الإسلام بين الشرق والغرب

د. أحمد محمد كنعان

المؤلف : علي عزت بيغوفيتش

إصدار: عام ١٩٩٤

عدد الصفحات: ٤١٦

المؤلف :

هو علي عزت بيغوفيتش (١٩٢٥- ٢٠٠٣ ) الذي كان أول رئيس لجمهورية البوسنة والهرسك بعد انتهاء الحرب التي اندلعت هناك بين عامي (١٩٩٢-١٩٩٥) والمؤلف ليس مجرد سياسي ناجح، وإنما هو فوق ذلك عالم إسلامي متعمق في علوم الإسلام وتاريخه، فقد ترك علي عزت مؤلفات عديدة تدل على تبحره في الإسلام وفي الفكر والفلسفة عامة، لعل من أهمها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، الذي وجد انتشاراً واسعاً ليس في البلدان العربية والإسلامية وحدها، وإنما في مختلف أنحاء العالم لما تميز به الكتاب من رؤية إنسانية نبيلة، وأفكار فلسفية عميقة الغور .

الكتاب:

ليس هذا الكتاب القيم للتسلية ، بل هو سِفر بالغ الغنى بالفكر العلمي الرصين الذي بات نادر الوجود في زمننا الحاضر الذي أصبح يهتم بالفكر السطحي على طريقة الوجبات السريعة، لهذا كانت سعادتي لا تقدر وأنا أعثر على هذا الكتاب النفيس عند زيارتي أمس لأحد معارض الكتاب في عاصمة عربية كانت في يوم من الأيام عاصمة الثقافة العربية، عاصمة الفن بلا منازع، ثم غيبتها الدكتاتورية والعسكريتاريا عن الثقافة الجادة وعن فكر التنوير، حتى بدا لي هذا المعرض بارقة أمل أن تعود هذه العاصمة إلى غابر عصرها المشرق؟!

وأعود للحديث عن هذا الكتاب النفيس الذي أسرني على مدى ثلاثة أيام قضيتها أبحر في أعماق محيطاته الغنية باللآليء والمرجان ، وأستروح عند شطآنه الساحرة، لقد كانت بحق ثلاثة أيام نادرة من حياتي، أحسست بعدها أنني لم أقرأ في حياتي كتاباً آخر يضاهيه في العمق وبُعد الرؤية وجمال الأسلوب، وأعتقد أنه سوف يمضي وقت طويل آخر قبل أن تجود عقولنا الإسلامية بكتاب يضاهيه في العمق والقيمة المعرفية، 

 إن هذا الكتاب الجاد، الغني بمواضيعه المنوعة وأفكاره الثرية، يحتاج من القارئ استعداداً فكرياً خاصاً واطلاعاً واسعاً على الثقافتين الإسلامية والغربية، فمؤلف الكتاب متمكن من هاتين الثقافتين، فهو مسلم حتى النخاع وأوروبي المولد والتعليم. وهو إلى جانب ذلك باحث جاد استطاع استيعاب الفكر الغربي دون أن يغرق في متاهاته كما يحصل لأغلب الباحثين المسلمين الذين يستهويهم هذا الفكر فيغرقون في مستنقعاته، وما أكثرها!

وبالمقابل استطاع المؤلف بجدارة أن يعرض حقائق عن الإسلام لم يسبقه إليها أحد، وأتحفنا في كتابه بالعديد من المفاهيم الجديدة، والمصطلحات المألوفة التي استخدمها ببراعة في معان جديدة غير مألوفة. فهو مثلاً عندما يتحدث عن "الدين" لا يتوقف بهذا المصطلح عند الإسلام، وإنما يمضي به إلى مفهومه عند الغربيين سواء منهم المتدينين والعلمانيين، أي الذين اتبعوه والذين هدموه. فيذكر أن الدين أصبح عند هؤلاء مجرد علاقة شخصية تأملية بين الإنسان وربّه، ولا شأن له بالدنيا أو بأمور الحياة خارج الإطار الشخصي !!!

وعندما يتحدث المؤلف عن الإسلام، فإنه يتناوله في إطار وحدة ثنائية القطب التي جاء بها الإسلام، وفشل فيها الفكر الغربي، ونعني بذلك ثنائية : الروح والمادة، أو السماوي والأرضي، الإنساني والحيواني، الدين والدنيا، هذه الثنائية الكامنة في طبيعة الإسلام وهي التي مكنته أن يجمع بين هذين القطبين في كيان واحد، وبالمقابل يرى المؤلف أن الفشل الذي أصاب الايديولوجيات الكبرى في العالم يرجع إلى نظرتها للإنسان والحياة نظرة "أحادية" شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة ودينية كاثوليكية مغرقة في الأسرار، ما جعل كل واحد من الطرفين ينكر الآخر إنكاراً حاداً قطع الأمل باللقاء بينهما في الفكر الغربي!! غير أن المؤلف المعروف بمنهجه العلمي الصارم والمنصف يعود فيورد في تاريخ الفكر الغربي نموذجاً جمع بينهما، عثر عليه المؤلف خلال اطلاعه الواسع على الفكر الإنكليزي بصفة خاصة، وقد أطلق على هذا النموذج اسم (الطريق الثالث خارج الإسلام) وعقد له فصلاً مهماً في نهاية الكتاب، وقد رأى في هذا النموذج سعياً جاداً نحو "الإسلام الفطري" حسب تعبيره، فقد تتبع  المؤلف - بصبر نادر وعمق فريد- أصول الفكر الإنجليزى منذ "روجر بيكون" واستطاع ردّها إلى أصول إسلامية لا يمكن إنكارها. !!

ومن الجدير بالإشارة إلى أن منهج هذا المؤلف الأصيل وتحليله لمفاهيم أخرى في  الكتاب أوصله إلى حقائق ربما تصدم القارئ المسلم المتعجل ، من ذلك مثلاً أن المؤلف يرى وجود عناصر دينية في موضوعات مثل : الفن والدراماوالفلسفات الوجودية والعدمية، وهي موضوعات متهمة بالضلال والانحراف بل الكفر من قبل عامة الباحثين المسلمين ، غير أن المؤلف بسبب منهجه العلمي الرصين ورغبة منه أن يستفيد المسلمون من هذه المواضيع ، يؤكد أنها مواضيع في أصل نشأتها ليست بعيدة عن الدين، بل هي تنبع أساساً من مصادر دينية ، وهذه بلا ريب لفتة من المؤلف تستحق من المسلمين وقفة تأمل وإعادة نظر !!

وملاحظة أخرى تستحق وقفة تأمل طويلة من المسلمين ، فالمؤلف يرى أن عداء الغرب الحالي للإسلام ليس امتداداً للعداء التقليدي والصدام الحضاري التاريخي بين الإسلام والغرب منذ "الحملات الصليبية" وإنما يرجع هذا العداء إلى تجربة الغرب التاريخية مع الدين، وإلى عجز الغرب عن فهم الإسلام لسببين جوهريين، هما :

١- طبيعة العقل الأوروبي "أحادي النظرة" إلى الدين، كما أشرنا آنفاً .

٢- قصور اللغات الأوروبية عن استيعاب العديد من المصطلحات الإسلامية التي تمثل محطات مهمة جداً في السياق الإسلامي قديماً وحديثاً، مثل مصطلحات  "الخلافة " و "الأمة" ونحوها من المصطلحات التي لا يوجد ما يقابلها في اللغات الأوروبية!!

وبعد ... فإنني بعد أن فرغت من قراءة هذا الكتاب النفيس، وبعد أن قرأت سيرة مؤلفه الكبير رحمه الله، اكتشفت أنني كنت في حضرة مجاهد مجتهد ،استطاع أن يجمع بجدارة بين انتصاراته في ميدان السياسة ، وبين الاجتهاد في معركة الفكر ، فهو بلا منازع فارس راهب، فهو فارس شديد المراس في السياسة، وهو في الوقت نفسه راهب متبتل في محراب العلم، وكم نحن المسلمين بحاجة إلى أمثاله ، لاسيما في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا العربية والإسلامية ، فرحم الله علي عزت وأسكنه فسيح جناته، وعوضنا عنه مجاهدين مجتهدين ، ورهباناً فوارس .

وسوم: العدد 657