نحب لك الخير... ولكن

حيدر قفه

يرى الشَّفقةَ في عيونهم... تلتمظ شفاههم حسرةً عليه... تندلق أمنياتهم له بوضع أحسن... ومسكن أحسن... لكن "العين بصيرة، واليد قصيرة". كان أسوأهم منزلاً... وأقلهم راتباً... وأكثرهم تبعة..."فمد رجليه على قَدِّ لحافه"... رَوَّضَ نفسه على الملابس الرخيصة وإن كانت نظيفة مُنَسَّقَةً مَكْوِيَّةً... وعَوَّدَ نفسه على الطعام الرخيص وإن كان صحياً، ولم ينم للهَمِّ، فكان يعمل أكثر من عمل حتى يوازن بين الداخل والخارج، لا يملك سيارة، ولا هاتفاً، و (الكماليات) عنده تأتي في المرتبة العاشرة... الظلمُ واقع عليه من كل مكان... من رؤسائه... من أهله... من جيرانه... لكنه يقابل ذلك بصبرٍ طويلِ العروق، متجذرٍ في نفسٍ رَضِيَّةٍ، مع حُنْكةِ أولدها عقلٌ لا يتوانى عن تقليب الأمور، فكانت خطواتُه مدروسةً مُوفقةً.

المنزل الذي صَحَّ له بجزء كبير من راتبه القليل كان منزلاً متواضعاً قديماً على الطراز العربي القديم، قبل أن تعرف البيوت الكهرباءَ ولا النسماتِ المُصَنَّعةَ في فجواتِ أنابيبِ مكيفاتِ الهواءِ... هو راضٍ... وزوجته راضيةٌ... وأولادهُ الصِّغار لم تكبر عندهم ملكةُ التمييز والمقارنة بعدُ... فكان البيت مرضياً عنه من الجميع الوالد والوالدة لضيق الحال، والأطفال مداركهم لم تدرك أبعد منه... كانت عيوبه أكثر من حسناته... فحسبهم منه سقفه الذي لا يمنع المطر، وجدرانه التي تَنِزُّ مياه الجيران المنفصلة عن أجسادهم أو منها، وكثرة الثعابين في ساحته، ورائحة حمامه الوحيد التي تتأبى على التنظيف ودلق الماء المستمر، فبانيه الأول لم يكن يعرف من البناء إلا وضع الطوبة على الطوبة، أما (جماليات) البناء وضروراته فكانت أكبر من إدراكه، وعقلُه أصغر من التفكير فيها.

كانت جَنَّـتُه الأرضيةُ حِضْنَ امرأةٍ رضيةٍ، رضيت معه بالقليل، ولم تلتفت إلى المتلمظات بواقع مُتخيَّلٍ ينفخن فيه حتى يبدو للسُّذَّجِ حقيقياً... هي صابرة... وهو صابر... إذا جَنَّ عليهما الليل نسيا كل شفقةٍ ارتسمت في عيون الآخرين عليهما، ومسحا من ذاكرتيهما تلمظات شفاه المتحسرين عليهما...

تبدل الحال، وإرادة الله تسوق الناسَ إلى تدبيره وهم لا يدرون... كان الاتجاه أن ينتفع فريق من الناس... ومَنْ هؤلاء الناس؟ إنهم الأغنياء المترفون الذين يريدون أن تتوالد الأموال عندهم شأن الأرانب، ليس الفقراء منهم على بال، لكن الحاكم لا يكون حاكماً إلا على شعب، والغني لا يستثمر أمواله إلا من خلال عَرَقِ الفقراءِ وحَرِّ أنفاسهم وأوجاع أبدانهم... قالوا: لا بد أن تُنَشِّطَ الحكومةُ قطاع العقارات... لا بد أن تستأجر مساكن الأغنياء... ولمن تستأجر؟ ولماذا؟ لتُسكِّنَ فيها موظفيها... فجاء القَدَرُ إلى الفقراء عن غير قصد من الأغنياء، ولا تخطيط من المرفهين، ولا نية صالحة من الجميع... فنالوا الأجر وحرموا الثواب...

تراكض الموظفون في (ماراثون) لنيل (فيلا) أو شَقَّةٍ... ووضعتِ الأُسس المنحازة تحت غطاء تقنين الأمر، وكم ظُلِمَ القانون إذ تُمسح فيه كُلُّ سيئات نيات الكبار وأهل القرار، وكم تنمرت عيونهم وتلمظت شفاههم لتحقيق مآرب شتى من وراء القوانين الجائرة والتعليمات الفاجرة.

وبدأت الشقق الفارهة و (الفلل) الباذخة تتوالى على الموظفين... لكن الداء الدفين يحركهم... كتمان الأمر عن الجيران حتى لا ينافسك أحد، أو ينالَ ما لم تنلْ... قدموا طلباتهم واسترحاماتهم في السر، وهو لا يدري، فوجئ بالحارة التي يسكن فيها تخلو بيوتها من أقرانه وزملائه وأصدقائه شيئاً فشيئاً، فعل تسرب الماء من تحت الأرجل، علم أنهم سبقوه – وهو الأحق منهم بذلك – لم يُنَـبِّهْهُ أَحَدٌ... لم يذكره أحد... لم ينصحه أحد... عندما جَدَّ الجد... حَلّت الأَثَرةُ في العيون مكان الشفقة، وتَلَمُّظُ الجائع مكان النصيحة، وأطلت الأنانية بوجهها القبيح من سُدَفِ تصرفاتهم، ووبيء همساتهم...

ذهب إلى حيث يذهبون... قَدَّمَ طلبه، وعاد معتذراً لنفسه وزوجه أن فعل ما عليه فعله، وترك الأمر لله، وإن كان الأمل في تلبية طلبه قليلاً أو شبه معدوم، فزملاؤه لهم ألف دسيسة، ومئات الخبايا، وهو في صلابة العود وحد السيف واستقامة المسطرة... لا يتقن هذه الأمور التي يتقنون. لكن اللطيف الخبير إذا قَدَّر فلا مشيئة إلا مشيئته. ولا قدر إلا قدره، وكما قالت جدته: "يُمَوِّتُ جَمَلاً لكي يعشيَ واوياً"([1]). وبقوة أرقام التسلسل، عبر طلبه بوابات الحاقدين المستغلين، وأفلت من أيدي المحابين المنحازين، وانطلق إلى مرحلة لا سلطان لهم فيها... هناك... حيث لا سلطان للقلوب الحاقدة... ولا الضمائر المجمدة... ولا المحاباة الوقحة... مَرّ طلبه تحت أيد لا يعرفها لكنها تعرفه... تكن له محبة خفية... الغالبية الصامتة التي تستمع فتستمتع... فَتُعْجَب... ولكنها تحتفظ بإعجابها بعيداً عن ألسنتها وأرجلها... فلا يظهر الإعجاب... ويبقى مستكناً في قرارات القلوب... وتتقاصر الهمم عن توصيل التعارف.. فتبقى أريحية الإعجاب مستكنة في قرارة النفس حتى يثيرها مثير.

من سُلِّطَ عليه الضوء يعرفه الجميع، أما هو فلا يعرف منهم إلا من بادر إلى المعرفة فجعلها من أولوياته، كان من هؤلاء كُثُرٌ لا يعرفهم وإن كانوا يعرفونه، سَخَّر الله عدداً قليلاً منهم في هذا المكان وهو لا يدري... عندما مرَّ الطلبُ تحت أيديهم كأي طلب آخر متسلسل الأرقام، لفت نظر أحدِهم الاسمُ... فاشتعل الحب في القلب، وانبلج الاحترام من زوايا مدفونة، وطفح الخير على اليد الممسكة بالقلم لصنع إشارات شتى، إشارات تتراوح بين الرفض والقبول والتوصية والتزكية... فكتب صاحبها مزكياً موصياً... وانتهى دوره هنا، فلكلٍ مقام لا يتعداه.

قَدَرُ الله غالب، ومشيئته تهيءُ الأسباب. عندما اجتمعت اللجنة لدراسة الطلبات المزكاة لتخصيص مساكن لها، والمساكن متفاوتة تواضعاً وحسناً وفخامة... مرَّ الطلب تحت يد محبٍ آخر من جند الله الذين لا يعلمهم إلا هو، فلما لمح الاسم والتزكية؛ أخرج الطلب ووضعه جنباً، وسارت أعمال اللجنة، ووزعت المساكن، فلما جاء دور المساكن الجيدة، قَدَّم الطلب، وأتبعه بتزكية شفهية وتوصيةٍ من رجل لا يُرد له قول، فَمُنِحَ الطلب (فيلا) جيدة.

المراجعة المملة التي تتعب القلب، وتمتص كثيراً من كرامة الإنسان وإنسانيته، والوقوف في الصف انتظاراً للدور، والنظرة المستعلية من موظف فظ... مصدات ترفع قامة النفور والكره، وتعرقل الرِّجْلَين من قصد المكان، لكن إلحاح الحاجة، ووجع الانتظار الممضِ دفعاه إلى المراجعة... ولأول مرة يقابل رجلاً باسماً منهم... بَشَّرَهُ بالنتيجة... وعرَّفهُ بنفسه... إنه أحد المعجبين به... وبمنطقه الذي لا تخذله وضاءة الفكرة... ومضاء الحق... وسلاسة التعبير... أَصرَّ أن يحمله في سيارته ليريه (الفيلا) بنفسه... رآها... لم يصدق عينيه... سجد لله شكراً... نظر الرجل إليه بإكبار شديد... حمله بسيارته وعاد به إلى مكتبه... وسلَّمه المفاتيح ووقع بالاستلام.

عاد إلى منزله... معدته ليست في حاجة إلى طعام... رغم أن العصر أوشك على الدخول... دخل بيته... قبل أن يتكلم سجد مرة أخرى لله تعالى... رأت زوجتُه البِشْرَ يطفحُ من قسماته... استلقى على ظهره... آهةٌ ممتدةٌ اقتلعها من قرارة رئتيه... نشرها فوق وجهه وفضاء سريره... اقتربت زوجته بتوجس من هذا الجسد المتعب...

-        مالك؟!

-        خلاص... انتهينا من التعب وذُل الانتظار... وملاحقة صاحب الدار لنا بإخلائها... لقد خصصوا لنا مسكناً!!

وبلهفة حارقة...

-        صحيح... أين... أين بالله عليك؟ وما هو؟

-        (فيلا)... (فيلا)...

-        لا أكاد أصدق...

-        لا... صدقي... نعم صدقي... لقد جئت من عندها الآن... وهذا هو مفتاحها...

-        طيب... نتغدى ثم نذهب لنراها...

-        أيُّ غداء هذا؟! ومن له رغبة في الطعام؟... قومي الآن... بل قوموا جميعاً...

دقائق كانوا جميعاً يضعون المفتاح في باب (الفيلا)... دخلوا... عيونهم لا تستقر في مكان... حجرات النوم... المطبخ... (الصالون)... (الصالة)... الشرفات... المساحات الفارغة من الأرض الممتدة أمام البناء وخلفه وعلى جانبيه... الحديقة... الأشجار... المرآب...

كانت الفرحة التي تطفح من عيني زوجته، والهدير في صوته المتسارع لا تقل عن نَطِيطِ أطفاله وركضهم هنا وهناك لاكتشاف عالمهم الجديد، الفرح تَلَبَّسَ بوجوه الجميع وألسنتهم وأجسادهم... المتأملين في تؤدة وصمت، والراكضين في فرح لا يَحُدُّه حد.

كانت الأيدي الظالمة قد تقلص دورها، وعلتْ عقول تستحي من التحيز، فلما رأوه صابراً محتسباً، وقد بُغي عليه بما لا يدع مجالاً للصمت، تداركوا أمرهم خوف الفضيحة، فأخذت تنهال الدرجات والترقيات عليه – بلا قانون –كالمطر، ليستروا عيبهم الذي وقعوا فيه، فدرجة كل سنة مكنته أن يصبح من كبار الموظفين، وعليه كانت (الفيلا) وأثاث جديد للبيت الجديد.

وبدأت التهاني بالبيت الجديد والأثاث الجديد... وجاء المشفقون قديماً... ذهبت الشَّفَقَةُ القديمة من عيونهم، وبدأت أجسادهم في إظهار تعبيرات أخرى، وألسنتهم تخوض في بواليع أخرى... الجارة التي كانت تدمي عينيها شفقة عليهم، ولسانها (مصمصة) أخذت بصمتٍ تحرك أصابع قدميها في وبر السِّجاد لتعرف سماكته وغلاء ثمنه، ثم (تمصمص) حسرةً وحسداً ونعياً – صامتاً – لحالها... وماتت كلمة "مبروك" في حلقها. والصديق الذي طالما توجع له ولحاله وحال عياله... جاء ليطل برأسه وعينيه فقط... فقط ليرى حديقة المنزل ووضع البناء فيها... يضحك مظهراً السرور... لكن شرر العينين ينم عن حفيظة تفور. أما الذين لا يستطيعون كبت مشاعرهم الجوانية، فقد احتجبوا في أَوْجِرَتِهم. لم يباركوا... لم يهنئوا... لم يزوروا... انقطعت الزيارات العائلية مع عدد كبير ممن فضحتهم ضغائن كانت مستترة.

كَثُرَ الكلامُ... جالت الألسنُ في ميادين شتى... وكُلُّ حَمَّلَ نفسه من الوزر ما لا قِبَلَ له به، حسبه من سوء الظن عاقبته،"وكل إناء بما فيه ينضح". أما هو، فقد وضع قدمه على أولى درجات المجد، وبدأ يصعد.

               

([1]) الواوي: الثعلب.