القناع.. مسرحة أنيقة للقصيدة والفكرة

د. كمال يونس

[email protected]

قدمت فرقة المسرح الحديث الأردنية على مسرح الطليعة بالقاهرة ، عرض القناع بطولة مرام محمد ، موسى السطرى ، أريج الجبور ، بلال رنيسى ، هيفاء كما خليل ، نبيل سمور ، تأليف مجد القصص، والشاعرة نوال العلي، وإخراج مجد القصص.

العرض تجريبي بمعنى الكلمة ، فالنص ليس له البناء التقليدي للنصوص المسرحية من مقدمة ووسط وعقدة وحل ، بل هو مجموعة مواقف ومشاهد  منفصلة  لا يجمعها تصاعد درامي واحد ، فلكل منها ذروته ، متصلة في وحدة الموضوع الذي يتناول المرأة وما تتعرض له من قهر ، قهر الرجل للمرأة ، وقهر المرأة لذاتها ولغيرها ، بعضها رسخت له مفاهيم دينية خاطئة أبعد ما تكون عن الدين الصحيح وتعاليمه ، واصطنع سياج لها في ظل العادات والتقاليد الخاطئة المتوارثة ظالمة النظرة للمرأة ووضعها في المجتمع خاصة ، ودائرة الوجود والصراع الإنساني ككل ، ثم هناك استخدام للظاهرة الصوتية المتعددة ( البوليفينية ) ، وفيها امتزاج الموسيقى والغناء بصوت مفهوم أو غير مفهوم، ما بين همهمات وآهات وتأوهات ، وإضاءة نسجت بمهارة لتكون ضمن نوا طق العرض مؤدية لدورها الدرامي في تعميق المشاهد ، لتمتزج والحوار الرصين الشعري ، مع  حركات الجسد البشرى لمجموعة الممثلين المشتركين في العرض مازجين بين الرقص الإيقاعي والباليه والرقص المسرحي الحديث ، والحركات الجسدية العادية في عفويتها ودلالتها ، والحركات المجردة ، ما يطلق عليه فيزيائية الجسد..طبيعته وطبيعيته ) تبرز القدرة التشكيلية الدرامية للجسد البشرى ( الكوريوجرافى ) وفاعليتها الدرامية ، وعلى مستوى الديكور وهو مكون من عدة هياكل حديدية مفرغة تارة تكون سجنا ، وأخرى أرجوحة ، ميدانا للصراع ، شرانق غلفت المرأة  ، ومحاولة التمرد والتحرر ، والسعى إلى الحرية ،  الذي يتغير12 مرة تبعا للمشاهد أو لوحات العرض التسع ، ذات دلالات درامية متنوعة نابعة من وقائع  كل لوحة  على حدة ، معمقة للدلالات ، حاملة في طياتها رموز ، ومن كل العناصر  المتضافرة المكونة  لعرض القناع تبرز فكرة الاستحواذ على حواس الجمهورخاصة بالسينوغرافيا ( تصميم مشاهد العرض ) حتى يتفاعل مع العرض ، ويتفهم رسالته ومضمونه، ويحل شفرة رموزه الدرامية، وهذا ما عبرت عنه مجد القصص بقولها : " لم تكن التجربة نصا لغويا فقط ، بل كانت السينوغرافيا ، الموسيقى عربية وعالمية ، والضوء لغة حقيقية على خشبة المسرح ،فكل قطعة من تلك الإكسسوارات كانت معبرة ، حتى المثلثات الشفافة التي تمثل الجدران تمثل نجمة داود " ، وتعتبر مجد الإسرائيليات حاملة في طياتها  تزويرا تاريخيا يعد الأول في التاريخ ، فقد ألقى عبء الخروج من الجنة على حواء وحدها ، رغم أن الموروث الإسلامي يضاد هذا كله فالشيطان أغوى آدم وحواء على السواء ، وديننا الإسلامي لم يحمل المرأة الوزر بل أنصفها وسمح لها بالعمل، وفى هذا العرض لا أطرح فقط القمع الذكري ضد المرأة ، بل أيضا قمع المرأة ضد ذاتها من خلال المرأة الثالثة التي دوما ما كانت تأمر همسا  المرأتين الأخريين بالصبر والطاعة . 

وعى مدى ال 45 مدة العرض توالت المشاهد  التسع الخاطفة في العرض سريع الإيقاع، الغواية ( آدم وحواء والتفاحة )ومطالبتها لليوم بدفع ثمن تلك الخطيئة ، القناع حيث تستلم المرأة لما أرادوه لها ، لتأمن وراء القناع الذي لا يعبر عن حقيقتها ، مطاردة الخطيئة الأولى للمرأة مع أن الرجل كان شريكها وكما تغوى النساء الرجال يغوى الرجال النساء ولكن تطاردها وحدها خطيئته أما الرجل فلا ، صحوة أحد النسوة الثلاث  وتحريضها للأخريات بالتمرد على هذا الواقع الأليم ،الحلم بالحق في حياة أفضل ، اكتشافهن للتزوير التاريخي بحق المرأة ، التمرد ورفض الواقع مع إحباط إحداهن للأخريات بأن الجدار اللائى يهدمنه ستنمو مكانه جدرانا أخرى ، الإجرام حين استخدمت المرأة  وعريها  ومفاتنها في أيامنا هذه كسلعة رائجة  في الفضائيات، وأخيرا تنجح  النسوة في استقطاب أحد الرجال إليهن، فلن يستطعن وحدهن هدم وإزالة كل الجدران ، كي يساعدهن في حصولهن على حقهن العادل ، لتعيش المرأة مع الرجل حياة أفضل على هذه الأرض. 

الأداء التمثيلي لمجموعة ممثلي العرض الشباب الثلاثة ، والشابات الثلاث حققوا به إيقاعا خاصا لكل منهم لفرط تناسقه وتآلفه وانضباطه بشكل جماعي متفرد حقق للمخرجة مجد القصص إيقاعا عاما للعرض إذ أحسنت اختيارهم للعمل في هذا العرض ، وأجادت توظيف طاقاتهم الإبداعية المتنوعة بين الغناء الفردي لمقاطع قصيرة شجية ، وتمكنهم جميعا من الأداء الجسدي المتلون بين الباليه والرقص الحديث ، والحركات الجسدية الطبيعية ،وهى من تصميم مجد القصص ، وآنى قرة ألبان ، ولكن الأداء الصوتي للحوار الشعري خلا من التنوع أو التلون الصوتي ، ليسود العرض  الصوت أحادى النبرة والطبقة والانفعال ، وكان الماكياج الذي صممه نديم الحجة  رائعا وخاصة الوجوه ذات القناع النصفي للرجال للتعبير عن حالة من ازدواجية النظرة للمرأة  ، وأجادت جميلة علاء الدين تصميم الملابس والأزياء ، والإكسسوار ، والديكور الذي يعد متفردا فهو يتكون من حوالي 12 وحدة معدنية تتحول بسهولة إلى شرنقة أو سجن أو زنزانة ، أو أرجوحة ، أو جدران لبيت ، أو سياج ، الموسيقى التصويرية للعرض التي ألفها وليد الهشيم ، بين شجنها  وتلونها ،والتنوع الثرى  للمؤثرات الصوتية ، ما بين الطرق على القوائم الحديدية ، والطرق على الأرض والأيدي ، وأصوات الزفرات والتنهدات والأنين ، وأصوات مشوهة توحي بصوت كهنة المعابد القديمة ، وخرير المياه وصوت الأجراس ، ووقع الأقدام ، والهمهمات ، مع الإضاءة بكافة استخداماتها وتنوع مسا قطها ، فهي تارة جانية ، أو تغطى الممثل شاطرة إياه إلى نصفين طوليين مظلم ومعتم ،  وتعدد ألوان المشهد الواحد على يمين ووسط ويسار المسرح ومقدمته وخلفيته ، وإجادة استخدام الظلال والنور خاصة في مشهد رقصة المانيكان ، مع تفهم دقيق لألوان الإضاءة وتأثيراتها الدرامية ، واختلافها حسب دراما المشهد ، مما ساهم في تأدية الإضاءة لدورها الدرامي الفني الصحيح ، لتخرج من دائرة الصوامت إلى النواطق ذات الدلالات والإيحاءات ، تنقلت المخرجة بين المشاهد في خفة فهي تنتقل فجائيا ، أو بعد رقصة تعبيرية ، أو أغنية ، ومن أجمل مشاهد العرض مشهد الشرانق ، والزنازين ، والقماط الذي تحاول المرأة تمزيقه ، والزفاف بالطرح السوداء التي سرعان ما تتحول إلى أقنعة ، مشهد خيوط اللعبة في المشهد السابع ، وفاترينات الفضائيات حيث تعرض المرأة كسلعة على يد القوا دين من الرجال ، والتقاتل من أجل إزالة العوائق والجدران ، لقد استطاعت مخرجة العرض أن تقول ما أرادت وعبرت عن فكرتها بمضمون فني عال وراق ، ولا أرى منها تحاملا على الرجال ، بل وجهة نظر يجب تدبرها فدوما المرأة هي الخاطئة ولا يطارد رجلا بخطيئته ، المرأة أم وأخت وابنة وزوجة وشركة للرجل وبدونها لا حياة ،العرض تجربة ناجحة لمسرحة القصيدة في أناقة وإن كانت القصيدة جافة بعض الشيء ومباشرة في بعض مقاطعها ، حقا تلك المسرحية تجريب رائع تجلى فيها تمكن المخرج من أدواته الفنية ، لمعرفته الدقيقة بأسرار استخداماتها ، مما مكنه من توظيفها بصورة فيها الابتكار وروعة الصورة المسرحية ، وهو من العروض الجميلة التي ظلمت مع من لحقهم الظلم في المهرجان الدولي للمسرح التجريبي بالقاهرة في دورته التاسعة عشر.