ورأي الفرد يشقيها

    ويفصل مزايا الشورى وفضائلها، وينهي أبياته بهذا التوجيه السديد:

فتكنفوا الشورى على استقلالكم            في الرأي لا توحيه نزعة واحي

ويد الإله مع الجماعة فاضربوا            بعصا  الجماعة  تظفروا بنجاح

    كما يتغنى حافظ بالتعاون والعدل، وهما من أهم أسس الحكم ونهضة الشعوب، وبغيرها تنهار الأمم والحضارات.

    ولا شك أن “حافظ” في كل ما أشاد به من قيم ومثل عليا في آفاق النفس والوطن، والمجتمع الإنساني استلهم روح الإسلام، وجواهره وتعاليمه، فهو الذي أفرد الله بالعبادة، ونهى عن تقديس الأشخاص أحياء وأمواتًا، وقد لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود؛ لأنهم اتخذوا قبور أوليائهم مساجد” , كما اعتبر الإسلام العلماء ورثة الأنبياء “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون. وهو الذين الذي يقول كتابه “إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاءذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي” وأمر بالتسامح الديني في أرقى مراتبه “ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى” وأمر بالتعاون في الحق “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعانوا على الإثم والعدوان” ويقول تعالى: “إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”.

كل أولئك قيم تمثل مبادئ وقواعد جوهرية في الإسلام، رددها حافظ، وألح على بعضها كالعدل والشورى إلحاحًا شديدًا، ونلاحظ على منهجه في معالجة هذه القيم ما يأتي:

1 أنه كان قصير النفس في عرضها فهو لم يخص قيمة منها بقصيدة كاملة , بل يعالجها في بضعة أبيات، وفي تضاعيف قصائد أخرى، إذا استثنينا مقطوعته “أضرحة الأولياء” وهي من أربعة أبيات مستقلة.

2 أنه في الغالب كان يعرض هذه القيم عرضًا مباشرًا، وبطريقة لامسة، وأحيانًا على سبيل الإلماع ولكن بعاطفة قوية، وأسلوب جميل يتسم بالسهولة والتدفق.

ربط العلم بالأخلاق:

    ويؤكد الشاعر (حافظ ابراهيم) على ربط التعليم بالأخلاق والأمم تزدهر بالأخلاق، وتندثر بالفساد والانحلال :

إني لتطربني الخلال كريمة

طرب الغريب بأوبة وتلاقي

وتهزني ذكرى المروءة والندى

بين الشمائل هزة المشتاق

فإذا رزقت خليقة محمودة

فقد اصطفاك مقسم الأرزاق

فالناس هذا حظه مال وذا

علم وذاك مكارم الأخلاق

والمال إن لم تدخره محصناً

بالعلم كان نهاية الإملاق

والعلم إن لم تكتنفه شمائل

تعليه كان مطية الأخفاق

لاتحسبن العلم ينفع وحده

مالم يتوج ربه بخلاق

اعداد الأمهات:

  ويدعو الشاعر الأمة أن تلتفت الى تربية النساء وتعليم المرأة لأن منهن الأمهات والأخوات والزوجات، وعليهن تقع مسؤولية تربية الأولاد، وهاهو يقول:

من لي بتربية النساء فإنها

في الشرق علة ذلك الإخفاق

الأم مدرسة إذا أعددتها

أعددت شعباً طيب الأعراق

الأم روض إن تعهده الحيا

بالري أورق أيماً إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الألى

شغلت مآثرهم مدى الآفاق

الحجاب:

ويتخذ الشاعر موقفا وسطا فهو لايدعو الى السفور والفجور والتهتك ..وبالمقابل لا يوافق على التشدد والتضييق والارهاق فخير الأمور الوسط ...

أنا لا أقول دعوا النساء سوافرا

بين الرجال يجلن في الأسواق

يدرجن حيث أرَدن لا من وازع

يحذرن رقبته ولا من واقي

يفعلن أفعال الرجال لواهيا

عن واجبات نواعس الأحداق

في دورهن شؤونهن كثيرة

كشؤون رب السيف والمزراق

تتشكّل الأزمان في أدوارها

دولا وهن على الجمود بواقي

فتوسطوا في الحالتين وأنصفوا

فالشر في التّقييد والإطلاق

      ويدعو الشاعر حافظ ابراهيم الى تربية البنات وتعليمهن، فيقول:

ربوا البنات على الفضيلة إنها

في الموقفين لهن خير وثاق

وعليكم أن تستبين بناتكم نور

الهدى وعلى الحياء الباقي.

وخلق الحياء للبنات هو العصمة من الانحراف والرذيلة ..

القصيدة العمرية :

    هي واحدة من أشهر قصائد مدح أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- وهي للشاعر حافظ إبراهيم والقصيدة من البحر البسيط التام..ولقد أحسن الشاعر اختيار البحر والقافية فالبحر البسيط يتسع لجميع الأغراض الشعرية من مديح ورثاء وفخر وحماسة ...

ومؤلف القصيدة:

    هو محمد حافظ بن إبراهيم الذي ولد في محافظة أسيوط 24 فبراير 1872 - 21 يونيو 1932م. شاعر مصري ذائع الصيت.

    عاصر أحمد شوقي، ولقب بشاعر النيل، وبشاعر الشعب، كان حافظ إبراهيم إحدى عجائب زمانه، ليس فقط في جزالة شعره بل في قوة ذاكرته والتي قاومت السنين، ولم يصبها الوهن والضعف على مر 60 سنة هي عمر حافظ إبراهيم، فإنها ولا عجب إتسعت لآلاف الآلاف من القصائد العربية القديمة والحديثة ومئات المطالعات والكتب، وكان باستطاعته – بشهادة أصدقائه – أن يقرأ كتاب أو ديوان شعر كامل في عده دقائق وبقراءة سريعة، ثم بعد ذلك يتمثل ببعض فقرات هذا الكتاب أو أبيات ذاك الديوان.

    وروى عنه بعض أصدقائه أنه كان يسمع قارئ القرآن في بيت خاله يقرأ سورة الكهف أو مريم أو طه ، فيحفظ ما يقوله ويؤديه كما سمعه بالرواية التي سمع القارئ يقرأ بها.

    يعتبر شعره سجل الأحداث، إنما يسجلها بدماء قلبه وأجزاء روحه، ويصوغ منها أدبا قيما يحث النفوس ويدفعها إلى النهضة، سواء أضحك في شعره أم بكى وأمل أم يئس، فقد كان يتربص كل حادث هام يعرض فيخلق منه موضوعا لشعره ويملؤه بما يجيش في صدره.

    مع تلك الهبة الرائعة، فإن حافظ أصابه - ومن فترة امتدت من 1911 إلى 1932 – داء اللامبالاة والكسل وعدم العناية بتنميه مخزونه الفكرى وبالرغم من إنه كان رئيساً للقسم الأدبى بدار الكتب إلا أنه لم يقرأ في هذه الفترة كتاباً واحداً من آلاف الكتب التي تزخر بها دار المعارف، الذي كان الوصول إليها يسير بالنسبة لحافظ، تقول بعض الآراء ان هذه الكتب المترامية الأطراف القت في سأم حافظ الملل، ومنهم من قال بأن نظر حافظ بدا بالذبول خلال فترة رئاسته لدار الكتب وخاف من المصير الذي لحق بالبارودى في أواخر أيامه. كان حافظ إبراهيم رجل مرح وابن نكتة وسريع البديهة يملأ المجلس ببشاشته وفكاهاته الطريفة التي لاتخطئ مرماها.

( عمر بن الخطاب ):

      ويطلب الشاعر من الله العون والمدد لكي يلهمه الله الشعر والمعاني والعبارات لكي يوفي الفاروق حقه من المدح والثناء فهو يشعر أن الشعر والخطب والبلاغة عاجزة لا توفي حقوق عمر الكثيرة، ولا تصور منجزاته:

حَسْبُ القَوَافِي وَحَسْبِي حِينَ أُلْقِيهَا **** أَنِّي إِلى سَاحَةِ الفَارُوقِ أُهْدِيهَا

اللهم هب لي بيانا أستعين به **** على قضاء حقوق نام قاضيها

قد نازعتني نفسي أن أوفيها **** وليس في طوق مثلي أن يوفيها

فمر سري المعاني أن يواتيني **** فيها فإني ضعيف الحال واهيها

( عمر وعلي ):

ويسرد الشاعر حافظ ابراهيم هذه القصة التي لم تثبت تاريخيا، ولعلها من وضع الشيعة، ومن المعلوم أن عليا بايع أبا بكر في المسجد مع جمهور الصحابة والمسلمين :

و قولة لعلي قالها عمر **** أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقتُ دارك لا أبقي عليك بها **** إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبى حفص يفوه بها**** أمام فارس عدنان وحاميها

كلاهما في سبيل الحق عزمته **** لا تنثني أو يكون الحق ثانيها

فاذكرهما وترحم كلما ذكروا **** أعاظما ألِّهوا في الكون تأليها

(مقتل عمر):

    لقد أقدم المجرم أبو لؤلؤة المجوسي على قتل عمر في محراب الصلاة فحقق الله أمنيته واستجاب دعوته ( اللهم ارزقنى الشهادة في سبيلك في بلد نبيك ثم يقول : وأنى لك ذلك يا عمر):

مولى المغيرة لا جادتك غادية **** من رحمة الله ما جادت غواديها

مزقت منه أديما حشوه همم **** في ذمة الله عاليها وماضيها

طعنت خاصرة الفاروق منتقما **** من الحنيفة في أعلى مجاليها

فأصبحت دولة الإسلام حائرة **** تشكو الوجيعة لما مات آسيها

مضى وخلفها كالطود راسخة **** وزان بالعدل والتقوى مغانيها

تنبو المعاول عنها وهي قائمة **** والهادمون كثير في نواحيها

حتى إذا ما تولاها مهدمها **** صاح الزوال بها فاندك عاليها

واها على دولة بالأمس قد ملأت **** جوانب الشرق رغدا في أياديها

كم ظللتها وحاطتها بأجنحة **** عن أعين الدهر قد كانت تواريها

من العناية قد ريشت قوادمها **** ومن صميم التقى ريشت خوافيها

و الله ما غالها قدما وكاد لها **** واجتث دوحتها إلا مواليها

لو أنها في صميم العرب ما بقيت **** لما نعاها على الأيام ناعيها

ياليتهم سمعوا ما قاله عمر **** والروح قد بلغت منه تراقيها

لا تكثروا من مواليكم فإن لهم **** مطامع بَسَمَاتُ الضعف تخفيها

(إسلام عمر ):

وكان اسلام عمر بن الخطاب فتحا ونصرا قد أعز الله به المستضعفين :

رأيت في الدين آراء موفقة **** فأنزل الله قرآنا يزكيها

و كنت أول من قرت بصحبته **** عين الحنيفة واجتازت أمانيها

قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها **** بنعمة الله حصنا من أعاديها

خرجت تبغي أذاها في محمدها **** وللحنيفة جبار يواليها

فلم تكد تسمع الايات بالغة **** حتى انكفأت تناوي من يناويها

سمعت سورة طه من مرتلها **** فزلزلت نية قد كنت تنويها

و قلت فيها مقالا لا يطاوله **** قول المحب الذي قد بات يطريها

و يوم أسلمت عز الحق وارتفعت **** عن كاهل الدين أثقالا يعانيها

و صاح فيها بلال صيحة خشعت **** لها القلوب ولبت أمر باريها

فأنت في زمن المختار منجدها **** وأنت في زمن الصديق منجيها

كم استراك رسول الله مغتبطا **** بحكمة لك عند الرأي يلفيها

(عمر وبيعة أبي بكر ):

وكان لعمر الفاروق دور مشهور يوم السقيفة حيث أشار على المهاجرين والأنصار بمبايعة الصديق، فأجمعوا على ذلك:

و موقف لك بعد المصطفى افترقت **** فيه الصحابة لما غاب هاديها

بايعت فيه أبا بكر فبايعه **** على الخلافة قاصيها ودانيها

و أطفئت فتنة لولاك لاستعرت **** بين القبائل وانسابت أفاعيها

بات النبي مسجا في حظيرته **** وأنت مستعر الاحشاء داميها

تهيم بين عجيج الناس في دهش **** من نبأة قد سرى في الأرض ساريها

تصيح : من قال نفس المصطفى قبضت **** علوت هامته بالسيف أبريها

أنساك حبك طه أنه بشر **** يجري عليه شؤون الكون مجريها

و أنه وارد لابد موردها **** من المنية لا يعفيه ساقيها

نسيت في حق طه آية نزلت **** وقد يذكر بالايات ناسيها

ذهلت يوما فكانت فتنة عمم **** وثاب رشدك فانجابت دياجيها

فللسقيفة يوم أنت صاحبه **** فيه الخلافة قد شيدت أواسيها

مدت لها الأوس كفا كي تناوله **** فمدت الخزرج الايدي تباريها

و ظن كل فريق أن صاحبهم **** أولى بها وأتى الشحناء آتيها

حتى انبريت لهم فارتد طامعهم **** عنها وآخى أبو بكر أواخيها

( عمر وجبله بن الايهم ):

ويحكي الشاعر قصة عمر مع جبلة بن الأيهم الذي وطئ ثوبه الأعرابي فأمر عمر بالقصاص منه فطلب المهلة الى الغد لكي يسعى بالصلح مع الأعرابي فهرب في جنح الظلام وارتد عن دينه ولحق بقيصر الروم :

كم خفت في الله مضعوفا دعاك به **** وكم أخفت قويا ينثني تيها

و في حديث فتى غسان موعظة **** لكل ذي نعرة يأبى تناسيها

فما القوي قويا رغم عزته **** عند الخصومة والفاروق قاضيها

وما الضعيف ضعيفا بعد حجته **** وإن تخاصم واليها وراعيها

( عمر وأبو سفيان ):

    وكان أمير المؤمنين يحاسب الجميع ، ويطبق الأحكام على الغني والفقير، وعلى أصحاب الجاه والقرابة:

و ما أقلت أبا سفيان حين طوى**** عنك الهدية معتزا بمهديها

لم يغن عنه وقد حاسبته حسب **** ولا معاوية بالشام يجبيها

قيدت منه جليلا شاب مفرقه **** في عزة ليس من عز يدانيها

قد نوهوا باسمه في جاهليته **** وزاده سيد الكونين تنويها

في فتح مكة كانت داره حرما **** قد أمّن الله بعد البيت غاشيها

و كل ذلك لم يشفع لدى عمر **** في هفوة لأبي سفيان يأتيها

تالله لو فعل الخطاب فعلته **** لما ترخص فيها أو يجازيها

فلا الحسابة في حق يجاملها **** ولا القرابة في بطل يحابيها

و تلك قوة نفس لو أراد بها **** شم الجبال لما قرت رواسيها

(عمر وخالد بن الوليد):

وحين خشي عمر - رضي الله عنه - أن يفتتن المسلمون ببطولة خالد ، وأن يظنوا النصر من عنده، فأمر بعزله، فتقبل سيف الله المسلول أمر عمر بالرضا، وقبله احتراما ، وتابع القتال جنديا تحت امرة الجراح، وقال قولته المشهورة :

انا نقاتل كي يرضى الاله بنا

ولا نقاتل كي يرضى بنا عمر

وقد وقف الشاعر حافظ ابراهيم عند هذه الحادثة وكان موفقا في تصويرها وتعليلها:

سل قاهر الفرس والرومان هل شفعت **** له الفتوح وهل أغنى تواليها

غزى فأبلى وخيل الله قد عقدت **** باليمن والنصر والبشرى نواصيها

يرمي الأعادي بآراء مسددة **** وبالفوارس قد سالت مذاكيها

ما واقع الروم إلا فر قارحها **** ولا رمى الفرس إلا طاش راميها

و لم يجز بلدة إلا سمعت بها **** الله أكبر تدْوي في نواحيها

عشرون موقعة مرت محجلة **** من بعد عشر بنان الفتح تحصيها

و خالد في سبيل الله موقدها **** وخالد في سبيل الله صاليها

أتاه أمر أبي حفص فقبله **** كما يقبل آي الله تاليها

و استقبل العزل في إبان سطوته **** ومجده مستريح النفس هاديها

فاعجب لسيد مخزوم وفارسها **** يوم النزال إذا نادى مناديها

يقوده حبشي في عمامته **** ولا تحرك مخزوم عواليها

ألقى القياد إلى الجراح ممتثلا **** وعزة النفس لم تجرح حواشيها

و انضم للجند يمشي تحت رايته **** وبالحياة إذا مالت يفديها

و ما عرته شكوك في خليفته **** ولا ارتضى إمرة الجراح تمويها

فخالد كان يدري أن صاحبه **** قد وجه النفس نحو الله توجيها

فما يعالج من قول ولا عمل **** إلا أراد به للناس ترفيها

لذاك أوصى بأولاد له عمرا **** لما دعاه إلى الفردوس داعيها

و ما نهى عمر في يوم مصرعه **** نساء مخزوم أن تبكي بواكيها

و قيل فارقت يا فاروق صاحبنا **** فيه وقد كان أعطى القوس باريها

فقال خفت افتتان المسلمين به **** وفتنة النفس أعيت من يداويها

هبوه أخطأ في تأويل مقصده **** وأنها سقطة في عين ناعيها

فلن تعيب حصيف الرأي زلته **** حتى يعيب سيوف الهند نابيها

تالله لم يتَّبع في ابن الوليد هوى **** ولا شفى غلة في الصدر يطويها

لكنه قد رأى رأيا فأتبعه **** عزيمة منه لم تثلم مواضيها

لم يرع في طاعة المولى خؤولته **** ولا رعى غيرها فيما ينافيها

و ما أصاب ابنه والسوط يأخذه **** لديه من رأفة في الحد يبديها

إن الذي برأ الفاروق نزهه **** عن النقائص والأغراض تنزيها

فذاك خلق من الفردوس طينته **** الله أودع فيها ما ينقيها

لا الكبر يسكنها لا الظلم يصحبها **** لا الحقد يعرفها لا الحرص يغويها

(عمر وعمرو بن العاص):

    ومن قصص عدله التي لا تنتهي أنه شاطر أمير مصر بنصف ماله لأنه خشي أن قد استغل منصبه في التجارة ، ورفع شعار من أين لك هذا:

شاطرت داهية السواس ثروته **** ولم تخفه بمصر وهو واليها

و أنت تعرف عمرا في حواضرها **** ولست تجهل عمرا في بواديها

لم تنبت الأرض كابن العاص داهية **** يرمي الخطوب برأي ليس يخطيها

فلم يرغ حيلة فيما أمرت به **** وقام عمرو إلى الأجمال يزجيها

و لم تقل عاملا منها وقد كثرت **** أمواله وفشا في الأرض فاشيها

(عمر وولده عبد الله ):

وأمر الفاروق ولده عبد الله أن يضع ابله في بيت مال المسلمين مخافة أن يستغل ولده منصب أبيه ، فترعى ابله في أفضل المراعي :

و ما وقى ابنك عبد الله أينقه **** لما اطلعت عليها في مراعيها

رأيتها في حماه وهي سارحة **** مثل القصور قد اهتزت أعاليها

فقلت ما كان عبد الله يشبعها **** لو لم يكن ولدي أو كان يرويها

قد استعان بجاهي في تجارته **** وبات باسم أبي حفص ينميها

ردوا النياق لبيت المال إن له **** حق الزيادة فيها قبل شاريها

و هذه خطة لله واضعها **** ردت حقوقا فأغنت مستميحيها

مالإشتراكية المنشود جانبها **** بين الورى غير مبنى من مبانيها

فإن نكن نحن أهليها ومنبتها **** فإنهم عرفوها قبل أهليها

(عمر ونصر بن حجاج):

وعندما رأى النساء تفتتن بجمال نصر بن الحجاج أمر بنفيه لكي يأمن المجتمع من الفتن:

جنى الجمال على نصر فغربه **** عن المدينة تبكيه ويبكيها

و كم رمت قسمات الحسن صاحبها **** وأتعبت قصبات السبق حاويها

و زهرة الروض لولا حسن رونقها *** لما استطالت عليها كف جانيها

كانت له لمة فينانة عجب *** على جبين خليق أن يحليها

و كان أنى مشى مالت عقائلها **** شوقا إليه وكاد الحسن يسبيها

هتفن تحت الليالي باسمه شغفا **** وللحسان تمنٍّ في لياليها

جززت لمته لما أتيتَ به **** ففاق عاطلها في الحسن حاليها

فصحت فيه تحول عن مدينتهم **** فإنها فتنة أخشى تماديها

و فتنة الحسن إن هبت نوافحها **** كفتنة الحرب إن هبت سوافيها

(عمر ورسول كسرى):

وجاءه رسول كسرى وسأل عن قصر عمر فلم يجد له قصرا ولا حرسا فاندهش وراح يقارن بين أمير المؤمنين وبين كسرى ثم أدرك الحقيقة بفطنته وعلم أن العدل هو أساس الملك والسلام والطمأنينة :

و راع صاحب كسرى أن رأى عمرا**** بين الرعية عطلا وهو راعيها

و عهده بملوك الفرس أن لها **** سورا من الجند والأحراس يحميها

رآه مستغرقا في نومه فرأى **** فيه الجلالة في أسمى معانيها

فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملا **** ببردة كاد طول العهد يبليها

فهان في عينه ما كان يكبره **** من الأكاسر والدنيا بأيديها

و قال قولة حق أصبحت مثلا **** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها

أمنت لما أقمت العدل بينهم **** فنمت نوم قرير العين هانيها

(عمر والشورى ):

ولقد أنزل الله سورة تتلى عن الشورى وأمر نبيه بضرورة الشورى فقال : وشاورهم في الأمر ..وقد سار عمر على سنة المصطفى في تطبيق الشورى فكان لا يقطع أمرا حتى يشاور كبار الصحابة وأهل الاختصاص :

يا رافعا راية الشورى وحارسها **** جزاك ربك خيرا عن محبيها

لم يلهك النزع عن تأييد دولتها **** وللمنية آلام تعانيها

لم أنس أمرك للمقداد يحمله **** إلى الجماعة إنذارا وتنبيها

إن ظل بعد ثلاث رأيهم شعبا **** فجرد السيف واضرب في هواديها

فاعجب لقوة نفس ليس يصرفها **** طعم المنية مرا عن مراميها

درى عميد بني الشورى بموضعها **** فعاش ما عاش يبنيها ويعليها

و ما استبد برأي في حكومته **** إن الحكومة تغري مستبديها

رأي الجماعة لا تشقى البلاد به **** رغم الخلاف ورأي الفرد يشقيها

(مثال من زهده):

    وكان - رحمه الله تعالى- زاهدا يلبس الثياب المرقعة وهو يمتلك نصف الكرة الأرضية ولكن زهده وورعه يكفه عن أخذ المال من بيت مال المسلمين:

يا من صدفت عن الدنيا وزينتها **** فلم يغرك من دنياك مغريها

ماذا رأيت بباب الشام حين رأوا **** أن يلبسوك من الأثواب زاهيها

و يركبوك على البرذون تقدمه **** خيل مطهمة تحلو مرائيها

مشى فهملج مختالا براكبه **** وفي البراذين ما تزها بعاليها

فصحت يا قوم كاد الزهو يقتلني **** وداخلتني حال لست أدريها

و كاد يصبو إلى دنياكم عمر **** ويرتضي بيع باقيه بفانيها

ردوا ركابي فلا أبغي به بدلا **** ردوا ثيابي فحسبي اليوم باليها

(مثال من رحمته ):

وكان - رضي الله عنه- يسعى في خدمة المرأة العجوز العمياء ويساعد الأرملة وذكرت كتب التاريخ قصته مع المرأة التي كانت تغلى الحصا لكي توهم أولادها بوجود الطعام حتى يناموا فهرع الى بيت مال المسلمين وحمل السمن والدقيق وصنع لهم الطعام بنفسه ولم يتركهم حتى سمع أصوات ضحكهم :

و من رآه أمام القدر منبطحا **** والنار تأخذ منه وهو يذكيها

و قد تخلل في أثناء لحيته **** منها الدخان وفوه غاب في فيها

رأى هناك أمير المؤمنين على **** حال تروع لعمر الله رائيها

يستقبل النار خوف النار في غده **** والعين من خشية سالت مآقيها

(مثال من تقشفه وورعه ):

كان عمر من أزهد المسلمين في متاع الدنيا ففي عام الرمادة حيث أصاب القحط الأمة وجاع الناس ..كان عمر رضي الله عنه يأمر بصنع الطعام ويجلس لوحده يأكل الزيت والخل فتقرقر بطنه فيخاطبها : قرقري أولا تقرقري فلن تذوقي اللحم حتى يشبع أطفال المسلمين:

إن جاع في شدة قومٌ شركتهم **** في الجوع أو تنجلي عنهم غواشيها

جوع الخليفة والدنيا بقبضته **** في الزهد منزلة سبحان موليها

فمن يباري أبا حفص وسيرته **** أو من يحاول للفاروق تشبيها

يوم اشتهت زوجه الحلوى فقال لها **** من أين لي ثمن الحلوى فأشريها

لا تمتطي شهوات النفس جامحة **** فكسرة الخبز عن حلواك تجزيها

و هل يفي بيت مال المسلمين بما **** توحي إليك إذا طاوعت موحيها

قالت لك الله إني لست أرزؤه **** مالا لحاجة نفس كنت أبغيها

لكن أجنب شيأ من وظيفتنا **** في كل يوم على حال أسويها

حتى إذا ما ملكنا ما يكافئها **** شريتها ثم إني لا أثنيها

قال اذهبي واعلمي إن كنت جاهلة **** أن القناعة تغني نفس كاسيها

و أقبلت بعد خمس وهي حاملة **** دريهمات لتقضي من تشهيها

فقال نبهت مني غافلا فدعي **** هذي الدراهم إذ لا حق لي فيها

ويلي على عمر يرضى بموفية **** على الكفاف وينهى مستزيدها

ما زاد عن قوتنا فالمسلمين به **** أولى فقومي لبيت المال رديها

كذاك أخلاقه كانت وما عهدت **** بعد النبوة أخلاق تحاكيها

(مثال من هيبته ):

    كان الفاروق رجلا شديد الهيبة ومن ذلك دخل عليه رجل فرأه حاسر الرأس، فارتجف، فقال له عمر مالك، فأجاب : صلعت من فرقتك ..وكان يمشي مع أصحابه يوما فالتفت اليهم فسقطوا على الأرض ...

في الجاهلية والإسلام هيبته **** تثني الخطوب فلا تعدو عواديها

في طي شدته أسرار مرحمة **** تثني الخطوب فلا تعدو عواديها

و بين جنبيه في أوفى صرامته **** فؤاد والدة ترعى ذراريها

أغنت عن الصارم المصقول درته **** فكم أخافت غوي النفس عاتيها

كانت له كعصى موسى لصاحبها **** لا ينزل البطل مجتازا بواديها

أخاف حتى الذراري في ملاعبها **** وراع حتى الغواني في ملاهيها

اريت تلك التي لله قد نذرت **** انشودة لرسول الله تهديها

قالت نذرت لئن عاد النبي لنا **** من غزوة العلى دفي أغنيها

و يممت حضرة الهادي وقد ملأت **** أنور طلعته أرجاء ناديها

و استأذنت ومشت بالدف واندفعت **** تشجي بألحانها ما شاء مشجيها

و المصطفى وأبو بكر بجانبه **** لا ينكران عليها من أغانيها

حتى إذا لاح من بعد لها عمر **** خارت قواها وكاد الخوف يرديها

و خبأت دفها في ثوبها فرقا **** منه وودت لو ان الأرض تطويها

قد كان حلم رسول الله يؤنسها **** فجاء بطش أبي حفص يخشيها

فقال مهبط وحي الله مبتسما **** وفي ابتسامته معنى يواسيها

قد فر شيطانها لما رأى عمر **** إن الشياطين تخشى بأس مخزيها

(مثال من رجوعه إلى الحق ):

ومن روائع الفاروق رضي الله عنه سرعة رجوعه الى الحق وما قصته مع المرأة التي اعترضت عليه في مسألة تحديد المهور عنا ببعيدة، فقالها على رؤوس الأشهاد ( أصابت امرأة وأخطأ عمر كل الناس أفقه منك ياعمر ) :

و فتية ولعوا بالراح فانتبذوا **** لهم مكانا وجدوا في تعاطيها

ظهرت حائطهم لما علمت بهم **** والليل معتكر الأرجاء ساجيها

حتى تبينتهم والخمر قد أخذت **** تعلو ذؤابة ساقيها وحاسيها

سفهت آراءهم فيها فما لبثوا **** أن أوسعوك على ما جئت تسفيها

و رمت تفقيههم في دينهم فإذا **** بالشرب قد برعوا الفاروق تفقيها

قالوا مكانك قد جئنا بواحدة **** وجئتنا بثلاث لا تباليها

فأت البيوت من الأبواب يا عمر **** فقد يُزنُّ من الحيطان آتيها

و استأذن الناس أن تغشى بيوتهم **** ولا تلم بدار أو تحييها

و لا تجسس فهذي الآي قد نزلت **** بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها

فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم **** لما رأيت كتاب الله يمليها

و ما أنفت وإن كانوا على حرج **** من أن يحجك بالآيات عاصيها

(عمر وشجرة الرضوان):

    ومن حرص أمير المؤمنين عمر على صفاء عقيدة التوحيد عمد الى شجرة الرضوان وقطعها مخافة أن يفتتن بها المسلمون:

و سرحة في سماء السرح قد رفعت **** ببيعة المصطفى من رأسها تيها

أزلتها حين غالوا في الطواف بها **** وكان تطوافهم للدين تشويها

( الخاتمة ):

    ويختم الشاعر حافظ ابراهيم هذه القصيدة المطولة بالدعوة الى أخذ العبرة من سيرة السلف الصالح وضرورة الاقتداء بهم وأن نكون خير خلف لخير سلف، فيقول:

هذي مناقبه في عهد دولته **** للشاهدين وللأعقاب أحكيها

في كل واحدة منهن نابلة **** من الطبائع تغذو نفس واعيها

لعل في أمة الإسلام نابتتة **** تجلو لحاضرها مرآة ماضيها

حتى ترى بعض ما شادت أوائلها **** من الصروح وما عاناه بانيها

وحسبها أن ترى ما كان من عمر **** حتى ينبه منها عين غافيها

رضي الله عن عمر الفاروق لقد كان اسلامه فتحا، وكان مؤمنا شجاعا جمع بين الرحمة والعدل، وقد فتح الله في عهده البلدان، وخضعت لهيبته الجبابرة، وساس الأمة بالحكمة والقسط ..وكان زاهدا متقشفا قدوة للناس، وعندما جاءته الغنائم تعجب من أداء الأمانة التي كانت أحمالا من الذهب والمجوهرات النفيسة فقال: ان قوما أدوا هذا لذوو أمانة فقال له الامام علي رضي الله عنه : عففت فعفوا ولو رتعت لرتعوا ...

وبعد :

لقد كانت ثقافة الشاعر حافظ ابراهيم اسلامية ممتازة حيث كان ينهل من القرأن والسنة ويستلهم التاريخ الاسلامي ويصوغ تلك الدرر شعرا جميلا لكي يقتدي المسلم المعاصر بأخلاق السلف الصالح ...

وسوف نعود في مقالة أخرى للحديث عن الأخلاق في شعر حافظ ابراهيم ان كان في العمر بقية ..وأقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ..ويا فوز المستغفرين.

مصادر البحث:

1- ديوان حافظ ابراهيم .

2- الأخلاق في شعر حافظ ابراهيم - رسالة دكتوراه.

3- معجم البابطين لتراجم الشعراء المعاصرين.

 

DFGHNDGHMDG940.jpg
  هو شاعر سوري معاصر.
يعد من كبار شعراء وأدباء العصر الحديث، وله مكانة مرموقة في ديوان الشعر العربي وهو الشاعر والأديب والدبلوماسي الذي حمل في عقله وقلبه الحب والعاطفة للوطن وللأنسان وللتاريخ السوري والعربي والاسلامي وعبر في أعماله وشعره بارقى وأبدع الصور والكلمات والمعاني .

المولد، والنشأة:

ولد الشاعر عمر أبو ريشة في منبج في محافظة حلب سوريا في 10 ابريل عام 1910م، ونشأ في بيت يقول أكثر أفراده الشعر،
وتنحدر العائلة من الموالي من آل حيار بن مهنا بن عيسى، وهم من الفضول نسبة إلى فضل بن ربيعة من طيء ، وكانت ولادة عمر بن شافع في أسرة يغلب عليها التصوف، فوالده :

  هو شافع بن الشيخ مصطفى أبو ريشة، وُلِدَ في القرعون على ما يروي عمر. وعلى الرغم أنه أصبح قائم مقام في منبج والخليل، فإنه أمضى سنين طويلة منفياً أو دائم الترحال، وبعد عودته من المنفى أقام في حلب، حيث عمل في الزراعة، ثم ترك الزراعة، وقبل منصب قائم مقام طرابلس.

    وكان شافع شاعراً مجيداً، فقد كتب عدة قصائد في رثاء شوقي وحافظ وعمر المختار.

وأما والدته فهي :  خيرة الله بنت إبراهيم علي نور الدين اليشرطي، وهي فتاة من عكا، أما أبوها فقد كان شيخ الطريقة الشاذلية اليشرطي التي كثرت فيها البدع والمنكرات واستحلال المحارم.

      وعنها يقول عمر: «كانت طيَّب الله مثواها مكتبة ثمينة، عنها حفظت الأشعار، والقصائد، والمطوّلات».

    كما يذكرها عمر بالتقدير والثناء، فيقول: «والدتي متصوفة منذ صغرها، أحاطتنا منذ صغرنا بعناية ذكية، وأشاعت حولنا جواً روحانياً، جعلنا لا نقيم وزناً للفوارق المذهبية، تربيتها أمدتني بقوة استطعت بها ولوج دروب الحب. فالضعف يجعل من يبتلي به أضعف من أن يحب».

    ويتحدث عن جانب مهم منها، هو جانب الصوفية، فيقول: «عالم من الأنوثة زاخر بالحب مضيء بالرقة والحنان. غلبت عليها النزعة الصوفية، تشعر بالألم فتغني بصوتها الرخيم لتبدد الألم.

    أحبت من الشعراء المتصوفين علي وفا ، وبحر الصفا، وعبد القادر الحمصي، وحسن الحكيم».
 
    ويضيف: «لقد اتسع حديثها دائماً للحب المحدود والحب المطلق للذات الكبرى، وعلاقة الإنسان بها».

    ومما هو جدير بالذكر أن «أم عمر كانت تروي الشعر وبخاصة الشعر الصوفي.

    وقد عرف عمر التصوف منها، وكذلك أخذ عنها نظرته إلى الدين والحياة والحب، وكذلك مفهومه للتصوف، وكلفه بالجمال، وصداقته للموت».

إخوته، وأخواته :

    اشتهر من إخوته وأخواته ظافر وزينب.

    أما ظافر فله ديوان شعر بعنوان "من نافذة الحب" طُبِعَ عام 1981، وأيضاً له ديوان ثانٍ "لحن المساء"، وأما زينب فكانت شاعرة جيدة، تهافتت كبريات الصحف على نشر قصائدها».

    أما الأخت الكبرى فاسمها سارة.

الوظائف والمسؤوليات :

عمل مديرا لدار الكتب الوطنية في حلب.

انتخب عضوا في المجمع العلمي العربي بدمشق عام 1948م.

وهو عضو الأكاديمية البرازيلية للآداب كاريوكا- ريودي جانيرو

وعضو المجمع الهندي للثقافة العالمية.

وملحق ثقافي لسورية في الجامعة العربية.

وزير سوريا المفوض في البرازيل 1949 م 1953 م

وزير سوريا المفوض للأرجنتين وتشيلي 1953 م 1954 م

سفير سوريا في الهند 1954 م 1958 م.

سفير الجمهورية العربية المتحدة للهند 1958م 1959 م.

سفير الجمهورية العربية المتحدة للنمسا 1959 م 1961م.

سفير سوريا للولايات المتحدة 1961 م 1963م.

سفير سوريا للهند 1964 م 1970 م

الجوائز، والأوسمة :

    حصل الشاعر عمر أبو ريشة على أوسمه من البرازيل، الأرجنتين، النمسا، لبنان، وسوريا، وكرم في العديد من المؤتمرات العربية والدولية والعالمية.

وفاته :

توفي الشاعر عمر أبو ريشة، إثر إصابته بجلطة دماغية في مدينة الرياض في المملكة العربية السعودية، يوم السبت الثاني والعشرين من ذي الحجة عام 1410 هجري، الموافق للرابع عشر من تموز عام 1990 ميلادي، ونُقل جثمانه بطائرة خاصة ليدفن في مدينة حلب في سوريا.

أعماله الأدبية :

للشاعر عمر أبوريشة الكثير من الأعمال والمسرحيات الشعرية الهامة في تاريخ الشعر العربي الحديث.

    ومن هذه الأعمال والدواوين والمجموعات الشعرية نذكر:

1- ديوان بيت وبيان

2- ديوان نساء

3-ديوان كاجوارد.

4-غنيت في مأتمي.

5-أمرك يا رب.

6-مسرحية تاج محل.

7-مسرحية علي.

8- مسرحية سميراميس.

9-مسرحية محكمة الشعراء.

10- مسرحية الحسين.

11-مسرحية شعرية رايات ذي قار.

12- مسرحية الطوفان.

    وللشاعر الكبير ديوان شعر باللغة الإنجليزية، والكثير من المؤلفات والقصائد الشعرية الهامة والتي تعد من أبدع الأعمال الشعرية بين شعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين.

نموذج من شعره :

ومن بعض أشعاره الخالدة هذه القصيدة الرائعة التي يتابع فيها حملاته على المتهاونين بحق أمتهم وشؤون بلادهم، ويقول فيها:

تتـسـاءلـين عـلام يحيـا هــؤلاء الأشـقـيـاء

المتـعــبون ودربـهـم قفـرٌ ومرماهم هبـاء

الذاهـلون الـواجـمون أمـام نعش الكـبريـاء

الصابرون على الجراح المطرقون على الحـياء

أنـســتـهـم الأيـام مـا ضحك الحياة وما البكاء

أزرت بـدنـياهم ولــم تـترك لـهـم فـيها رجاء

تتساءلين! وكيف أعلم؟ مـا يـرون عـلى البقـاء

امضي لشأنك، اسكتي أنـا واحـدٌ من هـؤلاء

الاتجاه الاسلامي في شعر عمر أبو ريشة :
كتب الشاعر عدة قصائد يظهر فيها الأثر الاسلامي ..حيث كتب ملحمة النبي وقصيدة خالد بن الوليد وكان في قصائده يضمن النص بالأيات القرانية والأحاديث الشريفة ويستلهم التاريخ الاسلامي المجيد ويدعو للوحدة العربية والاسلامية...

(ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم) :

يبدأ الشاعر قصيدته بالتصريع فيقول:

أي نجوى مخضلة النعماء
              رددتها حناجر الصحراء

سمعتها قريش فانتفضت غضـ
      ـبى وضجت مشبوبة الأهواء

ويصور حالة الغضب عند قريش فيقول:

ومشت في حمى الضلال إلى الكعـ
          ـبة مشي الطريدة البلهاء

وارتمت خشعة على اللات والعز
          ـى وهزت ركنيهما بالدعاء

وبدت تنحر القرابين نحراً
            في هوى كل دمية صماء

وانثنت تضرب الرمال اختيالاً
                بخطىً جاهلية عمياء

ومهما كادت قريش للدعوة والداعية فان نصر الله لهذا النبي أت بلا ريب:

عربدي يا قريش وانغمسي ما
      شئت في حمأة المنى النكراء

لن تزيلي ما خطه الله للأر
        ض وما صاغه لها من هناء

ومن حكمة الله أنه اختار جزيرة العرب مهدا للرسالة:

شاء أن ينبت النبوة في القف
ـ        ر ويلقي بالوحي من سيناء

فسلي الربع ما لغربة عبد الل
        ـه تطوى جراحها في العراء

ما لأقيال هاشم يخلع البش
            ـر عليها مطارف الخيلاء

انظريها حول اليتيم فراشاً
              هزجاً حول دافق لألاء

    وهرع أبو طالب يذبح القرابين شكرا للألهة وفرحا بولادة محمد، وأعتق عمه أبو لهب جاريته فرحا بالمولد الجديد:

وأبو طالب على مذبح الأص
        نام يزجي له ضحايا الفداء

هو ذا أحمد فيا منكب الغب
          ـراء زاحم مناكب الجوزاء

بسم الطفل للحياة وفي جن
          ـبيه سر الوديعة العصماء

    ويتحدث الشاعر عن رضاعه عند حليمة السعدية وكيف نشأ نشأة قوية في مهاد الصحراء:

هب من مهده ودب غريب ال
            دار في ظل خيمة دكناء

تتبارى حليمة خلفه تع
        دو وفي ثغرها اغترار رضاء

عرفت فيه طلعة اليمن والخي
            ـر إذا أجدبت ربا البيداء

وتجلى لها الفراق وأغضت
  في ذهول وأجهشت في البكاء

  لقد رأت حليمة من بركاته ما أدهش عقلها لذلك نراها تجهش بالبكاء حين أعادته الى أمه أمنة:

عاد للربع أين آمنةٌ والـ
ـ    حب والشوق في مجال اللقاء

ما ارتوت منه مقلة طالما شقـ
            ـت عليه ستائر الظلماء

يا اعتداد الأيتام باليتم كفكف
            بعده كل دمعة خرساء
   
      لقد نشأ محمد يتيما وعندما شب صار مضرب المثل في العفة والصدق والحياء حتى لقبوه بالصادق الأمين:

أحمد شب يا قريش فتيهي
في الغوايات واسرحي في الشقاء

وانفضي الكف من فتى ما تردى
                برداء الأجداد والآباء

أنت سميته الأمين وضمخ
          ـت بذكراه ندوة الشعراء
وعندما جاءه الوحي وصدع بالحق هرعت قريش الى عمه أبي طالب وعرضت عليه المال والجاه والنساء والملك حتى يترك النبوة فكان جوابه الخالد الذي رددت صداه الصحراء : ( والله ياعم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهر الله أو أهلك دونه..

فدعي عمه ، فما كان يغري
        ـه بما في يديك من إغراء

جاءه متعب الخطى شارد الآ
          مال ما بين؛ خيبة ورجاء

قال: هون عنك الأسى يا بن عبد
        الله، واحقن لنا كريم الدماء

لا تسفه دنيا قريش تبوي
          ـك من الملك ذروة العلياء

فبكى أحمد، وما كان من يب
            ـكي ولكنها دموع الإباء

فلوى جيده ، وسار وئيداً
            ثابت العزم مثقل الأعباء

  ولقد حبب اليه الخلاء، فلجأ الى غار حراء الذي نزل عليه فيه القرأن، وتواصلت الأرض بالسماء:

وأتى طوده الموشح بالنو
        ـر وأغفى في ظل غار حراء

وبجفنيه من جلال أماني
            ـه طيوف علوية الإسراء

وإذا هاتف يصيح به: (اقرأ)
            فيدوي الوجود بالأصداء

وإذا في خشوعه ذلك الأم
                ـي يتلو رسالة الإيحاء

وإذا الأرض والسماء شفاه
                  تتغنى بسيد الأنبياء

    وحين عجزت قريش عن ثنيه بكافة الوسائل لجأت الى العنف فصبت عليه وعلى أتباعه البلاء صبا، وحاولت قتله فأذن الله له بالهجرة:

جمعت شملها قريش وسلت
              للأذى كل صعدة سمراء

وأرادت أن تنقذ البغي من أحم
              مد في جنح ليلة ليلاء

    وأسرع علي رضي الله عنه لينام في فراش رسول الله ، ولكي يكون فداء له :

ودرى سرها الرهيب عليٌّ
    فاشتهى لو يكون كبش الفداء

قال: يا خاتم النبيين أمست
                مكة دار طغمة سفهاء

أنا باق هنا، ولست أبالي
      ما ألاقي من كيدها في البقاء

سيروني على فراشك والسيـ
        ـف أمامي وكل دنيا ورائي

حسبي الله في دروب رضاه
            أن يرى فيَّ أول الشهداء

فتلقاه أحمد باسم الثغـ
    ـر عليماً بما انطوى في الخفاء

وسار النبي الكريم مهاجرا الى يثرب ومعه صديقه الودود أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

أمر الوحي أن يحث خطاه
        في الدجى للمدينة الزهراء

وسرى واقتفى سراه أبو بك
            ر وغابا عن أعين الرقباء

وأقاما في الغار والملأ العلو
                ي يرنو إليهما بالرعاء

وقفت دونه قريش حيارى
            وتنزت جريحة الكبرياء

وانثنت والرياح تجأر والرم
          ل نثير في الأوجه الربداء

    وصور الشاعر فرحة الأنصار في المدينة بقدوم المهاجر الحبيب:

هللي يا ربا المدينة واهمي
            بسخي الأظلال والأنداء

واقذفيها: الله أكبر حتى
          ينتشي كل كوكب وضاء

واجمعي الأوفياء. إن رسول اللـ
              ـه آت لصحبة الأوفياء

وأطل النبي فيضاً من الرحـ
ـ    مة يروي الظماء تلو الظماء

والصلاة الطهور عالية الأص
                داء جوابة بكل فضاء

هزت الجاهلي فاهتز أنسا
              ناً نجي الرسالة العذراء

وقريش في يقظة الحقد وهج
            من عناد ولفحة من عداء

كلما مر مؤمن بحماها
                  قذفته بطعنة نجلاء

خسة تترك المروءة غضبى
          وترد الحلوم صرعى حياء

    وعندما كثر أذى قريش للنبي وأصحابه دعا المسلمين الى الجهاد لانتزاع الحقوق:

ضاق ذرعاً بها النبي فنادى
          فإذا الصافنات رجع النداء

وإذا الصيد فوقها يحملون الشـ
            ـهب أسياف نخوة شماء

وتخطاهم النبي، فساروا
      في ركاب الهدى إلى الهيجاء

لم يرقه سفك الدماء، ولكن
        عجز الحلم في انتزاع الداء

درن النفس ليس يمحى إذا لم
          تجر فيه مباضع الحكماء

وإذا الحلم لم تجد فيه بنا
          ء فأكرم بالسيف من بناء

غزوة بدر :

التقى المسلمون مع المشركين في بدر وكان عدد المسلمين ثلث الكفار ولكن الله أمدهم بالنصر فقتل منهم سبعون وأسر سبعون:

وقف الحق وقفة عند بدر شحذت في الغيوب سيف القضاء

ووراء التلال ركب أبي سفـ
          ـيان يحمي سرية الفيحاء

وقريش في جيشها اللجب تسعى
        بين وهج القنا وزهو الحداء

بلغت منحنى القليب ولفت
          من عليه ببسمة استهزاء

وأرادت اكفاءها فتلقا
                ها علي ذؤابة الاكفاء

جز بالسيف عنق شيبة وارتـ
    ـد إلى صحبه خضيب الدماء

فطغى الهول، والتقى الند بالنـ
        ـد وماجا في لجة هوجاء

وعيون النبي شاخصة تر
    قص في هدبها طيوف الرجاء

ودنت منه عصبة الإثم والمو
        ـت على راحها ذبيح عياء

فرماها بحفنة من رمال
                ورنا ثائر المنى للعلاء

ودعا (شاهت الوجوه) فيا أر
ض اقشعري على اختلاج الدعاء

قضي الأمر يا قريش فسيري
      للحمى واندبي على الأشلاء

واحذري الطيب أن يمس غلاماً
          في ندي أو غادة في خباء

وأعدي للثأر حمر السرايا
          واحشديها للوثبة الرعناء

يوم بدر يوم أغر على الأيـ
    ـام باق إن شئت أو لم تشائي

ركز الله فيه أسمى لواء
      وجثا الخلد تحت ذاك اللواء

غزوة أحد:

وبعد مرور حول على هزيمة قريش في بدر قررت الثأر لقتلاها من محمد وأصحابه:

طوي الحول وانطوى أحد فيـ
        ـه ولم تحملي سوى الضراء

أي ذل على جفونك يعوي
            وركاب النبي ملء العراء

حل في مكة ووجهك في التر
    ب خضيب ووجهه في السماء

ثم كان الفتح ، ودخل المسلمون المسجد وصلوا فيه وحطم الرسول أصنام قريش:

ومشى للصلاة والكعبة السمـ
          ـحة في غمرة من النعماء

وتعالى التكبير: يا سدة الأصـ
          ـنام ميدي ويا علوج تنائي

واشهدي يا سماء أن رسول اللـ
            ـه أوفى بالعهد خير وفاء

    وبعد أن أدى رسول الله الأمانة، وبلغ الرسالة، وترك المسلمين على المحجة البيضاء قبضه الله اليه فانتقل الى الرفيق الأعلى:

وجم المؤمنون في رهبة الظـ
        ـن وناموا على رؤى سوداء

وتمطى على المدينة صبح
        كاسف الوهج قاتم الأفياء

أحمد ودع الحياة فيا فا
      روق أقصر ما فيك من غلواء

كل حي رهن الفناء وتبقى
          آية الله فوق طوق الفناء

يا نجي الخلود تلك سرايا
ـ                ك على كل ربوة غناء

حملت صبوة الشآم وفضت
            ها أريجاً على فم الزوراء

وشجتها غرناطة، فشفت من
            ها فؤاد الصبية الحسناء

فإذا الأرض في عرائسك الأب
      كار مغنى سنى ومجلى سناء

حلم وانقضى فيا للمناجي
              زهر أطيافه ويا للرائي

يا عروس الصحراء ما نبت المجـ
        ـد على غير راحة الصحراء

كلما أغرقت لياليها في الصمـ
ـ        ت قامت عن نبأة زهراء

وروتها على الوجود كتاباً
      ذا مضاء أو صارماً ذا مضاء

فأعيدي مجد العروبة ، واسقي
          من سناه محاجر الغبراء

قد ترف الحياة بعد ذبول
        ويلين الزمان بعد جفاء
ويالها من خاتمة رائعة لتلك الملحمة حيث تمنى الشاعر عمر أبو ريشة أن تستمر الأمة في تستطير الانتصارات ومتابعة الفتوحات حتى يعم الخير والنور والسلام ربوع العالم...

أضواء على النص:

هذا النص سماه شاعره (محمد)، ويقول الدكتور حيدر غدير: أما قصيدة محمد؛ فقد كان دائماً يضع بجوار عنوانها هذه الجملة: (مقدمة ملحمة النبي)

التي لم تر النور على الرغم من كثرة الوعود وتطاول الأيام، وتقع في مئة بيت، وهي على البحر الخفيف الذي يؤثره الشاعر ولها روي واحد وهو الهمزة المكسورة المسبوقة بألف ممدودة)[2]

والملحمة قصة شعرية بطولية، وهذه القصيدة تجمع من عناصر كلا الفنين؛ الفن الملحمي، والفن القصصي.

الوحدة العضوية في الملحمة:

تبدأ الملحمة خطوتها الأولى بالاستفهام التعجبي:

أي نجوى مخضلة النعماءِ
  رددتها حناجر الصحراءِ

الصحراء اللاهبة العطشى تغدو ظليلة رطيبة منعمة ذات نجوى حبيبة تترنم الصحراء بتردادها.

أما قريش؛ فلم يرق لها هذا النغم الحبيب فطاش حلمها وتبذل ما وسعها البذل.. فلن تزيل السعادة التي حباها الله للبشرية؛ ذلك لأن إرادة الله تعالى شاءت أن تنبت النبوة بواد غير ذي زرع، وأن تنسخ شريعة بني إسرائيل.

ويهل اليتيم صلى الله عليه وسلم إلى الوجود مناراً ورحمة مهداة.. وتتلقاه أمه حليمة بالبشر، وترى اليمن في طلعته الكريمة....

ويشب صلى الله عليه وسلم مبرأ من أوضار الجاهلية فنشأ صافياً حتى لقد أطلقت عليه قريش اسم (الأمين).

ومع ذلك؛ فقد مشت إلى عمه أبي طالب تكلمه في شأن ابن أخيه ليكف عنها..

وآذن الله بالهجرة إلى المدينة المنورة.. وطاشت أحلام قريش، وماذا في المدينة المنورة؟ إنه التأييد والنصرة..

وجاءت قافلة أبي سفيان.. واستنفرت مكة لحماية القافلة.. ونجت، ولكن حماقة قريش أبت إلا أن تتابع مسيرة الكبرياء والغطرسة إلى مياه بدر.

وتقابل الفريقان: وتبدأ المعركة بالمبارزة... وكان الالتحام، وقتلت صناديد قريش وأبطالها، وفر الباقون.

غدت قريش ثكلى طيلة عام حتى أدركت ثأرها في أحد..

وبعد حين، لم تدر قريش إلا وجيش الرسول صلى الله عليه وسلم يحيط بمكة... ويعفو عن أهلها.ثم انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى.

وانطلقت سرايا الإسلام تضرب في الأرض شرقاً وغرباً.

فيا مكة أعيدي ذلك المجد التليد الخالد، وما أدراك أن يعود.

أضواء على النص:

يقول الدكتور إحسان عباس (ليس الشاعر هو الذي يفسر شعره أو يحكم عليه، ومن النقص أن نسأله: ماذا تعني هنا؟ وماذا تعني هناك؟ إن الشاعر قد يكون غامضاً أحياناً، ولكن الغموض في الأغلب يكون في أنفسنا وفي الحواجز التي تقوم فيها دون تحقيق الوضوح)[3]

صحيح أن الشاعر لا يفسر شعره، ولا يحكم عليه، أما ان يقول كلاماً مستغلق المعنى ونسوغه له، والأكثر من ذلك، أن نتهم أنفسنا في الحواجز التي تقوم في أنفسنا دون تحقيق الوضوح؟ فهذا مبدأ ربما غدا ثغرة يتسلل منها المغرضون باسم الشعر واسم النقد، والدكتور لم يعلمنا؛ كيف ومتى نمحوا الحواجز من أنفسنا؛ حتى إذا كان الغموض من الشاعر ندرك ذلك؛ فلا نتهم أنفسنا، ولكن ربما يوحي الدكتور أنه يحلو له تبرئة ساحة الشاعر من الغموض وإن كان واقعاً فعلاً في طرحه الشعري، ونحن لو سألنا الشاعر نفسه عن مبدأ الدكتور إحسان، فربما لا يقر هذا المنطلق الذي يكاد يعطي الشاعر العصمة من الغموض، وهنا يتداعى إلى الخاطر سؤال: ما المعالم التي نستدل بها على الغموض؛ إن كان في أنفسنا أم في نفس الشاعر؟.

إن ناقداً كالدكتور إحسان، لو سلط الأضواء على نص شعري وقرر أن فيه غموضاً، ما أظن أن أحداً يتهمه بغموض كامن في نفسه عن فهم النص، ولا أظن أنه هو نفسه يتهم نفسه بغموض ناتج عن قصور في إدراك فهم الدلالة، كل ما في الأمر في نظرنا؛ أن فكر الشاعر كان غائماً في توصيل هذا المعنى أو ذاك بشكل واضح، فهذا غير مستحيل ولا مستبعد، بل ما أكثر النصوص التي نشكو من الغموض قي نقل الدلالة إلى المتلقي.

نحن هنا سنحلل، ونقوِّم، وطبعاً ليس لنا أن نسأل الشاعر في هذه الدراسة عن معنى لم يتضح لنا، وإنما سيكون فهمنا للعمل الشعري وحكمنا عليه من خلال الدلالة التي تشي بالمعنى.

نحاول ابتداءً نلقي الضوء على نقطة التفجير التي تم في لحظة تنويرها المخاض الفني، ثم التنامي الداخلي حتى اكتمال التجربة الشعورية وانعكاساتها في ظلال من القيم التعبيرية. فنقول:

عاطفة الشاعر هنا عاطفة الإنسان المدحور أمام القوة المادية الطاغية، عاطفة سليل المجد وحفيد أبطال الفتوح أمام المستعمر الغاشم. هذه هي أصول المشاعر المتصارعة في نفس الشاعر، فما الذي يقيم التوازن الداخلي في هذا الصراع؟ لا بد من معادل موضوعي ضخم لذلك، وهذا المعادل هو انبثاق الملحمة، ومصدر هذا الانبثاق هو: الصحراء.

هذا ابسط تعليل للأعماق اللاشعورية ومعطياتها، لقد انبثق التفجير بنقطة التنوير معتمداً على جدلية النور والظلام:

أي نجوى مخضلة النعماء
رددتها حناجر الصحراء
سمعتها قريش فانتفضت غض
بى وضجت مشبوبة الأهواء

ويبدو أن الشاعر كان مشبعاً بفكرة الملحمة، وكان جوه النفسي عامراً بمعانيها غني الإحساس بها.

    نظم الشاعر هذه الملحمة عام 1941م حينما كانت بلاده تحت نير الاستعمار الفرنسي، إن العقل الباطن للشاعر يرسم هنا طريق الخلاص لشعبه من الكافر الظالم الذي سلب الشعب السوري الأبي حريته ودنس أرضه، فم على الشعب السوري المعروف بإبائه بين شعوب العالم، ما عليه إلا ان يتبع الأسوة الحسنة صاحب هذه الملحمة صلى الله عليه وسلم في مجابهة الظلم.

هذه هي خلفية المعاني التي ترمز إليها الملحمة في مسيرتها البطولية.

شرعت الريشة الداخلية في رسم أجواء قريش وآفاقها، وفي الوقت نفسه نرى نظيرتها تعبر عن هذه الأحاسيس التي غدت بمثابة الظل لعمل هذه الريشة إذ تترك آثارها على أرضية العمل الفني فينشأ الأساس الهيكلي للبناء، فتتكامل اللوحة في قيمة تعبيرية.

اللوحة ما زالت طرية التكوين، والحدث ينمو داخلياُ ن فيشكل جسم التجربة الشعورية وينمو بنموه جسم القيمة التعبيرية. إلى أن يصل المشهد إلى أرض المعركة:

وقف الحق وقفة عند بدر  شحذت في الغيوب سيف القضاء

ثم يصور استهزاء قريش بالمسلمين.. ثم طلبوا الأكفاء للمبارزة:

بلغت منحنى القليب ولفت
من عليه ببسمة استهزاء

وأرادت أكفاءها فتلقا
ها علي ذؤابة الأكفاء

جز بالسيف عنق شيبة وارتد
إلى صحبه خضيب الرداء

يتساءل من قرأ السيرة النبوية الشريفة وفيها معركة بدر: أين بطل الإسلام حمزة، أسد الله ورسوله؟ ذلك الذي فعل بأبطال المشركين الأفاعيل؟ وهو الأول في المبارزة في معركة بدر، قتل الأسود المخزومي، وهو من هو في جيش قريش، لقد رشحته ليكون بطلها الذي يجندل أبطال المسلمين، ومن الذي برز لهذا التنين؟ لقد برز له حمزة فقتله بالحوض.

ويقول الشاعر: إن علياً هو الذي قتل شيبة، قال ابن هشام (وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة، وأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله..)[4].

الفن التصويري في الملحمة:

الفن الشعري التصويري عند أبي ريشة محلق مبدع، لقد تأثر بفيرلين وبودلير من خلال قراءاته لهذين الشاعرين؛ وهذا ما لون شعره بأفواف الصور فالنجوى مخضلة النعماء، ترددها حناجر الصحراء.

وكأن الشاعر أراد أن يثبت براعته التصويرية، لذلك راح يزج بصور تترى:

أقيال هاشم يخلع البشر عليها مطارف الخيلاء.

ويحلق الشاعر بهذه الصورة (وأتى طوده الموشح بالنور).

وهذه صورة إيمانية رائعة، فلم يكن حراء في نظر الشاعر موشحاً بالسحب كما رآه ابن خفاجة في جبله الأرعن طماح الذؤابة:

يلوث عليه الغيم سود عمائم
لها من وميض البرق حمر ذوائب

ولا ما رآه امرؤ القيس:

كأن ثبيراً في عرانين وبله
كبير أناس في بجاد مزمل

فلكل مقام مقال.

وفي لحظة استغراق:

وإذا الأرض والسماء شفاه
              تتغنى بسيد الأنبياء

وربما لاحظ القارئ توافق الخواطر مع شوقي في همزيته:

ولد الهـدى فالكائنات ضياء
        وفم الزمان تبسم وثنـاء

الصور الإيمانية رائعة. أما الصور العقلية فجافة كهذه الصورة: (ذبيح عياء)

وصور معركة بدر يشكل عام أقل حظاً من الصور السابقة عليها.وقد صور الشاعر وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حينما ودع الحياة، فهل يكفي ترشيد الفاروق ليقصر عن الغلواء؟ إذا كانت الأرض والسماء شفاه تتغنى في المولد الشريف، فأبسط صور المقابلات الشعرية أن تكون الأرض والسماء عيوناً تدمع لوفاة سيد الأنبياء صلى الله عليه وسلم. أم يفطن شاعرنا إلى أقرب ما يمثل أمام المخيلة؟ صورة المسجد الباكي بكاء اليتيم اللطيم؟ أهكذا دفعة واحدة

كل حي رهن الفناء وتبقى
      آية الله فوق طوق الفناء

وهل يرثي شاعرنا الحكيم ديوجين أستاذ الإسكندر الأكبر؟.. أم هل تقمص شخصية المعري الرثائية؟.

وختام النص، فيه الكثير من التفاؤل.

البناء الخارجي:

الوحدة اللغوية: ألفاظ منتقاة، كأن الشاعر من أصحاب الحوليات.. من عبيد الشعر، ولكننا نعثر بهذا الفهر في قول الشاعر:

(وفي ثغرها افترار رضاء). دع توالي حرف الراء، إن شاعرنا شامي، معنى ذلك أنه في النحو على المذهب البصري، وهذا المذهب يجيز قصر الممدود، ولا يجيز مد المقصور، ولو تركنا القاعدة النحوية جانباً، ولو حاول القارئ أن يلفظ (رضاء) ألا يشعر بان جوفه تفرغ؟ وأن المد أكره إكراهاً؟ وعوامل جاذبية الحرف وخصائصه تتقلص وتنكمش لتمنع هذا المد غير الطبيعي، خلافاً لبقية القوافي المستقرة المتمكنة المرتاحة.

أما (الأظلال) فهي صحيحة معجمياً، وهي في الفن الجمالي غير سائغة، أليست لفظة (الظلال) أسلس منها؟ الأمر هنا ذوقي لا يتعلق بقاعدة، فيحسن أن نضحي بالإيقاعية التوافقية بين (الأظلال و الأنداء) ولاسيما أن فيها تأكيد الحرف اللثوي الثقيل الساكن (أظ) نضحي بهذه الإيقاعية النابية ونقدم كلمة (الظلال) فتكون ألطف نطقاً وانسيابية.

أما الوحدة اللغوية في تصوير المعركة، فيجب ان يكون لها مذاقها الخاص المتميز، لأن هذا المشهد هو متن الملحمة، وألفاظها بمثابة العضل في الجسم، في تصوير المعركة لا نرى التألق المأمول المتوقع، قياساً إلى بقية المشاهد.

ولكن الشاعر يعود إلى الأسلوب الإنشائي التساؤلي وهو بارع فيه فيقول في فتح مكة مخاطباً قريشاً: (أي ذل على جفونك يعوي).

وفي أواخر الملحمة نجد هذا التركيب: (يا نجي الخلود) فالياء المشددة تشد معها أوتار القلوب فتبعث في النفس موسيقا خاصة بها ذات إيقاع تأثري.

فماذا عن الموسيقا في هذا النص؟:

بدأ المطلع مصرعاً، وفيه إيقاعية داخلية وخارجية نامية مجلجلة، ولكن ما إن ينتقل إلى البيت الثاني حتى يفاجأ القارئ بانقطاع الوتر الداخلي لتركز الموسيقا على القافية، وهي قافية مريحة مع هذه المدود كأمواج رمال الصحراء وامتداد السماء، نجد في الملحمة ستين بيتاً قتل موسيقاها الداخلية التدوير، لا أدري علة هذا المنحى، فهل تأثر شاعرنا بمعلقة الحارث بن حلزة اليشكري ومطلعها:

آذنتنا ببينها أسماء
      رب ثاو يمل منه الثواء

فهي على وزنها، وثلاثة أرباع أبيات مدورة.

فإلى أي مدى حققت هذه الملحمة الوحدة العضوية؟:

إن الوحدة العضوية لا تعني مجرد الربط بين المشاهد، وإنما تعني أساساً ذلك النسيج الداخلي المتصل الذي يشمل أسلوب التفكير والتصوير والتعبير، وقد جاء البناء الداخلي في بناء مطرد تتخلله ثغرات في نسق تكامل اللوحة في مشاهد المعركة، و لهذا جاء البناء الخارجي مرآة لتلك المشاهد، فالاضطراب في الألفاظ أو في المشهد الخارجي، جاء وفقاً لما هو عليه في نفس الشاعر، كما يقول الإمام الجرجاني[5]: الاضطراب في المباني سببه الاضطراب في المعاني، وقد رأينا تعثر تكامل لوحة معركة بدر، وتشوهها ولو من بعض الوجوه.

ثمة أمر جوهري نلفت النظر إليه وهو أن الملحمة رسمت الأجواء الخارجية ولم تدخل على النفسيات، وهذا عنصر مهم جداً في العمل الملحمي؛ فالبعد الداخلي تحسن أن يتوازن مع البعد الخارجي، كالشجرة غاص منها في الأعماق من جذور بمقدار ما ظهر منها من جذوع وفروع وأغصان.

إن هذه الملحمة قصة شعرية لأنها نسجت على منوال قصصي، وكل ملحمة قصة ولا عكس لأن القصة الشعرية تدخل في كل فنون الشعر الغنائي.

وجدنا في هذه الملحمة بعض العناصر القصصية من موضوع وشخوص، أما بقية العناصر فإنا نفتقدها، وقد جاء الأسلوب سردياً أقرب ما يكون إلى السرد التاريخي المصور، فالنص فيه بعض الصفات الملحمية نسج على منوال القصة بأسلوب موضوعي، وفيه بعض الصفات القصصية.

خالد بن الوليد - رضي الله عنه:


وكتب (عمر أبو ريشة) ممجدا بطولة خالد :

وخالد بن الوليد بن المغيرة المخزومي القرشي (توفي سنة 21هـ/642م) هو صحابي وقائد عسكري مسلم ، لقّبه الرسول بسيف الله المسلول. اشتهر بتكتيكاته وبراعته في قيادة جيوش المسلمين في حروب الردة، وفتح العراق والشام،
في عهد خليفتي الرسول أبي بكر وعمر في غضون عدة سنوات من عام 632 حتى عام 636. يعد أحد قادة الجيوش القلائل في التاريخ الذين لم يهزموا في معركة طوال حياتهم ، فهو لم يهزم في أكثر من مائة معركة أمام قوات
متفوقة عدديًا من الإمبراطورية الرومية البيزنطية
والإمبراطورية الساسانية الفارسية وحلفائهم ، بالإضافة إلى العديد من القبائل العربية الأخرى.

  اشتهر خالد بانتصاراته الحاسمة في معارك اليمامة وأُلّيس والفراض، وتكتيكاته التي استخدمها في معركتي الولجة واليرموك.

ولنستمع الى عمر أبو ريشة ، وهو يقول :

أَعـلـِمْـتـُمْ مَن الفتَى المتثنِّي بوشاح البطولةِ الأُرْجُـواني؟!

إنـَّه ابـنُ الـولـيـدِ زغْرُدةُ النَّصرِ وأنشودةُ الجهادِ البـاني

مـرَّ فـي نـاظـريَّ طيفاً بعيداً عبقريَّ النِّضال ثبْتَ الجنـانِ

وكـأنِّي أراه يضرِبُ شرقَ الأرضِ بالغرب ، مُشـرقَ الإيمانِ

وأرى كبـريـاءَه دمـعـةَ الـتَّكفير مسفوحةً على القـرآنِ

* * *

    لقد انخرط خالد في الفتوحات الاسلامية فشارك في فتح مكة وحروب الردة وفي فتح بلاد العراق وفارس والشام :

صـدقَ الـعـهـدَ ، فـالفتوحُ تَوَالى وصدى خالدٍ بكلِّ مكانِ

أيـنـمـا حـلَّ فـالمـآذن تـرجيعُ أذانِ المهيمـن الديَّانِ

وبـدا الـرومُ فـي ضـَلال مُـناهم شوكةً في معاقد الأجفانِ

فـأتـاهـم بـحفـنةٍ من رجــالٍ عندها المجدُ والرَّدى سِيّانِ

و رمـاهـم بـهـا، ومـا هـي إلا جولةٌ ، فالترابُ أحمرُ قانِ

وضـلـوعُ الـيرموك تجري نعوشاً حاملاتٍ هوامدَ الأبدانِ!
* * *
ولكن الفاروق الذي كان حريصا على صفاء عقيدة التوحيد خشي أن يفتتن المسلمون ببطولات خالد فعزله فتقبل خالد ذلك القرار وقاتل بشجاعة كجندي في جيش الجراح وقال مقولته الخالدة :

انا نقاتل كي يرضى الاله بنا
ولا نقاتل كي يرضى بنا عمر
ويبدع الشاعر عمر أبو ريشة في تصوير هذا الموقف ، فيقول :

هـلـَّل الـمؤمنون واهتزت البشرى تروِّي حناجرَ الرُّكبانِ

فـإذا خـالـدٌ عـلى كل جفن خطراتٌ من الطُّيوف الحِسانِ

فتـنة خـيفَ أن يـشيع بها الزَّهــوُ فتلوي بالقائد الفتانِ

فنحـاه الـفـاروقُ فـانـضم للجنـد فخوراً بعزَّة الإذعانِ

وتـراءى أبـو عـبـيدة في الفيحــاء يحمي قيادة الفرسانِ

وفـتـى الـنـُّبل خالدٌ يقحم الأسوار في نخبـة من الفتيانِ

لـم تـزعزع من عزمه إمرةُ الفاروق بل فجَّرته فيضَ تفاني

وإذا راضـت العـقيدةُ قلباً فمن الصَّعب أنْ يكون أنــاني!!

حقا ان الايمان اذا خالطت بشاشته القلوب فانه يصنع المعجزات ..

* * *

يـا مـسجَّى فـي قُبة الخلد يا خالدُ هل من تلفُّتٍ لبيـاني؟

لا رعاني الصبا إذا عصف البغيُ وألفى فمي ضريحَ لسـاني!!

أقـسـم المجـدُ أن أقـطّـع أوتاري عليه بأكرم الألحـانِ

أنـا مـن أمَّـة أفاقت على العزّ وأغفت مغموسةً في الهوانِ

عـرشُـهـا الرثُّ من حراب المغيرين وأعلامها من الأكفانِ

لا تـقلْ ذلَّت الـرجولة يا خالد واستسلمت إلى الأحـزانِ

حـَمْحَماتُ الخيول في ركْبكِ الظَّافر ما زِلنَ نشوةَ الآذانِ

قـمْ تلفّـتْ ترَ الجنود - كما كانوا- منارَ الإباء والعنفوانِ
وهكذا صور الشاعر تواصل البطولات في تاريخنا المجيد ودعا شباب الأمة ليكونوا خير خلف لخير سلف .

المتصم بالله:

    وقعت النكسة عام 1967م، واحتل الصهاينة القدس والضفة والجولان وسيناء ، فأصابت الخيبة والقنوط أبناء الأمة وراح الشاعر عمر أبو ريشة يصور المصيبة بريشة الفنان، وألقى بالمسؤولية على الحكام الخونة الذين فقدوا نخوة المعتصم الذي جهز الجيوش الجرارة لينقذ امرأة مسلمة من ظلم الروم :

رب وامعتصماه انطلقت
          ملء أفواه الصبايا اليتم

لامست أسماعهم لكنها
        لم تلامس نخوة المعتصم
وبعد فشل عمر أبو ريشة في مغامراته الجنسية في فرنسة وبعد حياة اللهو والترف تحطم قلبه فركن الى الحزن والأسى والهدوء بل انه تعلق بالدين الاسلامي وأراد أن يعمل للدعاية له في لندن فكتب مقالة نشرتها مجلة الجهاد الصادرة في حلب في 6 من مارس 1932م وعنوانها: ( التبشير الاسلامي وأثره في بلاد الغرب)، وقد ذكر فيها أنه زار جامع لندن ولقي الهنود المسلمين وتحدث اليهم وعرف ما يصنع التبشير في أسيا وافريقية وفي ذلك يقول : ( وليعلم اخواننا المبشرون المسيحيون أن الدين الاسلامي هو دين هداية وأخلاق لا دين تضليل ونفاق )، ثم بعد ذلك أرسل الى مجلة الجهاد في 25 من فبراير 1932م قصيدة يبكي فيها الشيخ مصطفى نجا المفتي الأكبر في لبنان كشف فيها عن عقيدته الاسلامية وتعلق الشاعر بالتصوف والحكمة والقضاء والقدر فيقول:

كرام العرب صبرا كل حي
سيثوي فوق ترب الهامدينا
وكل مصيبة مهما ادلهمت
على غير التصبر لن تهونا
تناسوا امرة الدنيا فانا
الى الديان يوما راجعونا
ففي هذه الأبيات اشارات واضحة لتصوفه وايمانه بالقضاء والقدر وهذا الشعر الديني لايقوله شاعر في مثل سنه الا متأثرا ببيته وبيئته او بظروف عيشه وحياته وهو بها يتشح بالحزن والأسى ...

الوحدة الاسلامية:
ان المصائب والمحن توحد شمل الشعوب المتفرقة ولقد أكد الشاعر عمر أبو ريشة على وحدة الالام والمشاعر التي تجمع شمل الأمة المسلمة حولها فقال:
لمت الألام منا شملنا
ونمت ما بيننا من نسب
فاذا مصر أغاني جلق
واذا بغداد نجوى يثرب
بورك الخطب فكم لف على
سهمه أشتات شعب مغضب
وأصبحت الأمة كالجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.

قضية القدس:
وتبقى القدس عروس المدائن وعاصمة الأنبياء ومسرى رسول الله ومعراجه الى السماء ولقد احلت القدس مكانة سامية في نفس عمر حيث يقول فيها:
ياروابي القدس يا مجلى السنا
يا رؤى عيسى على جفن النبي
دون عليائك في الرحب المدى
صهلة الخيل ووهج القضب..
وأكد الشاعر في القصيدة ذاتها أن الحق لايموت ما دام وراءه مطالب:

لايموت الحق مهما لطمت
عارضيه قبضة المغتصب

جراح الأمة:

وكتب الشاعر  عمر أبو ريشة قصيدة تحت عنوان : ( أمتي هل لك بين الأمم)، وعدد الأبيات : 22 يقول فيها:

أمتي هل لك بين الأمم
منبر للسيف أو للقلم
أتلقاك وطرفي ….. مطرق
خجلا من أمسك المنصرم
ويكاد الدمع يهمي عابثا
ببقايا ….. كبرياء ….. الألم

    فهو خجل من النكسة التي أصابت المسلمين في فلسطين..عام 1967م.

    ويقارن الشاعر بين ماضي الأمة المجيد الذي أوحى له بعشرات القصائد وبين الحاضر المرير، فيقول:

أين دنياك التي أوحت إلى
وتري كل يتيم النغم

كم تخطيت على أصدائه
ملعب العز ومغنى الشمم

وتهاديت كأني ….. ساحب
مئزري فوق جباه الأنجم

أمتي كم غصة دامية
خنقت نجوى علاك في فمي

أي جرح في إبائي راعف
فاته الآسي فلم يلتئم

    ويعجب الشاعر من هزيمة العرب أمام اسرائيل، وهم شرذمة قليلون:

ألاسرائيل ….. تعلو ….. راية
في حمى المهد وظل الحرم !؟

كيف أغضيت على الذل ولم
تنفضي عنك غبار التهم ؟

أوما كنت إذا البغي اعتدى
موجة من لهب أو من دم !؟

كيف أقدمت وأحجمت ولم
يشتف الثأر ولم تنتقمي ؟

اسمعي نوح الحزانى واطربي
وانظري دمع اليتامى وابسمي

    ويشن هجوما على القادة الخونة الذين باعوا المقدسات بأرخص الأثمان:

ودعي القادة في أهوائها
تتفانى في خسيس المغنم

رب وامعتصماه انطلقت
ملء أفواه البنات اليتم

لامست أسماعهم ….. لكنها
لم تلامس نخوة المعتصم

  ويكرر الشاعر ( أمتي) مؤكدا على قوة الانتماء رغم المحن :

أمتي كم صنم مجدته
لم يكن يحمل طهر الصنم

لايلام الذئب في عدوانه
إن يك الراعي عدوَّ الغنم

فاحبسي الشكوى فلولاك لما
كان في الحكم عبيدُ الدرهم

    ويخاطب الجنود الذين أصبحوا كبش الفداء، وصاروا ضحية تأمر الحكام :

أيها الجندي يا كبش الفدا
يا شعاع الأمل المبتسم

ما عرفت البخل بالروح إذا
طلبتها غصص المجد الظمي

بورك الجرح الذي تحمله
شرفا تحت ظلال العلم
وهكذا نرى أن الشاعر قد صور المحن والمصائب والجراح التي أصابت الأمة المسلمة والعرب خاصة..وتعاطف الشاعر مع أمته وحزن لما حل بها من نكبات.

مجزرة العصر:

كان لمجزرة حماة في شباط 1982، وقعها الكبير على العالم، برغم التعتيم الإعلامي الذي قام به النظام السوري، للتغطية على الجرائم المرتكبة حينها.

ويكفي لكي تعرف قبح الجريمة النكراء أن تعرف أن عدد القتلى والشهداء قد زاد على ( 40 ألفا)، ..وقد سجل الكتاب تلك الحقائق والوثائق في كتاب ( حماة مجزرة العصر)..

      وكان لتلك الجريمة وقع الصاعقة في نفوس الشعراء الاسلاميين وغير الاسلاميين، فها هو الشاعر السوري عمر أبو ريشة يهجو إثر ذلك الرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، بحسب مصادر متقاطعة من بينها ما نشره المفكر السوري برهان غليون، عبر صفحته الشخصية في “فيس بوك”، بقصيدة شهيرة.

  يقول عمر أبو ريشة في تلك القصيدة:

سـكِّينـه في شـدقه ولعـابُه.. يجري على ذكر الفريسة مُزبدا

ما كان هولاكو، ولا أشـباهه.. بأضلَّ أفئـدةً و أقسـى أكـبُدا

هذي حماة عروسةُ الوادي على.. كِبْر الحداد، تُجيل طـرفًا أرمدا

هذا صلاح الدين يخفي جرحه.. عنها، ويسأل: كيف جُرْحُ أبي الفدا

سرواتْ دنيا الفتح هانتْ عنده.. وأصاب منها ما أقـام وأقعـدا

ما عفَّ عن قذف المعابد باللظى..
فتناثرت رمما وأجت موقدا

خاتمة:

هذه المامة سريعة في دراسة شعر عمر أبو ريشة، ونرجو الله أن نعود اليها بالزيادة والتنقيح والاضافة ..

    وقد دلت هذه الدراسة على حب عمر أبو ريشة لدينه ورسوله وللشخصيات التاريخية الفذة مثل : شخصية خالد، والمعتصم، وصلاح الدين الأيوبي، والشهيد يوسف العظمة .  ..وغيرهم..
            - يتبع ان شاء الله -

مصادر البحث:

[1] من كتاب: ملحمة النبي صلى الله عليه وسلم. تحليل ونقد احمد الخاني.

[2] عاشق المجد. حيدر غدير ط1 مؤسسة الرسالة ص 480.

[3] في كتابه: فن الشعر ص 259، ط2.

[4] السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص 625 بتحقيق: مصطفى السقا وإخوانه.

[5] أسرار البلاغة للجرجاني. ص، 3.

6- الموسوعة التاريخية الحرة ( ويكيبيديا)..

7- ديوان عمر أبو ريشة .

8- أثر الاسلام في الشعر السوري الحديث - د. محمد عادل الهاشمي - دار المنار الأردن.

9- مواقع الكترونية أخرى.

FGNDGHMDGS940.jpg

كما الأغنية وكما القصيدة، هكذا هي الرّواية والقصّة فكلّها تعكس ثقافة وقيم الفرد وتفكيره وثقافة حقبة زمنيّة لتشكّل مرآة للمجتمع ولتجربته الكونيّة. كتابة رواية تشدّ الكثيرين من الكتّاب والكاتبات، وذلك مبشّر خير لحراكٍ ثقافيٍّ مباركٍ نستطيع من خلاله الانكشاف على قراءة واقع أو حالة شخصيّة أو اجتماعيّة أو خياليّة من وجهة نظر الكاتب/ة كأحد أركان الثّقافة والحضارة في زمن محدّد. الشّعر والقصّة القصيرة وأدب الأطفال، كلّها تشكّل قنوات، بالنّسبة لي، من خلالها أمارس فنّ الكلمة لتُمتع القارئ ولتوفّر مساحة فكريّة له عبر صور يتماهى معها كفرد وكمجتمع في حيّز ثقافة زمكانيّة، الأمر الّذي يتطلب توظيف مهارات فنّية وفكريّة واجتماعيّة. كذلك الأمر عند كتابة رواية واختيار شخصيّاتها وأحداثها، يحتاج الكاتب والكاتبة، حسب رأيي، إلى توظيف تلك المهارات وغيرها من القدرات لرؤية الفكرة المتكاملة وفهم أبعاد وتسلسل الأحداث، قبل الشّروع بالكتابة وخلال الكتابة، الّتي قد تستمر لسنوات، وعند اكتمال النّص النّهائي الذي يرضي الكاتب/ة قبل النّشر. ثقافة ومعرفة الكاتب/ة، وماهيّة الآليّات المستخدمة في النّص تشدّ القاريء/ القارئة للاستمرار في القراءة، وتقنعه وتستحوذ على إدراكه وتماهيه مع الأحداث لتصير جزءًا من يوميّاته، فيستمرّ في الغوص ويتمسّك في الرّواية، ويعيش أحداثها على مساحة مستعارة يوفّرها الكاتب/ة.

رواية "الرّاعي وفاكهة النّساء" للكاتبة ميسون أسدي، هي رواية لافتة للنّظر بالذّات لأنّها تحثّ القارئ/ة على حوار ذاتيّ ومجتمعيّ من خلال المحاور والأبعاد الّتي تطرحها. حين قرأت الروايّة حاولت تحديد ملامح الطّرح الذي يحاكي قضايا مجتمعيّة أحيانا بشكل مباشر وواضح وجريء، وفي أحيان أخرى بشكل متردّد مقتضَب متعمَّد. هل تهدف الرّواية تسليط الضّوء على حالة مجتمعيّة؟ هل تهدف إلى إحراج المجتمع المنافق من خلال مواجهة مع حقيقته تحت غطاء التّقاليد أو الدّين؟ هل تكشف الرّواية عُقد الكبت النفسيّ والجنسيّ في مجتمعنا بهدف التحرّر منها؟ أم تهدف إلى فضح مجتمع التّابوهات وتداعياته على التّركيبة المجتمعيّة؟ تساؤلات أشغلتني وحملتها إلى الكاتبة بسؤال مباشر: "ماذا كان هدفك من كتابة هذه الرّواية؟" فأجابت، دون تردّد: "الإمتاع"! كانت تلك إجابة كافية بالنّسبة لي، فإن أحد أهداف الأدب هو "الإمتاع" ونقل صورة تحاكي زمكانيّة مجتمع في حيّز ثقافيّ سياسيّ ما، وبالتّالي الاسهام في الحركة الثّقافيّة. قدرة الكاتب والكاتبة تظهر في مدى جاذبيّة النّص للاستحواذ على القارئ/ة وبقائه في مدارات السّرد الرّوائي فيصير (القارئ/ة) جزءًا من الحكاية ليتماهى معها ويذوّت جوانبَ منها.

الحديث عن رواية "الرّاعي وفاكهة النّساء" يحتاج الى الوقوف عند عدة محاور، التي تتفرع من خلال موضوعات تطرحها الكاتبة وتسهب بها وبعضها تهملها عمدًا. سألت الكاتبة لماذا لم تنتهز الفرصة لطرح كل قضيّة بعمقها المطلوب فأجابت: "ليس الهدف هذه القضيّة أو تلك إنما الهدف التّركيز على الشّخصيّة التي تعايش تلك القضايا في سيرورتها اليوميّة على صعيد العائلة والحمولة، والثّقافة العربية البدويّة، واشكاليّة الهويّة والاندماج في المجتمع الاسرائيليّ وما إلى ذلك". ما يهمّ هو تجربة "هزاع عنيدات"، الشّخصيّة المركزيّة في الروايّة، في دوائر شتاته ومحاور النّفاق وتداعياته. حالة غير عاديّة حيث يلتقي "هزاع عنيدات" مع الذي قبض على روحه في حوار حول الملاذ الأخير لروحه بعد موته ويفهم بأنه (كروح) يُمنح بعض الوقت ليصلح وضعيّته كي يُغفر له، وبالتّالي يسعى إلى رواية حكايته ومن خلالها يعتذر من النّساء اللاتي أساء لهنّ، وهكذا تبدأ الحكاية! لتحمل الرّواية صورا من مجتمعنا، تقدّمها الكاتبة بطريقة جذّابة حيث وظّفت ما في جعبتها من قدرة كتابيّة فنيّة ومن تجربة مهنيّة في العمل الاجتماعيّ وانكشافها على مشاكل المجتمع وأسراره وقصصه التي يضعها "تحت السّجادة" أو تحت وسادة ممنوعة من الحلم أو التّحليق، فلا يتحدّث بها ولا يحاورها وأحيانا ينكرها وأحيانا يمارس جهله قسرًا أو طوعًا ويدّعي المعرفة!

محور لافت في الرّواية يعرض ثراء الثّقافة العربيّة البدويّة بمصطلحاتها ويوميّاتها وأبعادها الجذّابة من جهة، ولكن أيضا، من جهة أخرى، ما تحمله تلك الثّقافة من عادات وتابوهات وتقاليد متعبة لا تتناسب مع يوميّات عصرنا ما يؤدي إلى شرخ في الثّوابت والهوية والانتماء. نجد وصفًا جميلًا من قلب الثّقافة البدويّة لثوابتَ تعتمد العائلة والتّركيبة الاجتماعيّة للنّاس، واستعمال مصطلحات من عالم الحقول والزّراعة والمواشي، مثل كلمة "مارس" و "نعزب" على لسان "هزاع عنيدات" الذي يسهب في وصف ملامح يومه كراعي مواشي حتّى بكلّ ما يتعلّق "بهداد الماعز" ويبرز إلمامه بالطّبيعة والمحيط الّذي نشأ فيه وعلاقته المثيرة مع حسنة حبيبته الأولى في المراعي. السّرد جذّاب والعمق في وصف المجتمع البدويّ وثقافته وتراثه وتقاليده وانعكاس ذلك على مجريات حياة وسلوكيّات الفرد واخلاقيّاته تشدّ القارئ وتعكس عملا جدّيا ودراسة لهذه الثّقافة من قبل الكاتبة. تطرح أيضًا الرّواية قضايا شائكة، وتسلّط الضّوء على النّفاق الذي نمارسه بحنكة تحت رادار الأخلاقيّات، نخرج من دوائر التّيه والكبت والاحباط إلى حقيقة أسرار المجتمع المحافظ الذي يتلظّى بنار الشّهوة والغرائز والرّغبة الجامحة، التي تكسر التابوهات وتزعزع مفهوم المقبولات والممنوعات لتصير وفق وجهة نظر تتماهى مع مصلحة الفرد دون اعتماد الثّوابت المجتمعيّة، وفي ذات الوقت، يترفّع الفرد والمجتمع عامّة، ضمن اللّعبة، عن الرّذيلة ويتباهى بالعفّة والسّراط المستقيم.

خصّصت الكاتبة مساحة جميلة لتصف الحياة العائليّة والدّفء الأسريّ في المجتمع البدويّ، والعلاقة بين الوالدين كما تراها عيون الأطفال ومن خلال مشاعرهم بأسلوب جذّاب وموفّق، لكن تطرّقت أيضا إلى المفروضات المقيتة التي تعتمد العادات والتّقاليد، وتطرّقت إلى موضوع تعدّد الزّوجات وتداعياتها على الأسرة، الزّواج المبكّر واعتماد السّلطة والسّطوة الذّكوريّة عند تخوم انعدام حريّة المرأة، وزواج الأقارب، بالرّغم من الحاجة الملحّة للحفاظ على العادات، إلّا أنّ الأمر يتضارب مع التّفكير الآني في زمن يقدّس الفردانيّة وحقوق وحريّة الفرد. بالتّالي يعيش الفرد بين عالمين ويضطرّ دخول دائرة نفاق أخرى للالتفاف حول مفهوم الزّواج. تُظهر تلك المحاور مهنيّة الكاتبة ورؤيتها الاجتماعيّة حول تركيبة المجتمع وثقافته كعاملة اجتماعيّة تعرف ماذا يوجد "تحت السّجادة"، وبالتّالي توظّف هذه المعرفة من خلال حكاية "هزاع عنيدات"، ولقائه مع المحاميّة كاتبة العدل "ابتهاج أنطون" لتكتب حكايته. تنتقد الكاتبة، من خلال شخصيّات الرّواية، الحالة المجتمعيّة القائمة على الفساد والنّفاق المجتمعيّ، تنتقد أيضا المؤسّسات النّسوية والعاملات الاجتماعيّات، وتشير إلى إشكاليّة أشباه المثقّفين الّذين يعتمدون التّسويق الرّخيص في مجتمع مأزوم ومهزوم، لكن دون اسهاب!

تستمرّ الكاتبة في عرض الموضوعات الاجتماعيّة وتتحدّث عن العلاقات الجنسيّة خارج إطار المقبولات المجتمعيّة، وخيانات زوجيّة وتحفّظ من الملل الحاصل في مؤسّسة الزّواج عند انعدام الانسجام ليلجأ الفرد إلى عالم خياليّ سعيد في علاقة سرّية، للهرب نحو مرفأ أمان وحنان. كما وتشير إلى التّابوهات الاجتماعيّة الكثيرة في المجتمع، والتّحول الحاصل في مدى مقبوليّتها بما يتعلّق بالمساكنة أو العلاقات الجنسيّة قبل الزّواج، أو العلاقات المثليّة، وكلّ التّابوهات والممنوعات التي يفضّل المجتمع الامتناع عن تداولها. تعرض الكاتبة موضوع ممارسة الجنس في جيل المراهقة وسط أبناء وبنات المجتمع المحافظ، وعدم المعرفة والكبت الفكريّ والجنسيّ لديهم ليوفّر لهم مساحة للانطلاق بخيالاتهم لاشباع غرائزيّ للرّغبة والعاطفة، "لم نعرف أنا وهي عن الهوى سوى ما تعلمناه وشاهدناه عن القطيع فكنّا نخاف من كلّ حركة خاطئة ولم نعرف الخطأ من الصّواب!". تطرح الرّواية، بشكل جريء، موضوع الجنس مع الحيوانات وشيوعه في المجتمع، وتحاور مفهوم الحلال والحرام والقصص التي يعرفها النّاس لكن لا يتداولها علنًا منعًا للفضيحة. كما أظهرت في حكاية المرأة وابنها، الذي رفضه النّاس لشربه الخمر حتى بعد توبته، فما كان للأم إلّا أن تجلب ديكا أمام الجمع وتقول: "من لم يجامع دابة فليخرج ويذبح الدّيك. لم يخرج أحد من المصلّين، فقالت لهم الأم: كلّكم جامعتم الدّواب وتأتون وتصلّون وتقولون أنّكم تُبتم، فما المشكلة مع ابني الّذي شرب الخمر وتاب، دعوه وشأنه!". يذكّرنا النّص بتوبة الزّانية، حين وقف السّيد المسيح عليه السّلام أمام الجمع الغاضب الذي رجمها بالحجارة وقال: "من منكم بلا خطيئة فليرجمها بحجر".

من الموضوعات اللّافتة التي تعرضها الرّواية، الشّرخ في الهويّة، كجزء من التّركيبة اليوميّة التي يعيشها "هزّاع عنيدات"، كما كلّ واحد منّا في هذا المجتمع. من خلال طرح موفّق، تسلّط الكاتبة الضّوء على اشكاليّة الشّرخ في الهويّة والشّتات الذي يعيشه غير اليهوديّ في إسرائيل، من خلال وصف علاقة "هزاع" بـ- "سريت". "اليهود لا يريدوننا ولا العرب يريدوننا"، كما ورد على لسان "هزّاع عنيدات" حين غضب بنعته عربيًّا إذ يعتبر نفسه بدويًّا، وبالتّالي يواجه إشكاليّة، بحيث يخدم البدو في الجيش وتحترمهم الدّولة، لكنها "تلفظهم" حين الانتهاء من خدماتهم، في ذات الوقت يتصارع الفرد مع مفهوم "الفردانيّة"، كحالة طبيعيّة "للعصرنة"، ونزع الذّات من الحالة الجمعيّة وفرزها عن الانتماء الثّقافيّ التّاريخيّ "مالي ولهذا الصّراع"! أو محاولة "الوسطيّة" للتّعايش في مجتمعين وعالمين مختلفين ثقافيّا وسلوكيّا فيحمل "هزّاع عنيدات" اسمين، "هزّاع" و"عيزرا" بهدف الاندماج في المجتمع الاسرائيليّ بين ثقافة محافظة وأخرى غربيّة منفتحة، والرّفض من قِبل الجهتين للجهتين، كما ظهر حين اكتشفت عشيقته اليهوديّة المتديّنة بأنّه ليس يهوديّا. صراحة الطرح تعكس الواقع بكل تركيبته من موروثه الاجتماعيّ الثّقافي الدّيني الذي يتصارع مع ذاته في مجتمع متغيّر ومتحوّل بشكل سريع، من جهة، وكمجتمع مهمل كأقليّة في إسرائيل، من جهة أخرى، من قبل المؤسّسة والسّلطة وانعدام بوصلة التي تحدّد وجه هذا المجتمع وهويّته وتعريف انتمائه وروايته في ظلّ التّركيبة التي يعايشها كمواطن في الدّولة اليهوديّة ما بين التّهميش والولاء.

لا بد من الاشارة إلى بعض مواطن الضعف والهفوات في سياق النصّ، مثلا: لم أكن مصدوم/ الصّحيح مصدومًا، شيّقة كخطأ شائع والصّحيح شائق أو مشوّق، وغيرها. وكانت هناك بعض المشاهد مثل مشهد استعمال الهاتف العموميّ ودليل الهاتف، أو مشهد عودة "هزاع" من تل أبيب إلى القرية وتوجّهه إلى بئر الماء ليشرب، ربما ما زالت هناك بئر ماء في إحدى القرى، لكن تلك المشاهد والسّلوكيات لا تتماشى مع الحقبة الزمنيّة الحاليّة. أيضا مشهد حادث السّيارة الذي تعرّض له "هزّاع" وخروج الرّوح للبحث عن طريقة للاعتذار قبل رحلتها الأخيرة إلى الأبديّة، تلك صورة تكرّرت في قصص غربيّة، الأمر الذي قد يضعف من تماهي النّصّ مع ثقافة القارئ. يبرز في بعض الأحيان حضور الكاتبة المهنيّ والفكريّ القويّ من خلال "هزّاع" الذي من المفترض أن يعكس شخصيّة أبسط بقدراته الفكريّة والشّخصيّة وقد يُظهر ذلك عدم توافق ويضعف من مصداقيّة النّص.

في نهاية هذه القراءة نصل إلى "الفصل ما قبل الأول" الذي يأتي في نهاية الكتاب، وذلك نمط مستحبّ ومستعمل في بعض الرّوايات وهو موفّق، حيث تعيدنا الكاتبة إلى بداية الحكاية بشكل ذكيّ، لتضعنا أمام مفارقة جذّابة لتثير الجدل والتّساؤلات حول شخص الطّبيب د. عنيدات والمحاميّة ابتهاج انطون... أترك للمعنيين في قراءة الرّواية مساحة للتّشويق والإبحار في نصّ لافت شائق يحمل بعدًا جديدًا من حيث الأسلوب والمبنى والمضمون.

SFHDGJGDHJ940.jpg

تقديــم:

إن النقد الثقافي في أبسط مفهوماته ليس بحثا

أو تنقيبا في الثقافة إنما هو بحث في أنساقها

المضمرة، وفي مشكلاتها المركبة والمعقدة[1].

ولأن رواية رشيد الجلولي "سنوات قبل الفجر"

تعكس مجموعة من السياقات الثقافية والتاريخية

والاجتماعية والأخلاقية والإنسانية والقيم الحضارية

التي تجعل النص نسقا ثقافيا، يضمر أكثر مما يفصح. فقد حاولنا مقاربتها انطلاقا من آليات النقد الثقافي، ذلك لأن النقد الثقافي بوابة لفتح النص. أعني الخطاب وفهمه بحيث يصبح الخطاب وسيلة لكشف أنماط معينة ملتصقة به ومتحاورة معه.

  1. قراءة في عنوان: "سنوات قبل الفجر"

يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية، نظرا لكونه مدخلا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة والروائي بصفة خاصة، فالعنوان عتبة النص، وبدايته وإشارته الأولى، فهو في الحقيقة مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي بمعنى علامة فارغة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني باعتباره نظاما ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لا تراكميا بدلالات أخرى[2].

وعنوان رواية "سنوات قبل الفجر" يؤشر زمنيا على زمن أحداث الرواية التي هي سنوات قبل بزوغ فجر الحقيقة في ذهن "عيسى" بطل الرواية.

  1. السياقات الثقافية والإنسانية والاجتماعية والأخلاقية التي جعلت من رواية "سنوات قبل الفجر" نسقا ثقافيا.

تعتبر رواية سنوات قبل الفجر للروائي رشيد الجلولي امتدادا لرواية الروائي الأولى "الخوف" إن لم نقل الجزء الثاني لهذه الرواية بعنوان مختلف، فالروايتان معا تشاركتا في نفس التيمات والشخصيات والفضاءات والهموم والمعاناة والقضايا والرؤى.

فالشخصية "البطلة" عيسى الذي تحول إلى كلب في نهاية رواية الخوف هو نفس الشخصية المحورية في رواية سنوات قبل الفجر.

كما أن الفضاء الذي تجرى فيه أحداث الرواية الأولى "عين الجسر" "أبيدوم نوفوم" مدينة القصر الكبير بأحيائها[3] وهو نفس الفضاء في الرواية الثانية "سنوات قبل الفجر"، ومثلما تقاطعت الروايتان في الفضاء تقاطعتا في باقي المكونات ومنها الأساليب وطريقة البناء، كاعتماد تقنية الاسترجاع، والهذيان، والترميز، والإيحاء، والسخرية، والمفارقة، وهي أساليب تعكس على أن الحياة نفسها مفارقة وغامضة وتحتاج إلى تأويل. فالأساليب الماكرة والمحتالة والخادعة هي ما تجعل من النص خطابا يحتاج إلى جهد معرفي ونقدي للقبض على دلالاته الثاوية بين الحروف والبياضات والعبارات. لأنها تبطن ما لم يقله الكاتب صراحة، وقاله تلميحا وترميزا وإيحاء وسخرية. وهي التي تسمح بالانتقال من الجملة الصريحة والجملة الأدبية إلى الجملة الثقافية المتولدة عن الفعل النسقي في المضمر الدلالي للوظيفة النسقية في اللغة[4].

فمسخ عيسى وتحوله إلى كلب مع بداية الرواية، يحيلنا مباشرة إلى المسخ عند كافكا كاحتمال ممكن أن يمس الكينونة والكائن، وإلى التراث العربي القديم ونوادر الجاحظ.

فعيسى الذي يرمز للطهر والنبوة، يرى بأن الحياة فيها نوع من المسخ، مسخ لإنسانية الإنسان، بل أكثر من ذلك تدمير لهذه الإنسانية بالحط من قيمتها، وهذا ما عكسته عربدة وتسكع وضياع عيسى باحثا عن الله وعن الحقيقة، والعدالة الاجتماعية، انطلاقا من الوعي الذي تشكل لديه من خلال ثقافته وتجربته في الحياة، وتبنيه للإيديولوجيا الاشتراكية، وهي الإيديولوجيا التي ولدت بالضرورة إيديولوجيات معارضة لها خاصة إيديولوجية الدولة التي من وسائل فرضها العنف والقوة، وهي الإيديولوجية التي سوف تحوله إلى كلب، باعتباره حيوان له رمزيته وعلامته المفارقة.

فبقدر ما يحيل مفهوم الكلب إلى الوفاء بقدر ما يحيل إلى التهميش والاحتقار، فالوفاء يحيل إلى وفاء عيسه لرسالته ولأفكاره ورؤاه ولماضيه هذا الوفاء بالضرورة سيخلق له معاناة ومعارضين سيكون من نتائجه التهميش والعنف والتعذيب والسجن.

فعيسى سوف تتنازعه داخليا مواقفه وواقعه، والمحرك الأساسي لهذا الصراع هو الوعي الشقي باعتبار عيسى مثقفا عضويا يطمح للمكن ويرفض الكائن. يقول السارد: "لم تكن الليلة التي تحول فيها إلى كلب هي أول ليلة في حياته قضاها خارج البيت، فقد من قبل بالعديد من ليالي العربدة والتسكع في متاهة الظلمات على طول بلدة عين الجسر وعرضها"[5].

هذا الوعي سيدفعه إلى التمرد والثورة على كل أنواع الظلم والتسلط والقهر، بدءا بظلم والده وانتهاء بظلم الواقع له، الذي حاول أكثر من مرة التعايش معه لكن محاولاته انتهت دائما بالفشل ، وفي فشله غربة أخرى .وتشظ من نوع آخر. ويمكن تقسيم هذه الثورة عبر مسار أحداث الرواية إلى أشكال.

1)- ثورة بطل الرواية عيسى على الطرق التقليدية في التربية والعنف المصاحب لها:

مثل هذا العنف أبو عيسى السي عبد الله الرجل الفقير الذي يقتات على ماتجود به عليه الطبيعة هذا العنف الذي كان يمتد إلى أفراد الأسرة كلها بما فيهم الأم، وقد ترك هذا العنف جروحا على جسد وروح ، وذاكرة الطفل عيسى .حيث دفعه تارة إلى التمردن وتارة إلى التسليم وتارة أخرى إلى الهروب منه عبر العربدة والسكر ومحاولة النسيان "هاربا من حزام والده الجلدي، هاربا من عيني والدي الجاحظتين"[6].

2)- الثورة على القيم والعادات والجهل والتخلف:

وهي مرحلة تجسدها تحول عيسى من طفل فقير معنف من طرف والده السي عبد الله إلى زعيم للاحتجاجات والثورة، والعربدة والتسكع. ليجد نفسه في النهاية مترددا على السجون والزنازين السرية.

وسوف تعمل الرواية عبر السارد إلى تقسيم حياة البطل إلى مراحل زمنية، وأحداث واقعية مترابطة فيما بينها، ومتداخلة باعتماد تقنية الاسترجاع وأسلوب السخرية .وهذه المراحل يمكن ربطها في نفس الوقت بأنواع الثورات والتقلبات والمعاناة التي عاشها البطل ورسمت مسار حياته في علاقته بذاته وبالواقع وبالآخر، يقول السارد مبررا محاولة نسيان عيسى لواقعه وتمرده عليه "في الواقع كان يشرب ليكذب على نفسه ويداري أحاسيسه أنه دون الآخرين مكانة وقيمة"[7].

ولم يكن الخمر وحده وسيلة للنسيان وشكل من أشكال التمرد على القيم، والانتقام منها، ورد الاعتبار للذات المسلوبة والمقهورة ،وإنما كان هناك إضاف إلى ذلك العشق والحب حيث أحب عيسى ليلى بنت الجيران منذ الطفولة ، فليلى في الثقافة الشعرية العربية ترمز للحب العذري، وفي ذلك مفارقة أخرى . فعيسى البطل الذي يحمل رسالة الأنبياء، وثورتهم من أجل الفقراء، والعدالة هو عيسى نفسه الذي يعشق، ويسرق ،ويكذب ويمارس كل أنواع الرذائل وفي ذلك ثورة على نظم القيم العربية بأكملها، فعيسى من الداخل يعتبر نفسه ملعون ومطرود من رحمة الإله والناس. وأن النحس، والشؤم رفيق دربه، جعلا منه نبيا عاجزاعن حمل الرسالة وإصلاح الكون " يا عيسى أنت إذن رجل ملعون ... هكذا كان يصارح نفسه، أينما حللت يحل النحس والشؤم"8.

3)- الثورة على السلطة والساسة:

ينتقد عيسى من خلال وعيه كمثقف عضوي جشع وكذب الساسة ونفقهم وظلم الدولة واستبدادها مما دفعه إلى الاحتجاج والثورة خاصة في المرحلة الجامعية، وما بعدها.

حيث عانى من العطالة ومرارة الواقع .هذه المواجهة بينه وبين الواقع ،والسلطة كانت تنتهي به تارة إلى التشرد والضياع والعزلة وتارة أخرى إلى السجن بسبب الثورة على السلطة .وتقف الرواية طويلا على الفترات المظلمة التي ذاق فيها عيسى مرارة التعذيب في السجن وخلفت نذوبا وجروحا لا يمكن للزمن أو النسيان رتقها وعلاجها، يقول السارد واصفا هذه المعاناة: "دفعه الحارس أمامه، واضعا يده بين كتفيه في اتجاه غرفة يطلقون عليها مخدع العرسان، فيها يتم افتضاض بكرة الهمة والاباء لدى الوافدين الجدد "9،

ومعاناة عيسى تذكرنا بما قاساه رجب بطل رواية "شرق المتوسط" لعبدالرحمن منيف.

4)- الثورة على الرموز الثقافية والفكرية والسياسية التي آمن بها ودافع عنها:

بعد صراع مرير مع الذات والسلطة استسلم عيسى للواقع بعد أن قام بإحراق كل الكتب كشكل من أشكال الاحتجاج عليها وعلى الواقع محاولا رسم حياة أخرى، لكنه سرعان ما عاد إليها، وعاد إلى طبيعته ووعيه الشقي عندما رأى الطفل الفلسطيني يقتل بدم بارد على شاشة التلفاز مما حرك مشاعره ووعيه من جديد يقول السارد كاشفا عن الهزة العاطفية التي أثرت في نفسية عيسى: "وقد نجم في الحقيقة عن هزة عاطفية لا تطاق، سببها الطفل الذي شاهده على الشاشة يموت رصاصة رصاصة في حضن والده"10.

III- لغة رواية "سنوات قبل الفجر" وأسلوبها وعلاقتهما بخطاب الرواية:

إن الانتقال باللغة والحدث من مستوى واقعي إلى مستوى غرائبي "متخيل" هو انتقال من الكائن إلى الممكن، بانتقال أحداث الرواية بفضاءاتها وشخوصها من حدود العقل والتصور إلى "الغرائبي" بأحداثه وفضاءاته وشخوصه باستثمار الأسطوري "أسطورة الفنيق" و"المسخ" واعتماد تقنية المحاكاة الساخرة بقلب الحقائق، والأحداث والفضاءات والملفوظات، حيث يتم في ظلها إفراغ اللغة من حمولتها الدلالية المتداولة، وملئها بحمولة لغة اللامنطق واللامعقول، لغة الهذيان، ولغة الكوابيس والوهم والجنون وفي ذلك دلالة على عنف الواقع والآخر خاصة السلطة.

والرواية عبر السارد وعبر الشخصية الرئيسة عيسى تدين هذا العنف المزدوج عنف الواقع بمظاهره المختلفة، والمتخلفة "التهميش، الفقر، البطالة، التخلف، النظم التقليدية في التربية..." وعنف السلطة" البطالة السجن، التعذيب، الحرب..." وذلك بوعي عيسى كمثقف بالأسباب الخفية التي تؤدي إلى هذا العنف، وبرفضه وإدانته لها.

خاتمـــة:

تعكس رواية "سنوات قبل الفجر" نوع من الصراع الداخلي ما بين الكائن والممكن ما بين الواقع المرعب، والحلم أو الرغبة في تغيير هذا الواقع وهدمه وبنائه من جديد، واقع أفضل تسوده العدالة الاجتماعية والديموقراطية انطلاقا من القيم التي تشربها عيسى من الكتب وشكلت وعيه النقدي الثائر ورؤيته للذات وللآخر وللعالم.

1- النقد الثقافي، د. سمير خليل، ص 7 – ص 15، دار الجواهري الطبعة الأولى.الهوامش

2 - د. شعيب حليفي: النص الموازي للرواية – العدد 46، السنة 1992، ص 84-85

3- رواية "الخوف" رشيد الجلولي.

4- النقد الثقافي، د. سمير خليل، ص 31، دار الجواهري الطبعة الأولى.

5- سنوات قبل الفجر، "رشيد الجلولي"، ص 7، منشورات دار التوحيدي الطبعة الأولى: أبريل 2019.

6- نفس الروابة، ص 13

7- نفس الرواية، ص13

8- نفس الرواية ص17

9- نفس الرواية ص160

10- نفس الرواية ص318

 

(الجوع يمد مخالبه في بطني، فألتهم أوراقي وأمشي..)، بهذه الكلمات للشاعر عدنان الصايغ يبدأ شاعرنا عز الدين جوهري  ديوانه "تقريبا على ميقات الجمر"، ليجول بنا لتحقيق الفكرة التي بدأ فيها الديوان عبر تسع عشرة لوحة جميلة، وفي خلال تجوالنا في الديوان نلمس كم أن روح الشباب تلعب دورها في الأشعار، فالشاعر من مواليد 1978 وهو من الجيل الذي ولد وعاش في ظل أزمة المجتمع والوطن على امتداده، مرحلة الهزائم والانكسارات وتمزق الحلم الذي عشناه نحن الجيل الأكبر في العمر في ثناياه، فكان جيل الشباب ممزقاً ويشعر بالإحباط مما يرى ويلمس، فيقول: (خذ الوقت بعيداً، شعلة الحنين انطفأت، ما عاد للمطر ضجيجه العارم)، وهو يعاني الوحدة ولكنه يحلم بالغد رغم الوحدة: (وحيداً تأكلني الغابة، ويلتهمني العشب، وحيداً أسرق ناري، لأشعل الحرائق، أسرق العتمة)،  كذلك نلمس بوضوح أثر الترحال على روحه، فهو متنقل بين بيروت ودمشق والجزائر: (سهواً أبحث عن مدني التائهة تحت المدى) ولعل دراسته للقانون لعبت في روح شعره مسائل أخرى فنراه يقول: (فقط أبواب موصدة وأخرى للنباح)، فنجد السؤال والبحث عن الإجابة يكاد لا يبتعد عن نصوصه. 

   إن التجوال في ثنايا نصوص الشاعر يحملنا للشعور بكم العاطفة المتأججة في داخله، وحجم الألم الذي يعتمل في نفسه، فحين نسمعه يهتف: (وداعاً لنبضٍ لا يحرض الدم على اللهيب) نشعر بذلك، لكنه لا يفقد الأمل أبداً رغم كل الألم: (إنني الآن أبتسم للزوايا، التي تكدست في العروق)، بحيث أنه صار يرى البلور: (إكليلاً من الياقوت وحنطة للجوعى الماضين نحو الحروب)، ويرى من خلال الحلم في المستقبل (الغيمة الراتعة قمح الفؤاد)، ويؤمن إيماناً كبيراً بأن السواعد الشابة يقع على عاتقها التغيير وتحقيق الحلم: (حين تنـزل الأمطار من ساعديك، فيورق الحجر). 

  الأرض بما تعنيه من مفاهيم لدى الإنسان لا تفارق شِعر عز الدين جوهري، فنجدها تتكرر كثيراً في شِعره، ويمنحها الروح حين يقول: (ها هي الأرض تزهو بك ويخضر الحجر)، ويؤكد دوماً أن الأرض تحتاج إلى محبيها وعشاقها، فهي الأم وهي المرأة.. هي الوطن، وبدون البذل لها لا يمكن أن تخضوضر: (هكذا يخضر الحجر، من ضلوعك في ضلوعي)، فالحلم لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال العطاء، هذا العطاء الذي يصل إلى مرحلة تقديم الدم رخيصاً من أجل الفكرة/ الوطن: (من فرط دمك في دمي أنا نزلت)،  فنجد الشاعر يرى من خلال التقديم والتضحية تحقيقاً للفكرة: (أحمل في يدي برزخاً، وأرضاً تميد وأشعاراً، بلون الريحان، وبساتينَ من فتات الريح، وسماءً زرقاء بلون البحر). 

   وهكذا نجد الشاعر يجول بنا في رحاب ديوانه، بلغة جزلة، لوحات جميلة، تحملنا لنحلق معها، فهو لا يكتفي فقط ببث المشاعر، ولا يقبل أن يزين الكلمات فقط، بل يقودنا عبر رحلة طويلة، عبر الأرض ورحلة البحث والأزمات والحلم، كل منها تداخلت في قصائده بجمال خاص، وفي كل شطرات شِعره رسم لنا لوحات من الآهات، من الحلم، فتراوح فيما يبوح به من الروح للروح، بين المشاعر الإنسانية، فكانت الأرض والوطن، وكانت المرأة وكان الحب؛ فهو يخاطب المرأة بقوله: (امتطي جسوراً بللها الحب، تنفسي آخر الماء)، فالحب عنده غير معزول عن الأزمة العامة، والمرأة عنده رفيقة المسيرة ورفيقة الدرب والمعاناة، فهي ابنة البلد وابنة الجبال، وليست مجرد جسد امرأة، فيصورها بلوحة رائعة، وكأنها فرس تصهل في الجبال: (توجعني بروقك اللاهثات بلمعانها، ورائحة كرزك جديلة، امرأةٍ تأتي من بني الجبال، تصهل بكل ما فيها من نقاوة). 

   في كثير من المواقع في شِعر الشاعر، لم يخرج عن فكرة الأرض والواقع، فلا نرى في شِعره المرأة المرسومة من الخيال، لكننا نجدها ابنة الواقع والمجتمع، وبالتالي نجد أنه يصف الذين تخلوا عن أرضهم بأنهم: (رحلوا كشتاء أخير)، وأنهم: (لم تعجبهم رائحة التبن تغزله صبايا الحقول)، فرحلوا من أرضهم إلى الغربة: (رحلوا إلى مدن نائيات)، فأرواحهم اغتربت عن واقعها، عن تراب الأرض، عن المرأة الملتزمة بترابها، فتخلوا عن (نسوة المروج يعجن الكسرة، يعبثن بالفجر)، ومع كل ذلك فهو لا يتخلى عن الحلم بالفجر القادم: (أرقب قطار العمرِ، القادم من وراء حجاب، نسقي أزهارنا العطشى، ثم ننام كعادتنا، إلى أن يأتي الصباح). 

   الأمكنة لا تفارق الشاعر، فهي تسكنه، فمن وطنه ومن الجبال، يتنقل بين الأمكنة، يذكر بيروت التي تسكن منه القلب، فبيروت ككل الأمكنة التي تسكن الروح، تصبح أجمل أنثى لا يمكن إلا أن يذكرها ويحلم بها: (وها أنت- يا بيروت- بكل خرابك، تكتسين الأخضر، من فصول هوانا الصعب، وتكتسين الأزرق الأزرق، من بحرنا، المفتوح على صهيل أنفاسك المعتمة). 

    الألم الذي يسود روح الشاعر وينثره على صفحات ديوانه، لا يتوقف أبداً، فالروح المرتبطة بالأرض والوطن والحب، تبقى تعاني الألم الذي لا بد أن ينتهي حين تحقق الحلم فتعود الحياة: (كما الأزهار ربيعاً)، فالألم في ديوان الشاعر ليس حالة ذاتية، ليست معاناة الأنا المجردة، بل هو ألم الإحساس العام، المعاناة للجميع، لذا كانت روح الشاعر تجول بين الأمكنة، والوطن، والغربة، والمرأة، والحب، وفي كل الحالات كان يبتعد عن الفردية، يبتعد عن الذات، فهو لا يرى أن بإمكان روحه أن تحلق وحيدة بدون أهل ووطن وأرض وحب. 

    وختاماً.. أرى في ديوان الشاعر تجربة روحية كبيرة، تؤكد هوية خاصة بالشاعر، فهو يرحل في هذه المسافة، يؤكد على الكلمات والمعاني التي كانت كفراشات محلقة، تشكل مشهده الشِّعري، مستخدماً تكثيف اللغة والاستعارة بلوحات جميلة، تعلمنا ماذا تعني الأرض، وماذا يعني الحب، وماذا يعني أن نكون نحن. 

المزيد من المقالات...